روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت الثاني والثلاثون

رواية مصطفى أبوحجر الجزء الثاني والثلاثون

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الثانية والثلاثون

الفصل الثاني والثلاثون
-٣٢- اتهام بالقتل
تعلقت بذراعه كالطفلة المذعورة ترفض ذهابه بعيدًا عنها وكأن لا دنيا لها بدونه بل وكأن لا حياة في غيابه لذا حاولت قدر الإمكان التشبث به علهم يزعنون لرجائها ويطلقون سراحه أو يأخذونها برفقته، لكن رغمًا عنها أفلت من بين يديها في النهاية عندما جذبه بعنف إلى الخارج إحدى الرجال مفتولي العضلات ذات السُترات الرمادية والذى يُطلق عليه اسم (مُخبِر) بأمر من الضابط المسؤول، والذى رفض بتعنت إعطاء مصطفى المُهلة اللازمة لتغيير ملابسه البيتيه وكأنه يُكن له العداوة المُسبقة دون أن يعرفه ..
بدا ذلك الأخير مستسلمًا ساكنًا صامتًا بعكس زوجته التي تعالى صوتها من ورائه بجزع غير قادرة على استيعاب ما يحدث، يتهاوى قلبها من وراءه أرضًا كلما خطا خطوة واحدة بعيدًا عنها، فتبعته حتى مُنتصف الدرج غير واعية لملابسها الغير ملائمة لذا أرتَدَّت إلى المنزل من جديد حيثُ ارتدت معطفها الطويل المجاور لباب المنزل على عجل أعلى ملابسها البيتية واحتفظت بغطاء رأسها الذي تلفحت به من قبل عند قرع الباب، وبخطوات مُثقلة مهمومة مرتعشة تناولت هاتفها وبعض النقود والمفاتيح الخاصة بها أثناء تنعلها لحذائها قبل أن تتبعهم إلى الأسفل بأعين زائغة وملامح تائهة، فبدت كالمنكوبة التي تبحث عمن يغيثها، كالغريقة التي تبحث عن ذراعين ينتشلوها من غرقها، لذا استقلت على عَجل ودون تفكير أول سيارة أجرة صادفتها للحاق بزوجها إلى قسم الشرطة ..
*****************************
هُناك في ذلك الركن الباهت المُتهالك الشبه مُظلم رأته يجلس بشرود أعلى المقعد الخشبي الطويل مُستندًا برأسه على الحائط الغير نظيف من ورائه بينما يديه مُكبلتين بالأساور الحديدية، لكن مظهره الأنيق وملابسه البيتيه وروب المنزل الصوفي الباهظ الثمن الذى كان يرتديه سهل مهمة العثور عليه حيثُ ظهر بصورة مُلفِتة كإحدى بشوات العهد الملكي البائد المُحاط بالعامة من الشعب ..
توجهت الأنظار إليه بإعجاب مُختلط بالدهشة، فجسده المفتول وجزعه الطويل ووجهه الوسيم المُتوج بشعيراته اللامعة التي غلبها الشيب بشكل منظم راقِ، كُل ذلك كان لا يتماشى مع من يُشاركونه مقعده من معتادي الإجرام ذات الأعين الجاحظة والشعور المشعثة والوجوه المُخيفة التي لم تخلو من الندبات الحديثة مختلفة الأشكال والأحجام ..
هدأ قلبها فور رؤيته وكأن روحها رُدت إليها واستطاعت التقاط أنفاسها أخيرًا، فجففت دمعاتها على عجل قبل أن تدنو منه بخطوات بطيئة ثابته لم يُلاحظها هو في ظل شروده، وقبل أن تصل إليه توقفت عندما اقترب منه إحدى العساكر وجذبه إليه بعنف قائلًا بلهجة آمرة :
_ قوم رئيس المباحث مستنيك ..
تسمرت عيناها عدة لحظات على زوجها والذى طالما كان يبدو شامخًا واثقًا يتبختر في مشيته بخيلاء وزهو كالطاووس، تراه الآن يخطو بضعف وخضوع يداه مُكبلتين أمامه بإذلال مُطأطأ الرأس لا يقو على رفعها مُنحني الظهر وكأنه قد جاوز المئة من عمره ..
تابعته بعدستيها إلى أن اختفى بداخل إحدى الغرف المغلقة، وفى تلك اللحظة أحست برجفة خفيفة تُسيطر على جسدها فأحكمت إغلاق معطفها بضعف قبل أن تقف بالقرب من تلك الغرفة مُستندة على إحدى الحوائط بوهن في انتظار خروجه ..
ما إن خطا أُولى خطواته داخل غرفة رئيس المباحث حتى اعتدل العسكري المُمسك به في وقفته قبل أن يضرب إحدى قدميه على الارض بقوة وهو يرفع كف يده باستقامة لتُلامس أطراف أصابعه رأسه قائلًا باحترام مُبالغ فيه :
_ تمام يافندم المتهم مصطفى أبو حجر ..
ثبت رئيس المباحث عينيه على المُقيد عده لحظات قبل أن يُشير إلى العسكري بفك قيده والتوجه إلى الخارج فامتثل ذلك الأخير لرغبة رئيسه فى الحال ..
كان يبدو على رئيس المباحث ذات السنوات الثلاثون الهدوء والرزانة، فتأمل هيئة مصطفى لبضع ثوان قبل أن يقول إليه وهو يُشير إلى إحدي المقاعد أمامه :
_ أتفضل أقعد ..
تحرك مصطفى بآلية شديدة تاركًا جسده يتهاوى أعلى المقعد الجلدي الذى أشار إليه رئيس المباحث دون أن ينبس ببنت شفة وكأنه تائه داخل غياهب عالم آخر، وبعد عدة لحظات من الصمت المُطبق انشغل فيهم رئيس المباحث بمراجعة بعض الوريقات أمامه، استطاع مصطفى أخيراً إدراك ما يحدث من حوله وكأنه قد أفاق من غيبوبة سيطرت على عقله فتساءل بصوت خفيض :
_ أقدر أعرف أنا هِنا ليه ؟
ألقى رئيس المباحث نظرة أخيرة طويلة على ما أمامه من أوراق قبل أن يُجيبه بهدوء دون أن ينظر إليه :
_ يعنى متعرفش ..
تردد مصطفى كثيرًا قبل أن ينطق قائلًا بتوتر ملحوظ :
_ اللي أعرفه أنى مُتهم في قضية قتل ..
هز رئيس المباحث رأسه إيجابًا وهو ينظر إليه نظرة ثاقبة قائلًا بنفس النبرة الهادئة :
_ كويس إنك وفرت عليا وعلى نفسك اللف والدوران ..
ثُم أضاف مُتسائلًا وهو يتكأ بمرفقيه أعلى مكتبه :
_ وياترى عارف قتل مين !
أجابه مصطفى بملامح جامدة لا يبدو عليها أي تفاجؤ :
_ آلاء ..
ابتسم الآخر بارتياح قبل أن يقول زافرًا :
_ تمام كدة نقدر نفتح المحضر ..
ثم أشار ذلك الأخير إلى الشخص الجالس بجواره قائلًا :
_ أفتح التحقيق يابنى ..
ما لبث أن وجه كلماته من جديد إلى مصطفى مُتسائلًا بروتينية :
_ اسمك وسنك وعنوانك ..
أجابه مصطفى بهدوء دون أن يرفع نظره إليه، فتابع الأول بحزم :
_ إيه علاقتك بالمدعوة آلاء حسن ؟
تغيرت معالم مصطفى ليبدو عليها الارتباك وهو يقول بعد قليل من التفكير :
_ مليش علاقة بيها ..
ثبت رئيس المباحث نظراته عليه وكأنه يحاول أن يستشف ما بداخل عقله وهو يقول بصرامة :
_ يعنى متعرفهاش ؟
ازدرد مصطفى لُعابه بتوتر مُفكرًا قبل أن تخرج كلماته بلهجة حاول اظهارها طبيعية منطقية مُوضحًا :
_ أعرفها معرفة سطحية، زيها زي أي حد مُعجب بكتاباتي مش أكتر..
عبس رئيس المباحث مُعلقًا :
_ وهو العادي أن يبقي في بينك وبين معجباتك رسايل ومكالمات ومقابلات ؟
حاول مصطفى رسم الابتسامة أعلى وجهه وهو يقول مُدافعًا عن نفسه :
_ هي اللي كانت بتطاردنى أنا مليش ذنب في كده ..
اومأ رئيس المباحث برأسه مُتفهمًا وكأنه قد اقتنع بحُجته لكنه ما لبث أن تساءل من جديد :
_ أمتى آخر مرة شوفتها وفين ؟
أجابه المُتهم بتوتر ملحوظ وهو يفرك جبينه مُتصنعًا التذكر :
_ مش فاكر الحقيقة ..
إلا أن رئيس المباحث فاجئه بسؤاله :
_ مشوفتهاش من أسبوع يعنى ؟
لم يُجيبه مصطفى تلك المرة لذا أكمل رئيس المباحث مُوضحًا وهو يوجه إليه اتهامه بمنتهى الوضوح :
_ أخو المجنى عليها بيتهمك أنك سبب اختفائها وبيقول إنك هددتها أكتر من مرة بالقتل، إيه تعليقك على الكلام ده ؟
استنفرت عروق مصطفى بانفعال واضح وجحظت عيناه بارتعاب وهو يقول نافيًا بعصبية واضحة :
_ قتل ! محصلش، فين دليله على الكلام ده..
إلا إنه سُرعان ما استدرك عقب انتباهه لكلمات رئيس المباحث، فقال بدهشة وكأنه قد حصل على دليل براءته :
_ ثانية واحدة حضرتك بتقول اختفاء! يعنى ملقتوش جثة !
ظهرت ابتسامة غامضة شبه ساخرة على وجه الأول وهو يُجيبه بهدوء بعد أن أقترب بجسده منه هامسًا :
_ أكيد أنت هتدلنا على مكانها مش كدة ..
رغمًا عن تشوش عقله واضطراب تفكيره إلا إنه انتبه إلى تلك الكلمات الغير واضحة التي يلفظ بها من أمامه راغبًا في الإيقاع به، لذا قال بثورة مُصطنعة حاول إخفاء ضعفه من ورائها :
_ يعني أنا هنا عشان مُجرد إتهام من واحد معرفهوش لتغيب أخته الغير متزنة عقليًا ! هو أي حد يتهم أي شخص تجرجروه من بيته بالشكل المُهين ده ..
اتسعت ابتسامة رئيس المباحث وهو لازال يهمس قائلًا بسخرية :
_ لا الحقيقة كنا مستنينك أنت تقولنا نمشي شغلنا أزاي..
وكأن المُتهم قد استعاد ثقته من جديد، فقد لاحت عليه علامات الغرور بعدما أطمأن قلبه ليقول مُتوعدًا بعجرفة وهو يلوح بيده :
_ أنا مش هسكت على اللي حصل ده، ده اسمه تشهير ، في طرق أحسن من كدة تتعاملوا بيها مع الناس المحترمة اللي ليها سمعتها..
لم يتخل رئيس المباحث عن هدوئه رغمًا عن عبوس وجهه فقال بلهجة صارمة :
_ كنت ممكن توفر علينا وعلى نفسك كل ده لو احترمت القانون من الأول واستلمت استدعاء النيابة اللي رفضته بوقاحة، واتعديت بالسُباب على المُحضر ..
قطب مصطفى ما بين حاجبيه باستغراب وهو يقول بغير فهم :
_ استدعاء نيابة إيه اللي رفضته، الكلام ده محصلش .
إلا أن رئيس المباحث قال باستخفاف وهو يُطالع الأوراق من أمامه :
_ ده اللي مكتوب قُدامى..
ثُم أضاف وكأنه يتعمد التقليل من شانه وإهانته :
_ وبناءًا عليه النهاردة هتبات في القسم عشان بكرة تتعرض على النيابة، وهناك بقى أبقى قول كُل اللي في نفسك ..
صاح مصطفى مُعترضًا بصوت عالٍ نسبيًا بينما سطوة الزهو والسلطة قد تلبسته من جديد فقال بتعالِ :
_ أتحبس إيه ونيابة إيه اللي هتعرض عليها أنت عارف أنا مين وممكن أعمل إيه، اتصل لي برئيسك حالاً ..
أعتدل رئيس المباحث في جلسته بعدما اكفهر وجهه بغضب، فتعالى صوته وهو يضرب أطراف مكتبه براحته قائلًا بحدة :
_ صوتك ميعلاش انت هنا في القسم مش في بيتكوا، ليك مكالمة تليفون واحدة تعملها برة وأنصحك تبقى للمحامي بتاعك عشان يحضر معاك في النيابة بكره ..
ثم التفت بوجهه موجهًا كلماته إلى ذلك الجالس بجواره قائلًا بصرامة :
_ أكتب يابنى يُحبس المتهم على أن يتم ترحيله غدًا إلى سرايا النيابة باكرًا ..
ثُم أضاف بنبرة عالية واضحة حتى تصل إلى مسامع من بالخارج :
_ ياعسكري خد المتهم ده ارميه في الحبس بعد ما تعمله فيش ..
تحولت ملامح مصطفى الغاضبة إلى أُخرى قلقة مضطربة خاصةً بعد أن تم تكبيله من جديد بأساور الحديد قبل خروجه من غرفة التحقيق، وما إن طل بجسده خارج الغرفة حتى اندفعت إليه شمس بلهفة وعينيها مُغطاة بالدموع تظهر عليها علامات الانهيار متسائلة بخوف :
_ مصطفى طمني حصل إيه ؟ وقتل إيه اللي متهمينك فيه ؟
تدخل العسكري يمنعها من الاقتراب منه قائلًا بروتينية :
_ ممنوع يامدام ..
تساءلت شمس بجزع من بين دموعها مُحدثة زوجها :
_ ممنوع إيه، أنت مش هتروح البيت معايا ؟
أجابها بتوتر أثناء سيره برفقه العسكري وكأنه يستنجد بها :
_ هيعرضوني على النيابة بكره لازم تشوفيلي محامي كويس يحضر معايا التحقيق، ومش عاوز حد خالص يعرف اللي بيحصل ده بأي شكل من الأشكال الصحافة لو شمت خبر مش هيسكتوا ..
كادت أن تنهار من فرط ذهولها، فقالت بعدم تصديق :
_ تحقيق إيه ونيابة إيه، أنت إيه علاقتك بقتلها
ارتفع صوت مصطفى قائلًا وهو يبتعد رغمًا عنه :
_ مش عارف حاجة بس أنا مليش علاقة باللي حصل، متنسيش المحامي بكرة بدري ..
سُرعان ما أختفى جسده وتلاشى صوته وسط ذلك الزحام بينما ظلت هي قابعة بمكانها لعده دقائق تُحاول فهم ما يجرى من حولها، وفى النهاية مسحت وجهها بكفيها كي تستطيع التفكير، وبعد الكثير من الدقائق التي مرت عليها كالثوان قررت هي المُغادرة للبحث عن محامي يُساعدها في استيعاب ما يحدث، لكن من أين لها الحصول على أحدهم في مثل هذا الوقت وبتلك السرعة، فهي ليست لديها أدنى فكرة عن تلك الأمور وكيفية التصرف فيها، وبعد تفكير ليس بالكثير لم تجد مفرًا في النهاية من الاستعانة به هو مُنقِذها الدائم وملجأها الأول في كل الأزمات ..
*****************************
في ممر مُعتم بلا منفذ للتهوية تقريبًا وعلى أرض أسمنتية يفوح منها روائح عفنة لبقايا أطعمة وقمامه مُلقاة في جميع الزوايا يعبث بها مختلف أنواع الحشرات الزاحفة والحيوانات القارضة بحثًا عن قوت يومهم، كانت هُناك وحدة إضاءة هزيلة تتأرجح بخفوت من الأعلى لترمي بظلالها على الحوائط الإسمنتية الداكنة التي يملؤها رسومات طباشيرية وأسماء متعددة لمعتادي الإجرام وكأنهم يؤرخون مرورهم بهذا المكان القذر من قبل ..
جلس مصطفى بانكماش فوق إحدى الدكك الخشبية بعد أن ألقى به العسكري بالداخل قائلًا باستخفاف :
_ حظك حلو الحبس فاضي النهاردة ..
مسح ذلك الأخير المكان بعينيه سريعًا بتقزز قبل أن يُدرك أن عدد الأشخاص من حوله لا يقل عن اثنى عشر رجلًا يقبعون جميعًا داخل غرفة مُغلقة لا تزيد عن ثلاثة أمتار طولًا وعرضًا، مُقتَطع جزء منها كحمام بلدي تنفذ رائحته الكريهة لتملأ المكان برمته بينما في أعلى إحدى الحوائط الجانبية، ظهر مصدر التهوية الوحيد بذلك المكان المُنفر، نافذة حديدية صغيرة تمر منها ذرات الهواء دخولًا وخروجًا على استحياء ..
زاد انكماشه فوق الدكة الخشبية مُتجنبًا تلامس أولئك الأشخاص بجواره والذين غَطوا في نوم عميق فلم يشعروا بتواجده إلى الآن، وخرج زفيره واضحًا بعدما فشل في استنشاق هواء نظيف يُساعده على التفكير بشكل سليم، فما كان منه سوى أن غطى أنفه وفمه بملابسه المُعطرة عله يُخفف من وطأ تلك الرائحة البغيضة، وبقى على ذلك الحال حتى بزوغ أولى خيوط الفجر حين سيطر عليه التعب وخانته عيناه من فرط إرهاقهما فغفا دون أن يشعر ولم يستيقظ سوى على صوت أجش يستحثه على النهوض ..
بعد عدة ساعات في تمام التاسعة صباحًا ..
وقف مصطفى بجسد مُتهالك مُنهك لا يقدر على الوقوف، خارج غرفة النائب العام في انتظار بدء التحقيق عندما ظهرت زوجته من بعيد تُهرول إليه بصحبة شخصين تبين هو أحدهما على الفور والذى لم يكن سوى أسامة، فسلط بصره عليه في نفس الوقت الذى اقتربت فيه زوجته منه بلهفة واضحة وهى تحمل بعض العصائر والمأكولات الساخنة، فقالت مُطمأنة :
_ انا جبت المحامي ..
ثم مدت ذراعها إليه مُضيفة باهتمام :
_ خد كُل أي حاجه قبل ما تدخل انت من إمبارح مأكلتش ..
كانت عيناه تطق شررًا ما إن رأى ذلك القادم من بعيد، لذا قال بعصبية واضحة :
_ عاوز سجاير ..
ظهرت علامات الخيبة على وجه الزوجة وهى تقول آسفة :
_ نسيت أجيبلك طيب هطلع بسرعة أجيب من أي مكان ..
إلا أن الرجل الآخر المصاحب لها والذي لم يكن سوي المحامي خاصته استوقفها قائلاً بعد أن أخرج علبة سجائره الخاصة :
_ ملوش لزوم أتفضل ياأستاذ مصطفى ..
ابتسمت له شمس ممتنة قبل أن تقدمه إلى زوجها قائلة :
_ نسيت أعرفك يامصطفى أستاذ أيمن جادالله المحامي ..
أومأ مصطفى برأسه مًحييًا في نفس الوقت الذي علق فيه أيمن بجدية قائلًا :
_ تقدر تلخصلي الموضوع بسرعة قبل ما ندخل ..
تطلع مصطفى من جديد بغيظ واضح إلى أسامة الواقف على بُعد عِدة أمتار منه قبل أن يقول وهو يُشعل سيجارته :
_ في واحدة اسمها آلاء مختفية ومتهمني بقتلها بعد ما أخوها جه قدم بلاغ ضدي ..
تساءل أيمن بجديه :
_ هل في أي دلائل على اتهامه ده ؟
ابتسم مصطفى باستخفاف لتتفيه الأمر مُعلقًا :
_ مُجرد كلام مُرسل وحتى مفيش جثة عشان يبقى في إتهام بالقتل ..
في تلك اللحظة تدخلت شمس مُضيفة راغبة في الدفاع عن زوجها فقالت بحماس :
_ ده هي آلاء دي اللي كانت بتطارده أصلًا وكانت مريضة نفسية ..
ثم وجهت كلماتها إلى زوجها تستحثه على الحديث قائلة :
_ لازم تقولهم على اللي عملته فيك يامصطفى ..
أومأ مصطفى برأسه إليها دون أن يتحدث بل أكتف بنفث دخان سيجارته بعصبية واضحة، فقال أيمن راغبًا في طمأنته :
_ إن شاء الله يبقى الموضوع بسيط وتروح معانا النهاردة ..
لم تمر دقائق حتى اختفى مصطفى وأيمن داخل غرفة النائب العام بعد أن رمق الأول أسامة بنظرة طويلة يملؤها الحقد والمقت فاستقبلها الأخير بلا مبالاة وتحد مقصود، حيثُ توجه بخطوات ثابتة إلى حيثُ تقف شمس على مرأى من مصطفى قبل أن تُغلق أبواب الغرفة ..
أحمر وجه مصطفى غضبًا في الحال وانشغل عقله بما ممكن أن يدور بالخارج بينهما، لكنه أفاق على لكزة خفيفة من محاميه مُنبهًا :
_ أستاذ مصطفى ..
انتبه إلى صوت محاميه فنظر إليه كالتائه قبل أن يملأ صوت وكيل النيابة أصداء المكان قائلًا :
_ أتفضلوا أقعدوا ..
تتابع مجرى الحديث بين ثلاثتهم بشكل سلس حيثُ أعاد مصطفى أقواله السابقة مؤكدًا بأن آلاء كانت مجرد مُعجبة تقوم بملاحقته في كل مكان بينما هو كان يحاول التهرب منها طوال الوقت ..
هز وكيل النيابة رأسه متفهمًا قبل أن يتساءل :
_ أمتى آخر مره شوفت المجني عليها ..
امتنع مصطفى عن الإجابة من غير حُجة واضحة فتدخل أيمن قائلًا بعدما لاحظ تحفظ موكله :
_ بعد أذن حضرتك بس الموضوع مش واضح لموكلي، هل إحنا هنا بنتكلم عن قضية اختفاء ولا قضية قتل ؟
صمت وكيل النيابة لبضع لحظات قبل أن يقول بحذر وهو يُأرجح قلمه الخاص ما بين أصابعه :
_ مبدأيًا اختفاء ..
سُرعان ما علق أيمن مُتسائلًا :
_ طب أقدر أفهم موكلي إيه علاقته باختفائها وليه هو مُتهم ؟
وجه وكيل النيابة نظراته إلى مصطفى يتفحصه بأعين خبيرة قبل أن يقول :
_ طب يامتر مش لما موكلك يجاوب الأول آخر مرة شافها امتى عشان نقدر نحدد علاقته، مع العلم إننا عملنا تحرياتنا يعنى يخلى باله من أي كلمة يقولها مش في محلها متكونش في صالحه، احنا عاوزين الحقيقة ..
أومأ أيمن برأسه إلى مصطفى يطمأنه ويستحثه على الحديث، لكن ذلك الأخير استغرق عدة ثوان قبل أن تخرج كلماته من فمه قائلًا بتردد بعدما لم يجد مفرًا من قول الحقيقة :
_ آخر مره شوفتها من أسبوع تقريبًا، جاتلي البيت وأخدتها ونزلنا ..
استقام وكيل النيابة بجسده مُستندًا على ظهر مقعده بأريحية واضحه قبل أن يتساءل :
_ تحرياتنا بتقول إن كان في أصوات شجار خفيف من على السلم وفيه كلمات زي (هفضحك وهبين للناس حقيقتك) وبعديها بدقايق خرجت أنت وهي ركبتوا العربية وأنت كان باين على وشك علامات الغضب، إيه سبب الشجار ! وروحتوا فين !
ابتلع مصطفى لُعابه عدة مرات بتوتر ملحوظ قبل أن يُجيب :
_ هو فعلًا إحنا شدينا مع بعض عشان هي جاتلي البيت وكنت خايف مراتي تشوفها، ولما ركبنا العربية حاولت أهديها شويه وبعد كدة نزلتها أقرب مكان لبيتها ..
تأرجح وكيل النيابة بجسده أعلى مقعده يمينًا ويسارًا عدة مرات قبل أن يتساءل بصوت يُحذره من الكذب تلك المرة قائلًا بنبرة خاصة :
_ إيه طبيعة العلاقة بينكوا وياريت تجاوب بصراحة ..
زفر مصطفى بضيق وهو يقول مؤكدًا على كلماته السابقة :
_ زي ما قولت لرئيس المباحث إمبارح هي كانت معجبة بيا وفهمت اهتمامي بيها إنه حب ولما أتجوزت من كام شهر بدأت تطاردني ..
في تلك اللحظة ظهرت شبه ابتسامة ظافرة فوق محيا وكيل النيابة قبل أن يقول بجدية وهو يقوم بفتح جهاز كمبيوتر محمول بجواره، حيثُ ارتكزت عيناه على الشاشة أمامه مُوضحًا :
_ بس اللاب توب بتاعها ده اللي عليه محادثتكوا مع بعض مبيقولش إنه كان إعجاب من طرف واحد بالعكس ده انت اللي كنت بتشجعها على استمرار علاقتكوا وأنت اللي صارحتها بإعجابك الأول كمان ..
اتسعت عيني مصطفى بدهشة وكأنه لم يتوقع ماحدث للتو، فقال بتلعثم واضح وهو يتأمل ذلك الجهاز أمامه بتشكك :
_ لا هو كان مجرد إعجاب بكتاباتها وشخصيتها مش أكتر وهي اللي فسرته غلط ..
اومأ وكيل النيابة برأسه قائلاً بسخرية وهو يُسلط عينه على الشاشة قارئًا :
_ وكلام زي ( أنا اتعودت أكلمك كل يوم وبقيتي واخدة مساحة كبيرة من حياتي من غير ما احس، محتاجين نتقابل ملامحك وحشتني ) ده بردو هي فسرته غلط ..
حقًا لم يجد مصطفى مبررًا لتلك الكلمات والتي قالها لها من قبل بالفعل، لذا تغيرت ملامحه وتبخر هدوءه ليحل محله العصبية والحنق مُحاولًا التبرير قائلًا :
_ حتى لو كان بيني وبينها علاقة فده كان من وقت كبير وكُل حاجة انتهت من قبل مااتجوز ..
هز وكيل النيابة رأسه نافيًا ليقول بتشكك :
_ بس الواضح قدامى إن العلاقة دي بدأت ترجع تاني من كام أسبوع ورسايلك ليها واضحة ومباشرة ..
ثُم أردف قارئًا :
_ (وحشتيني عاوز أشوفك محتاجك جمبي، أنا مبقتش طايق مراتي وبعتها بيت اهلها وعاوز أطلقها، مفيش غيرك اللي فهمتيني وحسيتي بيا ) ….
انتهى من كلماته وتطلع إلى مصطفى مُكملًا :
_ الواضح عندي إنها هي اللي كانت بتتجاهلك لحد ماردت عليك قبل اختفائها بيوم واتفقتوا أنكوا تتقابلوا في المقطم ..
قطب مصطفى ما بين حاجبيه مستنكرًا بحدة :
_ الكلام ده كله محصلش ..
إثر إنكاره ذلك قام وكيل النيابة بتوجيه شاشة اللاب توب نحوه متسائلًا :
_مش ده الأكونت بتاعك وده كلامكوا القديم ؟
هز مصطفى رأسه موافقًا وعينيه تجرى على الحروف والكلمات التي يتذكرها جيدًا فقال مُفكرًا وهو يقرأ تلك الجمل الأخيرة :
_ آه بس …
في تلك اللحظة عجز هو عن الحديث وكأنه مُكبل من جميع النواحي لا يقدر على الفرار أو إثبات صحة كلامه، لذا لم يستطع سوى التحدث بقلة حيلة مُستدركًا بصدق :
_ أنا مكلمتهاش تاني ومقولتلهاش نتقابل .. صدقني …
ثم ما لبث أن استطرد عقب تذكره :
_ وبعدين ماأنتوا اتأكدتوا إنها جاتلي البيت وأنا اخدتها ونزلت يعنى لو عاطيها ميعاد ليه هتجيلي وأنا المفروض هقابلها في مكان تانى .
أقترب وكيل النيابة بجسده مُستندًا على أطراف المكتب قبل أن يقول راغبًا في إيقاعه :
_ ما يمكن ده سبب الشجار أنها جاتلك البيت واكتشفِت وجود مراتك وإنك كنت بتكدب عليها فقررت تفضحك وساعتها جه في بالك تاخدها المقطم وتقتلها ..
أجاب مصطفى نافيًا بأطراف مُرتعشة وكأنه على وشك الانهيار :
_ محصلش أنا وصلتها عند بيتها ..
سلط وكيل النيابة نظراته على ذلك المضطرب قبل أن يتساءل بطريقة زادت من اضطرابه قائلًا :
_ وصلتها عند بيتها ولا مكان قريب لبيتها ..
بدأت جبهة مصطفى في التعرق رغمًا عن برودة الجو قبل أن يقول بتردد مُتراجعًا عن كلماته السابقة :
_ آه قريب من بيتها ..
لكنه سُرعان ما استدرك صائحًا عقب إدراكه لوقوعه في الفخ :
_ مش فاكر مش فاكر ..
وكأن تلك الحالة التي سيطرت عليه هي كُل ما أراده المُحقق والذى تابع باستفزاز راغبًا في إثارته أكثر :
_ يعنى مروحتش المقطم اليوم ده ؟
أجابه المتهم بتحد دون تفكير :
_ لا ..
ابتسم وكيل النيابة بانتصار مُعلقًا :
_ بس الرادار مسجل نمر عربيتك اليوم ده وأنت في طريقك للمقطم رايح .. جاي ..
ازدرد مصطفى لعابه بصعوبة قبل أن يقول بكلمات متقطعة مرتجفة وكأنه شمس توشك على الغروب :
_ انا .. أنا كنت …
لم يُعطه وكيل النيابة فرصة للتفكير تلك المرة فلاحقه بتساؤله بلهجة حازمة :
_ قتلتها ليه عشان متفضحكش قدام مراتك ولا في سبب تانى ؟
لقد بدا مصطفى وكأنه على شفا الجنون، خاصة وهو يصيح بلا عقل :
_ مقتلتهاش، فين الجثة عشان تتهمني بالقتل، مفيش جثة مفيش جثة ..
في تلك اللحظة ارتفعت الطرقات على باب الغرفة وتقدم إحدى مُعاوني المباحث بعدما سمح له المحقق بالدخول، فقال بلهجة رسمية عقب التطلع إلى رئيسه بظفر :
_ تمام يافندم ..لقينا الجثة ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى