روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الثاني والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثانية والعشرون

” رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
كُنت سبيلي الوحيد للقلم .. لأجلك مسكت قلمي وزخرفت حروف اسمك لأول مرة ، حينها أصبح عكازي في فترة الشيب القلب والفراق ، في المرة التي دونت بها أول خواطري التي اختتمت بكلمة ” أُحبك ” لم يكن همي إلا أنها تصل إليك بوسيلة تُحمي غرور الأنثى التي تسكُنني ، ولكن مع الوقت ، وبالأخص عندما رحلت ، بات قلبي ينزف حبرًا ويدونه قلمي حُبًا .
بقيت الكتابة مواساتي الأخيرة للانفراد بك في خيالي للحظات مسروقة من قسوة الأيام ، كُل مرة كُنت أقدم استقالتي من الكتابة التي علقتك بروحي على سهوة ..
عُدت ملهوفة إليها .. أقصد عدت ملهوفة إليك .
نهال مصطفى
••••••••••
في تلك اللحظة ضاءت شاشة هاتفه برسالة نصية ، ألتفتت ” حياة ” إليها وقرأت أول سطر بها :
-اسمها رسيل قنديل المصري …
دائرة من السوالف التي مرت عليها ، في المرة الأولى التي وقعت بأول حرفين من اسمها الذي عجزت على استكماله ! عن ذلك الاسم الذي تردد في حُلمها وايقظها صارخة وهو يتردد كالبرق بذهنها ! أغمضت جفونها متذكرة ذلك الرجل الذي نادها بتلك الهوية ! فكل الطُرق تصل بها إلى هذا الاسم الذي يعني عذوبة المياه ، وبرقيات الحُب بين العشاق ، زفرت حيرتها بشكٍ حول ما يُخفيه عنها هذا الرجل الغامض وقالت برتابة :
-يا ترى ناوي على ايه !
عاد إليها عاصي وبيده ” روب ” طويل كي ترتديه فوق فستانها القصير وقال :
-البسي ده لحد ما نوصل ..
مدت يدها بتردد ثم أخذته دون الاهتمام بتنفذ طلبه ، طالعها بتساؤل :
-مالك !
قالت بصوتٍ مُتهدج متعمدة ألا تظهر له شيئًا :
-لا مفيش ، هلبس أهو ..
تناول سيجارة من عُلبته المرمية بجوارها واشعلها ، شرعت في ارتداء ثوبها ومُداعبة شعرها الذي نثر قطرات الماء عليه بدون قصد منها ، مسح بظهر يده ما انتشر على وجهه وقال بامتعاضٍ :
-شايف انه ملوش لازمة ، ممكن تقصيه هيبقى أحلى !
طوت شعرها بدلالٍ أمامه مُتعمدة إثارة غضبه وقالت بغيظ :
-شايفة الـ ملوش لازمة بجد هو رأيك .
نظر لها شذرًا ثم تحمحم بخفوت مُتجاهلًا الحديث معها وأوشك أن يفتح هاتفه ولكن أوقفه سؤالها :
-اشمعنا حياة !
همهم مُتسائلًا رفعًا حاجبه الأيمن بدهشة :
-مش فاهم !
جلست بهدوء على المقعد الذي يُقابله حتى تلاقت أعينهم وكررت سؤالها بنبرة أكثر وضوحًا :
-قصدي ليه بتناديني بالاسم ده ! اشمعنا حياة بالذات ! آكيد الاسم له سبب .
انتقلت حيرتها الشاغلة إليه وهو يفكر للحظات حتى برهن :
-عشان صفاتنا ليها نصيب من أسامينا ..
حاولت أن تُفكر معه بصوت مسموع وقالت بتعجب :
-وايه وجع الشبه بيني وبين الحياة .
سحب نفسًا طويلًا من سيجارته ثم قال بنبرة جامدة مُتعمدًا إثارة غضبها :
-عنيدة زيها ..
همهمت بصدمة :
-أنا عنيدة !
أكمل قائلا :
-طول ما بجري وراها بـ تهرب مني ، وأول ما أديها ضهري تلاقيها جات راكعة قدامي … زيك !
تعالى صوت نقاشها بصوت مُحتدم كنود :
-لا طبعا مش زيي ، أنا عمري ما هفكر اجي لك مهما حصل ، لو بيد الشخص اختيار مصيره أكيد عمري ما كُنت هختارك ولا اختار لحظة من اللي عشتهم معاك .
هز رأسه بعدم تصديق وقال ساخرًا :
-هنشوف ، لسه الجولة ما خلصتش !
-جولة أيه بس ! أنت بالنسبة لي دِكة احتياطي .
ثم هبطت من فوق مقعدها ناصبة قامتها واقتربت منه بتحدٍ :
-متحاولش تدي نفسك مساحة في حياتي وخلاص ، وأحب افكرك فات من الشهر عشر أيام !
رمقها بنظرة حادة شلت حركتها ثم ثني سيجارته بقلب المطفأة وقال مُحذرًا :
-لو قربتي خطوة كمان هتبقى أنت المسئولة على اللي ممكن يجرالك ، مش أنا ….
تسرب إليها شعور القلق وسألته بضياعٍ :
-يعني أيه !
داعب خصلة شعرها المُنسدلة فوق عينيها وقال بتخابث :
-يعني اللي فهمتِه بالظبط !
انغمس عقلها فى الأفكار السوداوية وهي ترمقه بأعينها المرتعشة حتى تراجعت باستسلام لتجلس مكانها وقالت بإرتباكٍ :
-هاه ! تمام .
••••••••
-أهم حاجة الراحة التامة !
تلك كانت جُملة الطبيب الأخيرة الذي قام بفحص جيهان فأقر بهبوط مفاجئ لا أكثر وأكد على الراحة التامة ، وصله مُراد إلى باب الشقة ثم ودعه ورجع إلى الغرفة التي تقطن بها أمه ، كانت ” عالية” تشد الغطاء عليها وقالت برفق :
-سلامتك يا خالتو .
تأوهت جيهان بكذب وهي تمسك قلبها الذي لا يشتعل إلا بنيران الحقد وقالت بوهن مزيف
-الله يسلمك يا عالية .
تحمحم مراد بخفوت وهو يتناول لائحة الأدوية التي دونها الطبيب :
-طيب هكلم الصيدلية تبعت الأدوية.
انكمشت ملامحها بغلٍ :
-وأنا هاخد الأدوية على معدة خالية .
تلاقت أعينهم بحيرة حتى تفوهت عالية على الفور :
-هجيب لك حاجة تاكليها حالًا ..
-لالا استني أنا عايزه أكلة ترُم العضم .. من وقت ما جيت هنا ومفيش لُقمة عدله نزلت بطني !
ما لبثت أن تقول بدهشة على طلب جيهان الصعب :
-يعني أعمل لحضرتك أيه !
تدخل مُراد قائلًا :
-متعمليش حاجة يا عالية ، شوفي يا ست الكُل عايزة أيه من بره وأنا هطلبه حالًا ..
تمتمت بامتعاضٍ :
-ومراتك هتعمل ايه ! ما هي قاعدة مش وراها شُغلة ولا مشغلة .. فين هدير بنتي هي اللي هتاخد بالها مني !
لمعت عينيها بغتة من تحول خالتها المُفاجئ ، حاولت أن تهدأ من فوضى خالتها :
-ممكن حضرتك تهدي وأنا هعمل كل اللي تطلبيه ، لانك سمعتي الدكتور قال الراحة التامة ..
بمجرد ما انهت جملتها ركضت مسرعة نحو المطبخ لإعداد وجبة دسمة لخالتها ، فتحت الثلاجة تبحث عما ستحضره من أطعمه ولكنها وقفت مُكبلة العقل والأيدي ، أخرجت كل ما يُقابلها من لحوم بيضاء وحمراء ولا تعلم ما تفعله كي تتخلص من عبء تلك الليلة ، قفلت باب الثلاجة بضيق حتى أوشكت عينيها على البكاء بعجز :
-لحمة وفراخ وسمك ، أنا اعمل ايه دلوقتي ، ويتعمل ازاي ! يا ربي ساعدني !
قفزت الفكرة برأسها وسرعان ما بدأت في تنفيذها ، سارت على طراطيف أصابعها وهي تتأكد من عدم وجوده بالمكان حتى وصلت غُرفتهم وشرعت في البحث عن هاتفه ، رد الأمل إليها عندما عثرت عليه ، ثم فارقت الغرفة سريعًا وهي تتلفت حولها كلصوص الليل ، ما أن عادت إلى المطبخ فتحت مُحرك البحث ” جوجل ” وأخذت تبحث عن وصفات صحية وسريعة ..
متصفح وراء الأخر ظلت تتنقل بينهم بحيرة حتى رفعت رأسها وانفجرت منها شهقة مدوية عندما وجدته بجوارها يُشاهد ما تُشاهده ، رفع حاجبه مُتسائلًا :
-بتعملي أيه !
اتسعت عيناها هلعًا وبررت موقفها بخجل :
-اسفه أخدت موبايلك بدون اذن ، بس والله انا متلخبطة كده ومش عارفة أعمل أيه !
كانت تهذي بكلمات انطوت فى ثنايا ارتباكها حتى لاحظت ابتسامة خفيفة منها وهو يسألها :
-أنت متعرفيش تعملي أكل !
قفلت عيونها وهزت رأسها بالنفي ، فلم يكن لديها الجُرءة أن تعترف بفشلها الذريع ، ظل يتأمل جمالها الذى لم ينجح التيه فى أن يحجبه بل زاده وقال متفضلًا :
-ورطة بصحيح ، وأنا كمان مش بعرف اعمل اكل ، بس ممكن اساعدك .
ارتطمت نظراتها بابتسامه واسعه مرتسمة على ثغره ثم قالت :
-طيب أيه رايك نعمل الوصفة دي ، بس هي جابت الفراخ وقطعتها وسوتها بالخضار !
زام ما بين حاجبيه وهو يُشاهد الفيديو حتى قال متحمسًا :
-طيب أيه مش هنبدأ !
فتلك المرة حالت نظراتها من القلق الى الإعجاب بمساعدتها وعدم تركها فريسة لفكي المأزق ، هزت رأسها بخفوتها وهي تتأمله بعيونها الملائكية وقالت :
-ماشي ، يلا نبدأ ….
•••••••••
كلما تضيق علينا الايام تمنيت لو يعود بي الزمن حيث ما كنا صغار ، ثَقُلت قُفة الهم فوق كتفيها تلك التي تحملها بمفردها ، ولا تعلم إلى أي مرسى ستتخلص من تلك الأعباء !
مع مطلع الساعة الثانية عشر تجلس ” شمس ” أمام الشرفة تتأمل النجوم وتُعلق على كُل نجمة حِملًا مما أثقلتها به الأيام حتى أختتمت حيرتها بنظرة طويلة من ” تميم ” الذي يتفحص شاشة الحاسوب وقالت لنفسها بشرودٍ :
-ليتنا نستطيع أن نسأل الطرقات عن نهايتها قبل أن نسلكها .
فردت ساقيها المقوسة ثم تقدمت نحوه بخطوات مُترددة حتى وقفت عن طرف فراشه وطلبت منه :
-فاضي نتكلم شوية !
قفل شاشة الحاسوب ثم قال مُرحبًا :
-آكيد ، اقعدي ..
جلست بجسدها النحيل على طرف الفراش ، وأخذت تُحرك أهدابها التي خاصمها النوم بحيرة حتى سألته مترددة :
-مش متعود تسهر للوقت ده !
-أبدًا يا ستي ، كان عندي شغل ولازم اخلصه !
تمتمت بغرابة :
-شُغل ! أنت بتشتغل ؟!
زام ما بين حاجبيه وهو يتتبع نظرات عيناها بحرص :
-طبيعي أكون بشتغل ! أومال هستنى أخد المصروف يعني !
رمقته بنظرة ممزوجة بالإعجاب والتعجب حتى ترجمها بمهارة وقال :
-قصدك يعني ازاي اشتغل وأنا كده ، وممكن مش محتاج الشغل اصلا !
نفت جملته بسرعة وهي تُشيد بإعجابها :
-إطلاقًا ، أنا فخورة بيك جدًا ..
ثم فركت كفيها بتششتٍ وهي تطلب منه :
-أنا معرفش عنك حاجة لحد دلوقتِ ، ممكن بقا تحكي لي عنك ! قصدي بتدرس أيه ! شغلك ! حياتك ! امم والدتك ؟!
تملكت الهواجس عقله ولكن شيء ما بداخله قضى عليها وأجابها بمنتهى الصدق :
-أنا يا ستي درست سنتين في هندسة كانت العمارة حلمي ، وفي اليوم اللي ظهرت فيه نتيجة تانية جامعة أخدت والدتي عشان نحتفل سوا ، وأحنا وراجعين حصلت الحادثة اللي سابتني فيها ومشيت ، وأنا زي ما أنتِ شايفة !
بدت بهدوء غير معهود وهي تستمع إليه باهتمام ، تبدلت نظراتها إلى أخرى مُحملة بالشفقة وقالت بخفوت :
-ربنا يرحمها ..
ردد في سره ” أمين ” ثم أكمل قصته عليها و :
-عدت سنة في التانية ومفيش حل ، حسيت عُمري بيضيع ، ابتديت اقدم في جامعات بره للتعليم الأون لاين ، لحد ما أخدت ماجستير في الهندسة من أكبر الجامعات في أمريكا.
هبت بفخرٍ شديد :
-بجد أنت عملت كل ده ؟! أنا مش مصدقة !
شعر بدفء قلبه عندما رأى تلك النظرات السعيدة التي تلمع بالفخر ، كمتسابق قضى عُمره يركض وينتصر دون سماعه إلى هتاف مشجع واحد ، دقت الحياة بقلبه من جديد وهو يسألها بعدم تصديق :
-الموضوع بسيط مش مستاهل كُل ده على فكرة ؟!
-بسيط أيه ؟! أنت مُتخيل بين ٤ حيطان دول عملت أيه ، يكفي أنك مستسلمتش وكملت وعافرت !
سقط حُزنه من بين كلماتها الجاسرة وقال :
-العجز مش سبب للفشل ، بالعكس هو دافع للنجاح عشان تعوض الجزء المُفقود منك ! الاستسلام مفيش أسهل منه ، بس نتايجه مش مُرضية !
‏الغرق ليس السقوط في البئر ، لا أحد يمكنه وصف السمكة بالغارقة لكنها بالمقابل تغرق في الهواء فالغرق الحقيقي هو أنك تسقط في مكان لا يُناسبك ! كانت نظراتها مُفعمة بالاعتزاز والفخر بقوة المُحارب التي تغمره ، راق لها التحاور معه حتى اخبرته بتباهٍ :
-لسه واخدة بالي من حاجة مهمة أوي !
-فيـا !
أومأت رأسها بحماس وأكملت :
-أنك انجح حد أنا قابلته في حياتي كلها ..
•••••••••
” بشُرفة غُرفتها بالفندق ”
وجهها الهادئ لا يفصح عن شيء يملأها مثل بلادٍ مشتعلة بالثورات، لكنها صامتة على الخريطة لا أحد يسمع صدى استغاثتها .. ضجة الشعور التي تغمرها بسبب الفقد ، حتى تنهدت بتحير وهي تطالع نجوم السماء:
-هل سأكون الفاقدة أم المفقودة ؟!
للحظة أحست بدقة قلبها عندما تذكرت كلماته المُشاكسة التي تُدقق في أقل تفاصيلها ، أصابت رعشة الإعجاب قلبها حتى حرقتها نبرة صوته العالية بغضبها الثائر من تمرده عليها وهي تلتفت يسارها للشرفة المجاورة لغُرفتها تطالعه حتى أنهى مُكالمته .. لحظ تركيزها معه فلم يُطيل من أمر المُكالمة وأسرع في قفلها .
اقترب منها مُستندًا على سور الشُرفة مُتسائلًا بفضول :
-منمتيش ليه !
بين الانبهار والانجذاب للحديث معه إلا أن هناك حاجز بينهما يُدعي بالكبرياء ، انكمشت ملامحها العاقة لقلبها :
-شايفة أنك تركز في شُغلك أهم من انك تركز معايا !
يُقال بأن المُشاكسة أول درجات الحب ، تبسم بهدوء متعمدًا سن اسلحته الثلجية وقال :
-معاكِ حق ، بس يمكن ده عشان القمر مش موجود النهاردة فـ السما ولا في قمر في أوضتي ، غصب عني مركز معاكِ !
جحظت عيناها بارتباك مُعلن ألتمسه بجفونها المُرتعشة :
-أحنا هنرجع القاهرة أمتى !
-مش دلوقتِ ، لسه قُدامي كذا حاجة لازم اخلصها !
رمقته بشكٍ حتى أردفت بتخابث :
-موصلتش لحاجة ! قصدي يعني بخصوص أهلي وأنا مين !
هز رأسه بعدم اهتمام كأنه يُعيد ترتيب ما في قلبه و :
-لسه !
تفاقم الشك بجوفها حتى مُلئت بالقلق منه ، حدجته بنظرات الدهشة حتى قطع حيرتها صوت هاتفه الذي رد عليه سريعًا ، أخذت تُراقب تبدل ملامح وجهه حتى انهى مُكالمته مزفرًا :
-ماشي يا سارة ، نازل لك !
وضع هاتفه بجيبه ثم نصب قامته قائلًا :
-أنا مضطر انزل ، هتنامي !
حكت جدار عنقها مما يعكس خبايا نواياها حتى هذيت بسؤال لا يليق بشموخها :
-هتتأخر !
توقف للحظة إثر ذلك السؤال الفضولي منها ، لمعت عيناه بلهفة دعوتها وعاد قائلًا :
-أنا ممكن منزلش خالص لو حابة !
أردفت بسرعة وهي تلوم نفسها بالداخل :
-لا مش قصدي …
-أومال أيه قصدك !
أحمر وجهها بحُمرة الخجل والتشوش وهي تبرر له موقفها العبثي :
-قصدي هروح أنام بقى … هروح انام حالًا!
فرت من أمامه كعصفورة مُغردة طربت عينيه قبل مسامعه فتبسم لها متعجبًا من شأنها ، دخلت ” حياة ” الغُرفة تتنهد باستراحة محارب من تلك الحياة التي كدست كل الهموم دفعة واحدة فوق عاتقها .. ركضت نحو الباب تترقبه من العدسة السحرية حتى ضمنت ذهابه تمامًا ، عادت نحو مخدها وتناولت شالها الطويل الذي رمته على كتفيها ثم فردت شعرها عليه وخرجت متسللة على أطراف قدميها ..
سارت بالممر تتفقد أحدى الغُرف التي سبق وسألت عنها بالاستقبال حتى دلها على الغرفة رقم (٣١١) ، غرفة وراء الأخرى حتى وقفت مُتصلمة أمام بابها .
لملمت شتات صدرها وبقبضة يدها المُرتجفة طرقت على الباب بتردد ، بالداخل يأتي صوت ” قاسم ” متحدثًا في هاتفه بالايطالية :
-Lo risolverò il prima possibile
-(سأحل الأمر بأسرع وقتٍ ممكن )
فتح باب غُرفته غير مُصدق عينيه عمن يراها ، اعتذر من كارين وقفل الخط بسُرعة وقال بلهفة :
-قلبي كان بيقول لي إنك جاية .
ثم فتح الباب على مصرعيه قائلًا :
-تعالي تعالي ادخلي ..
لم يجد أي خطوة منها مُلبية لطلبه حتى كرر طلبه :
-مش هنحكي على الباب ، تعالي جوه .
دخلت الغرفة بخطوات مُترددة وألف صوت يصدح بداخلها أن تفر ولكن بحثها عمن تكون كان سببًا كافيًا لتخدير جميع الأصوات ، اختلج قلبها عندما قفل الباب وأحست بضيق نفسها لما تنفست رائحته ، فكان الأمر بالنسبة لها كحبل المشنقة .. دلفت إلى الداخل واقفة في أحد أرجاء الغُرفة وسألته بدهاءٍ كي لا تخبره حقيقة فُقدانها للذاكرة فيستغلها وتصبح مُضغة بين أنياب خبثه :
-أنتَ عايز مني أيه !
أخرج من الثلاجة أحد زجاجات العصير المُعلبة وقدمها إليها :
-اشربي !
رمقت يده بغضبٍ وتجاهلت ما يقدمه لها ، حيث عادت سؤالها بنبرة أقوى :
-أنت عايز مني أيه !
أسبل عيونه بمكرٍ :
-ده سؤال بردو يا سيلا ! أكيد راجع عشانك ، راجع اصلح كل اللي عملته .
اضطربت ذاكرتها التي فشلت في استراجع أي شيء ولكنها أصرت على استكمال تمثيليتها :
-كويس أنك لسه فاكر اللي عملته !
صرخ بغضب في وجهها مبررًا أفعاله الدنيئة التي اقترفها :
-مكنش قُدامي حل تاني ، مكنتش عايز لا أخسرك ولا أخسر مستقبلي !
أحست أنه يتحدث عن خدش عميق بروحها عاجزة عن معرفته ، فرت دمعة العجز من مقلتها وأكملت :
-الحياة كلها اختيارات ، عشان تكسب حاجة لازم تخسر قصادها حاجة ! الطماع بس هو اللي عايز يكوش على كل حاجة !
اقترب منها محاولًا لمس ذراعيها ولكنها أبت بشدة قُربه ، برر ما يُشير إليه :
-عارف ، وعارف أني اتهورت ساعتها ، بس أنا كُنت عايز ارجع القاكي ، مش القاكي متجوزة واحد تاني ومغيرة اسمك ! فاكرة كده هتهربي مني يا رسيل !
ثم وقف مُتحديًا أمامها وأعلن رايات تملكها :
-لا ، وألف لا ! واللي اسمه عاصي ده مش هيعرف ياخدك مني حتى ولو هدفع روحي ، والمرة دي انا اللي مش هسيبك واهرب يا رسيل ، عارفة ليه لأنك بتاعتي وبس فاهمة !
يمكن للمرء أن يتجاوز كل شيء إلا نسيانه لتلك الخدوش التي شوهت صفحة قلبه البيضاء إلى خريطة مليئة بالألغام ، أحست ” حياة ” بشيء مُريب لزم الهرب منه ، ما أن استدارت لتغادر قفص الأسد فوجئت به يعيق طريقها عنوة :
-رايحة فين ! أنا ما صدقت لقيتك .
صرخت بوجهه :
-أبعد عني ..
هنا ثار جنون وشهية الحيوان المفترس ببدنه ، انقض عليها كما تنقض الذئاب على فرائسها ، شل حركتها كي يظفر بها بين ذراعيه ، دفعته بكل قوتها محاولة النجاة من مخالبه العدوانية ولكن بدون جدوى ، بات الأمر اشبه بقطة في قفص النمر الذي لا يرحم ، لا تنقذها خربشتها ولا تمردها ، رمى جسدها الهازل في منتصف مخدعه فانخلع شالها من شدة المقاومة ..
في تلك اللحظة خلع فيها منامته الحريرية كي يظفر بضحيته ، تحول قلبها لمصفاة من كثرة الندوب ظلت تتراقب واقعها السحيق بذهول ، حتى هبت شظايا قوتها والقت بها بعيدًا عن تلك المرتبة المكون من لهب لأحزانها ، ركضت محتمية بأحد الأركان وهي تصرخ بوجهه بنبرة نزفت فيها روحها إثر طعنات الأسى :
-أنت مش بني آدم ، بقول لك سيبني ! انت عايز مني ايه !
-ولو مفكرة أني هسكت واسيبك لجوزك ده تبقي بتحلمي ، دانا اقتله واقتلك ولا اسيبكم تتهنوا ببعض !
كان يهب مع كل ريح كلماته الفوضوية ، اقترب منها كاسرًا قانون المسافات وأكمل هذيان :
-يا ترى غيرتي اسمك ليه ! ولا عشان تضحكي على جوزك وتأكليه الأونطة ! يا ترى قولتي له ايه عشان يتجوزك !
كانت كلماته الأخيرة يرد صداها بملامح وجهها لقُربه منها ، دفن أنفاسه في جدار عُنقها لاهثًا لقربها متجاهلًا صرخاتها وتأوهاتها وتملصها منه ، صرخت صرخة استغاثة وهى تمد يدها وتبث بعيون مُرتعدة لتتناول أي شيء يُنقذها من طوق أنفاسه الخانقة ، ما أن امسكت يدها بالمطفأة الزجاجية لتنزل على رأسه بقوة جعلته يبتعد عنها متمسكًا برأسه وهو يشتمها علنًا ، أخذت انفاسها بصعوبة شديدة وهى تستند على كل ما يجاورها وتتمسح بالجدران حتى وصلت إلى باب قفصه اللعبن وتحررت العصفور من أسر نواياه الشريرة .
ثم تعود مرة آخرى إلى تلك الشهقات الطويلة ، مُتأرجحًا على حبال الموت والحياة ، شهقة تعيدك لثوب الحياة وآخرى تعيدك للكفن ، ذبول ثم استيقاظ ، شرعت أزاميل الذاكرة أن تتأكل برأسها وهي تركض وتركض ولا تعلم إلى أين المصير !
في نهاية الممر الذي سلكته على الزجاج المُهشم من روحها ، حانت منها التفاته للخلف تتأكد من عدم اتباعه لها وما لبثت أن تسترد استقامته ارتطمت بسور حمايتها ، شهقة الولادة اندلعت من ثغرها وتعلقت عيونها المستغيثة بأهدابه التي خيمت فوقها بالأمان ، تشبثت بمعصميه وما أن حست روحها بالأمان ، فرت مش جسدها المشحون بالقلق وسقطت بين يديها فاقدة للوعي .
وخز قلبه بأشواك الفقد مرة أخرى فـ جثى على ركبتيه مناديًا باسمها :
-حياة !
تنفقد نبضها بلهفة فلم يتحمل المزيد بل حملها بين ذراعيها عائدًت إلى غُرفته بسرعة مهولة كأن هناك حنان ما يستكين بين ثنايا تمرده !
••••••••
خرجت سارة تجر ذيول خيبتها من بوابة الفندق العملاقة الذي حُفر أعلاها اسم دويدار وهي تنتوي شرًا عن تلك الطريقة التي رفضها بها عاصي ، خاصة بعد ما تذكرت تلك الفتاة التي كانت تُرافقه عند الميناء ويطوقها بحنو ، صعدت سيارتها وهي تحترق في بركان الغيرة والغضب ثم زفرت بـ غلٍ:
-طيب أنا هوريك يا عاصي بيه !
فتحت هاتفها وبحثت عن رقم فريد الذي رد مُتلهفًا :
-كُنت متأكد إني مش ههون عليكِ !
تأففت بضيق ثم فجرت قنبلتها :
-أنا لقيت اللي بتدور عليه ، لازم نتقابل .
حاول أن يستفهم منها ما تُشير إليه ولكن ختمت حوارها بحزم :
-لما اشوفك هتعرف ….
••••••••••
” صباحًا ”
تتشابه أيامه بالحسرة على ما كانت عليه ! نفس الحدث يتكرر أمامه بصورة أقسى من قبل ، يقف حائرًا يُطالع فراشته التي تتوسد مخدعه ورأسها المحاطة بلفافة شعرها الأشبه بشعر الجنيات ، أ هل تلك العتمة التي تحاصرها ظُلمة ماضيها أم ظُملتها التي تجعلها أكثر جمالًا!
عن رائحتها التي شدته من ياقته رغم عنه وأصبح مدمنًا لها يفتش عنها في جميع النساء ولكن سرعان ما تُبيتُ محاولاته بالفشل ، يقال بأن لكل إمراة سحرٌ خاص بها ينجذب إليه الرجل ، وهذه الحورية تكمن تعويذة سحرها في رائحتها الفريدة التي جعلته ينفر من جميع النساء ولا يشتهي غيرها ! رائحتها كافية أن تُحسن المزاج الكدر !
تفقد شاشة هاتفه التي لم تُفارقه طيلة الليل وهو يُكرر في اسمها كأنه يعزف على بيانو ضربات قلبه ، السجل الكامل عن هويتها ومهاراتها وعائلتها كل شيء عنها بات تحت يده ولكن صدح صوت الملكية بداخله بإعلانه عن امتلاكها وأنها هدية البحر له عن كل شكواه التي احتضنها الموج .. قفل الشاشة بفتور وفارق مقعده عندما لاحظ هذيانها وأنين أوجاعها المدفونة … ربت على كفها ليُطمئنها :
-متخافيش !
لقطات عابرة من تلاطم موج البحر وغضبه عما يحدث بحوريته وابنته المُدللة وهي تستغيث ، تستنجد بمن يلحقها من شرور وأنانية البشر ، من غدر من اتخذته حبيبًا واليوم قرر ذبح حمامته البريئة كي لا تُحلق بدونه ، كي يضمن وجودها بنفس المكان تنتظره ،هاج البحر بـ أصوات صاخبة وكأنه يصرخ معها معترضًا عن تلك المذبحة القاسية ، وشاركته السماء في غروب شمسها هربًا من قسوة المشهد وتساقط عبراتها حزنًا ، وصرة صوت الرعد الذي ثار ببوق الفزع مُعلنًا اغتيال قلب آمن بالحُب ولم يجن من حبه إلا دماء عذريته ..
تلهج بكلمات استغاثة غير مفهومة وتتصبب قطرات العرق من معالمها الحزينة حتى فزعت صرخة مُحتمية بصدره الأمن داخنة وجهها به مختبية من قسوة العالم وهي تلهث بصراخات مكتومة حركت كل ساكن بقلبه !
طفق يقول وكأن يهذى بالكلمات وهو يمسح على شعرها :
-متخافيش أنا موجود مش هسيبك احكي لي !! طيب خلاص متحكيش اهدي ، اهدي لو سمحتي كدا هتدخلي في نوبة عصبية .
ظلت محتمية بصدره لمدة طويلة حتى غلبها المُهدئ وارتخت قبضتها على سترته وباتت تتراجع للوراء تدريجيًا ، أحس بابتعادها عنه ، فـ سند ظهرها برفق كي تستريح وتهدأ ..
في تلك الاثناء رن هاتفه ، فركض بعجلٍ :
-أيوه يا يسري ! شوفت الكاميرات !
طأطأ يسري بخزى وأجاب بنبرة آسفة :
-شوفتهم يا فندم ، وحياة هانم في الوقت ده كانت طالعه تجري من أوضة قاسم صفوان !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى