روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت الثاني والعشرون

رواية مصطفى أبوحجر الجزء الثاني والعشرون

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الثانية والعشرون

-٢٢- كيان واحد

لأول مرة تفيق على دقات قلبها تتسارع بل تتراقص من مُجرد قُبلة طالما تمناها ذلك النابض بداخلها من شخص يدعوه هو إليه وليس مُرغمًا عليه، شتان بين ما تشعر به الآن وبين إحساسها فيما سبق ..

فعلاقتها الزوجية الأولى كانت بمثابة جحيم تأوي إليه دون رغبتها ..
تشعر بالغثيان يملؤها ويضيق صدرها وتملأ معالم الازدراء وجهها، كانت تعلم أنه يراها ويشعر بنفورها منه لكنه لم يهتم ولو لمرة بل حتى لم يمنعه عنها كبرياؤه أو كرامته ..

وكيف ذلك وهو لا يمتلك من الأساس أيًا منهما، فكرامته مُتمثلة في جمعه واكتنازه للمال، وكبرياؤه يقتصر على التحكم بها وفرض أوامره …

لا يتأثر ولا يثور عندما تدفعه عنها في كل مرة باشمئزاز واضح قبل أن تُسرع الى الحمام لتُخرج ما في جوفها بإعياء وتتجمد داخل حوض الاستحمام بضعف لتغمرها المياه من كل ناحية علها تتطهر منه ..

دون مُقدمات ..

انتفض الزوجان على صوت رنين الباب المُتواصل والذى أفزعهما وساهم في تململ الصغيرة أثناء نومها، لذا سارعت شمس بالتربيت عليها بينما ذلك الرنين ما كان يلبث أن ينقطع حتى يبدأ من جديد، فنظرت شمس إلى زوجها بذعر مُتسائلة، إلا إنه لم ينتظر تساؤلها بل غادر فِراشه على عجل وتوجه إلى الخارج بغضب قائلًا لها بصرامة :

_ متخافيش .. خليكي انتي ويارا هِنا متتحركيش من الأوضة ..

هزت شمس رأسها بتوتر وقلق قبل أن تحتضن جسد الصغيرة بقوة وبداخلها ذلك الهاتف القوي يُخبرها بأن ذلك القادم ما هو إلا جالب لكارثة كبيرة في انتظارهما .. بل في انتظارها هي بالأخص ..

كان زوجها مُسرعًا في طريقه إلى باب المنزل كالعاصفة بملامح وجه مُكفهر عابس يتوعد ذلك الأحمق الذى لم يرفع إصبعه عن الزِر ولو لثوان، فقام بفتح الباب على حين غرة صائحًا دون أن يلتفت إلى هوية الطارق :

_ في إيه !

طالعه ذلك الوجه المقيت رغمًا عن وسامة بعض ملامحه فقال ببروده الساخر المُعتاد :

_ صحيتك ولا إيه ياعريس ..

بالفعل كانت الساعة قد تخطت الواحدة بعد منتصف الليل، وكان يعلم ذلك القادم أن هذا هو التوقيت المُناسب لتعكير مزاج العروسين وتكدير صفو ليلتهما، وكأنه كان ينبش عن مصيبة أو كارثة يحقق من ورائها غرضه وأطماعه، إلا أن مصطفى لم يحقق له غايته بل حاول التماسك قدر الإمكان قائلًا بغضب مكتوم :

_ نعم ..

أجابه ماجد بابتسامته اللزجة وهو يتطلع برأسه إلى ما وراء مصطفى باحثًا عن ثغرة تُمكنه من التقاط ما بالداخل ليقول باستفزاز :

_ حد بردو يقابل الناس اللي بتباركله بالطريقة دي .. أمال العروسة فين ..

لم يستطع مصطفى التحمل لأكثر من ذلك فلكزه بقوة على إحدى كتفيه قائلًا :

_ أقف كلمني زي ما بكلمك بدل ما انت بتتحنجل كدة .. عاوز إيه ؟

ثُم أضاف بحدة :

_ لو جاي تستظرف يبقى تمشى من هِنا بدل ماأطلبلك البوليس ..

ارتفع حاجبي ماجد باستخفاف قبل أن يقول بتحد هو الآخر :

_ طب وعلى إيه، ما وقت البوليس والمحاكم جاي جاي متقلقش، عادى ممكن أطلع على المحامي دلوقتي وأرفع قضية على حرمك المصون واخد بنتي ..

رمقه مصطفى بنظرة قاتلة وكأنه على وشك الانقضاض عليه إلا إنه سيطر على غضبه قائلًا وكأنه على علم بنوايا ذلك الحقير :

_ من الآخر كدة عاوز كام ..

تطلع إليه ماجد بهلع مُتصنعًا التفاجؤ ليقول بتأثر زائف :

_ عاوزني أبيع بنتي !

قال مصطفى بدون اكتراث :

_ ميت ألف كويس ..

لمعت عيني ماجد في الحال بجشع واضح، فذهب التأثر وحل محله ابتسامة طمع ليقول بخُبث ثعلبي :

_ هنتفق على الباب كدة ولا إيه ..

طلت شبح ابتسامة ساخرة مُتقززة على شفتي مصطفى، وبرقت عيناه بظفر قبل أن يقول بوجه صارم آمرًا :

_ تخش بأدبك وصوتك ميعلاش في بيتي ..

تقدم ماجد إلى الداخل ببطىء بينما عينيه أخذتا تجولان في أرجاء المنزل بحسد واضح قائلًا بنبرة هامسة يملؤها الجشع :

_ الظاهر إنها وقعت واقفة بنت محمود ومجيدة ..

بالكاد تمكن مصطفى من سماعه، فلكزه مرة أخرى ودفعه إلى داخل غرفة مكتبه، ومن ثَم أغلق الباب من ورائه بهدوء قائلًا بتحفظ وهو يتوجه إلى المقعد الكبير وراء مكتبه :

_ هتاخد ميت ألف جنيه وتتنازل عن حضانة البنت للأبد، وتكتب إقرار بعدم التعرض سواء للبنت أو لأمها ..

في تلك اللحظة كان ماجد مُنشغلًا بالحملقة في أثاث الغرفة ووحدات الإضاءة الأنيقة، فلم يكترث بإخفاء انبهاره وهو يُجيب بشكل آلي ساخر :

_ ميت ألف ليه بنبيع بطاطا ..

أراح مصطفى جسده على المقعد واضعًا إحدى ساقيه فوق الأُخرى باسترخاء قبل أن يُشعل إحدى سجائره قائلًا بتهكم :

_ لا بتبيع بنتك ..

بدا وكأنه يمتلك بعضًا من الدماء داخل عروقه، فتغيرت ملامحه وازدرد لُعابه بصعوبة مُحاولًا تجاهل ذلك التلميح والذى يُذكره بمدى حقارته ليقول باستعطاف :

_ وليه متقولش إني بضحى عشان بنتي تعيش في مستوى أحسن …

تصاعدت عده ضحكات متقطعة من مصطفى قائلًا :

_ تضحى !! والفلوس اللي عاوزها دي ليه !! تمن التضحية أظُن ..

طأطأ ماجد رأسه بحُزن مصطنع قبل أن يقول بتأثر :

_ لا عشان أخوها اللي جاي في السكة ..ولا أنت يرضيك هي وأمها تعيش في العز ده وأخوها يسف التراب ..

مط مصطفى شفتيه بغير اقتناع، ورفع حاجبيه باستنكار قبل أن يأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته قائلًا بجدية وهدوء :

_ ميهمنيش هتعمل إيه بالفلوس … بكرة تيجي عشان تتنازل عن حضانة البنت والفلوس هتكون جاهزة ..

التمعت عيني ذلك الحقير بجشع من جديد وتطايرت نظرات الحزن المُصطنعة قبل أن يقول بشره :

_ ومين قالك إني موافق على الميت ألف دول ..

وكأنه كان يتوقع رده ذلك فقال بملامح جامدة لم يبدُ عليها أي تأثُر أو دهشة :

_ طلباتك ..

ماجد مُسرعًا دون تفكير :

_ نص مليون جنيه ..

ارتفعت ضحكات مصطفى بقوة تلك المرة لعدة ثوان مُتتابعة وكأنه استمع إلى طُرفة أو مُزحة ظريفة لم يستطع مقاومتها، وفى النهاية قال وهو يستعد للتحرك من مكانه ساعلًا بوجه أحمر من فرط الضحك :

_ ثانية واحدة أصحى البنت عشان تاخدها معاك ..

ماجد بعدم فهم :

_ اخدها معايا ؟

أجابه مصطفى موضحًا ولازال في صوته أثرًا من الضحكات بينما الدمعات تملأ عينيه من كثرة الضحك :

_ آه طبعًا أنا مقدرش أحرم بنت من أبوها وأخوها الجاي في السكة كمان .. وبعدين بيني وبينك بقى أنت عارف أنا لسة عريس جديد ومش هاخد راحتي وهى معانا … وأنا شايف إنك أولى بتربيتها ..

قاطعه ماجد قائلًا وكأنه يضغط على نقطة ضعف الأول :

_ بس أمها مش هتوافق ..

بدا مصطفى غير مكترث وهى يقول :

_ مش مشكلة هتزعلها يومين وبعدين تتعود، هي يعنى البنت راحت لحد غريب .. ده أنت أبوها ..

ابتلع ماجد لُعابه بتوتر قبل أن يقول نادمًا :

_ استنى بس الكلام أخد وعطا ..

غادر مصطفى مقعده قائلًا بجدية :

_ لا صدقني كده أحسن للكل …

أوقفه ماجد قبل أن يُغادر الغرفة قائلًا بوجه مُضطرب مُرتعش :

_ طب نخليهم ربع مليون ..

تجاهله مصطفى كأن لم يسمعه وأكمل طريقه إلى الباب، وقبل أن يمس مقبضه أوقفه ذلك الصوت الجشع قائلًا بغيظ وعدم رضا :

_ مية وخمسين ألف ..

التمتعت عيني مصطفى بظفر قبل أن يلتف إليه ببطىء ويقول دون تفكير :

_ مفيش غير اللي قولت عليه ..

لم يجد ماجد مفرًا من الموافقة فهز رأسه بذُل واضح قبل أن يُملى الأول عليه شروطه قائلًا وكأنه يُلقى عليه أوامره :

_ بكرة تيجي الساعة ١٠ في العنوان اللي هقولك عليه .. هتمضي إقرار بتنازلك عن حضانة يارا حتى لما تكمل السن القانوني، وإقرار بعدم التعرض ليها هي أو أمها بأي شكل من الأشكال .. وهتاخد ٥٠ ألف ..

استنفرت عروق ماجد بغضب مُعترضًا :

_ أنت قولت ميت ألف …

تجاهله مُصطفى مُكملًا بثبات :

_ والخمسين الباقية هتاخدهم لما تتنازل قدام المحكمة ..

قطب الأحمق جبينه متسائل :

_ تنازل إيه ومحكمة إيه ؟

أجابه مصطفى مُوضحًا :

_ تنازل قدام المحكمة عشان لو حبيت ترجع في كلامك يوم ولا تطلب فلوس تانى .. المحامي هيفهمك هتعمل إيه .. ولما تقر قدام القاضي إنك اتنازلت .. ساعتها هتاخد باقي الفلوس .. وياريت منشوفش وشك الكريم ده تانى ..

هز ماجد رأسه رافضًا بعدم اقتناع :

_ لا أنا عاوز فلوسي مرة واحدة ..

مصطفى ببرود :

_ يبقى نتقابل في المحاكم كُلنا .. ولا تحب تاخد بنتك من دلوقتي …

صمت مصطفى لثوان قبل أن يُضيف وكأنه تذكر :

_ آه بس قبل ماتخدها متنساش قضية النفقة اللي مدفعتهاش من ساعة ما طلقت المدام واللي كانت بتتغاضى عنها عشان خاطر بنتها ..

وربنا يقويك بقى على مصاريف مراتك وولى العهد القادم ومصاريف المحاكم والنفقة الشهرية اللي متأخرة عليك لحد ماتحكملك المحكمة بأنك تاخد البنت. ده لو حكمتلك يعنى …

زفر ماجد بضيق وأحمر وجهه غضبًا ليقول رغمًا عنه وهو يضغط على أسنانه بغيظ :

_ إيه هو العنوان ..

أجابه مصطفى غامزًا :

_ أهو كدة .. خليك عاقل ..

***************
أغلق مصطفى باب منزله بإحكام وزفر بارتياح بعد أن أخذ نفسًا عميقًا وكأنه قد نفض من على كاهليه عبئًا ثقيلًا للتو، حاول جاهدًا التحكم بعضلات وجهه حتى لا يبدو واجمًا وأخذ يُفكر فيما يُمكن إخبار زوجته به، تُرى هل يُصارحها بما حدث أم يُخفيه عنها، إلا أنه وقبل أن يتحرك إليها تفاجئ بها تقف على بُعد خطوات منه بوجه حزين مُغتم قائلة بخفوت :

_ مين ؟

اقترب منها مصطفى بابتسامة مترددة وأخذ يمسح على شعرها عدة مرات قبل أن يقول بعد تفكير دام لثوان :

_ أبدًا مُشكلة صغيرة في الشغل..

رفعت شمس رأسها إليه لتتلاقى أعينهما بعد أن تهدلت أكتافها بقلة حيلة قائلة بأسى :

_ وحلتها خلاص ..

احتواها مصطفى بذراعه فبدت كالطفلة بين أحضان أبيها، خاصة وأن جسده الفارع العريض كان يزن ضعفي جسدها الضئيل، لذا كان من السهل عليه دفعها برفق وتوجيهها من جديد إلى غرفتيهما وهو يقول مُطمئِنًا :

_ آه أتحلت الحمد لله متشغليش بالك ياحبيبتى ..

كان من الصعب عليها أن تتوقف عن السير وتُوقفه هو الآخر، لكنها حاولت جاهدة واستدارت إليه بجسدها لتتلاق أعينهما من جديد قائلة بجدية :

_ ليه عملت كدة ؟

عقد مصطفى حاجبيه بتشكك قبل أن يقول مُصطنعًا عدم الفهم :

_ عملت إيه ؟

عبس وجهها بعتاب قائلة بصوت ضعيف كاد أن يغلب عليه البكاء :

_ كنت ناوى تخبى عليا ؟

ساد التوتر على وجه مصطفى لبضع لحظات لا يعلم بما يُجيبها فأكملت هي بأعين تجمعت بها الدموع :

_ ليه عرضت عليه فلوس ؟

وقبل أن يُجيب قالت شمس بقهر واضح بينما قطرات عينيها تتساقط بألم :

_ كان نفسي بنتي متبقاش مجرد سلعة تتباع وتتشرى، تفتكر لما تكبر هتحس بإيه لما تعرف أن أبوها باعها ب ١٠٠ ألف جنيه !

ضمها مصطفى إليه بحنان وربت على ظهرها مُهدئًا :

_ وهى هتعرف منين بس .. صدقيني ده أحسن ليها بدل ما تبقى متشتتة طول عمرها ..

قالت بكلمات مكتومة وهى تحاول التحكم بدمعاتها :

_ أنا عارفة إنه أحسن ليها، بس بردو هيفضل أبوها اللي للأسف أنا اللي أختارتهولها … كان نفسي يبقالها أب تفتخر بيه ويكون حنين عليها ..

قاطعها هامسًا بحُزن وكأنه بداخله يتمنى لو كانت تلك الطفلة ابنته :

_ شششش وأنا روحت فين .. انتي بنتي الأولى وهى بنتي التانية ..

صمتت هي لبضع لحظات قبل أن تستجمع قوتها وتبتعد عنه قليلًا قائلة وهى تقوم بمسح وجهها :

_ بكرة هنزل أبيع الدهب بتاعي وأكمل من بابا وأجبلك ال ١٠٠ ألف جنيه تدهومله، مش هخلى حد غريب يدفع تمن غلطتي ..

نظر إليها بعتاب دون أن ينطق فقالت هي بتصميم :

_ مش هسيبك تدفعله المبلغ ده .. مش ذنبك إنك اتجوزتيني ..

وضع مصطفى راحتيه على وجهها الصغير يرفعه إليه بحنان أبوي خالص، ونظر بداخل عينيها اللامعتين من أثر البكاء، قائلًا بصدق دافئ :

_ متعرفيش إن ذنبي إني حبيتك، وذنبي إني عاوزك ومحتاجك في حياتي، ولو مكنتيش اتجوزتيني مكنش حصل كل ده .. انتي اختارتيني ووافقتي أكون معاكي في حياتك وأبقى أب ليارا ..

صمت قليلًا قبل أن يُكمل بتأثر :

_ ليه دلوقتي اعتبرتيني مجرد غريب عنكوا ورجعتيني وحيد بعد ما بقيتوا كل حياتي ؟

شعرت شمس بالحُزن يطغى على كلماته الصادقة، وكأنها قامت بفتح جرح غائر بداخل قلبه، لذا ضمته بعينيها قائلة بحنان :

_ متقولش كدة ياحبيبي انت عمرك ماهتبقى وحيد تانى وإحنا معاك، أنت مش قولت إني أنا ويارا بناتك ..

ابتسم مصطفى بشجن قائلًا وكأنه يُفكر بصوتٍ عال :

_ تفتكري بعد ما أكبر وأعجز ويارا تبقى على وش جواز .. هبقى أنا وكيلها ولا هبقى غريب عنها ! لما حد يتقدملها هيجي يطلبها منى !!

طيب لو أنا تعبت ولا دخلت المستشفى ..مش انتي ويارا اللي هتهتموا بيا ولا هبقى بالنسبالكوا غريب ..

لو مُت مش انتوا ال …..

وضعت شمس إصبعها على فمه بسرعة قائلة بملامح فزعة :

_ بس .. بعد الشر عليك يامصطفى متكملش عشان خاطري أوعى تنطقها تانى .

ضمها مصطفى إليه وقبلها أعلى رأسها برقة قائلًا :

_ موافق بس على شرط من دلوقتي أنا المسؤول عن أي وكُل حاجة تحصلك انتي ويارا ..

صدقينى ياشمس لو أطول أغير اسمها في شهادة الميلاد وأخليها على اسمي هعمل كدة ..

ثُم أضاف آمرًا :

_ دهبك ده متجيبيش سيرته تاني لأنه هيبقى ليارا لما تكبر بعد ماأزودهولك، وبباكي مش عاوزه يعرف أي حاجة عن اللي حصل ده لا هو ولا مامتك، متشيلهومش هموم فوق طاقتهم ..

لفت شمس ذراعيها حول جسده بتشبُث، وكأننا تحتمى به من الدنيا بأكملها، بل وكأنه السند الذى يُمكنها الآن الإتكاء عليه باطمئنان، لذا قالت بكلمات صادقة نبعت من داخل فؤادها :

_ أنا بحمد ربنا ليل نهار إن انت معانا .. مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه ..

أغمضت عينيها وهي بداخل مصدر سكينتها قائلة وكأنها تُحدث نفسها :

_ طول عمري متعودة أشيل همي وهم بنتي وأبقى أنا الأُم والأب والأخت والأخ وكُل حاجة .. متتصورش أنا حاسة بالأمان إزاى وأنا معاك ..

ازدادت تشبُثًا به وكأنها تخشى ابتعاده لتقول برجاء :

_ أرجوك متخذلنيش في يوم .. أنا مش حِمل إني أتوجع تانى ..

_ بحق الحُب والثِقة اللي جوايا ليك .. خليك على طول جمبي .. سيبني أرمى همومي عليك من غير ما أخاف ..خليني أكشف حقيقتي قدامك كاملة وأعريها من غير ما أخجل منها .. خليني أوريك الحلو والوحش فيا من غير ما أجمله أو أبرره ..

مش عاوزة أخاف منك في يوم ولا أندم إني حطيت فيك كُل ثقتي .. من النهاردة أنت أنا .. أنت كُلى اللي ميعرفهوش غيرى .. انت شمس المستخبية اللي حتى أمي وأبويا مشوفهاش ومفهموهاش .. هبقى قدامك زي الصفحة البيضا تقراها وتشكلها زي ماتحب ..

من دلوقتي أنا كلى بتاعتك يامصطفى .. قلبي وروحي وعقلي وأفكاري حتى قلمي .. كُل حاجة بقت بتاعتك من غير ما أفكر، ولا عُمرى هفكر ولاهشيل هم بكرة وأنا معاك، حلمك هو حلمي واللي هسعى إنه يتحقق أكتر منك ..

لو أن الأمر يُوصف لكان بوسعنا وصف ذلك الاحتضان على أنه تشابك، اختلاط، تداخل، تمحور وتحول ..

بإمكاننا رؤيه الجسدين؛ مصطفى بقامته الطويلة العريضة وشمس بهيئتها الصغيرة الرقيقة، تكاد رأسها تصل إلى مُنتصف جسده، مُستندة بجانب رأسها على قلبه تستمع إلى دقاته المُتزايدة وكأنه لحن رتيب يتماشى مع كلماتها الصادقة، فبدت من فرط التصاقها به أنها على وشك الدخول بداخل أوعيته، بينما صاحِبُه كان يُقربها إليه أكثر بضغط ذراعيه القويتين على كتفيها وظهرها ليزيد من احتوائها بداخله ..

لم يعلم الثنائي أن كُلًا منهما كان مُغمض العينين، وكأن فؤادها هو من كان يتحدث، وكأن قلبه كان هو من يستمع، كانت الكلمات تخرج منها بدون تفكير أو ترتيب وكأنها تُحدث نفسها بينما هو كان يتلقاها وكأنها تنبع من داخله، فبدا وكأنهما امتزجا ليُصبحا جسدًا واحدًا وروحًا واحدة ..

كان الأمر حالمًا لأشد درجة، حتى أن الرائي كان ليعتقد أن ثمة أطياف مُضيئة تخرج من جسديهما وتلتف فوقهما كالملائكة، بينما الجسدين يُحيطهم هالة من نور وكأنهما في طريقهما للتمحور إلى كيان واحد .. بل جسد واحد يجمعهما للأبد ..

بدا وكأنه الشمس وكأنها هي الأرض تدور في فلكه مجذوبة بقوة هائلة، بل وكأن كُلًا منهما شمسًا للآخر، يدور حولهما العديد من الكواكب المُتمثلة فيهم بينما يحاوطهما مدار مضيء يتبعه نجماتهم ..

هم الآن وباختصار .. أكثر من مجموعة شمسيه تشع بقوة لتضيء الكون بأكمله عِشقًا ودِفئًا .. هُم الآن الحُب في أبهى وأصدق صوره …

*************
في اليوم التالي ..

لم يدخل الاطمئنان قلب شمس سوى عِند مُهاتفة مصطفى لها مُبشرًا باستلامه تنازل ماجد عن حضانة الطفلة، حينها فقط هدأ قلبها وتنفست الصعداء وكأنها حييت من جديد، وبنفس هادئة وملامح مُبتهجة توجهت إلى منزل والديها بصُحبة الصغيرة لتجهيز الحقائب اللازمة ..

وبداخل غُرفة الصغيرة ..

كانت الجَدة تُساعد الأُم في تجهيز مُتعلقات الصغيرة، فلاحظت مجيدة وجه ابنتها المُشرق أكثر من المُعتاد، لذا لم تستطع تجاهل ذلك وقالت مُعلقة بخُبث :

_ وشك منور النهاردة ..

اصطنعت شمس عدم الفهم وقالت بخجل حاولت إخفاءه :

_ عادي يعنى ياماما ..

إلا أن مجيدة اصرت على قولها غامزة :

_ أنا قولت هتيجى قالبة وشك عشان مكنتيش مقتنعة امبارح، ولا يكونش مصطفى أقنعك ؟

ملأت الابتسامة وجه العروس فور ذكر زوجها، فقالت ببشاشة :

_ أنا متطمنة عليكوا طول ما مصطفى هو اللي مخطط لكل حاجة ..

قالت مجيدة مُعترضة :

_ يعنى لولا مصطفى مكنتيش هترضي ..

تنهدت شمس بسعادة مُوضحة :

_ بصراحة آه .. وجوده معايا مطمني على كُل حاجة بقلق منها .. وواثقة فيه لدرجه إني مآمناه عليكوا انتوا وبنتي أكتر من نفسى .. ومادام هو قال الدنيا أمان يبقى فعلًا أمان ..

انشرح وجه مجيدة وطلت الابتسامة على وجهها قائلة بارتياح :

_ الحمد لله ربنا عوضك خير ياحبيبتى ..

بقول مجيدة ذلك تذكرت شمس ماحدث بالأمس فاندفعت الكلمات على لسانها قائلة بحماس :

_ شوفتي اللي حصل إمبارح بعد مامشيتوا ..

تركت الجدة ما بيدها مُتسائلة بقلق بعد أن عبست ملامحها :

_ حصل إيه .. خير ..

في اللحظة الاخيرة تذكرت شمس تنبيه زوجها لها، فترددت قليلًا قبل أن تُقرر إخبار والدتها، فروت لها ماحدث باختصار، ظهرت علامات الاشمئزاز على وجه مجيدة من ذلك الحقير، بينما ارتفع قدر مصطفى بداخلها ولم تمتلك سوى الدعاء له، ولم تمض دقائق على ذلك حتى توجهت هي الأُخرى إلى زوجها تروى له ماحدث مؤكدة على جشع وبُخل وانحطاط زوج ابنتها السابق بعكس دماثة أخلاق ونُبل وكرم مصطفى الذى أرسله الله عوضًا لابنتها عن سنوات العذاب التي مرت بها …

في المساء وقبل غروب الشمس غادرت الصغيرة بصُحبة الجدين إلى حيثُ قررا تمضية إجازتهما، مطمأنين على العروس وهي بصُحبة ذلك الفارس النبيل دمث الأخلاق واثقين أنه لن يدخر جُهدًا لإرضائها وإدخال السرور والبهجة بقلبها ..

وأخيرًا استطاع الزوج الانفراد بزوجته ..وحدهما بداخل المنزل، لكن تلك المرة لم يُعطها فرصة للتملص منه أو الهروب بل حاصرها من كل جانب مُغلقًا أي ثغرة للفرار من بين براثنه المُشتاقة ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى