روايات

رواية غوثهم الفصل السابع والخمسون 57 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والخمسون 57 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والخمسون

رواية غوثهم البارت السابع والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السابعة والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
من لي سواك إله الخلق يهديني
وفي طريق الهدى والنور يبقيني
يا واهب العفو هب لي منك مغفرة
إلى جنابك يا رباه تدنيني
الذنب عندي يا رباه يقتلني
والعفو عندك يا رباه يحييني
يامن يجود ولا تفني خزائنه
إني سألتك إحسانا لتعطيني
_”يوسف البتهيمي”
__________________________________
ربما سبقَ وأخبرتكَ بها لكن دعيني
أُلقيها عليكِ، واتركيني أُكررها من جديد،
وأتركِ لي سمعكِ وأرهفيه، ليصلك حديث قلبي حين يقول:
“حين صفيتُ من بين الجميع أنتِ من اصطفيت”
فمن بين سائر البشر وقع الإختيار عليكِ وقادتنا كل الطُرق إليكِ، أو لربما أتينا حيث ما انتشلنا من غُربتنا سوىٰ عينيكِ، فيا صاحبة القلب الكريم مُدي يدكِ وآوي القلب الغريب،
الغريب الذي قصد من بين كل الطُرقِ ديارك،
غُريبٌ حتى نفسهِ أراد البقاء جوارك،
فأعذريني حين أغيب، ولو كان الأمر بيدي ما أردتُ يومًا أن أغيب، واعلمي أن صفحات الغياب لم تذكر سوى غربة الأحباب، والغُربة في نفس المرء كُربة، لكني وبكل يقين أعلم أنكِ لقلبي كما الخليل وأنا من غيركِ وحيد بدون كل خِلاني، وبكل ودٍ أطلب منكِ كما طلب الإمام الشافعي من خليله قائلًا:
“لا تغفل عني فأني مكروب”
فلا تغفلي عني وقلبي من ألم غربته مغلوب.
<“الغريب النائي في أرضكَ أقرب من كل قريب”>
مرت عدة ساعات شارف فيها الفجر على البزوغ وقد وصلت رسالة عبر هاتف “نَـعيم” من رقمٍ مجهولٍ محواها يطلب منه التوجه إلى اسطبل الخيول الخاص بهِ، وحينها توجه إلى هناك فورًا لكي يستعلم عن سبب الطلب الذي جلبه إلى هُنا، وصل ووجد أحدهم يوليه ظهره فتحدث بجمودٍ:
_ها يا أخ !! خير؟.
التفت صاحب الرسالةِ له يحدثه بثباتٍ غريب لم يتوقعه الأخر وكأنه تفنن في زيارته ليلًا ليسرق النوم منه:
_معاك “مُـنذر الموجي” ابن عم “إيـهاب” و “إسماعيل”، أنا اللي بساعد “ماكسيم” وأنا اللي ضربت نار على “إسماعيل” وأنا اللي هيساعدك تلاقي ابنك أو ترجع حق ابنك.
ها هي قُنبلة جديدة تُلقى عليه تُزعزع ثباته المتبقي _إن كان موجودًا من الأساسِ_ وتسرق راحته وتوضع أسئلة جديدة بداخل رأسهِ ليشبه عقله من بعدها المجذوبين الذي سُرِقَ منهم عقلهم، لوهلةٍ تبدلت تعابيره وكأنه سُرِقَ من نفسهِ حتى، فيما أقترب منه الأخر يقول بنفس الثبات:
_صدقني أنا كل غرضي أساعدك، مش عاوز أي حاجة تانية غير دي، بس عاوزك تكون واثق فيا.
ابتسم “نَـعيم” بسخريةٍ وهتف مُستهترًا به:
_طب وأنا إيه اللي يخليني أصدقك ؟؟ وإيه اللي يخليني أحط أيدي في إيدك، ما يمكن أنتَ عاوز الضرر ليا ويمكن تكون مبعوت زي ١٠٠ واحد قبلك، وكلهم كان غرضهم النصب والنهب، شوف يابني لو أنتَ جاي تلعب بيا وتستغل الأمور أو حتى حد مسلطك عليا، فأنا خلاص فوضت أمري لله ومبقيتش عاوز حاجة من الدنيا، ولو على حق ابني ليا رب كريم هيجيبه.
ابتسم “مُـنذر” بسخريةٍ حينما استشف كذبه حتى على نفسهِ وهتف بهدوءٍ ردًا عليهِ يُنفي حتى صدق الحديث لذاته قبله هو:
_واللي أنا أعرفه عنك إنك زي الخيول عنيد وقوي متقبلش بقلة حيلة ولا ترضى بضعف، يعني متأكد إنك مش صادق حتى مع نفسك، بس أنا واثق إنك بمجرد ما امشي من هنا أنتَ هتقلب الدنيا ورايا علشان تعرف عني كل حاجة، ومش هتوصل لحاجة، وقصاد كل دا أنا هربط الخيوط في بعض لحدما أوصل لحق ابنك، واعتبره رد جميل على تربيتك لولاد عمي.
استقر “نَـعيم” بعينيهِ على “مُـنذر” يتابع الشبه الذي وجده بين هذا الشاب وبين أقُربائهِ، يشبهون بعضهم كثيرًا نفس الملامح الحادة التي بها الشموخ وعزة النفسِ، ومعها لمحة انكسارٍ، ابتسم له بسخريةٍ وهتف ردًا عليهِ:
_طلعت أصيل يا “مُـنذر” مصدقتش “إيـهاب” لما حكالي عنك، بس شوفت بعيني إنك زيهم، علشان كدا هات اللي عندك.
تلك المرة قام هو برمي القُنبلة على الأخر الذي اشتددت ملامحه وسأله باستنكارٍ بالغٍ لكنه يتناسب مع قدر صدمتهِ:
_هو أنتَ عارفني؟.
هز رأسه مومئًا له بحركةٍ بسيطة وأضاف بدهاءٍ:
_عاوز واحد في بيتي يتضرب عليه نار من غير ما أعرف مين عملها؟ في نفس اليوم كان عندي كل المعلومات عنك وعرفت أنتَ مين وأول ما جيت هنا تهددنا أنا اتأكدت من عيون “إيـهاب” اللي مقدرتش تقسى عليك ولا من عيونك اللي مغابتش عن “إسـماعيل”، وزي ما قولت أنا خيل لا بقبل بقلة حيلة ولا برضى بالضعف، ها نبدأ من الأول ؟.
تعجب “مُـنذر” منه ومن تبدل أحوالهِ لكنه قال بنبرةٍ هادئة يحاول بها إخفاء لمحة الحزن الظاهرة في عينيه ونبرة صوتهِ:
_على العموم أنا جيت أعرفك إن”ماكسيم” عارف مين عمل كدا في ابنك، بس هو ميعرفش باقي التفاصيل وكلنا مستنيين واحد بس هو اللي عارف كل حاجة، علشان بنسبة كبيرة ابنك ممكن يكون متقاتلش أصلًا، وممكن يكون اتخطف زيي واتباع ليهم برة، فيه مليون احتمال كلهم واردين مع ناس زي دي، علشان كدا أنا جيت أقولك إني هساعدك، بس مقابل دا تحمي “إسـماعيل”.
اهتز ثبات “نَـعيم” لوهلةٍ بعد حديث الأخر عن ابنه وهو يستمع لكل التحليلات الواردة وللأسف حاوطتها جميعها المساويء مما جعل الدمع يترقرق بعينيهِ، تخيل صغيره وهو يتعذب على أيديهم جميعًا، ولدَ عزيزًا في بيتهِ وأصبح ذليلًا في عالمهم، هذا وإن كان على قيد الحياة من الأساس، وقد انتبه له “مُـنذر” فاقترب منه يسأله باهتمامٍ:
_قولي تعرف إيه عن اللي حصل لابنك؟ وصدقني أي حاجة هعرفها أنا هستغلها صح، أنا اللي يهمني إنك ترجع حق ابنك سواء كان حي أو ميت، إحنا منعرفش هو مين وفين، أنتَ تعرف إيه؟.
تحشرج صوت “نَـعيم” وهو يجاوبه بقولهِ:
_اللي أعرفه إنه اتخطف من أوضته على أيد عمه، اللي كان بيحرس البيت ساعتها شافه خارج بيه ومداش خوانة ساعتها، ماهو عمه هيعمل فيه إيه يعني ؟ وساعتها غيبته طالت وخدت وقت لحد ما عرفت إنه هرب بيه، قولت يمكن خده علشان عاوز فلوس زي كل مرة وفاكرني هرفض، والله العظيم لو كان طلب عيوني بعدها أنا كنت سلمتهاله، بس كان سابلي الغالي.
تألم قلبهُ كثيرًا عند جملتهِ الأخيرة، لم يتوقع أن تسير به الأيام وتصبح حياته محط أنظار الجميع، ولم تكن نظرات الاهتمام لكنها نظرات الشفقة، النظرات التي تُرثي حاله، أما الآن فطفق الأمل يعود له من جديد ريثما يتم التوصل إلى حق ابنه المفقود، وقد قرأ الأخر النظرات الموجوعة في عينيهِ حتى اقترب أكثر ينطق بصدقٍ:
_الوجع اللي أنتَ شوفته أنا عيشته، حياتي كلها ضاعت علشان الفلوس وحياة أخواتي معايا، بس أنا بقى مكانش عندي الحج “نَـعيم” يقف معايا، أنا مكانش عندي حد، ونفسي ألاقي ليا حد.
تلقائيًا ظهرت العبرات في عينيهِ من فرط الألم الذي اعتصر مضخة قلبه ليتغير دورها بدلًا من تدفيق الدماء إلى سائر جسدهِ لتصبح تنزف ألمًا على هيئة النبضات، تغرب وتشتت ووقع في الآثامِ والذنوب حتى أصبح ينتظر فقط ذراعي يقوما بضمهِ، أقترب “نَـعيم” المسافة الفاصلة بينهما ورفع كفيه يضعهما على كتفي الأخر وكأنه يرى فيه ابنه، يرى فيه الحاجة التي ينتظرها ابنه من البقية إن كان مثله، ومع رجفة جسد الأخر وصله صوت “نَـعيم” يهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_وأنا بيتي مفتوح ليك في أي وقت، أنا في ضهرك ومعاك، وزي ما حافظت على أخواتك هحافظ عليك، بس ترجع تاني، وتقولي إيه اللي ممكن يكون حصل لابني، ممكن يكون عايش ؟ ممكن يكون أخويا خاف يعملها صح؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بقلة حيلة دون أن يخبره بالحقيقة حتى لا يُعطيه أملًا زائفًا في التشبث بتواجد ابنه حيًا على قيد الحياة:
_يمكن يكون خاف يعملها، بس وعد لما الراجل اللي “ماكسيم” مستنيه يظهر ساعتها كل حاجة هتبان، وكلنا هنعرف حق ابنك فين وعند مين، وأنا هرجع الحق ليك لحد هنا، أنا جيت أقابلك علشان أتطمن إنك واثق فيا، ماكنتش أعرف إنك عارفني.
ابتسم له “نَـعيم” من بين ملامحه الحزينة ورد عليه بنبرةٍ ضاحكة يقول:
_عاوزني أنا عمدة السمان حد يقعد في أرضي من غير ما أعرف هو مين؟ عاوزك بس تخلي بالك من نفسك علشان لما كل حاجة تخلص تيجي تقعد مع أخواتك هنا، بس لما الحقوق ترجع لأصحابها.
ودعه “مُـنذر” بعناقٍ قوي يقتبس منه الأمان ويستشف منه الطمأنينة ليدخلها قلبه الخائف، فالقادم لم يكن يسيرًا البتة، بل من المؤكد أن هناك بركان حينما يُثار من أرضهِ ستقوم قيامة المعظم منهم سواء كان على حقٍ أو كان باطلًا، الأمور بأكملها لازالت منفردة ولم تتصل ببعضها ووحده من يملك روابط الخيوط ترك كل شيءٍ وعاش بمفرده متنعمًا في حقوق غيره، وقف “نَـعيم” ينظر في أثر رحيل الأخر بعينين ترقرق بهما الدمعِ على حال الدنيا الغريبة.
أبٌ مثله يستعد لدفع عمره كاملًا حتى تتنسى له فرصة رؤية ابنه حيًا كان أو ميتًا، وآخر غيره يبيع صغاره لمن يلعبون بهم كما عرائس الماريونت على أصابعهم يشكلون حياتهم كما يشائون، لو كان الأمر بيدهِ لكان أخذ كل الصغار في عناقهِ يحميهم من هؤلاء الذين تجلت معاني الرحمة من أحجارٍ تُسمىٰ قلوبهم.
__________________________________
<“غَربت الشمس، ليظهر ضوء القمر”>
لم تنم، لم تغفل، لم يترك عقلها وكأنه يتعمد أن يزور موضعها ليظهر في عينيها ويخبرها بكل هدوءٍ:
“أنا هُنا”، أين الثبات وأين قلبها الجامد عن الحراكِ وأين كل ما فكرت به تجاهها في باديء هذه العلاقة، الآن تفكر به بل الأدهى تود التحدث معه !! هربت من فراشها تلك المرة بسببه هو وليس بسبب كوابيسها المزعجة، وقامت بخطف حجاب رأسها تضعه وقررت أن تُشاهد شروق الشمس في لحظاته الأولى.
صعدت تُشاهد صعود الشمس وظهور خيوطها الأولية اللامعة بصورةٍ ذهبية لتجده جالسًا على الأريكة، وهنا تدفقت الدماء إلى رأسها ووقفت بتيهٍ، هل تقترب منه وتجاوره، أم تنزل من جديد تهرب منه؟ لما الهرب من الأساس إذا كانت الحجة هي رؤيته؟ لذا كادت أن تعود للخلف بعدما استغلت أنه يوليها ظهره، ليوقفها دون أن يلتفت لها قائلًا:
_تعالي يا “عـسولة” رايحة فين.
ضمت شفتيها على بعضهما بخجلٍ فيما حرك رأسه له يطالعها بعينيه المُبتسمتين حتى أقتربت منه وهي تحاول رسم البسمة على ملامحها مما جعله ينطق بسخريةٍ:
_ما إحنا كنا مشينا حلو وبقالنا كام يوم زي السمن على العسل، حصل إيه بقى؟ هنرجع تاني لورا ؟؟.
حركت رأسها نفيًا وجلست بجواره تقول بصوتٍ مهتزٍ:
_لأ ليه يعني، أنا أهو وهقعد معاك كمان.
هز رأسه مومئًا من جديد ثم سألها بنبرةٍ هادئة اقتبسها من نسمات الهواء الباردة والصباحات الناعمة التي دومًا تُجدد شغف المرء واتضح ذلك حين هتف:
_أحسن برضه إنك تقعدي معايا، ماهو مفيش طير بيفضل من غير جناحين، مش كدا برضه يا “عـهد”.
أشار بحديثهِ الخبيث إلى جملتها التي كتبتها على حسابها الشخصي في تطبيق “تـويـتر” فيما ظهر الخجل عليها وخاصةً وهو يطالعها مبتسم الوجه والعينين، حتى حركت رأسها للجهةِ الأخرى تهرب منه فهي لازالت غاضبة منه، هرب من رفقتها وحتى الآن لم تعرف أين كان، بينما هو سألها بنبرةٍ هادئة:
_مقولتليش إيه رأيك في الفستان؟.
انتبهت له من جديد وهتفت بتوترٍ تشكره بعدما تذكرت:
_حلو، ذوقك حلو أوي، شكرًا.
وافقها في الحديث وأيده بقولهِ:
_طبعًا ذوقي حلو، ما أنا مختارك أنتِ.
ضحكت رغمًا عنها وأخفت وجهها عنه ليقول هو بنبرةٍ ضاحكة حينما حرك رأسه للأمام يسير مع حركة رأسها:
_طب ما إحنا حلوين أهو.
عادت له من جديد بنظراتها تسأله بضحكةٍ مكتومة:
_نعم !! عاوز إيه ؟ وعلى فكرة أنا متعصبة منك، كنت فين بقالك كام يوم؟ على الأقل لو إحنا أصحاب من غير أي حاجة تانية، عرفني، مش تغيب عني كأنك غريب كدا.
قرأ هو انفعالات ملامحها بسبب غيابه، لذا ابتسم لها حينما تأكد أن أمره يهمها وأكدته له “قـمر” حينما كانت تخبره عن سؤالها الغير مباشر عنه وعن وقوفها في الشرفة تراقب عودته ثم تخلد للنوم عند تأكدها من عودته سالمًا، لذا قال بثباتٍ:
_بما إن النهاردة الجمعة وأجازة ليكِ، النهاردة أنتِ هتيجي معايا تعرفي أنا كنت فين، اليوم كله هتقضيه معايا، ومن غير رفض، علشان أنا مش بطلب منك، أنا بعرفك بس.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ فوجدته يحرك رأسه من جديد وقال بنبرةٍ هادئة:
_هتيجي على فكرة، علشان تعرفي ليه أنتِ شبه الفستان لونك بني.
استطاع بكلماته أن يأسر تفكيرها مما جعلها تسأله بعينيها وحينما طال انتظارها سألته بلسانها عن مقصد حديثه ليصلها الجواب بصراحةٍ تعهدها منه دون أن يزيفها أو حتى يحاول إخفاء أثرها:
_أي إنسان في الدنيا دي عبارة عن لونين مع بعض، لون حلو بيمثل الطفل اللي جواه ولون تاني بيمثل الشخص الكبير اللي الحياة داست عليه، أنتِ لونين مع بعض حلوين، اللون البني الدافي شبه كل حاجة دافية، واللون الأخضر زي الزرع، اللونين دول مع بعض، لو اجتمعوا بيريحوا الأعصاب، أنتِ بقى بني وأخضر.
ابتسمت له بعينيها، احتوته بنظراتها فيما ترك مع مكانه ثم قال مؤكدًا عليها بنبرةٍ ثابتة بعدما استطاع الهرب من أمامها بسلطتها عليهِ:
_النهاردة بعد صلاة العصر أنا هستناكِ، وهتيجي.
ترك المكان لها فيما جلست هي برفقة قلبها الثائر بصخبٍ، هذا اللذي يفعل الأفاعيل في قلبها، اليوم ستذهب معه، ستستلم لصوت قلبها الذي يُخبرها بالإنصات له، تُـرى ما الذي يخفيه هذا الغريب عنها حتى يهرب منها بهذه الطريقة وكأنه يَقوم بتجهيز كارثةٍ ما.
__________________________________
<“ضيفٌ جديد يزور البيت، أضحى يملك قلب البيت”>
ظهرت الشمس من جديد بنورٍ ساطعٍ أزال عتمة كل ليلٍ، حتى العتمة التي كانت تعيش هي بها طوال حياتها، جلست على الأريكة أمام الفراش تضم رُكبتيها معًا وتطوقهما بزراعيها كأنها تحمي نفسها من شيءٍ هواجسه أكبر من قدرتها على تصديه، لم تنكر طمأنينتها حينما وقف “أيـهم” يُقيم الصلاة ويأم بها وهي خلفه كأنها تختبر هذا الشعور لمرتها الأولىٰ، وقفت تستمع لصوته وهو يتلو آيات القرآن الكريم وكأنه يُصدق عهده الذي قطعه أمام الخالق في الحفاظ عليها.
في المرة السابقة أيضًا قطع زوجها السابق عهدًا أمام الجميع أن يحميها ويحافظ عليها وكانت حينها مثل الفراشة التي تحلق فوق موطن الزهور، وحينها قام هو بكسر جناحي هذه الفراشة حينما بدأت الخلافات الزوجية بينهما تتفاقم عن الحد المعقول ثم بدأت طباعه الحادة في الظهور والإعلان عن نفسها، نزلت دموعها حينما تذكرت ماضيها معه الذي حضر لمستقبلها يُدمره بعدما دمرها ذات نفسها.
[منذ عدة أعوامٍ]
ارتفع صوته بنبرةٍ عالية يوبخها بعدما تقاعست عن خدمة أفراد عائلته وشقيقته التي أتت من بيت عائلة زوجها وحينها رفعت صوتها هي الأخرى ترد عليه بقولها مندفعة:
_أنا مقولتش من هنزل، أنزل واقعد معاهم وأساعد كمان عيني للكل، إنما أخدم على الكل لوحدي والاسم أني مرات ابن البيه ابن البيت وباخدم على الكُل، بعدين أختك مالها ومالي معايا عيال ولا لأ؟ وفاضية ولا لأ؟ أنا مقصرتش مع حد وفتحت بيتي ليهم كلهم، إنما إنهم يجبروني على حاجة أنا مش خدامة هنا، ومش نازلة تاني.
أقترب منها يسحبها من ذراعها وهو يقول بنبرةٍ جامدة بعدما تفاقم غضبها منها بسبب كبريائها:
_أنتِ هتعلي صوتك عليا يا بنت ***** عاوزاهم يقولوا مراته مشياه؟؟ غصب عنك هتنزلي ورجلك فوق رقبتك، طالما ياختي لا وراكي عيل ولا عندك حاجة تعمليها، وزي قِلتك، يبقى تغوري على تحت تشوفي المفروض تعملي إيه.
سحبت زراعها من يده وقامت بدفعهِ في منكبيهِ وهي تقول بأنفاسٍ متقطعة بعدما جرحها بسكين كلماته:
_ولما أنتَ راجل أوي كدا أمك اللي مشياك ليه؟ ها !! ماشي تسمع كلامها في كل حاجة ليه؟؟ قولت هنزل بس مش هعمل حاجة غصب عني، أختك جاية من بيت جوزها تطلع عمايلهم فيا أنا ؟؟.
حينها لم يرد عليها بالكلام بل قام بصفعها على وجهها وقام بجرها من شعرها وهو يَسُبها بأصعب الكلمات المُشينة بألفاظٍ خارجة تُهين كرامتها، ومنها ألقاها في الغرفةِ ليقوم بأصعب ما تتعرض له المرأة وهي جريمة الاعتداء عليها، كانت ضعيفة في الدفاع عن نفسها وهو يضربها ليفعل ما يشاء دون أن يهتم بهذه الضعيفة التي تحاول رفع صوتها للإستغاثة من بين براثن هذا الذئب الذي تفنن في صيدها.
[عودة إلى هذه اللحظة]
_”نِـهال” يا “نِـهال”.
كان هذا الصوت هو النجدة التي أخرجتها من شرودها في ماضيها المؤلم وقد انتبهت لصوت “أيـهم” الذي جلس بجوارها على الأريكة يُنادي عليها بنبرةٍ دافئة جعلتها تحرك عينيها الدامعتين نحوه تطالعه بخوفٍ حتى أقترب هو أكثر يسألها باهتمامٍ:
_مالك بس ؟؟ أنتِ ليه زعلانة كأني خاطفك كدا؟ دا لو حد طلع شاف منظرك دا هيفتفكرك مغصوبة على الجوازة، وفعلًا إحنا غاصبينك بس ليه يعني نعرف الناس.
ابتسمت رغمًا عنها من جديد فوجدته يمسك كفها مُربتًا عليه ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول بث الطمأنينة داخل قلبها:
_وحدي الله وصلي على النبي كدا، دي هلاوس ملهاش أي لازمة، محدش هنا يقدر يزعلك ولا حد هيضايقك، بيتنا طول عمره بيت كرم وناسه طيبين، واسألي كل اللي دخلوه هنا ضيوف، وأظن يعني أنتِ مش ضيفة، دخلتي هنا غريبة بقيتي صاحبة البيت، ولسه لما تاخدي علينا هتلاقينا عيلة مهوية مش زي ما باين علينا كدا، لو فيه حاجة قوليها ليا وأنا والله هقف في ضهرك ومستحيل أزعلك.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بصدقٍ بعدما انصتت له:
_أوعدك، أول ما أقدر أتكلم هقولك، أنا من الأول مرتاحة ليك، وحاسة أني شايفة فيك خير وأتمنى والله إني مزعلكش مني، وآسفة على اللي حصل امبارح بس…
اسكتها حينما ربت على كفها وقال بنبرةٍ رخيمة:
_بلاش تزعلي نفسك، يلا علشان ننزل نفطر معاهم تحت علشان هما مش هيطلعوا هنا، يلا ولا مش عاوزة تنزلي؟.
حركت رأسها سلبًا عدة مراتٍ تنفي جملته الأخيرة ليبتسم هو لها ثم هتف يطلب منها بهدوءٍ:
_طب يلا قومي علشان منتأخرش أكتر من كدا، وبصراحة “إيـاد” زمانه خلاهم يشدوا في شعرهم، يلا ولا مش عاوزة تفطري مع “إيـاد” بقى ؟.
بعد مرور دقائق أرتدت “نِـهال” عباءة فضفاضة من ملابس الاستقبال التي جلبها لها زوجها وقامت بتغطية رأسها ونزلت معه من شقتها بخوفٍ وخجلٍ وعدة مشاعر جعلتها تود الهرب من هنا والركض من جديد لشقتها تختفي بداخلها، الآن هي بصدد مواجهةٍ صعبة على نفسها حتى وجدته يمسك كفها ثم تولى مهمة النزول بها وهو يقودها إليهم.
انتفضت “آيـات” من محلها تلقائيًا بحماسٍ عند رؤيتها لهما سويًا وقد لفتت حركتها أنظار البقية وخاصةً “إيـاد” الذي ابتسم باتساعٍ عند رؤيتها تجاور والده، فيما تحدثت “آيـات” تُرحب لهما وتبارك بقولها:
_اللهم بارك إيه الصباح السكر دا، البيت منور بوجودك والله.
ابتسمت “نِـهال” لها بحبٍ بالغٍ وقالت بنفس المحبة التي أرسلتها لها الأخرى عبر كلماتها:
_البيت منور بأهله دايمًا، ربنا يحفظ أهله.
رد عليها “عبدالقادر” يزيل الرسمية من حديثهما بقولهِ:
_وأنتِ أهله برضه يا بنتي، اقعدي بقى الفول برد، نورتي بيتك، ونورتي فطارنا، افتحي نفسنا على الأكل بقى.
حركت رأسها موافقةً وجلست بجوار “أيـهم” الذي جاور والده وقابل “أيـوب” الذي ابتسم له حينما وجد الفرحة تعود لوجه شقيقه بمجرد حضورها معه، بينما “إيـاد” جلس يبتسم ببلاهةٍ ثم اندفع يسألها بغير تصديق:
_هو أنتِ هتفضلي معانا هنا علطول صح؟ يعني مش هتشمي تاني ولا أجي يوم ألاقيكي مش هنا ؟؟.
تثبتت الأنظار عليه بعد حديثه وكأنه يُطمئن نفسه أنها لن تفعل كما كانت تفعل والدته وتتركه بمفرده وترحل لبيت أهلها قرابة الأسبوع ثم تعود حينما يأت بها والده حتى سأم هذا الوضع وفقد الأمل في عيشةٍ هنية كغيرهِ من الصغار، لكن هي قرأت النظرات التي تراسلت من الجالسين وخاصةً الصغير الذي خشى مما تفوه بهِ حتى ابتسمت له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_همشي أروح فين بقى ؟ جدو أهو بيقول قدامك إن دا بيتي وأنا نورته، يعني أبعد مسافة همشيها من هنا هيبقى عند السطح فوق مثلًا، غير كدا لو مشيت هاخدك معايا، موافق؟.
وزع نظراته بينهم ثم سألها بحماسٍ من مجرد التخيل:
_بس نرجع هنا تاني؟ ماشي.
قلبت عينيها بتفكيرٍ ثم هتفت بحماسٍ يشبه حماس الصغير الذي بدا واضحًا عليه منذ رؤيته لها على نفس طاولة الطعام:
_ماشي، بس وعد لما نمشي محدش يفتن مننا علينا.
أومأ موافقًا ثم أشار على الطعام وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة يعرض عليها تناول الطعام:
_كلي بقى يلا.
راقب البقية حديثهما سويًا وقدرتها على التفاهم مع الصغير واستطاعتها في تبديل حالهِ، في الأغلب كانت والدته تنهره وتوبخه حينما يتدخل في شئون رحيلها من البيت وينتهي الحال بتركها للطعام وسخطها على الجميع، أما الآن فهو يبتسم ويتناول الطعام، ويتحدث معهم عن مغامرات تستمع هي لها بحماسٍ كبير، وهي تراه يقدم لها ما لم تسبق وتملكه ولا حتى سوف تملكه.
لاحظ “أيـوب” سعادة حديثه وكلماته فسأله بخبثٍ:
_طب بما إنك رايق وفايق كدا، أنا رايح شارع المعز النهاردة وهاخد معايا “قـمر” كمان، تيجي معانا بقى؟ بس هنروح نتفسح وناكل برة، ها ؟!.
كان يعلم الجواب مُسبقًا قبل الحصول عليهِ وأكده له ابن شقيقه حينما هتف بدون اكتراثٍ لحديثه:
_لأ خلاص بقى، أنا هقعد مع “نِـهال” هنا، روح أنتَ وخد معاك القمر بتاعك، ما كان من بدري يا عم.
ضحكوا على حديثهِ حتى سأله “أيـهم” باستنكارٍ لكلمته الأخيرة:
_يا عم !! بتقول لأخويا يا عم؟.
سخر منه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة ردًا عليهِ:
_فرقت يعني عمو أو عمي، خلاص كان من بدري يا عم عمي، مبسوط كدا يا حج “أيـهم” ؟ راضي عني.
ضحكوا على حديثه من جديد وخاصةً “نِـهال” التي تعجبت من مزاحهِ لأفراد عائلته حتى استغل “أيـهم” انشغال الجالسين مع ابنهِ ومال عليها يهمس بنبرةٍ خافتة قائلًا:
_طب والله واد جدع خلاكِ تضحكي أهو.
ضحكت له من جديد وهتفت ردًا عليه تقول:
_مش هو لوحده، البيت كله ناس تفرح أي قلب حزين، وأنتَ كمان على فكرة، دمه خفيف زيك.
رفع حاجبيهِ بتعجبٍ من حديثها فيما تصنعت هي الانشغال في الصحن الموضوع أمامها حتى أبتسم هو وأرسل قبلة هوائية لابنه الذي بادله بمثيلتها، أما “عبدالقادر” فوزع نظراته بين الثلاثة وتأكد أن ما فكر به بشأن كبيره وحفيده حقيقة لم يقوْ أحدهم على تكذيبها وهي حبهما لـ “نِـهال” التي رأى كلاهما بها ما يفتقده في حياتهِ.
__________________________________
<“نراكِ ونجدكِ من الجميع، وأنا وقلبي بعدها نضيع”>
لعلك تجد ما افتقده عند الآخرين، ومن بعدها تنتبه أنكَ كنت تفتقد هذا الشيء، ربما تجد عندهم الأنس وأنتَ تعتاد على الوحدة، وربما تجد الضحكات السعيدة في حين أن الحزن يُقارن طريقك دومًا، وربما تجد معهم روح الطفل الصغير الذي تركك وفَلَّ منكَ لتسكنك الشيبة قبل مرور عُمركَ، وربما !! ربما تجد كل هذه الأشياء في نفس المكان، الأنس والضحكات والروح السعيدة، وكما قيل في الراحات:
“حينما تُرشدك السُبل لمكانٍ تغفل عنه أنتَ،
أقم فيه موطنكَ، فلو لم يكن يخصك لما كنتُ إليهِ أتيتَ”
وقف “إسماعيل” بجوار خيلهِ الذي كان يتماشى مع حديثهِ وكلماتهِ وكأنه يفهم عليه ما يخبره به، ترك كل شيءٍ من بعد عودته من صلاة الجمعة وجلس بجوارهِ، ودَّ أن يبقى مع ونيسه.
على الجهةِ الأخرىٰ كان “إيـهاب” مع الطبيب البيطري الذي أتى للإشراف العام على صحة الخيول والاطمئنان على حالة الإناث منهم وخاصةً الحاملات، نظرًا لتبادل المواسم مع بعضها، كان يُملي عليهم الرعاية الصحية الواجبة في هذا الطقس الذي بدت البرودة تظهر عليهِ ليلًا، كل شيءٍ كان على ما يُرام منذ عودة “إيـهاب” الذي يُجيد الرعاية بهم حتى سأل الطبيب مستفسرًا باهتمامٍ:
_ها يا دكتور ؟ طمني فيهم حد تعبان؟.
حرك رأسه نفيًا ثم التفت له يخبره بثقةٍ:
_لأ إطلاقًا، دول زي الفل ربنا يبارك، بعدين عيب يا “عـمهم” تكون هنا وحد فيهم يتعب، شكلك كدا مدلعهم أوي ونفسيتهم مرتاحة أوي، أهم حاجة النضافة ليهم، وأنتَ ما شاء الله، عمرك ما قليت معاهم في النضافة.
ابتسم له “إيـهاب” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_بحبهم محبة ولادي اللي لسه مشوفتهمش والله، تخيل من وأنا ابن ١٤ سنة بروض خيول، عزوتي دول واللي يزعلهم أنا عندي استعداد اجيبه تحت رجلهم عادي.
ضحك الطبيب له ثم أغلق حقيبته وقال بنبرةٍ هادئة بعدما أمسك ورقة طبية دون بها اسم العقار الطبي تحسبًا للشتاء:
_دي حاجة زي فيتامينات، مش لحاجة مُعينة بس علشان البرد وعضمهم، المهم زي ما أنتَ ماشي كدا بنفس النظام ولو فيه حاجة كلمني، ياريت بس تخليهم في شمس الصبح شوية، بتفرق مع الخيول أوي.
هز رأسهِ مومئًا له وهو يبتسم بعدما أخذ منه الورقة الطبية ورحل الطبيب مع “مـيكي” الذي أرشده إلى الخارج فيما وقف “إيـهاب” في منتصف الممر الواسع وعلى طرفيهِ الخيول كلٌ منهم بداخل مكانه المخصص، كان المرر مُغلقًا من الأعلى بطبقة عازلة للحرارة تسمح بنفاذ الضوء وقد تدلت منها فروع الزرع الأخضر الذي يمتد على أطراف الأسلاك، ناهيك عن الورود الحمراء والبيضاء ومختلف الألوان، مكان كلما وقف المرء به يتمنى أن يمر العمر بأكملهِ عليهِ هُنا.
كانت الجدران من الخارج تحتوي على بعض الكلمات العربية القديمة بجوار صور الخيل المرسومة بحرافية شديدة تَنم عن أهل المكان، وكل جدارٍ منهم يحمل أما جمل في وصف الخيول وعِزَتِها، إما في وصف المحبوبة ومَحبَتِها، مر “إيـهاب” عليهم يطمئن بنفسهِ وكأنهم يرحبون به حينما أصدر كلٌ منهم صهيلًا يردون تحية مُدربهم الذي أقام موطنه بجوارهم هنا حينما تأكد أنهم أشباهه.
قررت “سـمارة” استغلال سكون “إسـماعيل” الذي أخذ خيله وقرر أن يتوجه إلى فناء البيت يقضيان وقتهما معًا، اقتربت منه تمسك في يدها صينية معدنية فوقها أكواب الشاي ومعه أطباق الكعك الذي انتهت هي من صنعه صباحًا لأهل البيت، وقد حدثته بنبرةٍ ضاحكة وهي تقول:
_صباح الخير يا “إسـماعيل” سيبك من “قـمر” مش هيتوه وتعالى دوق كدا عمايل أيديا يمكن تكون مش حلوة ولا حاجة.
كانت تشاجره بحديثُها حتى التفت لها يقول بنبرةٍ ودودة ينفي بها إيجاب حديثها بشأن ما تصنعه بيديها:
_يا شيخة عيبة في حقك دي، ما شاء الله من يومك أكلك بريمو، وبصراحة جت في وقتها، تسلم إيدك.
وضعت ما تمسكه في يديها على الطاولةِ ثم جلست وأتى هو يجلس مُقابلًا لها وأخذ كوبه حتى سألته هي باهتمامٍ تعاتبه:
_أنا زعلانة منك على فكرة، من إمتى بتخبي حاجة عني؟ يا أخويا دا كان مسلمك أمانة ليا علشان عارف إنك هتحافظ عليا، وعلطول أقول للناس ربنا رضاني بأب وأخوات وجوز كل دا وسطكم هنا، مالك بس ؟.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول إضفاء الطابع الهاديء على كلماته وهو يقول:
_ما أنا كويس أهو ياستي، بعدين ضغط الشغل الحوارات اللي دايرة بتاعة الآثار والصداع بتاع الزفت اللي اسمه “ماكسيم” دا، كل دا بصراحة مش وقته، لكن أنا كويس والله، متقلقيش عليا.
ضيقت جفونها تُشكك في مصداقية كلماته حتى أضاف هو مُكملًا بعدما ضحك بقلة حيلة يهرب بها منها ومن فضولها القاتل الذي تنطقه نظراتها:
_والله لو فيه حاجة هاجي أقولك علطول، أنتِ زي ما قولتي أختي يعني مش غريبة عني يا “سـمارة” عاوزك بس تبطلي تجيبلي عرايس وأنا والله هبقى زي الفل، شكلك جايب واحدة أصلًا عاوزاني أتعرف عليها.
ضحكت رغمًا عنها وردت عليهِ بسخطٍ:
_يا أخويا خلاص محدش بقى بيسمع كلامي، كلهم اترفضوا منك بعدما كنت بعشمهم واقولهم إنك طيب وعاوز واحدة بنت حلال وهوب بعد كدا ألاقيك بترفض ومش عاجبك العجب.
ترك الكوب وتقدم بجسدهِ للأمام قائلًا باندفاعٍ جليٍ:
_علشان مفيش فيهم واحدة بحس أني عاوزها، بصي يا رب تفهميني، بس المواضيع دي لو الإنسان متخاطفش فيها من نفسه يبقى مش هي دي الحاجة اللي هو عاوزها، بصي أنتِ كنا قدامك كام واحد مع بعض ؟؟ أنا و “يـوسف” و “سـراج” و “إيـهاب”، بس مين اللي أنتِ اختارتيه، مش “إيـهاب” ؟؟ اشمعنا هو؟.
حركت رأسها للجهةِ الأخرى موضع وقوفه وقالت بعينين لامعتين وهي تراه وسط الرجال يضحك وسطهم وكأنه يطمئن على أحوالهم كما يفعل في كل جمعةٍ ويُكافيء أحسنهم عملًا:
_علشان هو مفيش غيره، من أول ما نجدني من الشارع وأنا غريبة عنه ومش منه ومش من دمه وأنا حسيت إن هو دا اللي ينفع أكون معاه، ولما جيت هنا وسطكم ولقيته بيحاول على قد ما يقدر إنه يحميني ساعتها عرفت أنه ملوش زي، لو كل رجالة الدنيا اتجمعت في راجل واحد والله ما ييجوا حتى ضافر من صوابعه، أنا ماليش غيره والله كل حاجة، بالك أنتَ !! أنا لو بيدي أعيد اللي فات كنت هعيده كله وأفضل كل مرة عند اليوم اللي قابلته فيه أعيده من جديد علشان والله يا أخويا ما مهون على مُر اللي فات غير إني معاه في اللي جاي.
ابتسم لها بصدقٍ وأراد أن يُخبرها بما يشعر تجاه سارقته، تلك التي تسللت خلسةً تسرق منه ثباته ونومه وقلبه، مر عليه قُرابة شهرٍ يُتابعها ويتابع كل ما يصدر عنها من تحركاتٍ حتى فيديوهاتها برفقة اصدقاء العمل، انتبهت له “سـمارة” ونادت عليهِ لكي ينتبه لها فوجدته يتنفس الصعداء ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_أهو إحساسك دا أنا عاوزه من واحدة ليا أنا، عاوز أكون في عينها كل حاجة، متخافش مني ولا تحسني حد بيخنقها، أنا عاوز واحدة أكون أنا معاها على راحتي من غير ما أحس أني لازم أغير في نفسي حاجة، بس للأسف.
هتف آخر كلمتين بإحباطٍ كبير تمكن من حروفهِ مما جعلها تسأله بلهفةٍ قلقة خشيةً من أن يكون فعل أي شيءٍ يُضيعها من يديه:
_يلهوي !! آسف إيه بس؟.
أدرك مقصد كلماته فهتف مُعدلًا لذلك:
_أسف يعني علشان مش لاقيها لسه.
أتضح عليها عدم تصديقه وتكذيبه لذلك ابتسمت بسخريةٍ ثم أمسكت هاتفها الذي أرسل لها اشعارًا من شركة الإتصالات جعلها تشهق بحماسٍ تلقائيًا وهي تقول بنبرةٍ فرحة تصنعت بها التلقائية:
_والله البت “ضُـحى” دي فيها الخير بعتتلي صورنا امبارح من غير ما أطلب منها، هرد عليها الأول استنى يا أخويا معلش.
انتبه عند ذِكر اسمها لها وأرهف حواسه فيما تابعت هي ملامحه بنظراتٍ خبيثة تواري خلفها حقيقة حيلتها التي انطوت عليهِ بالفعل ثم أخرجت الصورة التي وصلتها _أساسًا قبل حيلتها من الأمسِ_ ووضعتها نصب عينيه تسأله بحماسٍ:
_حلوة الصورة؟ شوف كدا؟
أمسك منها الهاتف يطالع الصورة وقد ابتسم عند رؤيته لضحكتها المُشرقة وهي تمسك الهاتف والفتيات خلفها، تبدو كأنها كما اسمها تمامًا “ضُـحى”، ضحك حينما تذكر كيف سحبت زوجة شقيقه إليهن حتى تلتقط الصور هي الأخرى برفقتهن، قامت “سـمارة” بسحب الهاتف منه وهي تضحك له حتى توتر هو واتضح هذا عليه حينما قام بأخذ قطعة الكعك يتناولها، أما هي ابتسمت براحةٍ بعد وصولها لمبتغاها فسبحانه من قال في حقهن إن كيدهن عظيم.
__________________________________
<“لم تكن الأشياء الجميلة جميلة بقدر جمالك أنتِ”>
في شقة “غـالية” جلست تتابع ابنها الذي كان يُتمم على ثيابه الشبابية على عكس الرسمية التي يخرج بها لعملهِ أيًا كان من الإثنين وقد ابتسمت خاصةً حينما وقف يُصفف خصلاته بعنايةٍ وهو ينظر في المرآةِ، حتى أتت تلك المندفعة تدفعه بكتفها ثم وقفت تضبط حجاب رأسها في المرآةِ هي الأخرى لكي تنزل لزوجها الذي وقف ينتظرها في الأسفل.
ضحكت “غَـالية” رغمًا عنها وقالت بسخريةٍ:
_هصيع كدا بسببكم أنا يعني؟ هتاكلوا معايا ولا آكل مع أخويا بقى وخلاص ؟؟.
هتف الإثنان في آنٍ واحدٍ مع بعضهما:
_كلي مع أخوكِ.
ضحكت عليهما من جديد وقالت توبخهما بقولها:
_ماشي يا جوز جِزم، أخويا أولى بيا برضه، بس مش هكرر تاني تخلوا بالكم من نفسكم كل واحد فيكم رايح مكان وأنا والله مش هقدر أتحمل قلق غيابكم عني، وياريت تبقوا تطمنوا على بعض وتطمنوني معاكم، ماشي ؟.
حرك كلاهما رأسه موافقًا فيما تحركت هي نحو شقة أخيها الذي جلس برفقة زوجته يتابع التلفاز في يوم أجازته الوحيد، جلست معهما تستمع لأحاديث زوجته التي كانت تلح عليه يُقنع ابنته حتى سألتها باهتمامٍ:
_عاوزة إيه يا “أسماء” ؟ و”فـضل” ماله ومالها؟.
قالت الأخرى بقلة حيلة ريثما تصل مع هذه لحلٍ:
_يا “غَـالية” عاوزاه يقنعها تسيب الشغل بصراحة، مطلعين عينها وبتيجي حيلها مهدود، طب الأول وكان علشان جهازها وفلوس القسط وكانت بتساعد، دلوقتي الله يكرمه “يوسف” مش مخلي حد فينا عاوز حاجة، هتاخد على الشغل وتيجي تفتح بيت إزاي ؟ هتتعب، شغل البنات غُلب وتعب.
رد عليها زوجها بقلة حيلة قائلًا:
_لازم تنكدي عليا يعني؟ يا ستي هي مبسوطة هناك، أهيه بتخرج وتشوف ناس جديدة وتتكلم معاهم، قعدة البيت وحشة، وهي واخدة على الشغل مش هتعرف تقعد في البيت فجأة كدا، بعدين متنسيش إن “ضُـحى” كتومة يعني بتخرج طاقتها في الشغل، مش علشان الفلوس، سيبيها يا “أسـماء”، ولا أنتِ إيه رأيك يا “غَـالية”؟.
استشار شقيقته التي قالت توافقه الرأي بقولها:
_رأيي من رأيك، اللي هي عاوزاه يحصل أحسن، أُمال هي فين بقى ؟ مش المفروض النهاردة إجازة برضه عندها؟.
تحدثت “أسماء” بحنقٍ ردًا عليها:
_هو أنتِ بتتفقوا عليا ؟ على العموم هي خرجت مع صحابها قالت تروح تغير جو علشان فيه واحدة زميلتهم فرحها الأسبوع الجاي وعاوزين يودعوها، و “عُـدي” راح شركة جديدة يقدم فيها بدل اللي مرمطينه فيها دي.
نزلت “قـمر” أولًا من المصعد لتجده في انتظارها، وما إن ظهر “قـمره” ابتسم بسعادةٍ، كانت ترتدي جيبة سوداء بها نقوش بيضاء صغيرة وفوقها سترة قطنية بيضاء وفوق السترة البيضاء جاكيت من خامة الجينز باللون الثلجي والحجاب مزيج بين عدة ألوان تنوعت بين الأبيض والأسود وبينهما اللون البيج، بينما الحقيبة والحذاء باللون الأبيض، كانت ثيابها عصرية كما المنتشر في ثياب الآنسات وبين المحتشم الذي ينساب على جسدها يخفي تفاصيله.
سألته باهتمامٍ عن رأيهِ بها ليضحك لها وهو يقول بقلة حيلة أمام برائتها وعفوية طبعها وهي تسأله عن رأيهِ:
_أنا شايف قصادي حاجة عاوزة تدارى عن العيون أو تتشال جوة العيون، وفي كلتا الحالتين يعني ربنا يقوينا على الغواية.
تمسكت بذراعه وهي تقول بسعادةٍ بالغة من فكرة مشاركتها له في يومهِ وفي مكانه المفضل الذي تعلم تمام العلم أنه يحبه ويحب كل تفاصيله:
_طب يلا بسرعة علشان نلحق يومنا مع بعض.
خرج بها من البناية ثم فتح لها باب السيارة لتجلس بجوارهِ في المقاعد الأمامي، فيما جلس هو محل القيادة ثم قال بنبرةٍ هادئة يُذكرها:
_يلا دعاء الركوب، قوليه ورايا علشان الطريق يتيسر لينا، ربنا يكفينا شر الطُرق وغفلتها، ويرزقنا بخيرها، قولي ورايا وجددي نية التوكل على الله.
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ وهي تتعلم على يديهِ ما يتوجب عليها فعله، تعلم أن الطرقات بين وصولها له بعيدة إلى حدٍ ما لكنها لازالت تحاول لأجلهِ، ولازالت تسمع حديثه، تحفظ كل تفاصيله عن ظهر قلبٍ وتود معه قلب حياتها رأسًا على عقبٍ، أما هو فأراد أن يشاركها كل ما تعلمه ويعمله، يود أن تكون هي رفيقة الطريق للجنةِ، قبل أن تكون السكن في الدنيا، وقد ردد الدعاء وهي تكرره خلفه حينما قال:
_سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له بمقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، سبحان الله سبحان الله سبحان الله، والحمد لله، اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا فأغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنتَ.
كررته معه بهدوءٍ فيما أضاف هو من جديد مُتابعًا:
_دا دعاء ركوب أي مواصلات أي أسانسير أي آداة تنقل الإنسان، حتة حديدة طايرة في الهوا بينا، وربنا يديم ستره علينا وعلى طريقنا، جاهزة ؟؟.
تحرك بالسيارة من الحارةِ وبعد مرور دقائق نزلت “عَـهد” برفقة “يـوسف” الذي كان يراقب إضطرابها وخوفها منه ومن مشوارهما سويًا وقد ركب هو السيارة بعد جلوسها بداخلها، وقبل أن تسأل طمئنها هو بقولهِ:
_مش عاوزك تقلقي ووعد هترجعي فرحانة، واثقة فيا صح؟ قولي لأ كدا علشان أطلعك لأمك تاني؟؟.
قررت تعانده بقولها حتى ترى ما يمكن أن يفعله:
_طب لأ مش واثقة فيك، وريني هتعمل إيـه بقى ؟.
قام بتدوير محرك السيارة وحدثها بمراوغةٍ وهو يقول متراجعًا عن سابق حديثه وفكرته تمامًا:
_أنا بقول بلاش نقلق “مَـيوش” والست خلاص عارفة إننا نزلنا مع بعض، أما مسألة الثقة فدي مش محتاجها خليهالك.
نظرت أمامها بضجرٍ منه فيما تحرك هو من الحارةِ بعد تحرك سيارة “أيـوب”، كلاهما يأخذ سكنه في رحلةٍ تشبه البدء من جديد، رحلة المرء مع نفسهِ، كان يعلم أنها تحتاج لهذا المشوار في هذه الفترة، يعلم أنه يتوجب عليها إخراج طاقتها السلبية وإفراغها على هيئة شُحنات أيًا كان نمطها من المؤكد أن هذا المكان تحديدًا سيساعدها كثيرًا.
في الحارةِ أيضًا كان “شُـكري” جالسًا في محل رفيقه مكان عملهِ وهو يتابع تحرك السيارات خلف بعضها وقد أخرج هواء النرجيلة الفحمية من فمهِ وقال بسخريةٍ:
_حِكَم، ناس عمالة تخرج تتحقق في أماني،
وأنا خليني قاعد مرزوع مكاني.
أقترب منه عامل المقهى يخبره بلامبالاةٍ:
_”شُـكري” روح كلم أستاذ “بيشوي” في المحل بتاعه.
اتسعت عيناه بخوفٍ وازدرد لُعابه من فكرة حاجة الأخر له، هذا الذي لا يرحم من تسول له نفسه ويقف في طريقهِ، دومًا كان السبب في خوف كل ضعيفٍ أمامه وكأن هيبته تفرض نفسها عليهم جميعًا، تحرك إلى هناك بخوفٍ منه ووصل إلى محلهِ يرفع كفه يُحييه وهو يقول بودٍ مصطنعٍ:
_السلام عليك يا أستذة، أؤمر.
كان “تَـيام” جالسًا مع الآخر في محلهِ وانتبها سويًا لصاحب الصوت الذي أشار له “بيشوي” بالدخولِ إلى مكتبه وما إن دلف وفعلها وجلس أمام “تَـيام” الذي رفع أحد حاجبيه ينتظر منه أي فعلٍ أهوج أو كلماتٍ في غير محلها، حتى أضاف “بيشوي” بثباتٍ:
_بص يا “شُـكري” على بلاطة كدا أنا راجل ابن سوق، راس مالي هيبتي وسمعتي قبل فلوسي، وكلمتي تمشي على الكل، بعد كبيري اللي عمري ما هقل بيه، فأنا علشان معملش العيبة وأرجع اتضايق إني صغرت نفسي، فأنا بقولك أهو، الست أختك كانت مرات ابن الحج، ومحصلش نصيب، وأنتَ عارف الباقي كان إيه، بس لو فكرت تظهر من تاني في حياة “إيـاد” أو أبوه أنا هقل بأصلي، علشان كدا جيبتك أنتَ راجل البيت وبتكلم معاك، علشان برضه العُرف والأصول بتقول يوم ما تيجي تقل من راجل خليه يرد على كلام واحدة ست، وأنا مبدأي الأصول، قولت إيه ؟.
هتف “شُـكري” ردًا عليه مُستحسنًا حديثه:
_عداك العيب يا باشا، بس عدم المؤاخذة يعني البت أختي دي مُعوقة في دماغها، فاكرة كل حاجة هتمشي بكيفها، هي بس زعلت إن فيه واحدة هتيجي تاخد مكان ابنها، دي أم برضه وساعة شيطان هي اللي خليتها تتحرك.
هتف “تَـيام” بنبرةٍ جامدة بدلًا عن الأخر:
_بقولك إيه ؟؟ الكلام دا مبيأكلش عيش، من الأخر الست أختك ماضية على تنازل عن ابنها، يعني شغل حريم بقى ومسكنة وعياط مش نافع، أقل ما فيها أنا كمحامي هروح أقدم ضدها الورقة دي، هي اتنازلت وقبضت، والناس كمان شهدت، علشان كدا لو فكرت تتهور مش هيبقى في صالحها والله، بالعكس دي هتيجي فوق دماغها هي، يبقى الحل إنك أنتَ اللي تعقلها يا راجل البيت.
حرك رأسه مومئًا بخضوعٍ لهما فهو في أبعد حاجته عن شجارٍ مع أبناء العائلة هذه حتى وإن لم يكونا منها لكن يكفي أنهما تلقيا التربية على يد “عبدالقادر العطار” لذا قدم فروض الطاعة لهما وخرج من المكان وقد نظر “بيشوي” في أثرهِ مُبتسمًا حتى سأله “تَـيام” بتعجبٍ من انصات الأخر لهما:
_تفتكر هيسمع الكلام؟.
توجه إليه ببصرهِ وهتف بسخريةٍ:
_والله دا في مبدأ الرجالة، إنما دا هيروح يلعب في دماغها يخليها تسخن أكتر وساعتها بقى معروف هيحصل فيهم إيه، وخصوصًا هي، ست قادرة قلبها جاحد، هي وخالاتك مبطيقهمش، محسوبين غلط على سوق الحريم.
ضحك “تَـيام” وقال بنبرةٍ يائسة:
_خصوصًا خالتي “نيفين” اللهم احفظنا من لسانها.
ضحك الأخر معه من جديد وأراد أن يُعدل حديثه بقوله أن كل النساء في عينيه لا تفرق عن بعضها بشيءٍ وواحدة عنده تساوي كل شيءٍ، واحدة فقط يدق القلب لأجلها، وينتمي إلى حقيقة المكان في قربها، تلك الواحدة التي ظهرت الآن تبتسم له من حيثُ لا يدري لتزاحم واقعه كما تزاحم خياله وبعدما ألقت عليهما التحية قالت بنبرةٍ هادئة:
_أنا قولت لماما أني هاجي هنا علشان نروح نبارك سوى للعرسان، هتيجي معايا ؟.
ابتسم لها وهو يقول بموافقةٍ دون أن يفكر حتى في الرفضِ لو لوهلةٍ:
_هو أنا يعني أملك الجُرأة أني أرفض؟؟ يلا بينا.
استعد للرحيل معها وذهب معهما “تَـيام” أيضًا للبيتِ لكي يقدمون المباركات للعروسينِ في بيت “العطار” الذي ينتظر أقرب الأقربون إليه اليوم، ليجمع كل أحبته مع بعضهم في بيتهِ.
__________________________________
<“الشر دومًا يَسكنه وفي بعض الأحيانِ يكون إنسانًا”>
في بيت عائلة “الراوي” بمنطقة الزمالك
كانت “مادلين” تجلس برفقة “فاتن” ومعهما “رهـف” أيضًا في حديقة البيت، سارت الأحاديث بينهن في شتى المواضيع حتى قالت “مادلين” بحزنٍ طفيفٍ لم يكن كبيرًا:
_شوقتوني أشوفها أوي، أنا قولت برضه “يوسف” أكيد لازم هيحب، شاطر بس يقولي اتقل حاجة بتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد، وأنا قلبي قطع العهد، أهو بقى قاطع الدنيا كلها علشان “عـهد”، أهم حاجة طيبة؟.
تحدثت “رهـف” تخبرها بصدقٍ حقيقي:
_طبيعية أوي، يعني مش متصنعة ولا بتمثل هي بنت قلبها أبيض وطيبة أوي أوي، وفي نفس الوقت باين إنها قوية كدا مش من البنات اللي بتقعد تشتكي حالها وهمومها، حاجة كدا فيها كل الصفات اللي تخليكِ غصب عنك تحبيها.
ابتسمت “مـادلين” لها وقالت بسعادةٍ بالغة:
_لأ كدا بقى إحنا نجيبله هدية حلوة، بس من ورا “عـاصم” علشان محدش يعرف، ويارب الحرباية “شـهد” دي تختفي من الحياة، مش فاهمة حبوها على إيه، علشان حلوة يعني ؟؟ يغور شكلها قصاد قلة أدبها، بت لا يمكن تكون من البشر أكيد دي حرباية.
تحدثت “رهـف” بسخريةٍ وهي تطالع “فاتن” التي ظهر الضيق على ملامحها:
_بلاش علشان طنط متزعلش أصلها بتحبها هي كمان.
حركت “فاتن” رأسها بعنفٍ وهتفت بنبرةٍ جامدة:
_أنا مش بحبها، أنا بكرهها، هي السبب اللي دمر أي حاجة كانت ممكن تكون بين “يـوسف” و “نـادر”، كانت عارفة إن علاقتها بيه مؤذية ليهم هما الاتنين ومع ذلك كملت، أنا مش بحب وجودها ككل، ربنا ينتقم منها.
في غرفة المكتب انكب “عـاصم” على أوراق العمل وبجواره “سـامي” الذي منذ الصباح يقارنه الخوف، هذا الرجل الذي يظهر له في الحين والأخر يزعزع ثباته، دومًا يُسبب له أزمة في عيش حياةٍ طبيعية، وقد شرد في رحلة ماضيه ليعود إلى هذا اليوم من جديد، اليوم الذي لا ينفك عن عقله ولازال أثره يسكن النفس.
[منذ عدة سنواتٍ كثيرة]
تسلل في الليلِ يقوم بخطف ابن شقيقه بعدما ضاقت عليه الحلقات، كل الحلول توقفت أمامه ولم يبقى سوى أن يخطف الصغير من غرفتهِ، تحرك “شوقي” به من البيتِ خِلسةً بعدما خرج به وسار عدة أمتار قليلة تفصل بين بيت شقيقه وبين بيت الحادث، وصل به بعض بقلبٍ يرتجف من الخوف وقد دب الرُعب في أوصالهِ، الآن يقدم الصغير قربانًا لمقبرة يملؤها الذهب، حينها كان “سامي” و “الدجال” و قريب “ماكسيم” الذي تولى هذه المهمة معهم وقد تغيب أصحاب البيت عن هذه المهمة.
قام الدجال بخطف الصغير من على ذراع عمهِ ثم نزل به للحفرة الصغيرة عدة خطوات وفي يده السكين الذي كاد أن يمرره على عنق الصغير، حينها صرخ الطفل بصوتٍ عالٍ مزق نياط القلوب التي تصلدت وجمد الصدأ حركتها، القلوب القاسية التي تجلت منها الرحمة في بعض الأحيان تخشى هذا الفعل، وقف “سـامي” بتجبرٍ ينتظر بفروغ الصبر فتح المقبرة بعد ذبح الصغير الذي كان مثل الأُضحية، لكن ثمة صوتٍ يُدعى صوت الضمير صرخ في قلب “شـوقي” ينهره ويردع فعله حتى قام هو بخطف الصغير من على ذراع الدجال وهو يصرخ في وجههِم.
نظر إليه الاثنان بغير تصديق لفعلهِ فيما شدد هو مسكته على الصغير وهو يقول بنبرةٍ عالية بخوفٍ على ابن شقيقه:
_لأ خلاص، مش هقدر، ألغي كل حاجة، دا عيل صغير، هموت ابن إخويا ؟؟ ألغي يا “سامي” كل حاجة، ألغي كأن مفيش أي حاجة حصلت خلاص.
اندفع “سـامي” يخطفه من تلابيبه وهو يقول بنبرةٍ جامدة وعالية يصب عليه غضبه من سذاجته:
_أنتَ اتجننت يا روح أمك !! أنتَ عارف إحنا دافعين فلوس قد إيه ؟ بقى أصعب جزء في الليلة الشؤم دي إنك تجيب الواد من حضن أمه ولما يحصل ترجع في كلامك؟ أنتَ مجنون ولا إيه ؟.
هتف “شـوقي” بنبرةٍ أقرب للبكاءِ من صوت بكاء صغيره:
_يا “سـامي” الواد لسه حتة لحمة حمرا، أبوس إيدك بلاش، بص أنا هروح أجيب الفلوس من “نَـعيم” وهو لما يعرف إن أخوه هيتضر ساعتها مش هيقول حاجة، بالله عليك الواد هيموت من العياط.
شدد مسكته عليه وهو يقول من بين أسنانه بنبرةٍ هادرة بغيظٍ منه:
_وهو أنتَ فاكر لما تروح لأخوك ويعرف اللي عملته هو هيطبطب عليك؟ دا مش بعيد يقطع راسك يعلقها على باب بيته، فوق يالا دا أنا أخرب بيت أهلك كلهم حاطط شقا عمري كله هنا، خد الواد يا مولانا، سيبك منه، طالما كدا كدا هيموت يبقى يموت ونستنفع بيه أحسن ما يروح على الفاضي.
كاد أن يتحرك “الدجال” الذي أدعى الوساطة بينه وبين العالم الآخر وقدرته على فهمهم لكن “شَـوقي” ضم الصغير بين ذراعيه وفي هذه اللحظة تدخل قــريــب “ماكسيم” يحاول خطف الصغير منه وقد قام حينها “شوقي” بضربهِ في قدمه حتى سقط في الحُفرة الثانية وقام بدفع عِرق الخشب الذي يستند عليه البيت بعد مهمة الحفر ليبدأ في السقوط تدريجيًا فوق رؤوسهم، لينجو من كُتِبَ له النجاة، ويهلك من فُرِضَ عليه الهلاك.
حينها مات الدجال في البيت أسفل الرُكام، ومع حلول الصباح تم إخراج جسد قريب “مـاكسيم” الذي أخبره بكل شيءٍ، وقد لاذ “سـامي” بالفرار وخَلفَه “شَـوقي” الذي ترك المنطقة بأكملها خوفًا من أخيه، ولو يعلم أن مصيره كان معلومًا لا كان تيقن أن آمن مكانٍ يحفظه وقتذاك هو مكان أخيه.
هرب “شَـوقي” برفقة الفتاة التي تزوجها بالسر دون علم أخيه بسبب عملها في إحدى الملاهي الليلية، ليتم بعد ذلك ذبحه هو وهي على أيدي أصحاب البيت الذي وقع حينها أحد أصحابه في يد الحكومة لينتقم له أخوته منه، ولازالت قصة الصغير لم تُعرف بعد.
[عودة إلى هذه اللحظة]
كان “عاصم” يحدثه عن العمل وسيره لكن الأخر ظهر الأسى على ملامحهِ، الذكريات المُسيئة سكنت عقله ولم تتركه، ويأتي أحدهم مثل الشبح يهدد ثباته ويُبدد سكون حياته، شخصٌ مجهولة هويته ومعلومة رغبته، خرج من شروده على صوت “عـاصم” يُنبئه بصوت هاتفه حتى خطفه ووقف يتحدث في الهاتف مُجاوبًا على المُتصل الذي حدثه بنبرةٍ غريبة بعدما استخدم أحد التطبيقات في تبديل الصوت:
_كويس إنك رديت، هيجيلك عنوان وميعاد تلتزم بيهم الليلة دي، لو اتأخرت ساعتها “نَـعيم” هيكون عندك بياخد حق اللي ليه، و “يـوسف” بنفسه هو اللي هينفذ، متتأخرش يا “سـامي” ولا أقولك يا أبو “نـادر” ؟؟ كِـبر الولا.
تلك المرة خشى على ابنه، خشى أن يمسه الضُر، نعم اقترفت يداه الأخطاء وفعل كل شيءٍ لأجل السُلطة والنفوذ والمال، وقد رُزِقَ بابنٍ بعد عناءٍ مع زوجته التي كانت تمتنع عنه، هل في نهاية الأمر يترك لهم ابنه بعدما فعل كل شيءٍ لأجلهِ؟ من المستحيل أن يتركه لهم يتسببون في أذاه، هذا الذي تظهر مشاعره الإنسانية فقط لأجل ذويه أما غير ذلك فهو لم يعرف الإنسانية في حياتهِ.
__________________________________
<“غريبة كما عيونك، تتسبب في ضياعي”>
طوال الطريق هو يراقبها بين الحين والأخر بطرف عينه وهي تتفحص الهاتف تارةٍ وتارةٍ أخرى تجاوب على المُتصلين بشأن العيادة الطبية التي تعمل بها، أراد أن يتحدث معها عدة مراتٍ لكن الهاتف كان يقطع عليه السُبل حتى توقفت السيارة أمام ما لم تتوقعه هي.
رفعت عينيها عن هاتفها تتفحص المكان حولها وقد حركت رأسها نحوه بحركةٍ بدت له عنيفة وهي تسأله بعينيها عن تواجدهما ليحرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_هي، إحنا جايين هنا علشان دي.
أشار بيده على المكان لتسأله هي باستنكارٍ شديد:
_ملاهي !! جايبني ملاهي يا “يـوسف”؟.
فتح باب سيارته وترك سؤالها بدون جواب حتى رفرفت هي بأهدابها عدة مراتٍ بذهولٍ كسا ملامحها فوجدته يفتح لها باب السيارة لتخرج منها وقد سألته بدهشةٍ:
_دا بجد ؟؟ يعني هنا علشان ندخل الملاهي ؟.
جاوبها مؤكدًا صدق حديثها:
_آه والله، أكيد مش جايبك هنا علشان اتعبك على الفاضي، يلا وسيبي نفسك النهاردة ليا وللملاهي، ووعد إنك هتخرجي منها مبسوطة وواحدة غير اللي جت هنا.
سارت معه نحو الداخل بعدما قام بقطع تذاكر الدخول، وقفت بذهولٍ تطالع المكان من حولها، ولم تأخذ الكثير من الوقت لكي تفهم طبيعة المكان الذي دلفته هي بأقدامٍ مشدودة، لاحظ هو ذهول ملامحها فسألها باهتمامٍ عن حالها:
_”عـهد” !! فيه حاجة؟.
حركت رأسها تطالع المكان حولها ثم هتفت بنبرةٍ ضائعة تستفسر منه بقولها:
_هي الملاهي دي عاملة إزاي ؟.
_غريبة.
هتفها هو ردًا على سؤالها، كلمة واحدة جعلتها تطالعه بعينيها السوداوتين تستفسر منه أكثر وكأنه تود الجواب باستفاضة حتى وجدته يُضيف من جديد مُكملًا على حديثهِ بصدقٍ وكأن عيناها أعطته الجواب الوافي:
_غريبة زي عينيكِ كدا، بضيع مني فيهم.
ابتسمت هي بخجلٍ وحركت رأسها للجهةِ الأخرى فيما أمسك هو كفها يتجه بها ناحية قطع تذاكر اللعبة الأولى التي وقع عليها الإختيار، وقف في الصف وهي بجواره مشدوهة ومسروقة من نفسها حتى وكأن المكان هُنا أعاد لها العديد من الذكريات، حركت عينيها في المكان بأكملهِ تراقب مختلف الأعمار الذين أتوا إلى هنا وهي ولا مرة خطر ببالها أن تفعلها، وقف “يوسف” يمسك كفها بكفهِ وكأنها طفلة صغيرة يخشى فقدانها وسط الزِحام حتى خرج من الصف أخر من توقع تواجده هنا، لم يضع في حسابه أن يرى “نـادر” هُنا وبجواره “شـهد” التي وقع بصرها عليه.
نفس المكان من جديد بنفس الذكريات لكن هذه المرة مع أشخاصٍ جُدد، يتم صنع المستقبل معهم، وقف “يـوسف” يُطالعها بغير تصديق وكأنه يقف أمام جُرأتها في سرقة كل ما يُخصه وأعطاءه لمن لا يستحقه، حتى مكانه المفضل تنسبه لنفسها وتشارك به غيره، لكن هذا الأمر الآن لا يُشكل له فارقًا بل الآن أتى مع من تستحق.
انتبهت “عـهد” لشرودهِ في وجه هذه الفتاة وقد انتبه لهما “نـادر” أيضًا بعد نظرات زوجته، مربعٌ من أربع أضلاعٍ أمام بعضهم، الأجساد عن الحرِاك واقفة والأعين في الكلام سوابق عن الألسنةِ.
_______________________
لا تنسوا الدعاء لإخواننا وتذكروا أن الدعاء سلاح والكلمة جهاد، فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
_______________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى