روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء الحادي والعشرون

رواية منك وإليك اهتديت البارت الحادي والعشرون

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الحادية والعشرون

صباحًا…
تحركت مليكة خلف زيدان وعباس المتقدم في خطواته ليحلق بالدرج الرخامي في إحدى البنايات السكانية الموجودة بالبلدة وهذه المرة كانت الطمأنينة تغزو قلب مليكة بعد أن رأت حالة المنطقة التي يبدو عليها الحياة..تنفست الصعداء وهي تصعد الدرج تخفي قبضة يدها داخل كف زيدان المحاط لكفها بتملك وحماية لها مما عزز من شعور الأمان لديها وهذا الشعور كان على وشك النفاذ لديها..
لاحظت توقف زيدان وابتعاده في إحدى الممرات بسبب عبور رجل وزوجته، وبدأت زوجة الرجل ترحب بهما في حبور مما أقلق مليكة بل صدر عنها رد فعل جعل السيدة وزوجها في حالة من الارتباك.
والسبب في ذلك يرجع إلى خوف مليكة من أن يكونا غير حقيقين كمثل أشباح الأمس لذا ظلت على نفس موقفها وزيدان هو من تدارك الأمر سريعًا فقال بلطف:
-أهلاً بيكم، دا نوركم.
سارعت السيدة بالحديث في رحاب:
– عباس قالنا انكم من القاهرة، احنا كمان من القاهرة بس جوزي هنا مقيم شغال مهندس في مشروع الكهرباء الجديد.
كانت السيدة تثرثر وكأنها اشتاقت للحديث مما أثار دهشة مليكة وبدأت الريبة تسيطر عليها وهي تراقب ابتسامة زوجها البلهاء وكأنه يصدق فقط على كلام زوجته.
صدح صوت عباس وهو يثني على السيدة بكلماته:
-ست شهيرة من احسن الناس اللي جم بلدنا، واكرمهم.
نظرت له شهيرة نظرة تنم عنها سعادتها بحديثه وقالت بنبرة يغلب عليها الفرح والحماس:
-عدي عليا يا عباس عايزك.
هنا فقط انفجرت أسارير الفرح على وجه عباس الذي سافر بخياله يحلم بمبلغ المال الذي سيتقاضاه من السيدة شهيرة التي كلما أثنيت على شخصها تكرمك بلا حدود.
غادرت السيدة وبقيت مليكة تتابع أثرها فهمس زيدان بجانبها قائلاً بعتاب طفيف:
-إيه يا مليكة ساكتة ليه ومردتيش على الست.
-أرد وتطلع عفريته في الأخر.
قالتها دون وعي ربما لا زال جزء قابع بداخلها يغرق في تفاصيل الأمس المرعبة، فضحك مردفًا:
-متخافيش، طالما أنا شوفتهم يبقوا ناس حقيقية.
وقبل أن يتابع طريقه خلف عباس، جذبته مليكة وهي تردف بصوت خافت به لمحة خوف:
-زيدان أنا شاكه في عباس نفسه.
-الصراحة عندك حق تشكي.
قالها بمزاح ثم تابع خطواته نحو شقة في الدور الثالث، وقبل أن تدخل مليكة توقف عباس مشيرًا نحو شقة أخرى مقابله لشقتهما:
-شقة استاذ شوكت ومدام شهيرة.
حولت بصرها لزيدان قائلة برعب جلي:
-مش مرتاحة.
جذبها زيدان خلفه، فدخلت على مضض وأول ما وقعت عليه عينيها هي الغرفة الوحيدة التي تتوسط الصالة، فأردفت بغيظ وكأن أشباح أمس تطاردها:
-دي اوضة واحدة بردو.
فسارع عباس بالنظر لزيدان وغمز بطرف عينيه في خفة قائلاً بنبرة عابثة:
-اهي الشقة يا زيدان بـــيـــه، بأوضة واحدة يا زيدان بـــيــــة.
جز زيدان فوق أسنانه في غيظ شديد من تصرفات عباس التي سرقت انتباه مليكة، مما دفعه لإخراجه من الشقة وهو يصيح:
-شكرًا لافضالك يا عباس، عايز مشوفش وشك تاني هنا.
أغلق الباب من خلفه ثم أخرج نفس عميق واراح ذراعيه وهو يلتفت نحو مليكة التي ظلت على وقفتها ترمقه بشك:
-ليه جابلنا شقة باوضة واحدة يا زيدان.
تقدم نحوها في ثبات ثم وضع يديه في جيب سرواله وهو يهز كتفيه بلامبالاة:
-معرفش روحي اساليه!
-زيدان.
ضغطت فوق حروف اسمه بنبرة تهديد فرفع إصبعه مهددًا هو الأخر:
-لا خدي بالك جو التهديد مياكلش معايا أنا ظابط واعرف اتصرف مع التهديد الشرس دا.
غمز بطرف عينيه في شقاوة فتقدمت خطوة في ثقة وأردفت وهي تعقد ذراعيها أمامها:
-ليه جابلنا شقة فيها اوضة واحدة!
تنهد بعمق ثم رسم علامات الاستسلام فوق قناع وجهه الزائف وأردف بنبرة متعبة:
-الصراحة أنا اللي طلبت منه كدا.
-ليه؟!
هتفت بتساؤل قلق وتراجعت للخلف، فأجاب بمكر يغلب عليه العبث الذي لم تلاحظه بسبب تطرقه لنقطة أصبحت هاجس جديد يطرق ابوابها:
-معظم الشقق اللي فيها اوضتين هنا مسكونة فيها عفاريت، ولما هو قالي انه مش ضامن يجبلنا شقة فيها اوضتين وتكون كويسة أنا خفت عليكي وضحيت وقولتله ماشي هات شقة حتى لو كانت اوضة وصالة صغيرة المهم تكون حلوة ومريحة عشانك…
ترك مكانه ثم تحرك في أرجاء الشقة مدققًا النظر بها وهو يواصل حديثه:
-ولما قالي أن العمارة دي حلوة والشقة دي فرشها جديد وكمان مريحة قولت تمام وكله في الأخر عشان خاطرك.
ظهرت التضحية فوق وجهه وهو ينظر لها باستعطاف لموقفه البطولي الشهم، انتقلت بعينيها في أرجاء الشقة بالفعل الوان الطلاء جديدة ومريحة وأثاث الشقة عصري بالإضافة إلى التلفاز الكبير حتى أن المطبخ مفتوح على باقي الشقة وكأن صاحب الشقة شاب معاصر للتصاميم الحديثة، فأخذها الفضول نحو الغرفة الوحيدة وجدت بها فراش كبير ودولاب بطول الجدار وسراحة صغيرة تكفي لأغراضهما بالإضافة أنه يوجد مرحاض صغير بالغرفة غير الأخر الموجود بجانب المطبخ، مبدئيًا سعدت بها ولكن الغبار الكثيف جعل السعادة تتبخر وخاصةً لعلمها بحاجتها إلى تنظيف عميق، استفاقت على صوت زيدان وهو يرسم خط بالغبار فوق الغطاء الابيض الموضوع فوق الفراش وهو يقول بمزاح:
-دي خط محايد ما بيني وبينك، ويا ريت مالكيش دعوة بيا وتيجي تشاركيني في مكاني.
عقدت ذراعيها وهي تنظر له بشقاوة كانت تغزو عيناها:
-ومين قالك انك هتنام على السرير.
-كنت عارف انك شايلة قلبك وحاطه مكانه حجر.
كان يتمتم بغيظ وهو يترك الفراش متجهًا نحوها، فهتفت بضحك:
-وخرسانة كمان..المهم الشقة محتاجة مننا مجهود جامد عشان ننضفها.
عقد حاجبيه بعدم فهم وهو يشير نحوهما:
-مننا..نا دي جت منين!
رفعت أحد حاجبيها له وهتفت بتهديد:
-يعني إيه مش هتساعدني!
-في إيه؟! أنا لو أعرف أكيد مش هتأخر.
اغتاظت من طريقته الماكرة، فقالت بشيء من الحزم:
-لازم نتعاون وننضف المكان اللي هنقعد فيه ونتشارك فيه حياتنا، الحياة أساسها المشاركة، وأساس أي علاقة ناجحة هي التعاون وعدم التهرب من المسؤولية.
-هما قلبوا امتى على قناة الاخبار.
قالها بضحك، فعبست بوجهها قائلة:
-قصدك إيه يا زيدان!
-قصدي انك بتقولي كلام كبير اوووي.
عضت فوق شفتيها السفلية ثم قالت بعدها بهدوء زائف:
-لازم أنا وأنت ننضف الشقة مع بعض ونشوف تفاصيلها لان دي هتبقى حياتنا الجديدة.
عبس بوجهه هو الأخر مردفًا:
-طيب ما نجيب حد يساعدنا وينضفها.
-لا يا زيدان، وعشان كدا أنا قولت لازم نبقى اصدقاء عشان اعرف شخصيتك الحقيقية.
أشارت بيدها نحوه وكأنه تواجهه بخصاله السيئة وخاصة مع تعبيرات وجهها المستاءة، فقال بتهكم:
-لا انتي فاهمني غلط، أنا غلبان وابن ناس ومحتاج اللي يحتويني مش اللي يخليني انضف.
-معنى كدا ان لما اتعب مش هلاقيك جنبي وهترميني، وهتطلب مني ان احتويك وفي المقابل أنا مش هستنى منك حاجة، عارف ليه عشان أنت عايز تعيش دور سي سيد وأنا الخدامة بتاعتك…
كانت تندفع بكلماتها في غيظ وهجوم شرس مما جعله يرفع يديه باستسلام قائلاً بصوت مرتفع:
-بــــس لغاية سي سيد وخدامة وتقفي…فين الجردل والمساحة.
***
وضعت نهى الملعقة جانبًا بعدما انتهت من وجبة الافطار بعد أن تشاركتها مع خالد لأول مرة بقلب مطمئن وعقل اجتاحت خلاياه الراحة أخيرًا رغم أن معالم المستقبل لا زالت مخفية عنها لا تعلم ما الخطوة الثانية وما الذي سيحدث بعد عودتها لمصر فقد قررت ترك كل شيء لخالد بعد أن وضعت حجر الثقة بأكمله في خانته، فمن يغامر بعمله وحياته واستقراره لأجل فتاة كانت تتلقى العنف من ذويها يستحق الأمان فيكفيها السكينة المستقرة بعدستيه وهو ينظر لها وكأنها نجمة عالية المنال، يعاملها برقة وأسلوب مهذب هي افتقدته رغم سخرية أسلوبه في أغلب الاحيان ولكنها تعلم أن خلف تلك السخرية حنو تتمنى الغرق في تفاصيله المخفية عنها.
لاحظت طبقه الذي لم يلمسه فقالت بصوت رقيق خافت:
-مأكلتش ليه؟، لسه تعبان من امبارح.
هز رأسه في نفي ثم هتف بضيق:
-مش دا الفطار اللي عايز افطره لما ارجع مصر بعد غربة طويلة.
لم تدرك مغزى حديثه في بداية الأمر حتى وبعدما جذبها من يدها وأوقفها ثم عانق كفها بكفه وتقدم خارج الفندق وهي في دهشة من أمره المفاجئ، اوقف سيارة الأجرة ودخلت بها ثم جاورها دون أن تفهم شيء ولكن لاحظت ابتسامته العابثة وصوت الخافت:
-هنروح نفطر على عربية فول.
انعقد حاجبيها في تعجب وريبة من سعادته المفرطة وكأنه يقدم على فعل شيء سحق تفكيره من شدة تمنيه، تابعت نظراته التي توجه بها للجهة الأخرى يمرر بصره في شغف من خلف الزجاج، بينما يده لا زالت تمسك بيدها مما أثار الخجل لديها فحاولت سحب يدها بهدوء دون أن تثير انتباهه ولكن انتبه وفتح أصابعه على مصراعيها فانسلت بكفها الرقيق واحتضنته بكفها الأخر وكأنها تحافظ على لمسة يده الخشنة التي اكتشفت أنها تشعل مشاعر مجهولة لم تسبق عليها من قبل.
وصلا أمام “عربة فلافل” في أحدى مناطق القاهرة القديمة، ثم توجها نحوها مباشرة وبكل بساطة تعامل خالد واتخذ لهما مكان وبدأ في تناول الطعام بنهم وتلذذ، فابتسمت له بحب دون أن تعي وتعلق بصرها به بشغف الهب فؤادها مكتفيه بالنظر إليه دون أن تلجئ للتفسير الذي ربما من خلاله تكتشف أمور يصعب عليها فهمها.
-لما ادوس اوي في الأكل وقفيني.
همست بفضول وهي تختصر المسافة بينهما، نظرًا للزحام من حولهما:
-ليه؟!
-عندي القولون وهتعب.
جاوبها وهو يتابع استكمال طعامه، نظرت له بحنان بالغ، فهمس في استنكار:
-لا أنا جالي لما شوفت ابوكي واخوكي وكنت هشيل المرارة بس ربنا سترها، بس أنا قبلهم كانت صحتي حديد.
ضحكت من قلبها وكانت ضحكتها صافية بقدر صفاء روحها في هذه اللحظة، وتحديدًا بعد استكماله لحديثه الحانق:
-عالم ميجيش من وراها غير الغم والقرف.
أكدت على حديثه بجرأة لأول مرة تملكت منها:
-دا حقيقي.
تناولت حبة” مخلل” واعطتها له قائلة برقة:
-ربنا يجازيك خير عشان وقفت معايا.
توسعت عيناه بدهشة وهو يقول بمزاح ساخر:
-ايه دا يا نهى انتي ليكي في الشحاتة.
اهتزت ابتسامتها فتابع بتمثيل:
-اه تقوليلي ربنا يجازيك يا بيه عشان قلبي يرق واديكي سندوتش فول وتضحكي عليا.
عادت ابتسامتها تنير وجهها وهي تشاكسه برقة:
-هضحك عليك بسندوتش فول!
-اه تخطفي قلبي برقتك عشان اتنازل واديكي من سندوتشاتي، بس لا مش هتقدري تضحكي عليا.
شعرت بالطفولة تسيطر عليها فوجدت نفسها تقول باستعطاف يخالطه المزاح:
-ويهون عليك تسيبني جعانة.
تدخل صوت من خلفها قائلاً:
-أنا ميهونش عليا.
رفع خالد بصره موجهًا نظراته الشرسة نحو مصدر الصوت، واذا به شاب في الثلاثينات يغلب عليه طابع الإجرام والوقاحة بتدخله في الحديث بهذا الشكل الوقح، فهتف خالد بصوت خشن عنيف قاس:
-نعم يا روح ***.
وفي لحظة كانت نهى تندفع لأخر الطريق بينما تشابك خالد دون تفاهم مع الشاب في وحشية قاسية، فكانت ترى به جانب جديد وكأن شخصيته الهادئة الساخرة تبدلت كُليًا وظهر طباع حادة عنيفة في خصاله وهو يسدد اللكمات للشاب والكلمات البذيئة لم يدرك حينها مدى الرعب الذي كانت تعيش فيه وهى تراه بهذا الشكل فقد انشق داخلها لجزء يخشى جنونه الجامح وجزء يخشى عليه من هذا العراك الذي خرج منه به بعض الكدمات في وجهه أما الأخر كان ملقى بجانب الطريق يتلوى بألم وبعض الاشخاص يلتفون حوله، بينما كان خالد ينزف بجانب فمه وبعض الافراد يحاوطنه محاولين تهدئته:
-معلش يا باشا..اهدى كدا.
هز رأسه في إيجاب، فتابع أخر وحاول الحديث فقال خالد بنزق:
-خلاص هو مش فرح.
وصل خالد لنهى التي كانت تقف كالصنم تعاني من رهبة الحديث معه أو القيام بفعل قد يثير جنونه فالتزمت الصمت، ولكنها انتبهت لقول أحد الاشخاص الذي غلب عليه الفضول:
-قريبك دا يا بنتي.
وقبل أن تجيب كان صوته الخشن يصدح في المكان بقسوة:
-اه جوزها في حاجة!
تراجع الرجل مردفًا بتبرير:
-لا خالص احنا بس كنا عايزين نفهم، اصلك نزلت طحن في الراجل من غير ما حد يعرف في إيه!
-عاكس مراتي ومن حقي أدبه وأدب أي حد يتعرضله.
نبرته عنيفة حادة وگأنها غريبة عنه حتى أنها للحظة شكت بنظرها الذي كانت تحتويه به، فقد تحول كليًا من شخص مسالم لأخر يفوق في شراسته ذلك المجرم المنبطح أرضًا يعاني من كسور متفرقة في جسده، شعرت بعدم معرفتها به معرفة كاملة وأن خلف عدستيه الدافئة شراسة زعزعت من سكينة فؤادها.
أحست بيده التي تدفعها نحو سيارة الأجرة التي اوقفها، فدخلت باستسلام تام وجلست في صمت تنظر أمامها ترفض اتباع فضولها ورغبتها في النظر إليه يكفي الاستماع لصوت تنفسه السريع لتعلم سوء مزاجه الآن، فانكمشت بالمقعد تتابع الطريق من الجهة الاخرى وكلماته التي كان يحادث بها الرجل تتكرر في أذنيها ويصاحبها رغم عنها مشاعر مجهولة الهوية تدغدغ أروقة قلبها المتهالك.
-مراته…مراتي…
حتى أنها حركت شفتيها دون وعي منها وكأنها تؤكد لنفسها ما سمعته رغم أن عقلها يدفعها نحو تفسير منطقي المنصب نحو موقفه الرجولي الشهم ليس إلا..ولكن ذلك اللقب نال إعجابها رغم محاولاتها بعدم الاعتراف بذلك.
***
وضع زيدان “الجردل” الممتلئ بالمياه والغيظ يأكل ملامحه من مليكة وأوامرها في التنظيف، فكانت أغلب الكلمات التي تتكرر طوال فترة تنظيف الشقة:
-شيل، حط، ارفع، امسح، اكنس،…
زفر بحنق وتمتم بحقد:
-أنا كان مالي ومال القرف دا، أنا واحد كنت عايز اتجوز البنت اللي بتنيل على عيني وبحبها..
هنا نفذ صبره وبدأ في سكب سائل التنظيف بغزارة في المياه، مواصلاً حديثه بنزق:
-دخلت في حقوق المرأة والتعاون والاحتواء..
انتفض بقلق على اثر شهقة قوية جاءت من جانبه، فاستدار برأسه:
-إيه كمية الديتول دي، أنا قولتلك حط شوية صغيرين.
ترك زيدان العصاه من يديه قائلاً بغضب:
-لا بقا مبحبش حد يعدل على التنضيف بتاعي لو سمحتي.
-زيدان أنت بتهزر أنا بعيد وراك كل حاجة بتعملها.
قالتها في ضيق عارم من تصرفاته وعدم تفانيه في التنظيف فرفع يده لأعلى قائلاً بانسحاب:
-بس أنتي مش عاجبك مساعدتي أنا بنسحب وهسيبك تكملي المدعكة دي لوحدك.
رمته بنظرة تهديد قائلة بحزم:
-تعال شيل السجادة دي من هنا وحطها في اوضة النوم.
زم شفتيه في ضيق وضرب “جردل” المياه بقدمه ضربة بسيطة مما أدى إلى تناثر بعض قطرات المياه الممزوجة بسائل التنظيف هنا وهناك، قابل نظراتها العنيدة بتحدٍ وهو يخطو بثقة نحو السجادة ولكن ما لبث تحرك خطوة واحدة حتى انزلقت قدمه ووقع أرضًا رغم محاولاته في الاتزان، فانفجرت مليكة بالضحك وهي تراقبه منذ بداية تحركه الواثق حتى وقوعه المفاجئ بطريقة كوميدية حتى أنها أشارت عليه في استهزاء في وسط ضحكاتها المرتفعة المتواصلة:
-بلاش شغل عيال وتعالي اسنديني.
تقدمت منه في حذر وهي لا زالت تضحك بتواصل غير قادرة على فرض السيطرة على ذاتها المرحة، فضيق عينيه مقررًا الانتقام وهو يمد يده نحوها، وما أن لمست يدها يده حتى جذبها بقوة نحوه، فسقطت فوقه تزامنًا مع شهقة خوف صدرت منها حتى استقرت فوق ساقه فاحتضنها بثيابها غير النظيفة، ورغمًا عنها كانت يدها تستند فوق كتفيه، تقابلت نظراتهما عن قرب واشتبكت أنفاسهما للحظات سرقت من زمن مليكة الذي توقف بتوقف عقلها عن العمل وهي بتلك الوضعية وبذلك القرب المُهلك لقلبها بينما زيدان كان يحارب شعورًا يحثه على التهام تقاسيم وجهها الجميل المُنير بلمعة داعبت عاطفته المتأججة وكأن أحاسيسه نفرت من الكتمان وأصبحت في أمس الحاجة للبوح ولكنها استعادت وعيها ونهضت بخفة تستغل لحظة شروده وتعلقه بملامحها وكأن عينيه تحاول حفظ أدق تفاصيلها كي يستكمل رسم لوحتها بريشته في أحلامه.
استند برأسه على الكرسي..واستمع لصوتها من داخل الغرفة تقول:
-زيدان..يزن بيتصل عليك، ارد عليه.
ورغم أن نبرتها مهزوزة ولكنها استطاعت السيطرة عليها، مثله تماما وهو يجيب بصوت ثابت ينافي مشاعره المنهكة في غرامها:
-ردي.
ولكنه سرعان ما استوعب ما قاله، وحاول النهوض عدة مرات ولكنه كان في كل مرة يتعثر بسبب سائل التنظيف..متمتمًا بصوت متسارع وخافت:
-لا يزن …لا…يزن…لا.
نجح أخيرًا وبعد معاناة في النهوض والتوجه بحذر نحو غرفة النوم فاستمع لصوتها:
-اه طبعا بيساعدني في التنضيف، على فكرة شاطر جدًا.
ضرب زيدان بيده فوق وجهه قائلاً بغيظ:
-ملقتيش إلا دا وتقوليله هيفضحني.
تقدمت منه مليكة وهي تواصل حديثها:
-لا لا متقلقش هطلع عينه..معاك اهو.
التقط منها زيدان الهاتف مردفًا بهمس وهو يبعد الهاتف عنه:
-تطلعي عين مين…ابقي شوفي مين هيساعدك.
رمشت بأهدابها في مزاح طفولي قائلة:
-هتساعدني بردو..الصحاب مبيسبوش بعض ابدًا في وقت زنقة، مش كدا يا صاحبي.
عبس بوجهه وقد بان عدم الرضا وهو يتمتم:
-أنا مش صاحب حد، أنا كرهت الصحوبية أقسم بالله.
تلاعبت بحاجبيها في شقاوة تعجب منها وهمست بالقرب منه:
-من يوم واحد بس.
-تصدقي أنا حاسس لو كملت لغاية بليل هنفجر.
وقبل أن تتحدث رفع الهاتف نحو أذنه مستكملاً الاتصال مع يزن، فخرجت وابتسامتها تصطدم بوجهه فكانت بسمتها تشع ثقة وجمال…
-ايوا يا يزن..
-ايوا يا حبيب اخوك…شكلك هلكان في التنضيف.
اخترق صوته المتهكم مسامعه فصاح بضيق:
-هتتريق هقفل في وشك.
-تعالي شوفي يا منال حظ عيالك واحد بيطبخ لمراته والتاني بينضف وبيمسح.
ضغط زيدان بأسنانه فوق شفتيه قائلاً:
-بكرة نشوف هتعمل ايه!
ارتفعت ضحكات يزن الوقحة المبطنة وهو يقول:
-ليه هو أنا مجنون زيك اقضي اجازة جوازي في التنضيف، وأنا اللي قولت اتصل اطمن عليك يا وحش.
-أنا زي الفل وفر اتصالاتك.
-شوف مين ناكر الجميل اللي لولايا مكنش قدر يتجوز الجوهرة.
ضرب زيدان بيده فوق السراحة في غيظ وهو يتمتم بحقد من لسان أخيه الوقح:
-جوهرة لما تاخدك يا بعيد.
-المفروض كل ثانية تشكرني!
ضيق زيدان عينيه قائلاً:
-وله أنت مريض صح بتحب تزل اللي قدامك.
تابع يزن حديثه بسخرية ولم يؤثر فيه كلمات زيدان:
-أيه دا يعني من رأيك أروح لدكتورة اتعالج.
توسعت أعين زيدان بصدمة غير قادر على فهم خلايا عقل أخيه التي تنهي أي حديث له بتاء التأنيث وكأن الكون تمحور في الفتيات فقط:
-اوعى تروح لتوقعها في حبك وأنت جاحد وتعملها.
-لما أنا جاحد مبتاخدش من خبراتي ليه بقى، مش أحسنلك من التنضيف والتعب دا.
قالها بفخر واعتزاز ولكن تنهيدة زيدان شدت انتباهه بعدما أفصح قليلاً عن مشاعره الصادقة نحو مليكة:
-اللي بيني وبين مليكة أسمى من أي حاجة أنت عايزني اعملها، لازم تكون جاهزة لحياتنا وأنت عارف ظروف جوازنا خلاها خايفة مني ولازم اثبتلها أن مشاعري من ناحيتها لا يمكن تنتهي بمجرد انها بقت مراتي.
استمعت لصوت يزن المهلل بسعادة:
-الله الله، زيدان اخويا المعوق في مشاعره اتحول يا جدعان، احنا لازم ند*بح تخليدًا لذكرى المهمة دي.
زفر زيدان بغيظ من مزاح يزن لذا أنهى الاتصال قائلاً:
-متتصلش عليا تاني إلا لما تكون عايز حاجة مهمة سلام.
أغلق الهاتف واستدار يبحث عن مُهلكته التي أصبحت تعيش في دور الصداقة وهذا لن يعجبه وخاصةً مع نظرة السعادة المنبثقة من عدستيها، خرج وجدها بالمطبخ تنهي ترتبيه فاستمع لصوتها وهي تردد:
-البيت ناقصه حاجات كتير.
اقترب منها مختصرًا المسافة بينهما وهو يحاوطها بنظراته المعاتبة:
-ينفع اللي قولتيه ليزن دا.
رمقته من طرف عينيها قائلة بعتاب مماثل:
-ليه حاسك مكسوف مثلاً انك بتساعدني دي حاجة المفروض تكون فخور بيها.
انفجرت ملامح الاستنكار فوق ملامحه، فسارعت بتفسير قولها وهي تشير نحو صدره:
-معنى انك مسبتنيش اعمل دا كله لوحدي، انك عندك انسانية وقلبك صافي من أي تعقيد ودا في حد ذاته فخر.
اقترب منها أكثر وهو يستند بظهره على أثاث المطبخ متمتمًا بصوت مثخن بالمشاعر الجياشة:
-طيب وقلبي الصافي دا مهنش عليكي وانتي بتفضحيني قدام يزن.
وقبل أن تستكمل حديثها وضع إصبعه فوق شفتيها يلازمها السكوت وهو يواصل حديثه بنبرة ناعمة دافئة:
-اللي بيني وبينك ميطلعش برا، ولا لجوز مامتك ولا لأهلي حياتنا خط أحمر لازم تحافظي على مكانتي زي ما أنا مش هسمح لحد بس أنه يجي على كرامتك.
ابتسمت بهدوء من خلف إصبعه، كم تعشق نظراته المختلطة بالحب والاحتواء والدفء لذا استكانت خلف لمسته ولم تبعد إصبعه، ربما لم تستوعب حجم الخطر المُقبل عليها وذلك حينما اقترب منها بأنفاسه الملتهبة بنيران العشق والهوى يريدها..عقله يدفعه بجنون نحوها ومشاعره هيئت له أن نهاية ضلاله يكمن في شفتيها…قبلة ثانية منها ستكون مكافئة عظيمة بعد صبره الطويل بسبب مشاعره المدفونة بين قبضان قلبه لسنين وآن الأوان لتتحرر…يحاول اقتناص فرصة للتعبير بالطريقة التي يتمناها ولكنه لم يستوعب أن أنفاسه الحارة أيقظت ذهنها الغافل فتراجعت للخلف برأسها وسقط إصبعه معلنًا فشل جديد، يبدو أنه سيعاني معها وهو لم يعد قادرًا على استيعاب حرب مشاعره الطالبة بحاجته لها، غير أن هاجس فقدانها قد أحيانًا يصيبه بالتهور وهذا ما يخشاه لا يريد إحداث شرخ بعلاقتهما وربما سيحتاج وقت لعالجه، فاضطر للرضوخ لعقله وعقلانيته التي تحثه على الصبر أكثر.
استجمع شتاته وقال بجدية بعد أن حمحم عدة مرات:
-هنزل أجيب طلبات البيت.
وبالفعل اختفى خلف باب الشقة ومن بعدها رفعت قبضتها سريعًا نحو قلبها تمسك الجزء الأيسر بصدرها وكأنها تريد اعتصاره كي يهدأ من شدة خفقاته المتزايدة عن حدها، لدرجة أنها أحست ستفقد وعيها فتركت يدها تستند بها نحو الطاولة في منتصف المطبخ بعد أن بعثرها زيدان بمجرد لمسة فقط..أين قواعدها! أين مخططاتها أيعقل أن تذوب من مجرد لمسة بسيطة..رفعت رأسها لأعلى تستنشق ذرات الهواء بصعوبة وهي تردد بلا انقطاع:
-كانت فكرة غلط..صحوبية إيه بس واحنا مع بعض في نفس الشقة.
قطعت حديثها للحظة ثم هبطت ببصرها نحو الغرفة الوحيدة بالشقة قائلة بحسرة:
-وهنام في نفس الاوضة..يا رب.
***
طرقات متتالية فوق باب غرفة خالد بالفندق فقرر فتح عينيه المرهقة واستسلم لنداء عقله ونهض ليري من الطارق وجدها تقف أمامه تحمل صحن من الثلج وقطعة قماش تتدلى من قبضتها وبنفس همسها الرقيق قالت:
-ممكن أدخل.
مؤخرًا بدأ يشعر بالضجر لنبرتها الرقيقة تلك، لم يستطع تحديد ما يجد عليه من أمورٍ اختلطت فيها الجنون في كل مرة تصدمه بابتسامتها العذبة ونبرة صوتها القاتلة لأي ذرة تعقل لديه، فأصبح على شفا الوقوع في بئر غرامها معلنًا العصيان والتمرد على كل شيء وإن استسلم حينها لن تهدأ ثورته إلا إذا أصبحت ملكه ولن يقدر على فعل ذلك بسبب تعلق قلبها الأرعن برجل آخر وهذا ما يجرح كرامته ويقيد عاطفته.
لم يلاحظها إلا حين جلست بالقرب منه فوق الفراش وابتسامتها لا زالت تحلق فوق ثغرها مع نظرات أسف لطيفة خرجت منها، مدت أصابعها تلتقط قطعة ثلج ثم رفعتها نحو كدماته البسيطة تمررها برفق وكأنها تخشى عليه من أي ألم فاغتاظ كثيرًا من تصرفاتها وخاصةً مع صعوبة تفسيرها..أي منطق تتعامل به معه..حتى وإن كانت لم تحمل له مشاعر خاصة سوى أنه منقذها من عائلتها القذرة ولكن هناك أسئلة تهاجم عقله بين حين وآخر فاندفع دون تروٍ وسألها:
-فين خطيبك مشوفتكيش يعني حاولتي تتصلي عليه!
جف حلقها وهو يتصدر لتلك النقطة، وتوقفت الكلمات على طرف لسانها لم تستطع إخراجها، فكل ما تملكه هو النظر داخل عينيه فقط، تحاول أيجاد سبب لحدة نبرته عليها ربما شعر بالندم لمساعدتها ولمرافقتها! ربما نفذ مخزونه ولم يعد باستطاعته مساعدتها أكثر من ذلك…أما هو فلمح الحزن يطفو فوق عدستيها..لم يفهمها..يريد ازاحة تلك الغمامة عن عينيها الغارقة بدموعٍ مسجونة بين جفنيها..
ابتعدت بيدها بعيدًا عنه ووضعت قطعة الثلج في الصحن ثم رفعت عينيها بعد أن اخفتها عنه للحظات وهي تقول:
-هترجعني لماما أمتى؟!
عقد حاجبيه وهتف بتساؤل غلب عليه الاستنكار:
-ترجعيلها!
هزت رأسها بضعف وهي تقول:
-ايوا..اكيد لما ترجع معايا تفهمها ان الشيخ قاسم مش زي بابا وسمير بيفهموها هتخاف عليا!
-أمك؟!
قالها باستنكار فج، فشعرت بقلة حيلتها وهي تمتم بصوت خافت حزين منكسر:
-أيوا..هي ممكن تكون طمعت في الفلوس..بس أنا بردو بنتها وأكيد هتخاف عليا.
صمت ولم يعقب، فتساءلت بخوف وهي تنظر له:
-صح؟
-هو إيه اللي صح؟!
لمست قلبه بنبرتها المنكسرة المرتجفة وهي تقول:
-ان هي هتخاف عليا!
-رغم ان مش بطيق سيرتها بس هي أكيد أمك وفي النهاية هتخاف عليكي.
سمحت لدموعها بالتساقط خلف بعضها بغزارة وكأنها استنفذت أخر قواها في حديثها معه، فنهضت بخفة تغادر الغرفة وقبل أن تغلق الباب:
-هجهز حاجاتي وبكرة الصبح نروحلها.
-لا..
قالها بصرامة ثم قال بعدها موضحًا بنبرة لا تحتمل النقاش:
-هروحلها الاول واتأكد انها مش هتأذيكي في حاجة وبعدها ابقى أجي اخدك اروحك.
ابتسمت له بامتنان ورضا وهزت رأسها باستسلام قبل أن تخطف نظرة مطولة له تحفظها داخلها لتذكرها دومًا أنه أفضل وأنقى رجل قابلته على الإطلاق وأن الأيام البسيطة التي قضاتها معه سواء في قطر أو في مصر هي أجمل رحلة خاضتها لعالم لم تعرف فيه سوى السلام النفسي.
أغلقت الباب خلفها فظهرت طباعه الجامحة الشرسة علنًا بعدما حاول لجمها معها كي لا تخاف معه، وأمسك هاتفه بغضب ثم ألقاه فوق الفراش وتحديدًا حينما شعر بذاته تخضع لكلمة الوداع وهذا أكثر ما يؤلم كرامته هو الخضوع لأمر ينافي رغباته وأمنياته.
***
وضعت مليكة حقيبة ممتلئة عن أخرها بالقمامة أمام باب الشقة ثم دخلت كي تجلب الأخرى فتركت باب الشقة مفتوح كي تسرع أكثر وتنهي ما تبقى من تنظيفات كانت نهايتها مثمرة برائحة منعشة جميلة وشقة مُرتبة حسب ذوقها..كم تتمنى الخطوة الأخيرة وهي حماما ساخنا ومن بعدها تغرق في نوم طويل يرتاح به جسدها المنهمك وتحديدًا بعد أن اتمت باقي التنظيفات وحدها بعدما فر زيدان هاربًا بحجة شراء احتياجات الشقة..فهمست بحقد:
-لما يرجع بس…
حملت حقيبة بلاستكية الخاصة بالجزء الأخير من القمامة ثم التفتت بعفوية ولكنها صرخت برعب جلي وهي تعود للخلف وتسقط ما بيدها لما رأته….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!