روايات

رواية وما ادراك بالعشق الفصل السابع 7 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الفصل السابع 7 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الجزء السابع

رواية وما ادراك بالعشق البارت السابع

رواية وما ادراك بالعشق الحلقة السابعة

الفصل السابع _ في قلبكِ _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
كانت رحلة شهر العسل عسل فعلًا، كانت أجمل حلم، بل واقع عاشته على الإطلاق، لحظات من الحميمية و الرومانسية لا تقدّر بثمنٍ، لم تشعر “رحمة” بهذا الاكتمال من قبل، لقد تزوّجت من “يحيى البحيري” و من المفترض أنه رجلٌ ثلاثيني يكبرها بستة عشر عامًا على الأقل، لكنها لا ترى أيّ عوائق ملموسة تحول بينهما
بل العكس.. إن زوجها رجلٌ مثالي حقًا.. راقي.. لبق.. لطيف.. و لكنه أيضًا نقيض كل هذا تمامًا بالفراش.. أثناء ممارسة الحب هو يصير أبعد ما يكون عن التحضّر الذي يبدو عليه.. و لكنها تحب هذا
شراسته.. طريقته البدائية في التعبير عن مشاعره.. حماسته التي لا تتحمّلها أحيانًا.. باختصارٍ هو لم يكن يمارس الحب.. بل إنه يتّبع غريزته فقط هكذا قولًا واحدًا.. رغم هذا لا يمكن أن تنكر عليه خبرته في إستمالتها و جعلها طوع بنانه بمنتهى السهولة.. كأنه أستاذًا يعرف أسرار جسمها… و هي مجرد تلميذة عديمة الخبرة.. و لكنها تتعلّم بسرعة و تتجاوب معه.. لقد بدأت خيوط غرامه تلف قلبها بالفعل !
و لكنها كانت تعي جيدًا بأن كل ما تشعر به معه بمثابة مخدّر مآله إلى زوال، و سيُسحب قريبًا بساط السعادة من تحت قدميها، فماذا لو ملّ منها !؟
إنه لم يقل قط بأنه يحبّها.. أو أنه يخطط على الأقل لذلك.. و هذا يؤلم جدًا …
عادت “رحمة” إلى أرض الوطن برفقة زوجها، بعد شهر بالتمام و الكمال كما وعدها، و أجبرته بحيلتها الأنثوية المجدية بأن يقضي معها الليلة أيضًا، ثم يذهب غدًا إلى بيته، عند زوجته الأولى و ولديّه
جهزت له عشاءً شهي، أصناف من المأكولات التي يفضّلها، و الأهم.. أعدّت له نفسها كما يحب بالضبط …
-بجد أنا عمري ما دوقت أكل أحلى من اللي بتعمليه. تسلم إيدك ! .. قالها “يحيى” مبديًا إعجابه و هو يلتقم شوكته مجددًا و يتذوّق باستمتاعٍ
تسند “رحمة” مرفقيها فوق المائدة مريحة ذقنها إليهما، ترمقه بنظراتٍ والهة و هي تقول مبتسمة :
-على أساس إنك بتاكل الأكل كله.. انت بتخلّص طبقك بالعافية. أنا كنت بشوف بابا يبفرم السفرة كلها كده !!
رفع “يحيى” رأسه و قهقه بانطلاقٍ، فابتهجت و هي تراقبه يضحك من قلبه بهذا الشكل، بينما يهدأ تدريجيًا لينظر لها قائلًا بذات المرح :
-طيب بذمتك ينفع تقارنيني بجابر ؟ الجسم إللي قدامك ده زي جسم المرحوم !؟
أحمرّ خدّيها و هي ترنو إليه بانجذابٍ مرددة برقةٍ :
-لأ طبعًا.. انت مافيش حد زيك.. أنا عمري ما شفت راجل في وسامتك و أناقتك.. ذوقك كمان حلو في كل حاجة… انت كلّك حلو !
لم تتحمّل اعترافاتها و أخفضت رأسها من شدة الخجل، فتساقط شعرها الحريري فوق وجهها، بينما أُخذ “يحيى” بكلامها، رغم إنه سمع مغازالات كثيرًا و من أجمل النساء خلال سنوات حياته، لكن سماع الإطراء عليه منها هي يختلف تمامًا.. تلك الفتاة الصغيرة لا تملك أدنى فكرة عمّا تفعله به …
يمد “يحيى” يده ليرفع ذقنها و يجعلها تنظر إليه مجددًا، لكنها تأبى، فيقول بخفوتٍ مبتسمًا :
-انتي شايفاني حلو ؟
أومأت له و لا تزال مسبلة عينيها، ليبتسم أكثر قائلًا :
-طيب مخبيّة عنيكي مني ليه ؟ بصيلي !
إمتثلت “رحمة” لأمره، رفعت بصرها إليه، فآسرتها نظرته الملائكية، بينما يستطرد و قد احتضن جانب وجهها بكفّه الدافئ :
-انتي بقى ماتعرفيش أنا شايفك إزاي.. كلمة جميلة مش هاتوصل للوصف إللي أنا عايزه… انتي لسا بتتكسفي مني ؟
لم ترد عليه لأنها كانت كذلك بالفعل في هذه اللحظة، فتابع و هو يتراجع بالكرسي الذي يجلس فوقه بضع بوصات :
-تعالي !
قامت من مكانها مذعنة إليه، بينما يمسك بيدها الآن و لا زال يجلس، يشدّها صوبه و هي تطيع ارشاداته الصامتة، حتى وجدت نفسها تجلس فوق قدمه، هكذا بقميصها الأسود القصير، و هو في بيجامته الناعمة ذات اللون النبيذي محلولة الأزرار …
-قوليلي يا رحمة.. كنتي مرتبطة بحد قبل ما تشوفيني !؟
أجفلت من سؤاله، لكنها جاوبت ببلاهةٍ اتضح الصدق منها على الفور :
-لأ.. أبويا قعدني من المدرسة لما خلصت إعدادي.. مالحقتش أفكر في أي حاجة !!
غادرت الإبتسامة ثغره الآن و هو يستجوبها بجديّة وترتها :
-لو مكانش قعدك. كنتي فكرتي يعني ؟
هزت رأسها ببطء للجانبين و جاوبته بهدوء :
-أنا كنت هاتخطب مرتين قبل كده.. أبويا كان موافق. بس أنا كنت عاندة و مش عايزة. مع إن إللي طلبوني كانوا جاهزين و إللي حواليا غلّطوني و لاموني.. بس بردو ماهمنيش.. مافيش حد قابلته ملا عيني و حسيت إني بجد عايزاه… لحد ما شوفتك انت !!
بمجرد أن قالت هذا يرن جرس الإنذار بداخلها، تغمض عينيها بقوةٍ و تخفي وجهها بيديها، لا تصدق بأنها اعترفت بذلك أمامه بصوتٍ عالٍ !!!
تشعر به في اللحظة التالية و هو يحاول نزع يديها عن وجهها، تفتحهما بصورةٍ عرضية، لتجده يمرر عينيه على وجهه و يبتسم حتى بانت غمّازاته …
-يعني أنا الوحيد إللي مليت عينك ؟ .. يسألها بنعومةٍ
تعض “رحمة” على شفتها بقوة و تحاول الإشاحة عنه بنظرها، لكنه لا يسمح لها، يضحك بقوةٍ و هو يقبض بأصابعه على فكّها، يجبرها على النظر إليه و هو يقول بصوتٍ أجش :
-تعرفي لو كنتي قولتي غير كده.. كان هايبقى لك عقاب. عقاب قاسي أوي !
كان وجهها قريبًا من وجهه كثيرًا، و أحسّت بأنفاسه تلامس شفتيها مثلما تفعل أصابعه أحيانًا
يده الأخرى تلتف حول خاصرتها و تضغط حولها بشدة، تحاول ألا ترتجف من تأثير لمسته، بينما يتواصل معها بالعين و ترى في نظراته شهوة لا يمكن اخطاؤها …
-أخدتي الحبّاية ؟ .. سألها هامسًا بحدة فوق بشرتها
لتنطفئ كل حماستها إليه في طرفة عينٍ …
يشعر بتصلّبها بين يديه، فينظر إلى وجهها نظرةً متسائلة، يمتد الصمت بينهما للحظاتٍ، ثم تقول “رحمة” بجفاءٍ مقتضب :
-آه.. أخدتها !
أخذ يداعب كتفها العاري بلطفٍ و هو يقول :
-طيب و مالك زعلانة ليه ؟ احنا مش اتكلمنا في الموضوع ده. و إتفقنا على الشروط كلها يا رحمة !؟
زفرت “رحمة” بسأمٍ و قامت بحركة نزقة من حِجره و هي تقول بعصبية :
-خلاص. مش لازم تفكرني بغبائي كل شوية.. خلّيني ناسية أحسن عشان كل ما بفتكر ببقى عايزة أخنق نفسي !!
و استدارت متجهة إلى الرواق المؤدي للغرف، شعرت بخطواته الصمّاء تتبعها، و شهقت فور تخطّيها عتبة باب غرفة النوم، عندما أحاطت قبضته معصمها بقوةٍ، يشدّها مثل دمية ليسند ظهرها إلى الباب و يحاصرها هناك بجسده الضخم
تنظر إليه باضطرابٍ، ترى ذلك التعبير الجاد على وجهه الذي رأته من قبل بأول يوم من شهر العسل، لم يعجبها وقتذاك، و لا يعجبها الآن …
-انتي هاترجعي تنكدي علينا تاني يا رحمة ! .. غمغم بصوتٍ خفيض، و تابع بنفاذ صبر :
-أنا مش كل شوية هاعيد كلامي في الموضوع ده. المفروض إنك واحدة ناضجة و بتفهمي الكلمة من أول مرة. ليه مصممة تضايقيني !؟؟
شعرت بالدموع تنبت في عينيها، بينما تهدجت نبرات صوتها تحت وطأة عاطفة لم تقوى على قمعها و هي تخبره :
-مش قادرة أصدق إني مش هابقى أم.. أنا مش عارفة إزاي طاوعتك.. و انت لحد دلوقتي ماقولتليش سبب مقنع. لو سمحت أنا من حقي أعرف السبب الحقيقي.. ريّحني و قولّي !!
يرمقها لثوانٍ كأنما يفكر في طريقة لإنهاء الجدال، لكنه غيّر رأيه الآن و هو يشيح بوجهه عنها و يتنهد ممررًا أصابعه ببطء خلال خصيلات شعره متوسطة الطول، اختفت قبضته التي أمسكت بمعصمها، بينما يعاود النظر إليها و يفصح لها أخيرًا بهدوء :
-بعد ما اتجوزت مراتي فريال المهدي. و خلّفت منها في العلن إبني و بنتي.. بعد موت ابويا أنا ورثت شغله و أكبر حصة في ممتلكات عيلتي باسمي بعد ما اشتريت أغلبها من أخويا. بقى معروف مين إللي هايورث أصول العيلة إللي أنا كملتها. إبني عثمان هايكمل من بعدي.. مقدرش أجيب له وريث تاني حتى مش هايكون شقيقه يقسم معاه !!
عقدت “رحمة” حاجبيها بشدة معلّقة على كلماته باستنكارٍ شديد :
-انت مفكر إني عايزة أخلّف منك عشان طمعانة فيك ؟ أنا آ …
-الموضوع مش كده ! .. قاطعها بغلظةٍ، و أردف محتدًا و هو يشير بسبابته :
-انتي مش فاهمة الحياة في مجتمعنا ماشية إزاي. الورث ده مش مجرد وسيلة للرفاهية و إننا نعيش حياتنا بنصرف فلوس بس و أي حاجة تخطر على بالنا نعملها.. أيوة ده بيحصل بس مش بيكون الهدف الأساسي.. الورث بيكون واجهة في المقام الأول.. قيمة الفرد عندنا بتتقاس بحجم إللي بيملكه. دي صلاحية أنا مش ناوي أسحبها من عثمان.. مش هكرر غلطة أبويا لما وزّع التركة عليا أنا و أخويا في حياته و النتيجة كانت استهتار رفعت و إهداره لجزء كبير من ثروة العيلة. لو ماكنتش وقفت له في الوقت المناسب و اشتريت منه نصيبه كان اسم عيلة البحيري ده زمانه نزل في الحضيض من بدري أوي.. أنا بربّي إبني على المسؤولية من دلوقتي. لسا في المدرسة و رغم كده بنزله معايا يتعرّف على مكانه في الشركة و بحضره كويس لليوم إللي هايستلم فيه كل حاجة و الأهم.. بعرّفه إن دوره يزوّد على إللي هاياخده مش ينقّص. ف انتي بتطلبي مني أخلف بوعدي لإبني. غير إني هاطلع في نظره أب خاين لأنه مش هايفهم ظروف جوازنا مهما شرحت له.. صورتي هاتتحرق في نظره للأبد !!
-و إيه هي ظروف جوازنا يا يحيى ؟
ارتد وجهه مجفلًا لسؤالها، لتستطرد مقتربة منه بإلحاحٍ :
-أشرح لي أنا على الأقل.. أنا لسا ماعرفش لحد اللحظة دي انت اتجوزتني ليه أصلًا.. ممكن أكون عجبتك مثلًا.. بس خلّيني أسألك السؤال المهم.. مهم بالنسبة لي أكتر… انت حبتني !؟؟
كزّ “يحيى” على أسنانه و رد عليها بتحفظٍ صلب :
-أنا شوفتك مرتين قبل الجواز. و قضيت معاكي شهر بعد الجواز.. شهر واحد.. سؤالك مش منطقي يا رحمة و مالوش إجابة عندي.
إنه مُخطئ.. لقد جاوب بالفعل !
و نفذ سهم الألم إلى قلبها، فكرة أن ما تشعر به تجاهه ليس مهمًا أو حقيقيًا بالنسبة له تؤلمها، تؤلم كل عِرق ينبض بجسدها، في رأسها، في قلبها، في أحشائها، في روحها
كانت تظن بأنها قادرة على الوصول إلى قلبه بأنوثتها، بدهائها، إن لم يكن بخفة ظلّها.. الآن أدركت مدى سذاجتها …
-يعني مش مش بتحبني !؟ .. رددت “رحمة” السؤال و كأنها تقرر افتراضٍ
عبس “يحيى” و ضاق صدره عندما أطلّت الدموع من عينيها و نزلت على خدّيها، فتحت فاها تلقي عليه سؤال آخر يائس :
-و لا حتى في أمل.. إنك تحبني في يوم من الأيام ؟
أطبق فمه بشدة، يرفض الإجابة و في نفس الوقت يجهل الطريقة التي يسكتها بها، لتكمل هي ببؤسٍ متزايد :
-أصل أنا.. بدأت أتعود عليك.. أصلي خايفة التعوّد ده يقلب معايا بحب… أنا خايفة أوي !!!
أفلت نشيجًا حارًا من بين شفتيها، لتجهش بالبكاء و هي تستند إلى الجدار خلفها، تكره ضعفها الذي يتغلّب عليها عندما يكون الأمر متعلّقًا به
أحسّت بيداه تمسكان به فجأة، و أبصرت من خلال دموعها صورته مشوّشة و هو يقترب منها نافثًا أنفاس لاهبة و هو يهمس لها بخشونةٍ :
-أنا جوايا مشاعر ليكي.. مابعرفش أعبّر عنها إلا بطريقة واحدة بس !
و على الأقل لم يكذب في هذه.. و عرفت “رحمة” الليلة ما هي بالنسبة إليه …
حين دنى بفمه من فمها و قبّلها بشدة، أغمضت عينيها و سمحت له أن يفعل ما يريد، الحقيقة إنها كانت بحاجة ماسّة لتشعر بأنه ملكًا لها بأيّ طريقة، لترى كم هي يائسة حقًا، طفت مشاعرها كلها على السطح، هي التي لم تعتاد كبت أيّ شيء تشعر به، و هي تجذبه إليها، و هي تمرر يديها في شعره، و هي تتذوّقه و تشعر بأنفاسه تختلط بأنفاسها، لم يتركها الليلة إلا و قد أخذ كل ما حدث لها من خوفٍ و أذى و ألقاه بعيدًا، و لكن هذا لن يدوم.. صحيح ؟
جرعة الحب هذه وهمية، لحظية، عندما فتحت عينيها في وقتٍ لاحق، كان الغسق بالكاد قد بزغ، فورًا مررت يدها على الناحية الأخرى من السرير، لكنها كانت فارغة !
انتفض قلبها في صدرها، جلست في الحال و هي تنظر حولها، و جمدت للحظة عندما رأته يقف أمام المرآة يغلق أزرار قميصه الناصع، حيث بدا و كأنه يتجهز ليغادر …
-أنا آسف على الدوشة !
نظرت إنعكاسه بالمرآة، و قد كان ينظر إليها بدوره مبتسمًا و هو يستطرد بصوته الهادئ :
-حاولت أتحرّك بهدوء على أد ما أقدر عشان ماصحكيش.. كملي نوم أنا مش مطول.
-رايح فين ؟ .. سألته بشحوبٍ و هي تتشبث بالملاءة حول جسمها
إلتقط “يحيى” ربطة عنقه و موضعها حول ياقته ليعقدها و هو يرد عليها باقتضابٍ :
-في البيت عارفين إني المفروض أرجع إنهاردة بعد الفجر. تحديدًا دلوقتي لازم أكون نزلت من الطيارة.. يدوب مسافة السكة أكون عندهم.
ابتلعت ريقها الجاف بتوترٍ و هي تقول بلا تفكيرٍ :
-هاتسيبني لوحدي !؟
سحب سترته من المشجب القريب و ارتداها بسهولةٍ و هو يستدير ماضيًا نحوها، جلس قبالتها على طرف السرير، لوهلة أنعشتها رائحته التي هي مزيج من النعناع و مستخلصات خشب الغار و الخزامى، طمأنتها طلّته الآسرة أيضًا و أحبت تصفيفة شعره المعتادة، و بقيت مصغية إليه و هو يقول مادًا يده ليحوي وجهها بلمسةٍ حانية :
-انتي عارفة من إمبارح إني لازم أرجع عشان أشوف عيلتي. و كمان أنا أخدت إجازة كبيرة. في شغل كتير مستني. مش هقدر اتأخر أكتر من كده.
أسندت خدّها الآن إلى كفه تستمد منه الدفء قدر استطاعتها و هي تقول عابسة :
-أنا هاعمل إيه و انت مش موجود ؟ لازم أعمل إيه و أنا لوحدي !!؟
ابتسم بخفةٍ مدركًا مقصدها، و قال برفقٍ :
-أنا مش هاغيب عنك كتير.. يومين تلاتة بالكتير و هاتلاقيني هنا عندك.. و بعدين أنا سايبك هنا و أنا مطمن عليكي. مافيش حاجة ناقصاكي. حارس العمارة موصيه يبعت لك مراته كل يوم الصبح تشوف طلباتك. و كمان معاكي أرقامي. لو احتاجتي أي حاجة. أو لو في حاجة حصلت هاتكلميني و هكون عندك فورًا.. ماتخافيش يا رحمة. أنا جنبك و قريب منك علطول.
و قطع المسافة بينهما مائلًا تجاهها ليمنحها قبلاتٍ سريعة على شفتيها، ثم ينهض على عجالة قائلًا :
-يلا أنا هانزل دلوقتي.. خدي بالك من نفسك.. و ماتخافيش من أي حاجة انتي في آمن و أهدى مكان في الإسكندرية كلها. هنا مش زي كرموز !
و ألقى عليها نظرة لطيفة أخيرة.. ثم استدار جارًا حقيبة السفر خاصتها ورائه و غادر !!
لقد غادر حقًا، وقع خطواته اختفى، صارت بمفردها و قد تركها مع المزيد من الحيرة و القلق، جاهلة ماذا تصنع حقًا في غيابه.. و عاجزة حتى على العودة للنوم …
______________________________
واتته الأخبار أولًا بأول منذ ليلة الأمس، لقد وصل شقيق زوجته و معه إبنة عمه إلى الوطن في ساعة متأخرة من الليل، و رغم إنه قد عرض عليهما النزول في ضيافته هنا بقصر العائلة، إلا إن “فادي” أبدى رفضه و أصر على المكوث بشقته الفاخرة التي جهزها قبيل هجرته للمرة الثانية
لم يعبأ “عثمان” كثيرًا لتعنّت صهره، و أتفقا أن يذهب “فادي” في الصباح لرؤية أخته بالمشفى بينما يبقى “عثمان” بالمنزل ليمنحهما مساحة كافية على إنفرادٍ، و قد كانت فرصة مناسبة لكي يقضي بعض الوقت مع صغاره الذين يفقتدون والأب و الأم معًا
استيقظ “عثمان” باكرًا صبيحة عطلة الصغار، جمعهم بحديقة القصر حول طاولة قام باعطاء أوامره لتجهيزها بأطيب و أزكى أنواع الحلوى المفضلة لكل منهم، جلست الصغيرة “فريدة” في حِجر أبيها، بينما يُطعمها بيده قطعة من كعكة الشوكولاه التي تحبها كثيرًا …
-أنا بقول كفاية سكريات بقى و لا إيه !؟ .. اقترح “عثمان” ممرًا ناظريه على وجوه صغاره الثلاثة
ابتسم و هو يرى الحلوى تلطّخ أفواههم و كأنهم عادوا أطفال …
-لأ يا بابي بليز أنا لسا ماكلتش من الدوناتس ده !! .. صرخت “فريدة” معترضة
نظر إليها “عثمان” متأملًا في لون بؤبيّ عينيها الواسعين، حيث جمعت الطفلة ألوان عيون كلًا من جدها “يحيى البحيري” الرماديتين، و عيون أمها “سمر” الخضراوين مثل حجر العقيق، كانت عينيّ “فريدة” مثل طفرة لم يشهد لا مثيل
مسح “عثمان” على شعر صغيرته العسلي و قال بهدوء :
-سمر مش قاعدة و شايفة إللي بيحصل ده. كانت بدلتنا كلنا.. أنا بس حبيت أرفه عنكوا شوية مش أكتر. لازم نحترم كلام أمكوا حتى و هي مش موجودة. كفاية كده.
-هي ماما هاترجع إمتى ؟
إلتفت “عثمان” إلى سؤال إبنه، رآى حزن عميق يجلل ملامحه، فقال بابتسامة خفيفة :
-قريب يا يحيى.. قريب.
عبس “يحيى” بوهنٍ و هو يقول منفعلًا :
-إمتى ؟ أنا عايز أشوفها. و انت مانع أي حد فينا يروح لها.. ليه يا بابا !؟؟
تنهد “عثمان” و خاطبه برفقٍ :
-هاتشوفها يا يحيى. إهدا بس.. أمك كويسة مافيهاش حاجة.
-طيب ليه مارجعتش معانا ؟ ليه سيبتها في المستشفى ؟؟
-أنا مش قلت لك إن خالك فادي رجع إمبارح.. هو زمانه دلوقتي عند سمر في المستشفى.. هايجيبها و يرجع بيها على هنا. أوعدك إنهاردة هاتشوف أمك.
و لو لا هذا الوعد ما سكن الصبي حقًا، لكن هناك من تململ مضطربًا لتلك التصريحات، لاحظ “عثمان” الوجوم الذي كسا وجه “ملك” و اضطراب جسمها
نظر إليها متسائلًا :
-و انتي كمان يا ملك فيكي إيه !؟
لم تستطع الفتاة إخفاء الرجفة في صوتها و هي تسأله بشحوبٍ :
-فادي خلاص رجع ؟
-أيوة. رجع من إمبارح.
-يعني.. يعني لما يسافر تاني هاياخدني معاه زي ما قال ؟
عثمان بحدة : قلت لك مايقدرش ينقلك من مكانك طول ما أنا عايز كده. و أنا مافيش حاجة تهمني غير راحتك انتي. إللي انتي عايزاه هاعمله يا ملك. عايزة تفضلي هنا معانا محدش هايقدر يلمسك. عايزة تمشي مع فادي مش هامنعك.. فاهماني ؟
أومأت له ببطءٍ
لم يكاد “عثمان” يلتقط أنفاسه بعد، جاءت إحدى مستخددمات القصر تخبره بشكلٍ عاجل :
-عثمان بيه.. الضيفة إللي جت لحضرتك إمبارح واقفة برا عند الأمن. طالبة تشوف حضرتك.
تحفزّت خلاياه مرةً واحدة و هو ينطق اسمها بخفوتٍ :
-شمس !
______________________________
لا تعرف كيف كان الحال ليكون لو لم تكن لديه تلك الإعاقة الجزئية بذراعه المبتورة، إنه يعتمد بدلًا منه على آخر صناعي حديث الطراز، لا يفرق كثيرًا عن الحقيقي، لكنه يبدو اصطناعيًا لمن يدقق النظر في طرفه
إذن كيف يدركن النساء تلك الحقيقة و يواصلن النظر إليه على هذا النحو، إنه حرفيًا محطّ نظرات الإعجاب أينما راح و غدى، لعله لا ينتبه لذلك، لكنها لا تخطئ ملاحظاتها أبدًا، و دائمًا ما تظهر العداء علانيةً لأيّ امرأة تمد عينيها إليه، فورًا تكشر عن أنيابها و تتعلّق بذراعه السليمة بأكثر مبدية ملكيتها له
إنه زوجها هي، لها وحدها، لو كان أخبرها أحد بأنها سوف تقع في حب رجل مثل “فادي حفظي” يومًا ما ما كانت لتصدق، بل كانت لتسخر و تقسم ألا يحدث، لكنه حدث، و الآن هي غارقة في عشقه حتى أذنيها، أجل هي نفسها “هالة البحيري” أعاد زوجها تعرّيفها على الغرام و العشق من جديد على يديه هو …
مشيت “هالة” معه جنبًا إلى جنب، متأبطة ذراعه و هما يبلغا بوابة المشفى الخصوصي، طبقًا لأوامر “عثمان” سمح لهما الطبيب على الفور لرؤية “سمر”.. طرق “فادي” بابها مرتان.. و فتحه في الثالثة مادًا رأسه بحذرٍ
وقعت عيناه عليها في الحال، إذ كانت تجلس أمام النافذة بثوب المشفى، ساهمة، كئيبة، تحيط ضمادة رفيعة بأم رأسها، دلف إليها تتبعه زوجته و هو يهتف بلهفةٍ :
-سمـر …
ارتعدت فرائصها لدى سماع صوت أخيها، وثبت من مكانها و هي تستدير لتراه، لقد جاء أخيرًا، و فجأة لم تعد تتحكم بنفسها و لا تعرف كيف إنهالت مدامعها بلحظةٍ و هي تمد ذراعيها نحوه نائحة :
-فـادي.. أخويا !!
وصل إليها خلال ثوانٍ معدودة، مد ذراعه السليمة و اجتذبها من رسغها لتستقر بحضنه، ضمّها بشدة و هي تحيط بخصره باكية في طيّات قميصه بحرقةٍ، بقيت “هالة” في الخلف تراقب في صمتٍ، بينما أخذ “فادي” يهدئها و يهدهدها لقرابة النصف ساعةٍ
حتى انتهى بهما المطاف جالسان هناك قرب النافذة حيث كانت تجلس قبل مجيئه، لا تزال “سمر” متعلّقة بأحضانه، يربت على كتفها و يقبّل رأسها متمتمًا بحنوٍ :
-سلامتك يا حبيبتي.. الحمدلله إنك بخير.. الحمدلله إني اطمنت عليكي.. ماتخافيش يا سمر انتي كويسة.
أخيرًا تملّكتها الشجاعة لتبتعد عنه قليلًا، نظرت إليه بعينين دامعتين و قالت بعتابٍ :
-انت كنت فين كل ده يا فادي ؟ إزاي ماتبقاش جنبي في ساعتها. أنا فتحت عيني لاقيت ناس غريبة حواليا …
و قطبت حاجبيها منتبهة لمظهره الأكثر نضجًا، وجهه صار أنحف، ملامحه تتسم بحديّة تنافي طبيعته البشوشة المتسامحة، حتى لحيته نامية بكثافة على صدغيه، و.. رباه !
لقد تناثرت بعد الشعيرات الرمادية الطفيفة جدًا عليها، هذا الشخص يبدو كأخيها فعلًا، و لكن مختلف، ذاك “فادي” أنضج من الآخر الذي تعرفه.. أين “فادي” الذي كان معها بالأمس القريب ؟ أين أخيها الطالب الجامعي اليافع !!؟؟؟
-انتي صحيح مش فاكرة أي حاجة يا سمر !؟ .. سألها “فادي” بلطفٍ مبديًا تعاطفه معها
و أشار خلفه ناحية زوجته و هو يتابع :
-مش فاكرة هالة طيب. مراتي.. تعالي يا هالة.
تطلّعت “سمر” إلى المرأة التي يشير لها أخيها كونها زوجته، كانت جميلة و راقية إلى حد كبير، ذكرتها بالرجل الذي استيقظت و وجدته بوجهها مدعيًا بأنه زوجها !!!!
وقفت “هالة” الآن ملاصقة لزوجها، ابتسمت في وجه “سمر” قائلة برقتها المعهودة :
-إزيك يا سمر. ألف سلامة عليكي يا حبيبتي.. كده تخضّينا عليكي ؟
ازدادت ريبة “سمر”.. اشتد بها الكرب و هي تعاود النظر إلى أخيها.. سحّت الدموع فوق خدّيها و هي تهز رأسها للجانبين مغمغمة :
-فادي.. أنا مش عارفة حاجة.. مش فاكرة أي حاجة.. أنا مـ آ ا …
و صمتت فجأةً، حين امتدت يدها لتمسك بيده، يده الاصطناعية، إنها أكثر صلابة، باردة، غريبة !
أطرقت “سمر” برأسها مدققة النظر في يده التي تقبض عليها بكلتا يديها، و هالها ما رأت، إنها يد، لكنها قطعًا ليست يد أخيها، و تأكدت بالأكثر عندما لم تصنع معها أيّ ردة فعلٍ …
-انت مال إيدك !!؟ .. رددت من بين أنفاسها
تطلّعت إليه من جديد، فرأت الوجوم أبلغ من أيّ إجابة قد يتفوّه بها، كتمت شهقتها مكممة فاها بكفّيها، و انهمرت الدموع أكثر من عينيها و هي تنظر إليه مصدومة، مفجوعة بالحقائق التي أُلقيت بوجهها بهذه القسوة
و يا ليتها حقائق تستطيع تقبّلها.. إنها كوارث …
_____________________________
استقبلها “عثمان” هذه المرة بحجرة مكتبه، و التي كانت لأبيه من قبله، الآن و هي تظهر أمامه ثانيةً، لا يمكنه إلا أن يرى أخته بالفعل، إنها لا تشبه شقيقته “صفيّة”.. “صفيّة” عبارةً عن استنساخٍ مطابق لأمه
و لكن “شمس”.. “شمس” تشبه أبيه، ربما تشبهه هو أيضًا، يشعر بنداء الدم يصرخ بعروقه مع كل خطوة تخطيها نحوه، لعله يحقد على أبيه و على تلك المرأة التي فضّلها على أمه لدرجة زواجه منها، لكنه لا يستطيع أن يحقد على تلك الفتاة
بل إنه يقرّ بانتمائها إليه، مهما حدث، و بغض الطرف عن أيّ افتراضاتٍ حساسة، إنها أخته الآن، شاء من شاء و أبى من أبى …
-عثمان ! .. نطقت اسمه بشكلٍ جميل
كانت تبتسم له بحلاوة، ناعمة و جذّابة، و أنيقة كدأب أفراد عائلتها و إن كان لديه بعض التحفظّات التي حتمًا سيخبرها عنها قريبًا، فهو لا يقبل أن تظهر أخته بمظهر فاضح أمام أعين الجميع، تلك الكنزة المكشوفة الضيّقة تبرز جزء من بطنها، و ذاك السروال القصير بالكاد يغطي فخذيها، إنها حقًا بلا رقابة.. حياتها تخلو من الرجال.. لكنه يعرف كيف يتولّى أمرها جيدًا بدءًا من الساعة …
-اختفيتي فين بقالك يومين ؟
تفاجأت “شمس” بالحدة التي طرح بها سؤاله، كانت تقف قبالته الآن، بمنتصف الغرفة الفسيحة، وحدهما فقط …
رفعت حاجبها و هي تجاوبه بتلعثمٍ :
-آ أنا. حسيت إن الظروف مش مناسبة.. عرفت بحادثة مراتك.. قلت أمشي و أبقى أرجع لك تاني !
صمتت تراقب ردة فعله، لكن لا شيء.. غير الصرامة التي جللت نظراته و تعابيره …
ابتسمت مرةً أخرى و هي تقول بأريحية واضحة :
-باين من لهجتك معايا إنك اتأكدت.. عرفت إني أختك حقيقي.. مش كده ؟
ضيّق عينيه و هو يقول لاويًا ثغره بلمحةٍ تهكمية :
-لو ماكنتش متأكد ماكنتيش هاتقفي قدامي تاني.. و كنتي هاتتحاسبي على كدبتك.
أومأت قائلة بنفس الابتسامة :
-و انت دلوقتي واثق إني مش كدابة.
هز رأسه و قال بثباتٍ :
-لأ.. مش كدابة يا شمس !
اتسعت ابتسامتها أكثر لنطقه لأسمها بهذه الحميمية و كأنه معتاد على مناداتها، و كأنه لا يراها تهديدًا له، ذلك الطابع منحها املًا في التقرّب إليه، فقالت و هي ترمقه بقوةٍ :
-إيه إللي هايحصل يا عثمان ؟ بعد ما عرفت حقيقتي.. أنا مش جاية عشان حاجة. مش بطلب منك أي حاجة !
كان يعرف هذا سلفًا من الوصية التي تركها أبيه، فسألها رغم ذلك ليعرف دوافعها منها هي :
-أومال انتي جاية ليه يا شمس ؟ و اشمعنا دلوقتي بالذات ؟
أجابته على الفور دون ترددٍ :
-جيت عشانك انت يا عثمان.
تغضن جبينه بعبسةٍ أضفت عليه جاذبية، بينما يردد بتعجبٍ :
-عشاني أنا !؟
اقتربت منه خطوةٍ و هي ترد عليه بصدقٍ بائن :
-أيوة عشانك انت.. انت اخويا الوحيد.. أنا عشت طول عمري نفسي يكون لي أخ.. و لما عرفت إنك أخويا كنت هاتجنن و اشوفك بس. لما شوفتك بقى نفسي أقرب منك و أعرفك بيا.. بس كنت واعدة بابا.. مقدرتش أحافظ على الوعد ده كتير.. و أديني واقفة قدامك أهو… أنا جيت عشان أخويا.. أنا محتاجة وجودك جنبي.. مش عايزة أحس إني عايشة لوحدي.. عايزة عيلتي !!
و صمتت لعجزها عن التعبير أكثر، لتقول بعد لحظةٍ و دون تفكيرٍ :
-أنا ممكن أحضنك ؟
ارتد وجهه للخلف متفاجئًا بطلبها، لكنها ألحت بيأسٍ واضح :
-أرجوك.. أنا عارفة إنك لسا شايفني واحدة غريبة. بس أنا شايفاك أخويا.. نفسي أحضنك.. أرجوك يا عثمان !!
أجفل عدة مراتٍ و قد هزّت دفاعته لوهلةٍ، و لا يعرف ما الذي دفعه ليذعن لها بهذه السلاسة مباعدًا ذراعاه بالكاد، بمجرد أن لمست موافقته، ارتمت بين أحضانه مطوّقة عنقه بشدة، لولا عضلاته القوية التي تحمي جسده لأختنق من شدة ضغطها عليه …
في البادئ لم يعرف كيف يرد على تصرفها، لكنه وجد جسده يتفاعل معها غريزيًا، فيرفع يد ليضعها فوق مؤخرة رأسها، و الأخرى يربت بها على كتفها بلطفٍ أخرق بعض الشيء
إنها محقّة.. الأمر برمته لا يزال غريبًا عليه !
ينفتح باب المكتب في هذه اللحظة.. فترصد عينيه من وراء أخته الظهور المباغت لأمه ! …………………………………………………..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى