روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الستون 60 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الستون 60 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الستون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الستون

غوى بعصيانه قلبي 2
غوى بعصيانه قلبي 2

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الستون

✨ الفصـل الســـتون ✨
لا أعـرف من أين يمكن أن أبدأ وكيـف ؟!!
من تلك النهـايـة التي جنيت فيها ثمار صبري !!
أم من ذلك الجرح الغائر الذي ما زال يستقطب إليه نعيـم كل أيامي ويمررها !
أبدا من عينيـه التي أستهللت عندها وانطفأت !!
أم من الأمان الذي طوق قلبي بصحبته !!
أم بصبره علىّ وتحمله مخاوفي وسعيه الدائم لهدمهـا !!
أم من شكوى مرارة الحيـرة التي ما زلت أعاني منها وأكبرها
معاناة وقوفي الدائم بالمنتصف .. من حملي لرومانة الميزان حائرة بين كفتي العقل والقلب ، اجهاد كي أعدل بينهم ورغم رُجحان كفـه العقل واتزانها إلا أن كفة القلب خُلقت مائلة عن الأعراف والمتاح والمُمكن وهذا هو سـر عنائي المستمر .. أنني أميـل دائمًا إليهـا …. إلى قلبي الذي لم يُخلق إلا عاصيًا .
•••••••
” قبـل ست سنوات ”
تأرجحت وتراقصت أفاعي الانتقام أمام الغرفة التي ترقد بداخلها ” مهـا ” التي فارقت غُرفـة العنايـة للتو ، تتمدد وتتطلع إلى السقف تستوعب حقيقـة كونها ما زالت على قيـد الحيـاة .. صحة هروبهـا من الموت بأعجوبة!!
تتذكر كيف صارعت المـوت بكل قوتها !!
وكيف نجت من براثنه الطائلة بمعجزة إلهيـة ، أو بدعوة صادقة عانقت أبواب السماء ، فاستجاب لها القدر !!
تنفست بارتياح وهي تتصالح مع الحيـاة التي ابتسمت لها من جديد بعد ثلاثة أعوام من المعاناة ؟!!
كيف منحتها فرصة آخرى لتنعم بحياة هادئة مع حبيب أيامها وبناته !! تخيلت كيف سيكون لون الليالٍ برفقتهم يا ترى ! هل مثلمـا تمنت أم أعظم بكثيرٍ !!
دخلت جيهان وعبلة عليها الغرفـة تاركين هدير تلهـو عاصي بالأسفـل ، عيون انتقاميـة يملؤها لهيب الثأر والحقد غمرت الغرفة .. تململت مها في فراشها بوهنٍ :
-فين بناتي ؟! وعاصى كمان ، قال لي هيخلص حسـاب المستشفى وجاي .. اتأخر ليـه ؟!
ألتوى ثغر الحيـة بضحكة شريرة :
-بردو اتحدتيني وعملتِ اللي في دماغك ؟!!
انكمشت ملامح مهـا التي تفهم جيدًا مغرى الشر من وراء كلمات عبلة الخبيثـة .. حاولت أن تنهض ولكن بطنها المجروحة ألمتها كثيرًا ، تأوهت متوجعة وهي تكرر بحدة :
-فين عاصي ؟! أنا عايزة جوزي ..
مالت عبلة إليها وقالت :
-أنتِ فاكرة لما تتحديني كده هتكسبي ؟!! أنا سبتك تتجوزي ابني بمزاجي ، لأنه صمم عليكِ ، كنت فاكرة الموضوع شهرين وقرشين وتروحي في ستين داهيـة !! بس أنتِ اتمسكنتي لحد ما اتمكنتي ..
غمضت مهـا جفـونها بصرامة وضيق :
-أنا عايزة عاصي .. مش طايقة أبص في وشك ..سيبيني في حالي بقى .
قهقهت الساحرة الشريرة فوق أذانها وأكملت بنبرة تشبه فحيح الأفعى وهي تداعب خصلات شعرها:
-على فكرة أنتِ مكنش عندك مشكلة في الحمـل ، بس اجبرتيني على كده .. قهوتك الزيادة بتاعت كل صبح كُنت أعملها بنفسي ، واحط لك فيها حبوب تضعف بطانة الرحم عندك ، يمكن عاصي يزهق ويطلقك .. بس طلعتي عنيدة وحملتي وكمان فوقتي ..
تأملت مهـا في نومتها :
-كفاية ، ابعدي عني .. أنتِ شيطانـة ..
ثم شرعت في إصدار صرخات الاستغاثـة في تلك اللحظة توترت الأجواء .. دفنت عبلة وجه مهـا بالوسادة كي تكتم صوت استغاثتها ، وفي نفس الوقت فرغت جيهـان الأبرة السامة بالمحلول المائي المعلق .. حتى رفعت عبلة رأسها تسأل اختها :
-خلاص …
أومأت جيهان بهلع وهي تتخلص من الأبرة :
-خلاص ..
شرعت عبلة في رفع الوسادة عن وجهها وأخذت تتأمل ملامحها المتجمدة والنائمة في سلام .. مررت سبابتها أمام أنفها تتحسس أنفاسها حتى اتسعت ابتسامتها وقالت :
-وهي كمان خلاص ..يالا يالا ..
توارت سيـدة التي تراقبهم من وراء الزجاج خلف الحائط بملامح يملأها الذعر والخوف .. لم تحملها قدميها من هول ما رأته وهي ترتعش .. ضمت تلك الصغيرة التي أحضرتها لترضعها أمها وأخذت تنحب بأنين العجز وقلة الحيلة …..
فزعت سيدة صارخة من نومها المتقلقل والسـر الذي تعمدت دفنه لسنواتٍ كي تحافظ على مصدر دخلها الوحيد ، بات يطاردها من جديدٍ كالشبح .. فتحت نور الأباجورة بجوارها وهي تلهث باحثـة عن أقراص الدواء المهدئة التي استمرت في تناولها منذ تلك اللحظة التي شاهدت فيها شر بنات المحلاوي على أرض الواقع … ومن وقتها اتخذت قرارها أن تكون كالملاك الحارث لعاصي وبناته وأخرهم حيـاة التي حاولت بكل جهدها أن تحميها من مكرهن ….
•••••••••
~ بعد مرور أسبـوع ~
أحيانًا لا يبكي المرء بسبب ضعفـه فقط ، بل لشـدة مقاومتـه ، أن قوته لست كافيـة ليتجاوز الأمر .. يبكي لدرجة الانهيـار لأن ثمن تلك القوة صعب جدًا …
سبعة أيـام مروا عليهـا بقسوة سنوات عمرها بأكمله .. دائمًا صامتة شاردة ، نسيت كيف تنطق الكلمـات ، حالة من التيهِ والحزن سكنت رأسهـا ، مستلقيـة على فراشهـا وهي تمرر أصبعها على رحمها من حين لآخر تستيقن حقيقة خلوه من بذور الحُب التي جنت ثمارها لأشهر مضت وتجيب أعينها بمدامع الحسرة ..
بشقته التي حبذا أن يعود إليها بدلًا من قصر دويدار الذي بات لا ينتمي إليه .. دخل عاصي حاملًا مائدة الإفطار وبعض الأدوية التي حان موعدها .. ترك ما بيده جنبًا ثم توجه نحوها قائلًا بهدوء :
-حياة ممكن تطلعي من الحالة دي ؟!
طالعته بأعينها التي تملأها الحسـرة ثم انصرف أنظارها للسقف مرة آخرى .. مرر كفه على وجنتها مطمئنًا :
-حبيبتي حزنك مش هيرجع اللي حصـل ، بس في أيدنا نصلح اللي جاي .. قومي يلا ..
وثبت بتثاقل وهي تضم ركبتيها إلى صدرها :
-حاسـة بوجع شديد بيأكل في جسمي كله ، ومش عارفة أسكنه إزاي … !
تلقى على أبهامه عِبراتها المنهمرة وقال :
-بعد الشـر عليـك .. مش متعود عليكي ضعيفة كده ..
حضنت كفه ومالت رأسها عليه وشكت همـهـا :
-صدقني مش قادرة ..
ثم بللت حلقهـا الجاف وسألته :
-البنات فين ؟! مش سامعة صوتهم ..
-لسـه نايميـن .. ممكن تفوقي كده عشان نفطـر سوا ، وحشني الكلام معاكي ..
أستسلمت لرغبته مجبرة ونهضت ببطء متجهة نحو المرحاض لتزيل عن وجهها أثر الدمـوع ثم عادت إليه .. تحرك من مكانه ممسكًا بيدهـا وسار معها نحو الأريكة .. جلست بجموحٍ ثم سألته بصوت شامس :
-أنتَ نازل ؟!
مد لها كأس العصير لترتشف وأجابها :
-اطمنت عليكِ ، هنزل اقابل عالية وتميـم ونتكلم ، وبعدين هرجع عشان عندنا سفر بالليل ..
ارتعشت يدها القابضة على كوب العصير:
-أنت متأكد من قرارك ده يا عاصي !! هتقدر تستقر في الغردقة ..
فرد الجبن فوق قطعة الخبـز وقال :
-أنا خلاص اتفقت على كل حاجة مع أخواتك، هبدأ البزنس بتاعي هناك .. أنا محتاج أبعد يا حياة ، ولو توافقي هنطلع بره مصـر خالص .. أنتِ اللي رافضة .
ثم دقق النظر في ملامحها العابثة :
-أنتِ مش مبسوطة ولا أيه عشان هترجعي المكان اللي بتحبيـه ؟!!
ردت بفتور :
-أنا ما بقتش عايزة حاجة ..
طبع قبلة طويلة على كفها ثم ناظرها بأعينه المواسيـة والتي ظلت تحرسها طوال الأسبوع المنصرم :
-حيـاة اللي عرفتها كانت أقوى من حياة اللي شايفهـا قُدامي .. متعودتش منك على كده .
بررت ضعفهـا :
-عارف لمـا تسرق حاجة من بين سنان الدنيـا ، وتحس للحظة إنك انتصرت عليـها وفجاة تخسرها .. أنا كنت مستنيـة البيبي ده أوي ، حسيته عوض ربنا ليـا .. بس راح مني يا عاصي .
ثم مالت على كتفـه وهي تحتوي ذراعه وتضمه إلى صدرها :
-أنا عُمري ما هسامح اللي كان السبب ..
فك ذراعه من أسرها وتبدلت الأدوار ليطوقها به ليحضنها بقوى ، ترك الاثنان زمام الحوار لمشاعرهم التي تترمم ببعضهـا .. استمر صمت الألسن طويلًا حتى قطعته متأملة :
-هنعـوض البيبي مش كده .. نفسي يكون لي طفل شبهك ، أنا وحامل في ابنك كنت زي الفراشة طايرة مش حاسة برجليـا ، عايزة أعيش الأحساس ده تاني وألف معاك يا عاصي ..
ثم مررت كفها المرتعش على وجنته وقالت :
-أنا واثقـة أنك هتقدر تنسيني كل ده .. واثقة فيك وفي حبك ليـا .
كلماتها كانت بمثابـة خناجـر تطعن في قلبـه حاول تسكين مشاعره بأن كل شيء سيهون إلا أنه يخسرها للأبد .. لا يعرف صحة من خيبة قراره ولكن تلك المرة لم يغامر ويخاطر بحياتها من جديد حتى ولو كان أنانيـًا بقراره معها ..
نثر العديد من قُبلات اعتذاره فوق ملامحها ليسكن غضبهـا ويهدأ روعهـا ، استقبلت قُربه بلهف وشغف الظمأن حتى انتهى بها الأمر أن تعانقـه بعناق طويل يملأه الضعف وكأنها أرادت أن تعيد بناء نفسها من قُربه .. مسح على ظهرها بحنو ثم قال :
-اسيبك تجهزي عشان بالليل هنتحرك .
ابتعدت عنه بتحيـرٍ ثم قالت له :
-قبل ما نسافر ، خلي البنات يزوروا مامتهـم ياعاصي .
ثم ابتلعت غصة أحزانها وأكملت :
-آكيد هي مفتقدة وجودهم ، جات في بالي الفترة اللي فاتت ، كنت قبل كده مستغربة ازاي واحدة تخاطر بحياتها عشان تبقى أم .. أنا حسيت بمها من بعد خسارتي لابني ..
••••••••••
“”‏أرهقني القلق تجاه كل شيء اتسأل كيف يكون شعور الإنسان وهو بعيد عن القلقِ والحذرِ في كل خطوة يخطي لها أو حتى يفكر ،راحة البال أصبحت مطلبي ولكني أعلم جيدًا أن نيل المطالب لست بالتمنّي.””
تململت ” عاليـة ” من فوق فراشها على صوت رنين هاتفه بتثاقلٍ وهي تفتش عن مراد بجوارها فلم تجده .. ألقت نظرة على الكمود وقفلت صوته ثم عادت مُلقاة بإهارق على مخدهـا ، تفقدت تفاصيـل الغُرفة حولها بشعور مضطرب لا يمكن وصفه، شعور مسموم، يشقُ في الروح كدمة لا يستطيع المرء أن يضمدها ، كدمة بالغ آثرها لا يمكن زوالها بسهولة .
~~ قبـل أسبـوع ~~
وصل مراد برفقة عاليـة إلى المشفى التى ترقد بها حياة ، فاندفعت ناحية عاصي وسألته :
-حياة عاملة أيه يا عاصي ؟! طمني .
رد تحت تأثيـر صدمتـه :
-حالتها مطمنش يا عاليـة ..
ربتت على كتفـه بحنان :
-متقلقش إن شاء الله هترجع أحسن من الأول .. ومتزعلش نفسك ربنا يعوضك خير عن البيبي .
جلس مهمومًا على المقعد المعدني وسألها :
-أنتِ أحسن دلوقتِ ؟!
تعلقت غصة الحزن بحلقها :
-ممكن أسأل سؤال، عارفة مش وقته .. بس لازم أعرفه .
أجابها بتعب وهو يُقاوم :
-قولي يا عالية ؟!
-أنت كنت تعرف إن عبلة مش أمي .
حك كفيه ببعضهما مزفرًا عند سماعه لاسمها وكأنه يجاهد ليخفي حُمرة الغضب المشتعل من بين ملامحه :
-لا .. كانت مفهماني أنك بنتها الوحيـدة اللي لازم تحميها من غدر عيلة دويدار ، كانت بتبرر عملتها وأنها أخدت طفل وكتبته باسمها عشان تبقى هي أم الولد الكبيـر وكل الثروة دي تبقى ليها ..
أغرورقت عينيها بالعبرات وهي تسأله :
-ليـه طاوعتها وكملت في مسرحيتها .. ليه ؟
وثب قائمًا متحركًا إلى الزجاج الذي يفصل بينه وبين حياة الراقدة أمامه .. تابعت خُطاه وهي ترمق زوجته بشفقة ثم قالت مواسية:
-ربنا يقومها بالسـلامة ..
هز رأسه بجمود خارجي داخله فراغ وقرر أن يُجيبها على سؤالها :
-لما عرفت كنت طفل ١٥ سنـه ، لسه فاكر كلامها وتهديدها .. سابت عزاء شهاب دويدار وقفلت المكتب علينـا .. ادتني شهادة ميلاد وقالت لي إني مش ابن دويدار ولا ابنها ، وأمك خياطة وأبوك جنايني .. وأنها انقذتني من الفقر ، و رد الجميل لتعبها ده إني اسكت وأكمل وإلا مصيرك هيبقى زي مصير أمك وأبوك .. هتعيش وتموت عامل ..
ثم ألقى نظرة طويلة مطوية بالاعتذار لعالية :
-كنت مجبر أوافق ، مش بعد النعيم ده كله هترمي في الشـارع !! كملت في مسرحيتها لحد ما بقيت زي العروسة الخشب .. تحركها زي ما هي عايزة ، كنت فرحان بلقب عاصي بيـه سلطة نفوذ وخدم ، خلتني أشك في صوابع أيدي ، حتى تميم بقيت أراقبه طول الوقت منا خايف سري ينكشف وأطلع خسران .. مين الغبي اللي يسيب كُل ده !!
ردت عاليـة بحزن بالغ :
-عرفت تلوي دراعك … !!
هز رأسه بأسف ثم أتبع :
-الوحيدة اللي عرفت السـر ده مها .. وعشان كده صممت يكوني عيلة وأولاد اتسند عليهم ، قالت لي السر هيجي له يوم ويتكشف .. من يومها خدت عهد على نفسي أحافظ على فلوسك أنتِ وتميـم ، وابتدي أعمل بيزنس لنفسي بعيد عن فلوس دويدار ..
بلعت غِصة أحزانها وأخبرته بنبرة مبطنة بالبكاء :
-على فكرة ، كل ده مش فارق لي .. أنا هفضل طول عمري معتبراك أخويـا أنت وتميم ، أنا ماليش غيركم ولا أنت ناوي تستغنى عني ؟!!!
ضم رأسهـا إلى صدره بعد ما وضع قبلة خفيفة فوق شعرها المبعثـر وقال بحب :
-أنتِ كُنتِ بنتي الأولى يا عاليـة ، سامحيني لو كنت قسيت عليكِ وظلمتك ، بيت وحضن أخوكي مفتوحين لك في أي وقت ..
ربتت على كتفه بتودد :
-ربنا يخليك ليـا .. انا مش زعلانة منك بالعكس والله ..
ثم امتدت أنظارها لأخر الممر وأخبرته :
-طنط سوزان جاية مع مراد …
تحركت عاليـة لاستقبلها فضمتها سوزان بكل حُب بعد ما أخبرها مراد سرًا عما حدث ليلة أمس بقصـر دويدار وحقيقة نسب عاليـة المجهول ، فوضعت معه الخطة سِرًا لاستكمال كشف الحقائق .. صافحت عالية سوزان وأخذت تشاركها الحديث ، أم عن مراد وقف بجوار عاصي وقال له بهدوء:
-شـد حيلك..
أومأ رأسه متقبلًا تعازيه فابتعد مراد وعاصي عن موقف سوزان و عاليـة ، أخبره مراد :
-لسه كنت مع الدكتور وطمننا أن حياة حالتها مستقرة وعلى بكرة ممكن تخرج ..
اكتفى بكلمـة ” خير” وهو يُقلب في أحدى الرسائل على هاتفـه ، أكمل مُراد قائلًا بخجلٍ :
-أنا عارف أنه مش وقتـه بس ..
قاطعه عاصي ممتنًا لمعروفه لإنقاذ حيـاة :
-شكرًا على اللي عملته مع حياة .. لولا وجودك مش عارف كان حصل أيه ..
-أنا معملتش غير الصح في الوقت اللي كان لازم ادخل فيه ، لأن عواطفك كان سابقة عقلك أنا متفهم .. بس مش موضوعنـا ..
رمق عالية بنظرة سريعـة ثم قال :
-عاليـة ماينفعش تبقى لوحدها الفترة دي ، ولازم أكون جمبها .. وأنت أخوها محدش يقدر ينكر فلو تسمح يعني ….
قاطعه متفهمًا طلبـه ولكن بنبرة حادة :
-لسه فاكر أن عندها أخ !! مراد أنت لو فاكرني نايم على وداني ومش دريان بمقابلاتك أنتَ وعاليـة تبقى غلطان .. من أول مجيتك ليها الفندق وعارف أنكم بتتقابلوا ..
تراجع مراد بخجـل لا يمكن تبريره ، تقطعت الكلمات الحائرة :
– أنا مش قصدي أكسر كلمتك بس عالية مراتي وو
-فاهم ، بس في أوصول .. وعشان وقفتك مع حياة أنا هنسى كل اللي حصـل ..
ثم ربت على كتفه وقال :
-خلي بالك منها ، أنت أقرب حد ليهـا دلوقت ..
لأول مرة وبعد مضي عشرين عاماً مال مراد على عاصي ليحضنه كحضن أول فوز لهم في بطولة النادي .. حضن كل منهما الآخر بالصُلح فعادوا الرفاق رفاق ، وانقشعت غمامة الكراهيـة عنهم .. أقبلت عالية وسوزان إليها بنظرات يعلوها العجب والتعجب .. تعلقت عيني عالية بمراد وكأنه تستفسر منه عما حدث.. حتى سألته بذهول :
-هو في أيه ؟!
مازال يعتصر قبله بالحزن ولكنه دفنه للحظات بقلبه وسألها ممازحًا :
-جوزك بيحايلني عشان يرجعك !! أنتِ أيـه رأيك ؟!
بهتت ملامحها الحائرة :
-معرفش ، اللي تشوفـه يا عاصي !!
-أهي مش راضية يا عم ..
تدخل لينقذ الموقف :
-دي بتتقل علينا بس … سيبني أنا هفهمها .
لحقت عالية نفسها وقالت :
-أنا موافقة لو عاصي وافق ..
رمقها بتخابث :
-وقال يعني فارق معاكي أوي موافقة عاصي !
-هااه ؟!
همس مراد بتحذير :
-اسكتي بقا عشان طلع كاشفنا وشكلنا وحش ..
فرحت سوزان بعودة العلاقات بينهم ثم رفعت أنظارها لعاصي وطلبت منه بخجلٍ :
-عاصي ممكن كلمتين بس ..
اتخذت معه جنبـًا تستجمع فيه كلماتها التي بدأتهم :
-البقاء لله في البيبي .. أنتوا لسـه صغيرين والعمر قدامكم طويل .
رد باختصار :
-شكرًا …
غيرت مجرى الحديث ووضحت موقفها :
-أنا عارفـة أنه مش وقته وأنا الزعل باين عليك .. بس هقول كلمتين يريحوا ضميري .. أنا أسفة يا عاصي على كل حاجة ، منكرش أن عبلة كانت بتبخ في دماغي أفكارها السـم وأكيد أنت عارف من غير ما أوضح … أنا عايزاك تنسى اللي فات وتعتبرني في مقام أختك الكبيـرة وو
وفر عليها سرد المزيد من الأعذار:
-مشكلتي مش معاكي ، واللي حصل مفيش داعي نقلب فيه .. كلنا بنغلط محدش معصوم .. بعد أذنك هشوف مراتي …
~~عودة للوقت الحالي ~~
في ڤيلا سوزان التي أصرت على مراد وعالية أن يعودوا معها لتعتني بها أثناء فترة غياب زوجها اضطرات عالية أن توافق خاصة بعد نفورها التام من عالم دويدار المزيف .. ووافق مراد على مضض استكمالا لمخططهم ..
ملت عالية من رنين هاتفـه المتكرر ، فغادرت فراشهـا بكلل وارتدت معطفها الحريري فوق منامتها وهبطت لأسفل وهي تفتـش عنه ..
” بغرفة المكتب ”
-مفيش أخبار عن عبلة يا مراد ؟!
رد بضيق :
-قلبت عليها الدنيا مفيش .. والشرطة كمان بتدور .. المهم أي أخبار التحليل؟!
أجابته سوزان بحماس وهي تفارق مقعد مكتبها :
-النتيجة النهاردة .. متتصورش أنا مرعوبة أزاي ؟! قلبي بيقول لي ان عاليـة بنتي بس بردو في خوف .. قلبي مش هيرتاح غير لما أشوف النتيجة بعيني …
في تلك اللحظة اقتحمت عاليـة عليهم المكتب فـ عمّت الحيرة والارتباك على سوزان ومراد خشية من سماعها شيئًا .. وقف مراد ليقطع وتيرة الأسئلة المعقدة وقال :
-في حاجة يا حبيبتي ؟!
ردت بهدوءٍ :
-موبايلك مش مبطل رن ..
أخذ الهاتف منها فوجده رقمًا مجهولًا ، عاود الاتصال به فأتاه صوت العسكري يبلغه بعثوره على إمراة تشبه المواصفات التي سبق وأبلغ عنهـا .. رد مراد ملهوفًا :
-أنا جاي لك حالًا ..
سالته عالية بقلق :
-في أيه يا مراد ؟!
رد بعجلٍ :
-عالية اجهزي عشان معادنا مع عاصي وتميم .. هوصل مشوار ساعة وراجع ..
-طيب فهمني في أيه ؟!!
هتف بسـرعة وهي يغادر الغرفة :
-لما ارجع ..
••••••••
-بابي ، أحنـا فيـن ؟!
صف عاصي سيارته أمام مدافن آل دويدار .. أردفت تاليـا سؤالها مشدوهًا وهي تحاول أن تستفسـر عن ذلك المكان .. شد مفتاح السيارة وقال بهدوء :
-أحنـا هنـا عشان نودع مامي .. لان الفترة اللي جاية هنكون بعيـد عنهـا شوية ..
أغرورقت عيني تاليـا بعبرات البراءة :
-مامي ؟! هي مامي موجوده هنـا .. يعني مش في السمـاء زي ما حضرتك قلت ..
تابعت داليـا حلقة أسئلتها :
-يعني مامي موجودة ورا الباب ده ؟! طيب هي ليه مش عايشة معانـا يا بابي .. سابتنا لوحدنا ليـه !!
أخذت عينيه المكدسة بالدموع التي ظن أنها جفت من بعد موت مها تنقل من واحدة للآخرى بوجع يعتصر قلبـه .. يُدقق النظر في عيني تاليـا التي تُشبه عيني أمها كثيرًا .. وأنف داليـا المدببة التي نُسخت من وجه أمها .. والحفـرة المستقرة بخدها التي سبق ووقع بها وبسحر غمازتها .. لملم شتات نفسـه وداعب شعر صغيرته :
-هنتكلم كتيـر !! يالا انزلوا وقولوا لمامي كل اللي نفسكم تقولوه .
هبط من السيارة ليقف أمام المكان الذي لم تطأه أقدامه منذ أربع سنوات ماضية .. ارتدى نظارته الشمسية وهو يمرر عينيـه على جدران المقابر التي ضمت حبـه الأول .. تقدم بخطوات مثقلة بالحزن وأمسك يدي صغاره ، تاليا على يساره وداليا على يمينـه .. وتقدم نحو درجات المبنى المهيب فاستقبله الحارس بترحاب وهو يفتح له الباب ..
تقدم عاصي وبناته للداخل حتى وقف الثلاثة أمام قبرها المنثور بالبذور والذي تحاوطه الطيور من جميع الاتجاهات .. كوصيتها الأخيرة له حيث أمر الحارس بنثر تلك البذور يوميـا على قبرها .. تذكر جملتها الأخيرة وهي تترجاه :
((-قلوب البني آدمين بتتقلب ، والحب مع الأيام بيقل ، واللهفـة بتموت مع موت صحابها ، وأنا بخاف يا عاصي وأنت غصب عنك هتتلهي عني وتنساني ، عايزة أحس بالونس .. عايزة صوت يونسني .. عشان كده عايزاك توصي الحارس يرمي القمح فوق قبري عشان الطيور تزورني كل يوم … ))
جلس عاصي على رُكبتيه ليبقى بمستوى صغاره ، ابتلع غصـة وجعه المدفون لأعوام وقال بنبرة هادئة :
-حافظين الفاتحة مش كده !
أومأ الفتيات بصمت وأخذن يفعلن مثل ما فعل عاصي ، وشرعوا في قراءة سورة الفاتحة في كفوفهم المقعرة .. ما انتهى مسح على وجهه ففعلا الفتاتين مثله .. مرر كفه على سقف قبـرها وقالت عينيه بحزن وخيـم :
((-ياريت كنتِ لسـه موجودة ، أنا عارف أنك زعلانة مني .. بس مكنتش هقدر أزورك وأنا كده !! أنا عملت كُل حاجة غلط في غيابك يا مها ، كُنت بعوضني عن غيابك لحد ما ضعت وجات حياة لحقتني من نفسي .. سامحيني ، على فكرة حياة هي اللي أصرت أجيلك وأودعك ، وأخد البنات معايـا ، آكيد وحشوكي .. سامحيني يا مها عن كل حاجة ، حتى إني معرفتش أخافظ على بناتنا من بعدك ، كنت محملهم ذنب غيابك .. ودلوقتِ بعد ما ظهرت الحقيقة جاي أوعدك أصلح غلطي معاهم .. هما الحاجة الأخيرة اللي باقية لي منك ..))
استقر كف تاليـا على كتفه لتسأله بنبرة متحشرجة :
-بابي هي مامي بتسمعنـا ؟!
-أكيد يا حبيبتي ..
تاليـا ببكاءٍ :
-طيب مش بترد علينـا ليـه ؟!
ضم صغيرتـه لحضنـه لمواساتها فانضمت داليـا إليهم وهي تلوم على غدر الزمان وتقول :
-يا ريت كانت معانا بجد …
أردف بحب :
-أنا معاكم أهو وبقيت فاضي .. هنلعب وهنخرج وهنعمل كل حاجة سوا ..
••••••••
يقال أن “المشاعر ليس لها صوت لكنها ذات ملامح”
ولكني أرى أن هذا الكلام غير صحيح ، المشاعر لها صوت و لكنها تحتاج الى شخص شجاع عاشق ينطق بها ..
انتهت شمس من أداء سُنة الصبـاح ثم نزعت سترتها المخصصة للصلاة وتوجهت ناحيـة تميـم الذي فر النوم من عينه لقُرب الفجر حائرًا عما سيفعله بهذا الكم الهائل من الأملاك الذي سلمها له عاصي .. عن رأسه التي أوشكت أن تنفجر من ثقل المسؤوليات المُلقاة على عاتقـه .. جلست على طرف الفراش تدقق النظر بملامحه النائمـة .. أنفه المدبب ، لحيته القصيرة .. حاجبيه الكثيفتان .. شعرت بخفقان قلبـها الشديد ورغبتها الجامحة في الإقبال نحوه إقبالًا يليق بصبره عليها ومشاعرها المتقدة التي لا تعلم من أي جهة تسربت إليهـا ..
صدق الرافعي في وصفه للشوق قائلًا :
‏”هو حبلٌ من الحنين التفَّ حول القلب، فكُلّما نبض القلب نبضةً اشتدّ حبلُ الحنين على القلب وضاق عليه”
نفضت دخان مشاعرها وهمست له بصوت مدجج بالحنان :
-تميم .. السـاعة عشرة .
رد بصوتٍ نائم :
-ساعة يا شمس ..
شدت الغطاء من فوقه بإصرارٍ :
-تميم عاصي وعالية جايين الساعة ١٢ ، أنت نسيت ولا أيه ..
اعتدل متأففًا :
-أهو صحيت يا شمس .. حاجة تانيـة ؟!
ضحكت بصـوت مسموع ثم نبشته ملاطفـة :
-لسـة زعلان مني ؟!
تنهد بحيرة :
-أحنـا مش اتصافينـا وخلاص !!
-ااه يا تميم ، أنا فضلت متكلمنيش ٣ أيام ، وكمان كلامك بقا قليل معانا حتى بعد ما اتصالحنـا .. وأنا قولتلك ألف مرة أسفـة وعاصي كان مأكد عليا أن الموضوع سر ، حط نفسك مكاني بقا ؟!
قسم الصداع رأسه من صباحها المزعج :
-شوفتي أنتِ أهو اللي بتنبشي في القديم .. ومش مدياني فرصة انساه .
ربما أصدق طريقة للتعبير عن المحبّةتجاه الآخر
هي الرغبة في قضاء أكبر وقت معه وبما أن الوقت جزء من العمرفأنت تود لو تُعطيه عُمرك بأكملِه .. عارضتـه بانزعاج :
-شفت يعني لسه زعلان ، يعني كلامي صح ؟!
رد بنفاذ صبـر :
-مش زعلان يا شمس ، بس الموضوع ضايقني في وقتها وكنت محتاج وقت عشان افصل فيـه .. أعمل أيه تاني ؟!
تعمدت أن تطيل حبال الحديث بينهم مفتعلة الكثير من الحجج والأقوال الحمقاء كي لا ينتهي حوارها معه :
-شفت حتى طريقتك بتقول أنك مش طايق تسمع صوتي .. وأنا قولتلك ممكن أمشي وانت رفضت ..
رمقها بأعينه الماكرة التي عجزت في فهمها .. فـ رد باندفاع وهو ينهض جالسًا على رُكبتيـه :
-تصدقي أن الكلام مش نافع معاكي ..
‏أن قرر أن يصوم عن حبهـا فقلبـه يأتي أبيًا عنيدًا مسافرًا إلى عينيها قسرًا ليُفطره .. جذبها بكل قوته لترتمي في منتصف فراشـه صارخـة ممانعة :
-تميم ..
فك أزرار منامته وألقاها أرضًا ، فكادت أن تفر منه هاربة ولكنه أفشل مخططها ففتحت نوافذ صدره لاستقبال حبها وإقباله نحوها .. وقال محتجًا :
-مفيش هروب ..
خفق قلبها بمشاعر لا يمكن وصفها خاصة بعد ما كبل ذراعيها ببعضهما بكفه المنقبض على معصمها ورفعهما لأعلى .. ‏ فسألته باضطراب ممزوجٍ ببحة شجار العصآفير في صوتها :
-أنت هتعمل أيه ؟! تميم …..!!
-هسكتك بس بطريقتي …
انطبق فاهه على ملامحها المتوترة بلهفـة بحار ضائع وقارب قلبـه يتعذب بين الموج والإعصار .. يقاوم هروبها تارة ويقاوم لهفتها إليه طورًا .. لم تكن لحظات عابرة من الحب بل كانت نجوم تضيء ظلام أعوامهم ، ‏ووهب الحب نفسه للأذرع المفتوحة لا للقلوب المتمردة .. ما بين جزم ورفع وضم حروف اللغة بادر الحُب بأفعاله المجونة حتى عرفت المشاعر طريقها وسكن الفؤاد عن لوعتـه وتحول الحب المدفون بينهم لصرخات مكتومـة بروح كل منهما الأخر .. حتى تفوهت مُقرة تحت سطوة الحب وبأنفاس محترقة:
-تمـيم ، أنا بحبك .. حبيتك من أول يوم قابلتك فيه .. بس كنت بكابـر .
قالت شفتيها كلمات ، وغنت عينيها بمواويل معترفة بهما :
‏•أحسستُ بالحُب تجاهك منذُ اليوم الذي لمحتُ فيه الدفء الذي في وجهك و العناق الذي حدث مابين صوتك ومسمعي ، احسستُ بك وشعرتُ أنّ هذا القلب الصّغير الذي أحمله في زوايا صدري يتمدد بحُبك يومًا بعد يوم ، لايتبدد شعُوري لك ولاينقص ، بل إنهُ يحتشد في وسط صدري حتّى إنه يفيض من وسط عيني ..
‏كَانَت الشمس فِي الخَارج سَاطِعَة وحارة وكلّ الأشياءِ تَشعّ نورًا أم عن شمسه فكانت تنافسها في الإشراق والتلألأ والحرارة كَما لَو أنها هِيَ الَّتِي تُضِيءُ .. ‏أن تشرق في قَلبه من حيثّ لا غُروب لها بعد الآن .. تنهد بجدار عنقها ليُجيب على اعترافها بلهفة قاتلة بقلب كالسنبلة مائلة دومًا نحو شمسه ووشوش إليها :
-آخيرًا !! بحبك .
••••••••
وصلت عالية برفقة كريم إلى قصـر دويدار بعد تعذر مراد عن مجيئه .. هبطت عالية من السيارة فلحق بها كريم قائلًا :
-تميم ليه أصر أنك تحضري ، مش المفروض خلاص .
ردت بشرود ورأس منشغل بألف موضوع :
-معرفش والله يا كريم .. أدينـا هنشـوف .
دخل الاثنان من باب القصر فاستقبلتها سيدة بترحاب وأحضانٍ :
-وحشتيني يا ست عالية .. والله البيت ما له حس من غيركم أنت وسي عاصي ..
ربتت عالية على كتفها :
-تسلمي يا سيدة .. هابقى أكلمك على طول .. قوليلي عاصي لسـه مجاش ؟!
-لا ، بس سي تميم فوق ، هروح أناديه ..
-تمام .. وأنا هستناهم في المكتب .
نظرت إلى كريم الذي احتج قائلًا :
-هعمل مكالمة فالجنينة وأجيلك ..
~بالأعلى~
يقف تميم أمام المرآة يعد رابطة عنقـه وهو يطلق صوت صفير مسموع بعد ما روى شرايين حبه الظمأنة .. ثم هتف ممازحًا بصوت مرتفع كي يصل لأذان شمس التي اندست بالحمام :
-طيب ناوية تباتي جوه !!
ردت باضطراب وصخب يملأ روحها :
-خليك في حالك …
ضحك بانتصار ثم قال :
-طيب حبيت أقول لك نازل .
ردت باختصار وهي تحضن قلبها المتراقص:
-طيب…
ثم تحمحم بخفوت مداعبًا :
-هتوحشيني ..
ردت بفيض من الخجل :
-تميم روح شوف شغلك .. الله !!
أخذ سترته السوداء وغادر الغرفة بضحكة واسعة مرسومة على محياه ومازال محافظًا على روقان مزاجه حتى التقى بسيدة التي رمقته بدهشة :
-خير اللهم أجعله خير يا تميم يابني !!
رسم الجدية على ملامحه :
-في أيه يا سيدة !!
ردت بتخابث وهي تدور حوله :
-وشك ولا البدر المنور .. اللي يشوفك النهاردة ما يقولش ده تميم بيه اللي كان من يومين !!
رد متبسمًا :
-سبحان مغير الأحوال بقا يا سيدة ..
ضاقت عيني سيدة الخبيثة بثغر مبتسم :
-يديمها عليك الأحوال اللي تخليك رايق كده يا بني ..
-أحم .. هي عالية جات !!
-ااه جات ، جوه مستنياك .. أعملك قهوة ولا فطار ؟!
أجابه بفظاظة قبل أن ينصرف:
-أي حاجة مسكرة عندك ياسيدة .
رمقت سيدة ظهره بنظرات التيقن :
-وماله ؟!!!
مرت الدقائق حيث آتى عاصي وانضم إلى اجتماعهم وبالخارج يجوب كريم ذهابًا وإيابًا منتظرًا مجيء نوران الذي ألح عليها كي تلتقي به .. جاءت خائفة متفقدة المكان حولها بحرصٍ خشية من أن يراهم أحـد .. هبت في وجهه معترضة :
-أنتَ عايز مني أيه ؟!!
-عايز أودعك قبل ما أسافر ..
جمرة متقدة استقرت بحلقها فأدت إلى انفراج كل ملامحها :
-أيه ؟! هتسافر بجد ! أمتى .
استند على جدار الشجرة عاقدًا ذراعيه أمام صدره :
-طيارتي ١٢بالليل ..
ملأت الدموع عينيها ولكنها أبت الهزيمة تمردت على أعراف واعتراف قلبهـا .. أجابته بشفتين مرتعشتين :
-طيب وأنا مالي ..
نفذ صبـره من كبريائها :
-مالك ازاي !! نوران أنا بحبك لو مش واخدة بالك .. ومعنديش مانع اطلب أيدك دلوقتي.. بس أنتِ وافقي .
أحست بحبل العشق يلتف حول رقبتها فأصبحت تعاني من اتخاذ انفاسها بحرية وكأن ثقل الخبر أنصب على صدرها .. بنبرة فائض منها الحزن :
-قولتلك مش وقته الكلام ده ، أحنا لسه صغيرين .. وأنت هتسافر وتقابل غيري ووقتها هتعرف حقيقة مشاعرك .. دلوقتِ أحنا منقدرش نحدد إذا كانت المشاعر دي صادقة ولا …
الغريق تعلق بقشاية الحروف :
-نوران يعني جواكي مشاعر ناحيتي !! قوليلي وإحنا ندي قلبنا فرصة .. طيب قصدك أيه بأخر جملة .. يعني …
تذكرت تهديد جيهان لهـا وتحذيراتها بأن تبتعد عن ابنها .. فقالت :
-الحب حباله طويلة يا كريم .. ركز في طريقك ودراستك ..
ثم دارت لتخفي عيونها الدامعة عنه :
-وإن شاء الله اسمع عنك كل خيـر ..
رمقته بآخر نظرة كأنها تودعه وتودع قلبها المنخلع معه ثم ركضت هاربة من سطو عينيه وألم قلبها المميت .. ركل الطوبة بقدمه وهو يلعن حظه ويعلن هزيمته وخسارته لحبها المدجج بصميم قلبه .
~~بغرفـة المكتب ~~
ردت عاليـة بإصرارٍ :
-لا وألف لأ يا تميم .. أنا مش هاخد مليم واحد في الفلوس دي ..
عارضها تميم :
-عالية ده حقك وحق حرمانك من أهلك السنين دي كلها ونصيبك القانوني في ورث دويدار .
-وأنا اتنازلت عنه يا تميم .. ومتقلقش عليـا أنا في عصمة راجل وهو مسئول عني دلوقتِ .
تميم بعدم اقتناع :
-مال دي بدي !! ورث دويدار هيتوزع علينا بالحق.. ريحيني يا عاليـة لحد ما نشوف الباشا الكبير ..
اتكئ على المقعد الجلدي واضعًا سبابته فوق فمه وقال :
-الموضوع بالنسبة لي منتهي يا تميـم .. أنا حافظت على ورثكم وعملت البزنس بتاعي يعني مش محتاج الفلوس دي !!
فاض صبر تميم :
-عاصي الشيلة تقيلة عليـا وأنا مش هقدر ، وبعدين أنت مرجعتش ليه القصر !! عاصي سيبك من كل الهبل ده ، أنت أخويا الكبير والوحيد الفاهم في الشغل .. يرضيك بعدم خبرتي أهد كل ده !!
ثم وقف موضحًا :
-أحنا زي ما أحنا ، أنت كمل في شغلك ، وأنا هكمل في الجزء اللي افهم فيه والمركب هتمشي .. قولت أيه ؟!
صوت دق الباب قطع حديثهم ، فدخل منه مراد مستأذنًا :
-لو حاجة شخصية أنا ممكن استنى بره ..
تعلق تميم بقدومه :
-تعالى يا سيدي شاركنـا .. وشوف الاتنين دول قبل ما اتجنن ..
قفل مراد الباب وجلس بجوار زوجتـه ، فأجابه عاصي بهدوء مُريب :
-أنا رتبت حياتي ومش هينفع يا تميم .. موضوع وجودي هنا منتهى ..
تدخل مراد قائلًا :
-بس وجودك مهم الفترة دي يا عاصي .. أنا عارف أنك ورا الضربة اللي حصل لممدوح علم وهاشم ، وسمعت انهم مش هيعدوها ، فلازم نبقى أيد واحدة .. التشتت مش في صالحنـا ..
تنهد تميم بارتياح وهو يجلس على مقعده :
-ينصـر دينك يا مراد .. اقنعه عشان أنا تعبت ..
عاصي بإصرار وهو يتحرك ليفتح باب الخزنة ويخرج منها بعض المجوهرات الخاصة بمهـا :
-كلام منطقي ، بس أنا عارف بعمل أي .. وأنت يا تميم هتتعب شوية في الشغل لحد ما تفهم الدنيا ماشيـة ازاي ..
تدخل تميم مقترحًا :
-وفيها أيه .. مراد هيمسك نصيب عالية ويديره لحد ما تتخرج وتديره هي .. وأنت تفضل رئيس مجلس الإدارة وتكمل ونكبر سـوا ، السوق مليان ديابـة يا عاصي وآكيد مش هتسيبني وتمشي …
جهر بغضب:
-وأنا مش هكمل يا تميم .. ولو سمحت سيبني على راحتي .. وبكرة هتفهم أنا عملت كده ليـه ..
ثم هدأت نبرته :
-متقلقش عيني هتفضل عليك وهفضل في ضهرك حتى لو مش مكمل هنا …
احتج مراد معترضًا :
-وعاليـة براحتها عايزة تستلم نصيبها تستلمه لكن أنا اعذرني يا تميم …
رمقهم تميم بخيبة :
-تصدقوا أن كلكم شويـة عيال وأنا أصلًا غلطان إني بتكلم معاكم…
وثب مراد بملامح وجهه المترددة والحزينة :
-هو في خبـر لازم تعرفوه .. الشرطة لقيت خالتي عبلة ولما شافتني متعرفتش عليا .. وهما وشكوا في قواها العقليـة .. وللاسف حولوها على المستشفى وو
تدخلت عالية بقسوة لم تعهدها :
-كل واحد بياخد العقاب اللي يستحقه يا مراد….
رمق مراد عاصي بنظرة كاشفة :
-عاصي ..
رد بجحود وهو يلملم متعلقاته الخاصة بالصندوق :
-زي مـا عالية قالت ، كل واحد بياخد العقاب اللي يستحقـه … أشوفكـم بخير ..
انتهى اجتماعهم وتبادلوا الأحضان والسلامات والدموع المحبوسة في قلوبهم قبل أعينهم .. خرج عاصي من الغرفة وهو يودع إمبراطورية دويدار التي قضى بها تسعة وثلاثين عامًا … ركضت سيدة نحوه بلهفـة :
-عاصي بيـه ، عايزاك في كلمتين..
-قولي يا سيـدة .
شدته لأحد أركان القصـر وقالت له بفزع :
-بصراحة في سر جيه أوانه عشان تعرفه ..
-سر !! سر أيه يا سيدة .
-بخصوص ست مهـا ..
ثم رفعت عينيها المذعورة وأكملت :
-ست مهـا اتقتلت ، مماتتش قضاء وقدر .
الإنسانُ بغيرِ أنيسٍ تأكله الغربةُ ، يهزمُه طولُ الطريقِ
تغلبُه أهونُ المخاوفِ حتى تقبضَ يدٌ أخرى على يديه ، فيطمئن ، ويواجهُ ، ويرى العالمَ من جديد …
دومًا ما يتكرر أمامي جُملة ” ومن الحُب ما قتل ”
لِمَ لم يُقال ” ومن الحب ما يُحيي ” ، ” مـا ينعش القلب الهالك ؟؟”
مثلمـا أُنقذَ قلبي بحبك فلم أعرف معنى الانتصارَ على جيش الحياة إلا عندما أحبَبتني ..
حبـك حيـاة …
كلا ؛ بل أحيا بحبـك ….. ♥️
~خلق القلب عصيـًا ..
••••••••
-سر !! سر أيه يا سيدة .
-بخصوص ست مهـا ..
ثم رفعت عينيها المذعورة وأكملت :
-ست مهـا اتقتلت ، مش موتة ربنا .
‏لم ير إلا عتمـة سوداء تُشبه فَراغ روحه وظله المفقود .. عقـد حاجبيـه مشدوهًا :
-يعني أيه ؟! ازاي .. مها ماتت لأنها كانت تعبانة ..
ردت على الفور بأسف :
-محصلش ..
-وأيه اللي حصـل يا سيدة ؟!
-هحكي لك .. بس الأول لازم تعرف إني والله سكتت من خوفي عليك وعلى أهلى ، كنت هتجنن أكمل واسكت ولا أمشي واستنى مصيري ..
بلهفة لسماع الحقيقة قال :
-ادخلي في الموضوع يا سيدة….
شرعت سيدة في سـرد ما رأتـه قبل ست سنوات بارتباك يتقاذف من بين كلماتهـا .. والنبش في مقبرة ذكرتها الأليمة مع سيدات المحلاوي ذواتا المكانة المرموقة بالمجتمع ..
بالزاويـة الأخرى لملتقى عاصي وسيدة ، يقف مُراد مع عاليـة يتبادلن الحديث الهامس بينهم وهي تسأله :
-عشان كده نزلت ؟!
رد بنبرة يملأها الاضطرار :
-خالتي يـا عاليـة ..
بلعت غصة قسوتها الثقيلة على قلبها :
-طيب هي فين ؟! أنا عايزة أشوفها .. يمكن تتكلم ولا تقول حاجة يا مراد ..
رد بأسف وهو يتلقى بإبهام العبرة المنبثقة من طرف عينيها :
-مش هتستفيدي حاجة يا عاليـة .. دي مكنتش عارفاني ولا فاكرة هي مين ..
ثم زفـر ليتخلص من نار الحزن :
-الحادثـة أثرت على عقلهـا ..
فاقترب من زوجتـه خطوة إضافيـة وهو يمسح على شعرها مواسيًا :
-وعد أول ما تتحسن هاخدك ونروح لهـا ..
استندت برأسها على صدره حيث ملجأها ومأمنهـا الوحيدة بالحيـاة التي جردتها من كل معالم العائلة .. همست بخفوت :
-أحنا مش هنرجع بيتـنا وكفايـة كده عند طنط سـوزان !
~عودة لعاصي وسيدة ~
دلو مثلج انسكب فوق رأسه وهو يتلقى بحقيقة جريمة آخرى لعبلة التي كان يثق بها يومًا ما ثقة عميـاء .. ‏كل الجروح تطيب وتندمل ولها آخر وموعد مع الزمان لتنتهي إلّا جرح واحد مهما هربت منه يلحقك أينمـا ذهبت ، فلا مفر من الهرب وتضطر حتمًا لمواجهته ، مواجهة قلب لسيف قاتل ، تعرف أنها حرب ليست عادلة ولكن تلك هي ساحة الحياة الحقيقية يا عزيزي .. ويستمر القتال بينهما فلم يكُف نصل السيف عن تمزقه ولم يُنبت لقلبك درعًا واقيًا ليحميه من تلك التسديدات المؤلمة ، ويبقى الحال مثل ما هو إلى أجلٍ غير معلومٍ .
طافت عيني سيدة حائرة في بحر شرود وهدوء عاصي حتى تمتمت بخوفٍ :
-عاصي بيـه !! أنت سامعني ؟
رد بثبات مريب :
-وأنتِ سكتي ليـه كل ده يا سيدة ؟!
-قولتلك خُفت عليك ، عارفة لو كنت اتكلمت وقتها غضبك كان هيعميك ، والبنات هيتربوا من غير أب ولا أم .. أنا فكرت فيك وفيهم …
هز رأسه متفهمـًا وهو يُطالع مُراد بأعين ثاقبـة ، ويراقب حنانـه ولطفـه مع عاليـة .. بلع غصة وجعـه وقال :
-لو كنت عرفت وقتها كان البيت ده هيبقى رماد ، كنت همحي نسـل المحلاوي من على وش الأرض .. بس جيتي متأخر أوي يا سيـدة ، جيتي في الوقت اللي أخدت فيه القرار إني أحافظ على اللي ليـا من مهـا وبس ..
تمددت ملامحه المكدسـة بشحنات الغضب وكأنه يقاومها أن اهدأ :
-عاليـة قالت جملة واحدة كافيـة أنها تصبرني بقيت عُمري ، ” كل واحد هياخد العقاب اللي يستحقه ” بس الصبـر ..
ألقى نظرة أخيرة على مراد الذي لم يكف عن مواساة زوجتـه وتنهد قائلًا :
-العداوة دلوقتِ هيكون تمنها قلوب كتيـر ملهاش ذنب ..
تقدمت سيدة إليـه بعويناتها المحمرة وهي تربت على كتفه :
-سامحني يابني ، أنا ست قليلة الحيلة وبتجرى على لقمـة عيشـها .. بس العمر مش مضمون وأنا تعبت من دفن السر ده ..
تقبـل جمر الأمر بنفس راضية وهو يدسه بقلبـه وقال :
-وهيكمل سـر ما بينـا يا سيدة … مش مستعد لخطأ جديد بناتي هما اللي يدفعـوا تمنه ..
اقتربت منه سيدة راجية :
-طيب أنا ليا طلب ومتكسفنيش فيه يا بني ..
توقف عاصي عن مغادرته ووأشار بمقلتيه كي تكمل طلبها على الرحب، فأكملت بترجي :
-خدني معاك ، عايـزة أكمل اللي باقي من عمري معاكم .. هعيش أخدمكم برموش عيني والله ، متكسفنيش .
فكر للحظات وهو يفكـر في خطّته المستقبلية للاستقرار بالغردقة وأنه بحاجة إلى شخصٍ أمين يأمنه على بناتـه وزوجته .. رد بتقبـل :
-موافق .. بس الأول خدي إذن تميـم ، وجهزي حاجتك وخلي السواق يوصلك لشقتي ..
هللت سيدة بفـرحة :
-الله يكرمك يا عاصي يابني .. حالًا هروح اجهز وادي خبر لتميم بيه ..
~بالطابق الأعلى~
‏ثمة أشياء على المرء أن يتخطاها إجبارًا ‏دون أن يخبر بها أحد .. تقف نوران في شرفة الغُرفة وهي تعاني ألم النقصان ، الفراغ والخلو الذي ملىء صدرها للتـو .. تقف عاجـزة بأيدٍ مغلولة مكبلة ، حائرة ، تنزف من مقلتيها دمًا يحفر وديانًا بوجنتيها .. ألقت نظرة طويلة على صورته بهاتفها وهي تكبرها لترسو فوق ملامحه بكف مرتعش .. وقررت أن تعترف لصورتـه قائلة بنبرة ‏يرتجف فيها قَلبها کـ طفلٍ إغتَسل بماءٍ بارد في ‏فَصل الشِّتاء :
-أنا كمان مش عايزاك تمشي .. خليك جمبي ، أنا حاسة بحاجات كتير كلها عكس بعض ومش فاهمـة ، ومش عايزة أجرى ورا عواطفي وأقول لك عايزك معايـا .. طيب هو مفيش حل تاني غير السفـر !! طيب قول لي أنا هكلم مين أول ما اقع في أي مشكلة !! أنت متعرفش أنا اتعودت على وجودك طيب !! ههون على قلبك يسيبني ويسافر !! طيب حتى لو لساني مقالش الكلمة اللي مستنيهـا ، معقولة عيوني عرفت تداري عنك مشاعري !!
أسوأ شعور يمكن أن يواجه المرء على الإطلاق هو عدم معرفتك إذا ما كان عليك الانتظار أو الإستسلام .. وذلك الوميض الذي لمعت به أعين كريم وهو يرفع رأسه لأعلى ليقلي نظراته الأخيرة على الغرفة التي أعتاد عليها أن يطل منها قمره كل ليـلة .. تراجعت نوران للخلف كي تتواري عنه وتختبأ من جرف نظراته التي تلومها حتى باتت رؤيتها له سرابًا ، صعد سيارته مرغمًا على الانسحاب من أول معركة قادها قلبـه ، لم يتقبل الهزيمة ولكن لا يوجد ما يمكنه المحاربة لأجله …
(‏كُلنا هارِبون يا صديقي مِن الحُب ومِن الأماكن التي تحمل رائحته ومِن الأشخاص الذين هزمونـا من قبل وربما من أنفسنـا المحملة بمذاق الخيبات .. كُل مِنا لديه سببٌ للهروب مُختلف عنّ الآخر ولكِن نحنُ مجتمعون في الهربّ مِن شيءٍ ما.)
~~بغُرفة تميـم~~
قررت أن تغتـال جمـة المشاعر المتضاربة التي أحدثها الحُب قبل قليـل .. تجاهلت خرائط الحب المطبوعة على لوحة جِرمها والتي أدت بهـا للوصـول لأعذب نهـر بالحب ألا وهو الارتواء .. لم تصدق ما حدث وكيف للحظـات معدودة حالت بها لكل تلك الأحداث.. فجأة تحولت من مجرد معجبـة تختلس النظرات منه سهوة لـ مملوكـة لهذا الرجل الذي مال له قلبـها ..
تذكرت اعترافها الصريح لحبـه وهي تحت مخدره المسـكر فخجلت من نفسها كثيرًا ولجأت لصنبور المياه لتغسل وجهها عدة مرات ربما يزول عنها الالتباس .. جففت وجهها وبالمنشفة وعادت إلى مخدعها الذي طاحت بمنتصفه فلم تتذكر أي شيء إلا جملة المشاعر التي ملئتها ..
شرعت في تبديل كسوة السـرير ، حيث أتت بمفرش أخر غير الذي خُتم بوسام زهرة الحب بارتباك يبدو بخطواتها العشوائية .. ألتوى مقبض الباب يعلن قدومه خاصـةً اقتحامه للغرفة بدون أذنٍ مسبق كعادته .. رتبت الوسائد متحاشيـة النظر إليـه تمامًا ، اتسعت ابتسامته عندمـا التقم تصرفهـا الطفولي وقال ممازحًا :
-أيه ده ؟!! أنتِ لحقتي تلبسي !
وثبت مهزوزة وهي باستحياء لا تجرؤ أن تطالعه .. أن تتقابـل أعينهم من جديد .. كادت أن تنصرف من وجهه ولكنه عاق طريقـه ببنيته الصلبة وهو يقف أمامها :
-على فيـن !! مش بكلمك ؟!
ملامحها تعج بالحياء وهي تنظر في كُل الاتجاهات إلا الجهة المؤديـة لعينيـه .. فأمسك بذقنها وثبت وجهها نحوه قائلًا بهيبة :
-شمس !
تمتمت بخفوت وصوت مبحوح :
-نعم !
بنبرة عاشق مستهام أردف :
-مبروك يـا أحلى عروسة ..
-هاه ؟!
بضحكة رزينـة مبطنة بالهدوء أكمل ملاطفًا :
-هاه أيه بس دلوقتِ ؟!! أنتِ معايا الأول ؟
اختصرت قائلة :
-شكرًا ..
-شكرًا !! شكرًا على أيـه .. لا دي ما يتقالش عليها شكرًا خالص ..
لمعت عينيها العضو الوحيد المتحرك بجسدها المتصلب أمامه وسألته :
-عايزني أقول أيـه ؟!
بخُطى وئيدة منجذبًا إليها وهو يقبل على تذوق شجرته المحللة :
-أي حاجة غير شكرًا دي .. وبعدين فين لسان شمس اللي أطول منها ، السكوت ده مش معقول!
همست شفتيها باسمه بتقطع حرك جوارحـه من جديد وهو يراوغ عن قرب قطعة التوت التي جملت حروف اسمه وقال متيمًا :
-تعرفي كنت برتب كتير باليـوم ده .. كنت عايز كل تفصيلة فيه مترتبـة ، بس اكتشفت أنها حاجات ماينفعش يترتبلها ، زي الورد نخطفه خطف ونجري قبل ما حد يشوفنا ..
تعالت أنفاسها وهي تُرحب بقربه الذي أنعس عقلها المتقلب في بعده .. فأوقفته متحججة بقلقل :
-تميـم ..
تنهد بعودة للواقع :
-نعم يا شمس ..
-أنتَ عملت أيـه مع عاصي وعاليـة … ؟!
-وده وقتـه يا شمس !!
ثم غمغم متقبلًا :
-هي جات على دي !! أنتِ كل المواعيد معاكي بالعكس ..
-مش فاهمة حاجة !! بتقول أيـه ؟!
دنى منها الخطوة الفاصلة وقال :
-عايـز اسمع واحدة كمان بحبـك !
اتسع بؤبؤ عينيها بدهشة من جرأته :
-تميم بس بقا .. وبعدين سيبني دلوقتِ أحاول استوعب اللي حصل ووو بص أنا هروح اشوف نوران …
أمسك ساعدها ليوقفهـا معاتبًا :
-خدي هنـا ، بقا أنا جاي اطمن عليكِ .. وأنتِ تقولي نوران ؟!
بللت حلقها حتى برزت عروقها :
-أنا .. أنا كويسة ..
اندس كفه تحت شعرهـا وسألها بنبرة أحن :
-كويسـة كويسـة … ولا كويسـة ومش كويسة ؟!
-أنااا .. !! ااه كويسة ؟
-يعني نكمل كلامنـا بتاع الصبح ؟!
ثم ضاقت عيني محتجًا وهو يتراجع بها للخلف :
-كنـا وصلنـا لـ ” قولتلك ممكن أمشي وانت رفضت ” وبعدها حصل أيه ؟!!
فعقد حاجبيه مستفسرًا بمكر ثعلبي :
-فاكرة ؟!!
تبسمت باستحيـاء وهي تهوده بدون تمرد بل معجبـة بطريقة تسلله لقلبها ولقربه ، فـ ردت عليه بتأن :
-تؤ .. مش واخدة بالي ..
-بس أنا فاكر ومعنديش مانع أفكرك …
استهل أن تشرق على صدره والشمس للآخرين فتبلور قلب تميم عندمـا سطعت شمسها أمامه بملامحها المتمدة التي تستقبله بلهفـة ممزوجة بعطر الحياء الذي يجمل أي أنثى .. صارت النظرات بينهم تتعانق وتقبل بعضهـا البعض ، وهاجت القلوب لتبدأ فصلًا جديدًا من الحياة بصوت ببلابل العشق .. في تلك اللحظة جاءت العاصفـة لتشتت سِرب الطير ، فتفرق الجمعان فجأة ، لعن تميم ذلك الحظ فتقدم مندفعًا إلى الباب مكتظًا بالغضب فإذنٍ بسيدة تقف أمامه مبتسمة :
-تميم بيه ، هو أنا ممكن امشي اشتغل عن عاصي بيه ..
ما زال تحت سطوة عواطفه وعواصفه الغاضبة محاولًا العودة من بلدة الحُب وقال مندفعًا :
-روحي يا سيدة .. بصي تصريحك مفتوح مكان ما عايزة تروحي روحي ..
هللت فارحة وهي تركض على الدرج :
-بجد يا تميم بيـه .. حاضر حاضر .. ربنا يكرمك ويخليك ويسعدك دنيا وآخرة ..
خبط الباب خلفها بامتعاض وما ألتف خلفه فوجدها اختفت من الغرفـة مختبأة بالحمام ، ضرب كف على الآخر وقال وهو يأخذ سترته السوداء :
-مبدهاش بقا نشوف شغلنـا …
ثم جهر مزمجرًا :
-وانتِ خلي الحمام ينفعك ..
ضحكت بصوت مكتوم وهى تراقب ملامحها المشرقة بالمرآة بعد ما عانقتها نجوم السماء .. فتم هلالها وأصبح بدرًا ساطعًا بتميـم روحها التي أكتملت بوجوده …
•••••••••
~~ بالسيـارة ~~
بعد شرود وتفكيـرٍ طويـل قطعت عالية الصمت السائد بينهم وقالت بتوجس :
-على فكرة أنا سمعت كلامك مع طنط سوزان .. وبحاول افهمه بس مش عارفـة ، مراد أنت مخبي عني أيه .. وتحليل أيه اللي منتظرين نتيجته .. !
ثم ابتلعت حيرتها وأتبعت :
-مراد أنت مخبي عليـا أيه ؟!
بهدوء تام صف سيارتـه جنبـا مستغرقًا أطول وقت ممكن في التفكيـر :
-وأنتِ سكتتي ليه !
-معرفش ، حسيت إني لازم أفهم منك الأول ، كنت تايهة ومتلخبطة ..
ثم مسكت يده متوسلة :
-أنتَ وطنط سوزان مخبيين عليـا أيـه !! أنا حاسة بحاجة غريبـة وبحاول أكذب نفسي بس الشعور ده مش مفارقني …
سألتها مستفهمًا :
-حاسـة بإيـه يا عاليـة ؟!
-وقفتها جمبي ، إصرارها نكون معاها في الوقت ده ، اهتمامها بيـا وبكل تفاصيلي لبس وأكل ونظراتها طول الوقت .. عيونها فيها كلام كتير ملخبطني .. طيب هي علاقتها كانت بعبلة إيه يخليها تعمل معايا أنا كده !!
فك حزام الأمان الذي يكتفه ودار إليها قائلًا :
-مش من فراغ يا عاليـة ، أنتِ معاكي حق طبعـا ..
-حق في أيه يا مراد ..
-بصي أنا مكنتش ناوي أقول لك حاجة غير لما نتأكد ، محبتش أعلقك بأمل وهمي.. كنت مستني نتأكد ووقتها هقول لك كل حاجة ..
امتلأت عينيها بالدموع :
-في أيه يا مراد ؟!
-أهدى وهحكي ليك كل حاجة يا عاليـة ..
••••••••
~ مساءً ~
-خلاص يا يونس .. خلصنـا كُل حاجة ونازلين أهو .
قالت ” حياة ” جُملتهـا وهي تتحدث في الهاتف مع أخيها بعد ما انتهت من ضب حقائبها واستعدادهم للعودة للغـردقة .. دخل عاصي الغرفة فسألها بهدوء :
-نسيتي حاجة ..؟!
-لا ده يونس كان معايا على التليفون .. أنا تمام .. وأنتَ ..
رد بتلقائية :
-مستنيكي ..
اقتربت منه بخطوات وئيدة :
-عاصي أنتَ متأكد أنك كويس ، مش عاصي اللي أعرفه .. فيك حاجة متغيرة من وقت ما رجعت .. !!
تجاهل الكم الهائل من اسئلتها واكتفى قائلًا :
-سيدة والبنات تحت في العريبة ، يلا عشان منتأخرش عليـهم ..
أوقفته بشكٍ :
-طيب أنتَ متأكد أنك عايز تعمل كده !! إحنا فيها ممكن …
فقاطعها قائلًا :
-لا أنا تمام .. يلا ننزل ..
خرج الثنائي معًا وهما يطفئان الأنوار مع خطواتهم متشابكين الأيدي حتى قُفل الباب على الشقة التي جمعت شملهم من جديـد متجهين إلى عالم آخر وحدوتـة جديد ، يا ترى ما الذي تحمله بين طياتها ..
••••••••
~بقصـر دويدار~
تجلس نوران تائهه كنجوم فقدت ليلهـا أمام التلفاز .. جاءت إليها شمس من باب القصر متعجبة من قرار تميم المفاجئ .. قعدت بجوار أختها متعجبة :
-نوران هو مفيش مذاكرة ، شايفة أن ده وقت تليفزيون ؟!! مالك ، أيه مزعلك .
ردت بفتور :
-مالي .. مخنوقـة شوية ..
-طبيعي كل ما تقرب الامتحانات هتحسي بالضيق بس مش معنى كده تستسلمي لده وتمشي ورا هواكي؟!
-شوية وهبقى كويسة ياشمس ، متشغليش بالك ..
شمس بعدم تصديق :
-طيب أنا عايزة أقول لك حاجة ..
-قولي ، بس الله يكرمك بلاش نجيبلي سيرة المذاكرة ..
اقترب منها شمس قليلًا وسألتها :
-فاكرة عمتك تحيـة .. عمتك اللي أحنا عشنا بنتحاسب على غلطها عمرنا كله ..
ردت نوران بتأفف :
-الله يرحمها مكان ما راحت يا شمس تلاقيها ماتت وشبعت موت .. ليه بس السيرة دي؟!
-هي فعلت اتوفت .. بس عمتك تحيـة تبقى هي أم عاصي ..
انفرج فاه نوران بصدمة عقبتها ثرثرة زائدة :
-أيه ؟! ازاي ؟! استني يعني عاصي يبقى ابن تحية اللي هي أخت بابا اللي هربت ، يعني عاصي اللي مش ببلعه ده يبقى ابن عمتي .. شمس انا دماغي لفت بيا !!
ردت شمس باختصارٍ :
-أيوة .. عاصي يبقى ابن عمتنـا ، وده السبب الـ جابنا عشانه هنا ..
أكملت نوران بتعجب :
-يعني مش موضوع إيجار وفردة الصدر الـ دخل علينا بيها دي ؟!! يخرب عقله د…..
قاطعتها شمس بحدة :
-عيب ، اتكلمي عنه كويس ..
-شمس أنتِ مستوعبة أحنا مرينا بأيه وهو عمل أيه ، وليه أصلًا ؟!!!
بررت شمس تصرفاته موضحة :
-كانت عايز يحمينا من عبلة ، لانها لو عرفت مش بعيد تأذينـا ..
اندفعت معارضة :
-وهو كده حمانا ؟!!! بصي أنا مستحيل أصدق أن في صلة قرابة تربطني باللي اسمه عاصي ده .. يابنتي أنا مش بطيقه ، بشوفه كإني شوفت عفريت .. دا أنا كنت بعصر على نفسي شجرة لمون لما باجي أكلمه !!
-اللي حصل بقا ، أنا قولت أعرفك بس عشان متقوليش بخبي عليكِ حاجة …
آتى تميم مع نهاية جملتها وانضم إليهم قائلًا :
-أيه قولتي لها يا شمس !!
ردت نوران بدون تفكير :
-قالت لي ، آخر حاجة كنت اتخيلها عاصي ده ..
صححت شمس وجهة النظر وبررت :
-لا لسـه ، تميم بيسألنا عشان مشى كل الشغالين اللي هنا .. وهنسكن في شقـة تانيـة ؟!
-نعم !! أيه القرارات المفاجأة دي ؟! ليه كده .
وضح تميم مغزى قراره :
-القصر كبير عليـنا والشقة أأمن لينا .. متقلقيش أوضتك جاهزة ومش عليكي غير تاخدي كتبك ونروح هناك ..
فأتبعت شمس :
-هنمشي أمتى ؟!
-وقت ما تجهزوا .. على مهلكم .. بكرة بعده ، آخر الأسبوع ، زي ما تحبـوا .
•••••••
بأجواء مشحونة تجلس سوزان على مقعدٍ منفرد أمام الأريكـة التي تجلس عليها عاليـة مستندة على كتف مراد .. صمت مريب يملأه الخوف والأمـل .. والكثيـر من الذهـول .. عندما روى مراد القصة كاملة لعالية خضعت تحت صاعق الصدمة لساعاتٍ .. تجنبت أي حديث مع سوزان ، اكتفى مراد بتوضيح الأمر مكتفيًا بعلمها بالحقيقة ..
بنظرات تائهه جداً للحد الذي إن أشعل شخص حولها عود الثقاب فلم تسطع أن تفرق بين من يُضيء لها الطريق ،ومن يسّعى لاحتراقها .. رفعت أنظارها لمراد بأعين مدججة بالقلق :
-لسـه ؟!
ألقى نظرة طويلة ناحية سوزان ثم قال :
-قالوا هيبعتوا التقرير الساعة 9 .
ابتعدت أعينها عنه لتلقي بأعين سوزان التي تفيض دمعًا وقلقًا حيث وضعت كفها فوق قلبها ونظرت لأعلى وكأنها تناجي ربها بألا يخيب أملهـا ..
أمسك مراد بيد زوجته الباردة بقـوة ثم قال :
-أنا جمبك ….
في تلك الاثناء جاء صوت الرسالة على هاتف سوزان و الذي كان أشبه برصـاصة ضاعفت الخوف بداخلهم .. سكن كل منهما بمكان بدون حراك .. يناظر كل منهما الأخر حتى قال مراد بصوت خافت:
-طيب مش هتفتحي الرسالـة ..
بأيدي مرتعشـة مدت سوزان ذراعهـا لتأخذ هاتفهـا .. أخذت عالية تقضم في أناملها بما يعكس حالة التوتر والهلع التي أصابتهـا .. ضمها مراد إلى حضنه عندما أحس بذعرهـا .. هنا فتحت سوزان صورة نتيجة التحليل، بقلب مرتعش وأعين دامية كبرت حجم الصـورة وبدأت في قراءة النتيجة لفحص الحمض النووي الصبغي ..
ساءت الحالة المزاجية لسوزان وهي ترتعش وتبكي بصورة مفزعة .. وثب مراد بلهفة إليها أما عن عالية تسمرت في مكانها بخيبة أمل كبيرة.. أخذ مراد الهاتف منها واطلع على نتيجة التحليل، حيث حلت النازلة فوقـه هو الآخر .. تطلع إلى عاليـة طويلًا وهي لم تفهم شيء .. تخشى أن تستفسـر فيصيبها خنجر الحقيقة المرة من جديد ..
نهضت بصعوبة وكأن جبال الألب استقرت على كتفيها وتحركت نحوه بشفاه مرتعشـة وسألته بأعينها فلم تجده إلا صامتًا يحضتنها فقط بقوة .. نظرت له ناطقة :
-في ايه ..
شدها من ذراعها وجلس معها أمام ركبتي سوزان المنهارة وقال بفرحة كبيرة وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة :
-النتيجة إيجابيـة ياعاليـة .. بتأكد إنك بنتها ..
-مامـا ؟!
هنا انفجرت سوزان باكية وهي تضمها حيث هبطت لمستواها وأخذتها بين يديها بعطش شديد لقُربها .. أخذت تلهث بعدم تصديق وتقبل كل إنش بهـا ، وتهذي :
-أنا كنت متأكدة .. والله كنت عارفة من يوم ما شوفت الشامة على إيدك .. معقولة طول العمر ده قُدامي وأنا معرفش ..
ثم أخذت توزع قبلات جنونية وعشوائية على جسدها .. دخلت في حالة هستيرية وهي تلتقي بابنتها التي فقدتها قبـل ثلاثة وعشرين عامّا .. تشعر وأنها ولدت من جديد بين يدي أمها ، بدأت تستوعب شيئا فشيئاً حتى ارتمت بين ذراعيها بصمت يحكي العديد من التفاصيل التي تعجز الكلمات عن وصفها .. ابتهلت سوزان بلهفة :
-الحمد لله .. بنتي عايشة يا مراد .. الحمد لله ، مش أنا قولت لك أحساسي ما يخيبش أبدًا ؟!!
حدثًا مبهرًا بحياتها محى كل الانطفاء الساكن بروحهـا .. أخذت تلتقط أنفاسها بصعوبة ثم أردفت بنبرة مزيج من الضحك والبكاء:
-يعني أنا مش وحيدة .. وحضرتك أمي ؟!!!
-أيوة أيوة يا حبيبتي .. أنتِ مش هتبعدي عندي دقيقة واحدة.. بصي أنتوا هتعيشوا معايا هنـا .. أنا لازم أعوضك عن كل الأيام اللي مكنتش فيها معاكي ..
ربت مراد على كتفي الاثنين وقال بسعادة :
-بالمناسبـة الحلوة دي ، أنا عازمكم بره ..
عارضته سوزان التي تتحدث بلهفة :
-لا .. أنا هقوم أعملها كل الاكل اللي بتحبـه ، هقوم اطبخ لكم بنفسي ، قوليلي عايزة أيه وأنا اجيبهولك حالًا ..
ردت عليها بمشاعرها المتضاربة:
-مش عايزة حاجة ، خديني في حضنك وبس ..
-تعالي يا روح قلبي ، تعالي في حضن مامتك ..
••••••••
~~بمدينـة العلمين الجديدة ~~
تحركت ” هديـر ” بسيارتهـا من مقر شغلها وهي تتحدث مع أمها على الهاتف فسألتها :
-مامي ، أنا في الطريق وجاية أهو ، محتاجة حاجة أجيبها معايـا ..
ردت جيهان :
-عدي على السوبر ماركت ، وهبعتلك مسـدج بالطلبات اللي محتاجتها..
ردت هدير متأففة :
-ما تطلبي من عندك يامامي .. هو لازم أروح يعني ؟!
-بطلي كسـل يا هديـر ، أنا رجلي وجعاني كنت نزلت جبتهم بنفسي ولا احتجت لك .
ردت على مضض :
-حاضر ياماما حاضر … بالمناسبة لسه قافلة مع كريم وهو في المطار مستني الطيارة ..
-اه ماهو قال لي .. وكان زعلان أوي قولت له كلها كام شهر وهنحصلك .. صحيح عايزة أروح أزور خالتك عبلة ، كريم قال لي على اللي حصلهـا ..
ردت هدير بشرود :
-مامي استنى البس الإير بوت عشان اسمعك كويس ..
فتحت صندوق السيارة تبحث عن السماعات اللاسلكية فوجدت ورقة بيضـاء مكتوب عليها باللون الأحمر ” عشان تفكري تلعبي معايـا تاني ” في تلك اللحظة اتسع بؤبؤ عينيها لتنطلق صارخة :
-ماما الحقيني العربية مفيهاش فرامل ..
فارتفع صوت صرختها وهي تحاول إيقاف السيارة :
-بوقفها ما بتقفش …
فزعت جيهان من مجلسها :
-يعني ايه ؟! هدير هدير خلى بالك .. ألو ..
ثم انفجرت صارخة على صوت الاصطدام والصدح المزعج هاتفة بذعـرٍ :
-بنتــــــي !!!!!!!
•••••••••
{{ بعـد مرور ثلاثـة أشهـر }}
ثلاثة وعشرون عامًا عجزوا عن ترتيب فوضى روحي وشتات نفسي مثلمـا فعلوا آخر ثلاثـة أشهـر .. عودت فيهم للحياة بعد سنوات من التكدر وانطفاء الروح ، حياة يملأها الهدوء والكثير من الضحكات ..
يمر يومي بسلام تـام .. صباح برائحة قبلات أمي ونظرات من أحب ، لحظات يملأها الأمان والسكينة.. مثلما ارتوى قلبي بفيضهم ، زوج حنون وأم جميلة ماذا ينقص بعد ؟!!
شدت ستائر غُرفتها فتسللت أشعـة الشمس إلى الغرفة وشرعت بمداعبة جفون مراد النائم .. ذهبت إليـه لتوقظه بلطفهت الذي اعتاد عليه كل صباح .. ولكن تلك المرة سبقها ونهض قبل أن تبدأ بإيقاظه .. ضحكت قائلة :
-لحقت نفسك قبل ما استخدم أساليبي معاك ..
دفن قبلته المسموعة بجدار عنقها وقال :
-للاسف عندي اجتماع مهم أوي النهاردة .. ولازم اروح الشركة ..
ثم رفع حاجبه معبراً :
-شايفك أحسن النهاردة!!
-كتير .. قولت لك هو دور كده بيجي لي كل فترة وبيروح لوحده أنت ومامي كبرتوا الموضوع .. المهم ..
رفع الغطاء من فوق وقال :
-تعالي احكي لي المهم ده وأنا بحلق عشان مفيش وقت ..
تابعت خُطاه إلى الحمـام وشرعت في سرد ما يتجول بخاطرها :
-قولي الأول كلمت هديـر ؟!!
رد بأسف :
-كلمتها وهتبدأ جلسات العلاج الطبيعي من النهاردة ..
تمتمت بحزن :
-ربنا يرجعها بالسلامة .. على فكرة عاصي وحياة كلموني إمبارح !
-في حاجة ؟!
شرعت في وضع رغوة الحلاقة على ذقنه وقالت :
-ولا حاجة بيطمنوا عليـا .. و بيشوف إذا كنت مزعلني ولا لا .. ااه وكان عايز يكلم مامي ، بيقول فكرة مشروع جديد وعايز يشاركها ..
-طيب جميـل ..
شرعت في حلق ذقنـه وتمرير حد الماكينة على وجهه وقالت :
-أنا بفكر أأجل السنة دي .. أنا مش مستعدة لأي امتحانات يا مراد ، وحابة اتخرج بتقديـر كويس زي ما أنا متعودة ..
ضمها إليـه من خصـرها لترتطم بجسده قائلًا :
-أنا معاكي في أي قرار في صالحك ..
تملصت من حضنه متدللة :
-بطل بقا الحركات دي عندك ميتنج مهم ، الله … !!
-مفيش أهم من الميتنج معاكِ ..
انتهت من حلق ذقنـه ثم مدت يدها تتناول المنشفة وتمحو آثار الصابون .. وفي تلك اللحظة شحب وجهها مرة آخرى وركضت لتتقيأ بالمرحاض .. ركض إليها بلهفة :
-أنا غلطت لما سمعت كلامك امبارح ووافقتك متروحيش لدكتور.. يلا قومي دلوقتِ نروح نكشف ..
ردت متنهدة بتعبٍ :
-لما نشوف نتيجة التحاليل الأول .. ممكن برد من التكييف يا مراد ..
-عالية بطلي عِناد .. قومي يلا هنروح لدكتور ..
خرجت معه وهي يسندها مطوقًا خصرها :
-روح شغلك يا مراد وبالليل ننزل لدكتور .. بجد حاسة عايزة أنام أوي ..
أجلسها برفق على طرف السرير وما كاد أن يعارضها فأتاهم صوت طرق على الباب بحماس ، فتفوهت عالية بقلق :
-دي ماما .. بتخبط كده ليـه ؟!
هرول مراد ليفتح لها الباب فاندفعت لداخل الغـرفة بفرحة تتقاذف من وجهها .. وقفت عالية باستغراب :
-مامي حصل أيـه .. ؟!
ضمتها سوزان بفرحة شديدة :
-مبروك يا حبيبتي.. مبروك ، أنتِ حامل يا عاليـة .. حامل ..
تسمر مراد في مكانه يتلقى خبر حملها بمزيج من الفرحة والحيـرة والارتباك ونفس المشاعر سكنت بدن عالية التي لم تستوعب جملة خبر مثل هذا .. ذهب سوزان وحضنت مراد بسعادة :
-ألف مبروك يا حبيبي ..
سألتها عالية بارتباك شديد:
-حضرتك عرفتي أزاي !!
حاولت سوزان أن تلتقط أنفاسها من جمة السعادة :
-الدكتورة بعتت التحاليل اللي عملناها بالليل متأخر .. لسه شايفاها مصدقتش عينيا وجيت جري .. قلبي وعقلي طاروا بالخبـر .. الف مبروك يا حبيبتي .
اقترب مراد من زوجته وقبل رأسهـا بحنو فطوقته بكلا ذراعيها :
-هتكوني أحلى مامي في الدنيا ..
-وأنتَ كمان ، هتكون أعظم وأحن بابي ….
شعرت سوزان بوجوب انسحابها ليحتفلو معًا ، فقالت بسعادة:
-هنزل أحضرلكم فطار .. وأدور على دكتور كويس عشان نتابع عنده يا لولي ..
ذهبت سوزان حامله على كتفيها عبير سعادتها بابنتها التي ستجعلها جدة بعد عدة أشهر .. انفرد مراد بزوجته التي لم تفارق حضنه لتحاوره بعيونها التي تفيض نورًا :
-أنا مش مصدقـة ..
داعب أرنبـة أنفها بلطف :
-أنا النهاردة أسعد بني آدم على وش الأرض ..
هبت مفزوعة :
-مراد ؟!!!! الميتنج ؟!
-أنا هكسنل الدنيـا كلها عشانك ..
-يعني أيـه ؟!
قطف من زهرة وجهها عدة قبلات خفيفة وقال :
-قاعد مع ابني ..
-مراد متهزرش .. وشغلك .
-أنتوا شغلي من هنا ورايح ..
عانقته بحبٍ وأعلنت :
-أنا بحبك أوي .. عارف كده !
ليجيبها تحت سيطرة مشاعره المتراقصة والهائمة :
-تؤ ، لا مش عارف .. بس حاسس ..
ضمته بقوة تضاهي فرحتها بحملها لسنابل الحب الناتجة من التقاء الأمان بفارس العشق .. كان يدهشها باستثنائه لها الدائم ، ومدى اتسّاع صدره لتقبل مزاجيتها ، كان ملجأها الوحيد لتقلباتها الحياتية والمزاجيـة .
•••••••
” بشقة تميـم الجديـدة ”
الجميع حول مائدة الإفطار يتناولون طعامهم ، وضع تميم قطعة الجُبن بفمه ثم وجه حديثه لنوران متسائلاً:
-عندك دروس النهاردة ..
نوران وهي تلقي نظرة أخيرة على هاتفها وهي تستمع لأحد مدرسي الثانوية العامة بجانبها على المائدة :
-بعد العصـر في مستر بيدي مراجعـة بيقولوا كويس هنزل أحضر الحصة معاهم ..
-وتنزلي ليـه ، ما يجي يديكي الحصة هنـا ؟!
ردت موضحة :
-للأسف مش بيدي برايفت ..
تدخلت شمس مقترحة :
-طيب السواق هيستناكي عشان مضيعيش وقت ..
-متقلقيش يا شمـس ..
فلفت انتباهها وصول رسالة نصيـة غير متوقعـة على هاتفها من رقم أمريكي ، فتحت الرسالة باهتمام لتقرأ ما بها :
(( عارف أن امتحاناتك الأسبوع الجاي .. ومش عايز أشتت تركيزك ، بس عايز أعرفك إني مش عارف انساكي .. وغيابي عنك كان محاولة فاشلة مني .. وحبيتك أكتر ومش عارف أبطل افكر فيكي .. وحشتيني ووحشني الخناق معاكِ .. شدي حيلك وأنا واثق أنك أدها وهتحققي حلمك .. كلميني في أي وقت ، هستناكي ))
~كريـم ….
مراراً وتكرارًا تناديها شمس ولكن رسالة منه أحيت كل ما تعمدت طويه بقلبهـا .. اتسعت ابتسامتها وهي ترد على أختهـا :
-هااه بتكلميني ياشمس ؟!!
رمقتها بشكٍ :
-سيبك من الموبايل وكملي أكلك ..
ثم عادت إلى تميم وسألته :
-بردو عاصي رافض يرجع ؟!
-تعبت معاه يا شمس ، ده حتى عرضت عليه يشاركني ، بس مفيش فايـدة اللي في دماغه في دماغه .. ساب لي الشيلة كلها وخلع ..
ثم أمسك كفها باعتذار :
-أنا مقصـر معاكي الفترة دي عارف .. وعارف إنك مستحملة كتيـر .. بس طولي بالك بس تخلص نوران امتحانات وهنسافر للمكان اللي تختاروه ..
تقبلت اعتذاره بلطف :
-كفاية وجودك يا حبيبي .. ربنا يقدرك ويهدي عاصي ويرجع يشيل عنك شـوية ..
لم يتمكن من ردها فجاءهم صوت رنين الجرس قطع حديثهم ، فقال تميم بتلقائية :
-هشوف مين ..
أخذت نوران هاتفه وهي لم تشعر بقدميها الطائرة من الأرض هاربة لغرفتها وهي تقرأ رسالته مرارًا وتكرارًا حتى حولها الحب والمشاعر التي ايقظها فجأة لفراشـة تتنقل هنا وهناك .. انتقلت سريعا إلى صورته المحفوظة على هاتفه وأخذت تخاطبه بصوت متحمس كمن عاد للحياة من جديد :
-كنت خايفة تكون نسيتي .. وأكون مجرد وقت وعدى في حياتك ، أنت كمان وحشتني أوي ..
حضنت الصورة بمشاعرها المتحركة لأول مرة بحب المراهقة الذي يعد أعظم حب في مرحلة أي فتاة وقالت لنفسها :
-متزعلش مني يا كريم .. كله بوقته .
توجهت شمس إلى تميم الواقف مندهشا أمام الباب عند رؤيته للطارق فهمهمت بتعجب :
-نعمة ؟!! اتفضلي تعالي واقفة ليه ؟!!
دخلت نعمة مع شمس فقل تميم الباب ولحق بهم ، جلسوا جميعهم في غرفة الجلوس الواسعة ذات الأثاث الأنيق والفاخر .. سألتها شمس :
-تشربي أيه يا نعمـة ؟!
-ولا حاجة .. السواق مستنيني تحت ومش هتأخر ..
تبدلت نظرات كل من تميم وشمس بحيرة فسألها تميم مباشرة:
-خير يا نعمة … ؟!
-أسفة جيت كده فجأة .. أنا ليا شهر بدور على عنوانكم الجديد لحد ما وصلت ..
كررت شمس نفس السؤال حائرة :
-حصل أيه لكل ده يا نعمـة ..
أخرجت نعمة ظرفًا من حقيبتها ووضعته على الطاولة وقالت :
-دي أمانة عمي حسين ليكم .. موصيني لو جرت له حاجة أدي الظرف ده لعاصي بيه بنفسه بس معرفتش أوصل له .. أسفة عارفة اتأخرت بسبب ظروف ولادتي ..
شمس بتلقائيـة :
-حمد لله على سلامتك يا حبيبتي ..
تميم بتعجب :
-في أيه الظرف ده يا نعمة ..
ردت بثقة :
-في دليل كلامي ..
تنهدت للحظة ثم أكملت :
-طبعا عارفين أن مراة عم حسين كانت بتشتغل معاه في القصـر ، بس هو خبى عليكم أنه يعرف ست اسمها تحيـة .. لانه خاف تحصل فتنة بين الأخوات بسببه ..
تميم بشغف لكلامها:
-وضحي يا نعمة ..
-الست اللي اسمها تحيـة كانت بتشتغل خياطة في قصر البيه الكبير ، الـ للأسف ضحك عليها وسافر .. ووقعت في ورطة وهي حامل ومش عارفة تتصرف .. اللي حصل بقا ..
قاطعها تميم بلهفـة :
-بالراحة بس .. تحيـة وشهاب دويدار أبويا ؟!!
أيدت كلامه ثم أكملت :
-بالظبط .. والولد اللي خلفته تحيـة هو نفسه البيه أخوك الكبير .. اللي عبلة هانم استغلت ضعف الست تحية وكتبت الولد باسمها ..
ترجمت شمس معنى حديثها :
-استنى يا تميم ، أنا فاكرة أن عبلة قالت حاجة زي كده .. الخياطة اللي حبها جوزها .. ووو
ثم اندفعت قائلة :
-يعني كده عاصي ابن شهاب دويدار مش ابن عبدالعظيم زي ما عبلة فهمته … تميم انت مستوعب !!
تعلق تميم بحوارها كالغريق :
-نعمه أنتِ مدركة بتقولي أيه ؟!
مدت له الظرف وقالت :
-هنا الجواب اللي كتبته الست تحية وادته لمراة عمي حسين عشان توصله لشهاب بيه .. بس للأسف عمي حسين خاف من الست عبلة على مراته لو كشفت سرها وسابوا القصر ومشيوا .. ممكن توصل الأمانة دي لعاصي بيه بنفسه ..
•••••••••
~بالشـرقيـة~
صفت سيارة سوداء أمام المنزل العريق المنتمي لـ آل دويدار حيث هبط منها يسري وهو يقفل زرار بذلتـه ، فتقدم أحد الرجال لاستقباله :
-اتفضل اتفضل يا استاذ يسري .. شاكر بيه مستنية في المندره ..
تقدم يسري بخطوات حذائه الأسود اللامع إلى داخل المنزل وخاصة إلى المكان الذي ينتظره به شاكر دويدار .. صافحه شاكر بصوته جمهوري وهتف قائلًا للخفير :
-قولهم يجهزوا الغذا يا ولد ..
جلس الاثنان على الأريكة الخشبية فبادر شاكر قائلًا :
-فينك من زمان يا راجل ؟؟
-في الخدمة يا شاكر بيـه .. بس المرة دي جاي وقاصدلك الخيـر ..
-خير يا يسري .. انقطعت أخبارك عننا من زمان ، ومبقناش عارفين حاجة عن ولاد أخوي شهاب ..
ابتسم الثعلب المكار بابتسامة الغدر وقال :
-هما مين ؟!! أنت متعرفش اللي حصل ؟!
-أيه اللي حصل يا يسري ؟!
-أن عاصي مش ابن شهاب .. وعالية مش بنتك أخوك .. وتميـم ابن زنـا .. وأنت الوريث الشـرعي لكل الأملاك دي …..
-أنت بتخرف بتقول أيه ؟!!!!!
-زي ما سمعت ، وأنا جاي هنا أوعيـك واساعدك ترجع حقك …. قولت أيه ؟!
-وهو الحق في كلام يتقال بعده !!!! ورث أخويا لازم يرجع للورثة الحقيقيين ….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى