روايات

رواية غوثهم الفصل الرابع والتسعون 94 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والتسعون 94 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والتسعون

رواية غوثهم البارت الرابع والتسعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الرابعة والتسعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
ولقد رأيتُكَ في منامي ليلةً
فنَسيتُ ما قد كانَ مِن أحزانِ
وحَسِبتُ نومي في حضوركَ يقظةً
حتى أَفَقْتُ علي فراقٍ ثانِ
‏أَأُقيمُ بَعدكَ في المدينةِ بينهُم
يا لَهفَ قلبي لَيتَني لم أُولَدُ.
– “حسّان بن ثابت” في رثاء سيدنا محمد ﷺ
__________________________________
“أنا وإن كنتُ بذاتي لم أكن هنا..
ستجديني في كل شيءٍ هُنا، أنا هنا حيث أنتِ،
أود أن أكون أينما كُنتِ، سأبقى لأجلك هُنا كما أتيت لأجلك هُنا، أنا الغريب الزاهد الذي كُتِبَ له أن يتحمل المعضلة كما تحمل”يوسف” بن “يعقوب” وصبر على البلاء كما صبر “أيـوب” فلا داعي للخوف إن كان المولى هو العليم بالقلوب، وهو من يشاء ويقدر المكتوب…
فربما يكون الذنب ذنب القلب الذي هوىٰ وأحب،
أو رُبما كان قلبي بريئًا من أقتراف الذنب، لكن هل يُعقل أن يصبح القلب آثمًا لكونه هوىٰ وأحب؟ أم أن الذنب من الأساس يقع على كل من يُحب وقبلها يُنكر هذا الحُب؟
لذا سأتلوها لكِ بما أنني أصبحت في الحُب
آثمًا وبقوانينه مُذنبًا..
أنني أحبك؛ وأكره كل من يُحبك…
<“كشف المستور واجب كتنفيذ حق الدستور”>
بعد مرور عدة ساعات وتحديدًا مع بدء توقيت الغروب..
أمر”عبدالقادر” بقدوم “أيـوب” إليه فور عودته إلى البيت وقد جلس في غرفة مكتبه ينتظره حتى وصل إليه “أيـوب” ودلف بعدما طرق الباب وأستأذن بالدخول حتى حصل على الموافقة..
دلف وجلس على مقعد المكتب وحينها أشار له “عبدالقادر” بالحديث عن ما سبق وأخفاه الآخر عنه قائلًا:
_شوف !! أنا ساكت وعارف إنك مخبي عني بس بمزاجي هفوتلك يا ابن “عبدالقادر” بس مش هسكت إنك تكدب عليا، حصل إيه يومها يخليك ترجع وشك مضروب تاني، ومن بعدها “يـوسف” يمشي ويسيب القاهرة كلها؟ راح فين؟.
زفر “أيـوب” بقوةٍ وتذكر أمر رسالة “يـوسف” الصباحية التي أرسلها له ثم أغلق هاتفه كُليًا وكأن عقله ينبئه بالأمانة التي ألقاها عليه “يـوسف” وفي هذه اللحظة أعتذر لوالده قائلًا:
_أنا آسف يا بابا، مش هقدر أقول حاجة علشان هو أمني قبل ما يمشي، مش هكدب وأقولك محصلش، بس مسيرك تعرف لو هو حابب يعرفك، ومتقلقش عليا أنا بخير الحمدلله.
رفع “عبدالقادر” كلا حاجبيهِ وهو يرى إنسحاب “أيـوب” من المكان متجهًا إلى غرفتهِ وكأنه يهرب من سطوة والده الذي لم يقبل بتلك المحادثة بل يصر على معرفة كافة التفاصيل، وحينها دلف “أيـوب” غرفته وجلس على طرف الفراش يتذكر ما حدث ليلة أمسٍ..
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا بمحافظة “أسوان”..
جلس “يوسف” في الخارج أمام إحدى البُحيرات المائية في هذه المحافظة ومعه بين أنامله سيجارةً ينفث هوائها خارج رئتيه ومعه في يده دفتر ورقي وقلمٍ وما إن أنهى سيجارته المُدخنة ألقاها بطول ذراعه ثم فتح دفتره يكتب بداخله (1) وبدأ في رسم عيني “عـهد” بعدما اندمج فيما يفعل وقد قطع اندماجه شرود ذهنه في موقف الأمس الذي تسبب في مجيئه إلى هنا..
(قبل عدة ساعات من هذا اليوم)
رحل “يـوسف” من بيت “نَـعيم” بغضبٍ تفاقم عن السابق دون أن تخمد نيرانه وقد سبق وخطف مدية حادة من غرفة “إسماعيل” ووضعها في جيبه ثم ركب سيارته ولم تلحظه سوى “سمارة” التي ركضت نحو “إسماعيل” وأخبرته بما رآته..
قاد “يـوسف” سيارته إلى بيت “الراوي” ثم ولج البيت سرًا وتوجه إلى غرفة “سامي” يفتحها كما تعلم ذلك حتى أن أعتى الأبواب لم تستعصى عليه في فتحها، وقد أقترب من فراش الآخر وفتح المدية يمررها على وجنته وهتف بنبرةٍ هامسة تشبه فحيح الأفعى:
_نوم العوافي يا ابن “الرقاصة” قوم علشان دي هتبقى أخر نومة في حياتك إن شاء الله، مكتوبالك تموت على أيدي.
أنهى حديثه ثم نزل بالمدية يستقر بها على كف “سامي” وترك بها الأثر الأول لهذه الجولة التي منذ بدايتها تم معرفة الرابح بها، ومن ثم علا صوت “سامي” وكاد أن يصرخ متأوهًا بعنفٍ لكن كف “يوسف” منعه من ذلك ثم كام بمحاوطة أنفه وفمه معًا يُضيق عليه الخناق وهو يهتف بغيظٍ من بين أسنانه:
_ بس !! مش عاوز ولا نفس ولا صوت، عمال أفكر وأحسبها يمين وشمال ومش لاقي ليك غير الموت، أنا صبرت عليك بما فيه الكفاية واللي جاي مفيهوش صبر، وكدا كدا أنا قاتل، يبقى التهمة تستاهل بقى.
أنهى حديثه تزامنًا مع سحبه لـ “سامي” من الفراش وقد إزداد الغضب بداخلهِ حينما تذكر كيف تم سحبه من بيت أمه وتعكر صفو ليلته حينها ثم الإهانات التي تعرض لها على أيدِ رجال الشرطة وحينها صفعه على وجهه بكفٍ كان كافيًا ليعبر عن الغضب الكامن بداخلهِ، كانت صفعة مؤلمة جعلت “سامي” يترنح بين قبضتيه، لكن “يـوسف” أحكم الحصار عليه تزامنًا مع تذكره للضربات التي تلقاها بداخل الحجز ليلًا وحينها كَيْل له أمثالها في وجهه وقد أصابه العمى وأصبح أسيرًا في براثن الانتقام والمتحكم به هي طاقة الغضب القاتمة التي أختلقها الانتقام بداخلهِ، وكأن صوت الأنين المكتوم من الآخر هو وسيلة التنفيس الوحيدة لديه..
ألقى عليه الضربات التي أرضت غضبه وإنتقامه ونظرًا لفارق السن بينهما وفرق القوة الجسدية مع إضافة عوامل أخرى مثل الإنتقام والغضب المشحون في القلب أصبحت النتيجة شبه محسومة، وفراق الروح بها نتائج معلومة لكن نيران “يـوسف” المُتأججة لم تخمد بل أخذت تزداد وعليه قرر أن ينهي هذه اللعبة للأبد لذا أعاد فتح مديته وضيق عينيه كما الصياد الذي يتفنن في صيد فريسته وكأن العقل أصبح مُغطى بستارٍ يحجب عنه الرؤية…
في الأسفل صف “أيـوب” سيارته أمام بيت “الراوي” ثم خرج من السيارة مُهرولًا بعنفٍ لكي يطرق الباب لكن حارس البيت المدعو “فيصل” وقف أمامه وهو يسأله بترحيبٍ به حينما تذكر أنه سبق وأتى إلى هنا ذات مرةٍ:
_أستاذ “أيـوب”؟ خير فيه حاجة؟.
التفت برأسه للرجل وهتف بنبرةٍ لاهثة شبه متقطعة:
_آه فيه، لو سمحت أفتحلي الباب خليني أطلع لـ “يوسف” بس بسرعة الله يرضى عنك، عاوز ألحقه، هو هنا صح؟.
أومأ الرجل موافقًا ثم ركض بقدر ما سمح له جسده ثم فتح باب البيت ودلف منه “أيـوب” يتسلق الدرج نحو الأعلى وقد قرر أن يدخل غرفة “سامي” أولًا بعدما سبق وأشار عليها “يـوسف” عند زيارتهما لهذا البيت ليلًا ذات مرةٍ..
وصل “أيـوب” عند الغرفة المُرادة وقد وصله صوتٌ ضعيفٌ منها أنبئه بما يحدث في الداخل وقد فتح الباب وولج الغُرفةِ مُباشرةً وحينها وجد “يـوسف” قد شارف على طعن “سامي” بالمدية الحادة لكنه تدخل في اللحظة المناسبة وردع حركة الآخر قبل التهور، مما أدى إلى سقوط المدية من كف “يـوسف” ولحقها بينما “سامي” فبعدما كادت تتوقف أنفاسه عن الخروج، تحررت مُجددًا بظهور “أيـوب” الذي أنقذه من براثن هذا المتهور…
في هذه اللحظة كان “يـوسف” في أوج لحظات غضبه وهو يرى “أيـوب” يخطف المدية يحتفظ بها في جيب سترته ولازال محتفظًا بقبضته على رُسغ الآخر ليسأله هو بنبرةٍ أقرب للصراخ المنفعل:
_بتاخدها ليه؟ هاتها يا “أيـوب” خليني أخلص اللي ليا وآخد حقي وأعرفه أنا لو هقتل هقتل إزاي، هات يا “أيـوب” بدل ما أخسرك، أنا كدا كدا مش فارقلي حاجة والأرض الواحدة مش هينفع تشيلني معاهم، يا قاتل يا مقتول.
هتف جملتها الأخيرة بالتزامن مع حركة جسده للأسفل لكي يخطف المدية لكن “أيـوب” منعه هذه المرة أيضًا، وهتف منفعلًا بنبرةٍ إنفعالية أقرب للصراخ الهادر وكأنه أبٌ يُعنف أبنه:
_وتخسر نفسك؟؟ وعلشان مين، علشان دا؟ لو ناسي هفكرك إنه عاوزك تخسر أصلًا كل حاجة، عاوزك تضيع وميبقاش ليك لازمة وتبقى مجرد واحد مستقبله ضايع، بلاش كل دا، أمك تستاهل إنك تحرق قلبها عليك كدا؟ وأختك اللي بقت بتحسب حياتها من ظهورك فيها، ومراتك اللي ملهاش غيرك؟! كل دول يستاهلوا منك إنك تضيع نفسك وتحرق قلبهم عليك؟ لو قعادك هنا هيخليك قاتل يبقى أمشي علشان مش بعد العمر دا كله هتقابل “مصطفى الراوي” عند ربنا وأنتَ قتال قُتلة.
حديثه ماهو إلا وسيلة للضغط عليه حتى يَكُف عما ينوي فعله لكن في بعض الحالات أن بعض الأمور مع إزدياد الضغط عليها تؤدي إلى الإنفجار المحتم، وقد ازداد الصراع بداخل رأس “يـوسف” وظل يتراوح مابين مؤيدٍ ومعارضٍ وكأنه كرة تتقاذفها الأقدام والغرض فقط هو إحراز الهدف دون مراعاة خامة الكُرة وإن كانت ضعيفة والركل قوته تتضاعف عن حجم تحملها مئات المرات.
بدأت الأصوات تتداخل في بعضها وكعادتها رأسه لم ترحمه حتى صرخ هو عاليًا وأمسك رأسه بكلا كفيهِ وهو يرجو الأصوات بداخلها أن تتوقف، يرجو أن تسكت الألسنة الصارخة في رأسه وتتوقف المعركة الضارية، لكن كالعادة الحرب مقرها بداخلهِ والمهزوم فيها هو بذاته، والأدهى أن من ساهم في هزيمته كان هو بنفسهِ..
حينها أقترب منه “أيـوب” الذي لاحظ حالته وكانت المفاجآة في رد فعل “يـوسف” الذي هاجمه ولكمه بُغتةً بضربةٍ غير متوقعة في وجه “أيـوب” الذي تلقاها بصمتٍ وكتم تأوهه وألمه وفقط حاوط الجرح بكفهِ حينما أطاحت رأسه للخلف وعلى النقيض كان “يـوسف” الذي ظل يتنفس بحدةٍ وصدره يعلو ويهبط ثم أقترب مُجددًا من “سامي” الساقط أرضًا وسحبه من ثيابه يهتف من بين أسنانه بحقدٍ دفينٍ بعدما جلس على عاقبيهِ:
_عاوزك تحمد ربنا إنه لحقك من تحت إيدي…
وعاوزك تدعي إني أمشي من هنا علشان لو فضلت هخلص عليك، ويا ويلك لو دا حصل، أنا مبسيبش حقي، وباخده لو كان في بوق الأسد، وأنتَ حسابك عمال يتقل معايا والجدع يسد ويشيل..
أنهى حديثه ثم بصق على جسد “سامي” ثم خرج من البيت راكضًا بالقنبلة الموقوتة التي يحملها بداخل رأسه هذا وإن لم تكن رأسه هي القُنبلة بذاتها، وما إن خرج من البيت تكالبت عليه أحداث اليوم تنهش في ذاكرته وحينها ولج سيارته يجلس على مقعد القيادة ليتذكر أنه من دقائق معدودة فقط كان سيصبح قاتلًا!!
العديد من الأصوات ملأت رأسه ما بين الشعور بالذنب وبين الفشل في الثأر لنفسه وما بين الحزن على نفسه، ومابين القهرة التي تسببوا فيها له، لذا لم يكن أمامه سوى أن يوقف الأصوات التي تكدست برأسه وظل يضرب رأسه ببوق السيارة لعل هذه الأصوات تكف بداخلهِ، لكن ظهور “أيـوب” الذي طرق نافذة السيارة بقوةٍ جعلت “يـوسف” ينتبه له وفتح الباب وخرج منفعلًا من السيارة على عكس “أيـوب” الذي تسلح بالبرود أمام إنفعال الآخر هاتفًا:
_جيت ليه؟؟ مين اللي قالك تيجي؟ بتحشر نفسك ليه؟ يابني خرج نفسك من مشاكلي أنتِ مش حمل مصايب تانية، إن شاء الله حتى أولع فيهم خليك بعيد، سيبني في حالي يا أخي.
صمت “أيـوب” وتوقف عن الرد ثم أخرج زجاجة مياه صغيرة من خلف ظهره وناولها للآخر الذي تعجب مما يفعل معه لكن “أيـوب” فتح زجاجة المياه ثم سكب منها في إحدى راحتيه ومسح بها على وجه “يـوسف” الذي انتفض نتيجةً لاختلاف درجة حرارة جسده وإختلاف درجة برودة المياه، بينما “أيـوب” ما إن لاحظ إرتخاء جسد الآخر أكمل المسح على وجههِ وهو ينبس مابين شفتيه بنبرةٍ خافتة:
_ ﷽ الذي لم يُضر مع اسمه شيء..
أنهى ما يفعله ثم هتف بنبرةٍ هادئة على عكس التوتر الذي ملأ الأجواء:
_أنا جيت علشانك مش علشان حد منهم، أنتَ اللي تخصني مش هما، أنتَ اللي يهمني أمره وأخاف عليه من أي حد، سهل تاخد حقك وسهل ترفع إيدك وتموت كمان، بس صعب تقف قدام ربنا يوم الحساب، أنا هنا علشانك مش علشانهم، لأني نفسي أعمل زيك وأكتر، بس أنا متوكل على الله، وأنتَ كمان توكل على الله، ربنا من صفاته العدل يعني مهما أفسد الظالم هينال جزائه، أما بقى موضوع إني ماليش دعوة بيك دا فخليه كمان شوية علشان شكلك مش كويس..
حديثه كان هادئًا بقدر ما بدا مُعاتبًا، وكلماته تركت أثرها بقدر ما كانت شبه معنفةٍ، ونظرته بالرغم من الجمود الذي حاول يصدره إلا أنها نطقت بالقلق وفاضت بالوجع وكأنه يتقاسم الألم مع الآخر الذي صمت وأتخذ قراره أن يرحل من هنا قبل أن يدمر كل شيءٍ كما الأعاصير الضاربة بُغتةً وقد هرب من أمام “أيـوب” وولج سيارته ثم قادها دون أن يعيره أي انتباهٍ أو هكذا تعمد وقد لحقه “أيـوب” وولج سيارته وتبعه هو الآخر..
(عودة إلى هذه اللحظة)
أنتهى تذكره للموقف مع إنتهاء كفه لرسم عينيْ “عـهد” التي قرر أن يجعل هذه الوسيلة هي التنفيس عن غضبه هنا قبل أن يُدمر ما تبقى له، يعلم أن تواجده هنا كما السلاح له ذو حديْن لكنها أفضل وسيلة للمعالجة، لذا أطلق زفيرًا قويًا ثم كتب أسفل عينيها المرسومتين:
_ أرسل لكِ حديثي
وأُعلمكِ أنني أحبك.. وأكره كل من يُحبك.
أنهى كتابة الجملة ثم أغلق الدفتر البُني وأغمض عينيه بعدما أنتهت معركة الزكريات التي تولى فيها مهام جيشٍ كامل العداد والعِدة، ثم يخرج من المعركة مهزومًا رغم أن الطرف المنتصر هو نفسه، لكنها هزيمة شبه ساحقة أن ينتصر المرء في حربٍ طرفيها من الأساس هو، وهو..
__________________________________
<“أنتَ منَّا أيها الغبي، لا تحسب نفسك غريبًا”>
في منطقة نزلة السمان..
قضى “تَـيام” يومه بأكملهِ بصحبة والده والشباب ويبدو أنه نسى نفسه معهم، فقد طاف البيت بأكملهِ ورآه وتعرف على كل حجرٍ وضع بداخلهِ والغريب أنه دلف غرفته هنا التي وُلد فيها وقضى بداخلها أول ساعاته منذ أول لحظات عمره؛ شعر بداخلها بالارتياح وكأنها تخصه حقًا، جلس بداخلها يفكر لما يشعر أنه أرتاح بداخلها ولما أحس أنه أحب البيت بهذه الطريقة؟ هذا البيت الذي يبدو كأنه لوحة فنية جمعت في حدود إطارها العديد من التصاميم العربية، وقد ظهر الفن المصري الإسلامي في تصاميم البيت والشبابيك القديمة المسماة “مشربية”…
كان البيت مزيجًا خالصًا من عدة تصاميم منها الأثرية ومنها الإسلامية المعمارية ومنها الشامية، الحوائط بأكملها رُسِمَ عليها صور الخيول مع العديد من الجُمل عن عزها وقوتها وشموخها، الخيام العربية التي وضعت له حتى يجلس بها، كل شيءٍ هنا آلفه هو حتى بدا كما قال” أبو تمام” عن المنزلةِ الأولى:
“كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ
الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ”
هنا لم يكن حنينًا بالمعنى المتعارف عليه بل هي ألفة نُشأت بداخله تجاه البيت، أحبه وأحب الأجواء بداخله، وما جعل الحُب يزداد بداخلهِ هي رؤية الأهرامات وسفحها الأعلى من البيت وشرفاته، وكأنه يشبه موقع مصر وفلسطين المتميز بين الدول، لذا لم يقو على مفارقة البيت وكأن حنينه زاد لمنزله الأول وهو يتحرك فيه بجوار “نَـعيم”..
سار”تَـيام” ووصل إلى مقر الخيول يقف في مقدمة الرواق وعلى طرفيه الخيول تطل برأسها من النوافذ التي شكلت نصف الباب تقريبًا، وقد لاحظ أسماء الخيول المكتوبة على الحوائط والزهور الملونة فوق كل بابٍ منهم، كما لاحظ أيضًا الاضاءة الذهبية التي زينت المكان ليبتسم رغمًا عنه حينما أرتاح من عبئه بالنظر لهذا المكان..
وقد أقترب “نَـعيم” منه يقف بمحاذاتهِ ثم رفع كفه يحاوط كتفي ابنه وابتسم بحنينٍ بالغٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة مُشيرًا على الخيول:
_عارف؟ طول عمري عايش وسطهم، من أول ما فتحت عينيا على الدنيا، كلهم صحابي لحد ما بقيت حافظ كل حركة فيهم، كل خيل في دول أنا عارفه أكتر من نفسي وعارفه أكتر من نفسه، واللي زيي “إيـهاب” والباقي برضه علشان منكرش، الخيول طبعها فيه حرية، حتى لو اللي بيحركها خيال شاطر وعزيز عليها بس هي حرة، مينفعش تخش عليها تشوف نفسك، لازم تكون متواضع قدامها، تحسسها بعزة نفسها وهي لوحدها بتخضع ليك، فيها العند لو لقت اللي قدامها بيكابر، وفيها القوة لو اللي قدامها أتهز، وفيها الوفاء لو اللي قدامها موجوع، وفيها الحب لو اللي قدامها وحيد وفيها المساندة لو اللي قدامها مكسور.
استمع لحديث والده وقد شمل “تَـيام” المكان بعينيهِ وابتسم بسمة طفيفة وكأن عقله صنع له مقارنةً عابرة بين الاثنين وهتف بنبرةٍ هادئة بها لمحة دهاءٍ مشيرًا لوالده والمكان :
_فيها “نَـعيم الحُصري” يعني، كأنها صفاتك أنتَ مش صفات الخيول، قوي وعزيز النفس وعنيد، وحنين وقلبك كبير أوي، مش قادر أستوعب إني حبيتك من قبل ما أعرف إنك أبويا، بس حسيتها أوي، حسيت إني منك وإنك مني، أنتَ تستاهل إنك تفرح، وأنا لو عليا عاوز أفرحك ووعد مني إني أفرحك.
لمعت عينا “نَـعيم” ورقص قلبه الحزين بين أضلعه وكأن الدنيا حُيزت له، بدا وكأن السعادة سكنت فؤاده أخيرًا، حينها وفقط ابتسم وضم ابنه بين ذراعيه يهتف بنبرةٍ رسم بها القوة على عكس لهفتها لما قيل:
_أنتَ مفرحني من الصبح من أول ما دخلت وأتكلمت وقولت الكلمة اللي بحبها منك، أنا مش طماع، أنا راضي منك بأي حاجة، أنا كنت فين وبقيت فين؟ ربنا يباركلي فيك.
ابتسم “تَـيام” وهو في حضن أبيه والآخر يمسح على رأسهِ حتى نسيا سويًا الوقت المار عليهما ولم يقطعه سوى صوت هاتف “تَـيام” الذي أبتعد عن والده يجاوب على المكالمة التي أتت من “آيـات” وما إن رد على المكالمة هتفت هي بسرعةٍ تعاتبه:
_أولًا يعني السلام عليكم ورحمة الله،
ثانيًا أنا زعلانة منك للأسف، دا إحنا لسه بنقول بسم الله تقوم تنساني كدا؟ خلاص علشان ربنا كرمك من وسع هتنساني؟ مستنياك من قبل الضهر وداخلين على العشا أهو وماجيتش وشكلي وحش أوي قدام “نهال”.
أبتسم هو رغمًا على طريقتها الرقيقة حتى في المُعاتبة واللين البائن في صوتها وقدهتف يُراضيها بقولهِ الهاديء:
_أولًا وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثانيًا أنا مش ناسيكي ولا حاجة، أنا عند بابا مش في حارة” العطار” وكنت متضايق شوية ولقيت نفسي جاي على هنا، بس وعد هاجيلك، وشكرًا يا ستي إنك مستنياني.
ابتسمت هي على الطرف الآخر عند استماعها للجزء الخاص بوالدهِ وهتفت بنفس الرقة والهدوء:
_كويس إنك عملت كدا، عمو أكيد مستنيها منك، صحيح كنت عاوزة آشوفه معاك بس تتعوض، سلملي عليه ومتتأخرش، عاوزة أشوفك النهاردة، الجمعة بتخلص مننا.
ضحك رغمًا عنه وكادت أن تغلق هي المكالمة بعدما ودعته لكنه أوقفها هاتفًا بلهفةٍ يذكر اسمها:
_”آيـات”!!
همهمت موافقةً كردٍ عليه لتستمع لباقي حديثه فيما نطقها هو لمرته الأولى بصفته “تَـيام الحُصري” وكأنه ولد من جديد في هذا اليوم:
_أنا بحبك، ومش عارف من غيرك كنت هعمل إيه؟ وشكرًا على وقفتك معايا في كل حاجة، أنا أكيد ربنا بيحبني علشان رزقني بيكِ أنتِ ويسرلي الطرق لحد مابقيتي نصيبي.
هتف حديثه بصدقٍ تام جعلها تصمت عن الرد لكن قلبها هلل وفرح وصرح بأضعاف هذا الحديث لكن حياؤها منعها من ذلك، فهي مسكينة أمامه لازالت تتعلم فنون الحديث بينما هو المدرب بنفسهِ، وقد أغلق المكالمة بعدما أعلمها بذلك والتفت ليجد والده خلفه يضحك بعينيه وما إن تلاقت النظرات سأله بنبرةٍ هادئة وضاحكة في آنٍ واحدٍ:
_بتحبها أوي كدا؟.
ابتسم الآخر ورفع كفه يَحُك فروة رأسهِ وحرك كتفيهِ وهتف بنبرةٍ أظهرت صدقه في الحديث:
_مش عارف بس أنا لما عرفت إن فيه حاجة اسمها حب عرفت معاها “آيـات” وكنت فاكرها بعيدة عني، فضلت أحاول كتير أكون واحد يستاهلها، وفي الآخر بقت نصيبي، مش عارف هتفهمني ولا لأ، بس أنا حاسس إني متطمن معاها، مش خايف ومش غريب ومش وحيد،
أنا بحب نفسي لما بكون معاها…
توسعت بسمة “نَـعيم” وهو يقترب منه ثم هتف بصدقٍ هو الآخر وكأنه يرى نفسه في ابنه من جديد وكأنه تذكر حبيبة عمره “نَـدىٰ” وظهر تأثره في الصوت قائلًا:
_أنا ممكن أكون أكتر واحد فاهمك، وممكن أكون عارف إحساسك كله إيه، جربته قبل كدا وشوفت معاه أيام حلوة أوي، بس ربنا يسعدك وميحكمش عليك باللي شوفته بعدها، المهم عاوز أشوف مرات ابني وأتعرف عليها، دا لو ابني هيسمح أصلًا..
بدل “نَـعيم” طريقة حديثه وهو يطلب منه هذا الطلب فيما ابتسم “تَـيام” وأقترب منه يُلثم جبينه وأضاف مُرحبًا بعدما عاود النظر إليه من جديد داخل عينيه مُباشرةً:
_ابنك ليه الشرف طبعًا، تحت أمرك.
من جديد يُحييه بكلماته وحديثه، من جديد يُفسح له مجالًا للحُريةِ، فكيف لهذا العالم الكبير والكوكب الفَسيح أن يضيق الخناق على فردٍ واحدٍ ويجعله محكم الحصار حتى في لحظات الحرية، ثم يأتي هذا اللطيف صاحب القلب النقي الرقيق الذي لم يتجاوز حجمه قبضة اليد الواحدة عند ضمها ويجعله حُرًا طليقًا، ثم يغدو من بعدها ونيسًا ومستأنسًا، كيف قدر على إحتوائهِ واستطاع أن يُغلف صقيع روحه بدفءٍ ظهر كما ظهور الشمس من بعد أيامٍ غائمة تُغطيها السحاب المُظلم؟ يبدو وكأنه الخريف في حلاوة أيامه وقد أتى ليصادق قلبًا دُمرت أرضه بخراب العواصف الترابية، هنا حيث الأُلفة من بعد الغُربة، والفُرجة من بعد الكُربة.
__________________________________
<“لا أعلم أين أنتَ بهذا العالم، يبدو أنك ضيعتُ بقلبي”>
في شروق الشمس الثانية..
تحديدًا يوم السبت صباحًا قُبيل صلاة الفجر، كانت “عَـهد” تجلس فوق سجادة الصلاة بعدما راودها كابوسٌ أشد ظُلمةً مما سبق، حيث رآت نفسها تركض في واحدةٍ من الغابات الموحشة في ليلة ظلماء قتلت نفسها الحرة بداخلها وهي تركض وتركض بأنفاسٍ مقطوعة، وقد علا صوت أنفاسها وخلا المكان من كل الأصوات عدا صوت الشهيق والزفير الصادران منها، مع صوت الأشجار العالية التي تهتز بقوةٍ، ثم صوت خطواتها وهي تدهس الأوراق الخريفية المُتساقطة وكأنها تدهس روحها وليست الأوراق فكلتاهما متشابهةً..
ظلت تركض بغير هوادةٍ ولا حتى سببٍ معلومٍ لهذا الركض المُميت حتى سقطت في حفرةٍ جعلتها تصرخ عاليًا وصرخت باسمه لكي ينقذها حتى ظهر على شفا الحفرةِ يمد كفه لها ويتوسلها أن ترفع كفها بعدما أنزل نصف جسدها إليها وقد رفعت هي كفها المُرتعش تعانق كفه الممدود لها حتى تحامل على نفسهِ وأخرجها من الحفرةِ وقد أهدته ضحكةً قابلها ببسمةٍ منكسرة ثم أولاها ظهره راحلًا لتظهر الخناجر المطعونة في ظهرهِ والدماء التي غطت ظهره كاملًا وكأنه تركها وذهب للقاء الوحوش وبدلًا من الركض خلفه سقطت في الحفرة مُجددًا بالاجبار وليست طواعيةً منها..
حينها استيقظت صارخةً من نومها الغير مستقر وبحثت بعينيها في الغرفة تتجول بالمكان بحثًا عنه، ثم رددت اسمه بريبةٍ خوفًا من حدوث كابوسها، كما أن صوت نبضات قلبها أصم أذنيها غالبًا وظلت على هذا الوضع قُرابة الساعة الكاملة وقد وقع بصرها على الخطاب المتروك منه وخطفته بأنامل مرتعشة لتفيق على صدمة الرحيل منه…
بعدها جلست على سجادة الصلاة تشكو بثها وحزنها للخالق وحده، وقد شعرت بالكثير من الإرتياح بعد هذا البوح الذي كان يملأ قلبها، فهاهي مشكلات الحياة تلزم الجلسة الصحيحة والبوح في المكان الصحيح، فثمة بعض المشكلات البوح عنها للبشر يُعتبر ألمًا لكن البوح بها للخالق يعطي للمرء قوة التحمل، وقد أنهت الصلاة ثم تحركت نحو مكتب غرفتها وجلست على المقعد وفتحت دفترها تكتب بداخله عتابًا أو ربما هي رسالة اشتياقها له:
_ مرحبًا بك أيها الغريب…
وتلك المرة أسمح لي أن أضيف لكَ صفةً جديدة لم أتمناها ذات يومٍ وهي أنك “الغريب الغائب” عن مرأى عيني، لقد كان وداعك قاسيًا أيها الغريب وأنتَ ترحل حتى دون أن تسمح لعيني أن تلمحك قبل فترة الغياب، لقد رحلت بحزنك في حين أنكَ شاطرت معي كل وجعي وألمي وجَرحي وجُرحي، لكن أنا لم أكن قاسيةً مثلك…
فلقد عُرفت عني الصفات اللينة…
وأتمنى أن تعرفها أنتَ الآخر، كنتُ أتمنى أن تأتي إليَّ مُحملًا بتعبك وجرحك وأنا أقسم لك سأداويك، سأقاسمك الحزن وأشاطرك هَمَّ لياليك، أنا سأبقي هنا أُخلد ذكراك ومجيئك لأرضنا أيها الغريب، وإلى أن يشاء المولى لكَ بالعودة، أنا هنا أراسلك خفيةً بمواساتي، وأرسل لكَ حنو كلماتي، وأطلب منك أن تطمئن، فمن المؤكد لن أنساك بل قلبي معكَ يُصادقك وترافقك دعواتي..
أنهت كتابة خطابها تزامنًا مع إرتفاع صوت آذان الفجر عاليًا بصوت “أيـوب” يُنادي الناس لتلبية نداء الخالق، وقد أغلقت دفترها وأستغفرت ربها ثم ذهبت لتأدية فرضها حتى تجرؤ على طلب الرحمة له من الخالق، فحتى وإن رحل وتركها ليداوي نفسه فالأمر يتطلب عدة أيام قليلة وسيعود لها من جديد..
بعد مرور بعض الوقت في الأسفل كانت “قَـمر” تؤدي فرضها ثم ألقت رأسها على سجادة الصلاة بعد إنهائها للذِكر بعد فرضها، كانت تتمنى أن يهاتفها طوال اليوم ويُطمئنها أنه بخيرٍ، أرادت أن يفعلها لعلَّ قلبها يرتاح من عبئه، أرادت أن تواسيه وتحتضنه وتخبره أنه لو كان حتى رجلًا من أقوام البربر فهي تحبه، أرادت الكثير لكنه بكل بكل شيءٍ ورحل وأغلق الأبواب فوق قلبه، وأغلق هاتفه أيضًا..
كانت “غالية” ترفع كفيها بداخل غرفتها وهي تتضرع للخالق أن يحمي ابنها ويحفظه ويعيده إليها عاجلًا غير آجلٍ، كانت تتوسل للخالق أن يمد وحيدها بالقوةِ وأن يقف من جديد ثابتًا وشامخًا، كما دعت له أن ينتصر في حربهِ ثم دعت بالرحمة لزوجها وعند ذِكره هتفت بنبرةٍ باكية كأنها تحدثه حقًا:
_قولي أعمل إيه يا “مصطفى”؟ مين كان يصدق إن العز اللي شفناه على إيدك يتحول لقهر وذل وكسرة بالشكل دا؟ مين كان يصدق إن العيال اللي أتولدوا في بوقهم معلقة دهب يتهانوا كدا؟ عرفت ليه كنت بخوفك منهم؟ علشان تعابين سامة ميتعاشروش يا “مصطفى” تعابين وربنا رحمك منهم، وبتمنى يرحم ابني من اللي هو فيه..
أنهت حديثها بالبكاء وهي تمسح وجهها تزامنًا مع خروج “قـمر” لها من الداخل ثم أقتربت منها تمسح وجهها ثم لثمت جبينها بعدما أجبرت شفتيها على الإبتسام لوالدتها التي أحتوتها بين ذراعيها وكأنها الثمين المتبقي لها ويتوجب عليها حمايته، فيما تمسكت “قـمر” بأمها كعادتها في حزنها وفرحها حتى أنها أبلغت “أيـوب” بما حدث والبحث عنه وقد قطع لها عهدًا أن يفعل ما يتوجب عليه فعلهِ..
__________________________________
<“في بعض الوداعات تركنا نفسنا معها”>
يومٌ جديدٌ أشرقت شمسه وظهرت خيوطه الوضاءة بعدما رحل عن الساعات الظلام، وتلاشت الليلة الظلماء ليبدأ هنا هو المرحلة الجديدة في حياته، والأصعب إن كنت لا تعلم، سيظهر بالمنظور الجديد حيث القوة والهيبة وإدارة مكانٍ يصل عدد رجاله إلى خمس وعشرين فردٍ، وهو القائد هنا، حيث لا مجال للمزاح أو السخرية، فقط هنا ستجد العمل والجد وفقط..
ومنذ الساعة السابعة صباحًا إلا دقيقة كان يقف في مقر العمل وهو ينتظر العُمال، وكان يرتدي ثيابًا عصرية بعض الشيء وبطاقته التعريفية عنه وعن هويته، والخوذة الهندسية، ويبدو أنه اشتاق حقًا لهذا الدور المُحبب لقلبه وقلب أبيه، حيث كانت أمنية “مصطفى الراوي” أن يُصبح مُهندسًا بمجال البترول والتنقيب عنه، لذا حتى وإن كان يشعر هنا بالتعب فهي الوظيفة الأحب له طالما أحبها والده
وللأسف البداية لم تكن نذيرة بذرة خيرٍ واحدة، حيث تأخر العمال عن موعد القدوم لمدة رُبع ساعة كاملة أي خمسة عشر دقيقة، وفي قاموسه تعتبر كارثة، لكنه يعلم جيدًا أن هذا المجال قلما وُجِدَ فيه الملتزم، لذا أنتظر مرور دقائق أخرى وصلت للعشر ثم تولى هو مهمة الإيقاظ، وقد تحرك نحو مقر العمال ووقف في منتصفه بعدما فتحه له المسئول عن التأمين ووقف يهدر من بين شفتيه بصوتٍ عالٍ:
_أصحى منك ليه!! إحنا مش جايين رحلة، فوق أنت‌َ وهو.
صوته كان أبلغ من أي وسيلةٍ حيث استيقظ الطاقم كاملًا مفزوعين إثرًا لصوته بينما شمل هو المكان بنظرةٍ ثم هتف بنبرةٍ عالية من جديد بعدما رآى ركضهم خلف بعضهم:
_ ١٠ دقايق تكونوا تحت عند الماكنة، ١٠ وثانيتين أنا لو جيت تاني هتبقى سواد، أظن أنا قايل من إمبارح نظامي ولما قابلتكم تاني قولت إني بشتغل بالساعة، والدقيقة ومن قبلهم الثانية، ورايا.
ترك المُحيط ورحل من المكان كما دلفه بنفس القوةِ وقد بث الذعر والرعب في نفوسهم ثم عاد لسيرته الأولى ينتظرهم حيث المكان المُخصص للعمل بجوار المُعدات الخاصة بالحفر والماكينات المُعدة لذلك وبعد مرور ١٠ دقائق وقفوا أمامه مُطأطئين الرأس للأسفل مُقرين بذنبهم فيما زفر هو بقوةٍ وهتف بنبرةٍ جامدة وكأنه عاد ذاك الـ “يوسف” القديم قبل إيجاد أحبائه:
_شوف يا بني منك ليه، أنا قولت هنا شغل في شغل بس ومعنديش استعداد إني أضيع وقتي هنا، ظبطوا نفسكم ونومكم علشان دي فلوس ناس مش تكية أهالينا، المعدات والآلا محسوبة بالثانية، وأنا أتعودت طول فترة شغلي بخلص قبل المعاد المُحدد ومعنديش استعداد أغير نظامي بسبب أي حد، أنا مش هستنى حد يكلمني كلمة فارغة وملهاش لازمة، علشان لما فكروا حتى إنهم يزيطوا معايا ويشوفوا نفسهم أنا كسرت عينهم وبقيت صاحب فضل عليهم، ياريت يكون كلامي مفهوم، كل واحد على شغله اتفضلوا.
أشار نحو المُعدات وأنابيب السحب الكبيرة ثم بدأ العمل على عُجالةٍ منهم دون تناول وجبة الفطور على غير المعتاد لهم، وقد أتى عامل المطبخ له يطلب منه بعجالةٍ:
_يا باشمهندس لازم يفطروا، الفطار جهز خلاص.
زفر بقوةٍ وأرد يخبره أنه سيعاقبهم نظرًا لتأخرهم ويتخذ التجويع سبيلًا لذلك لكنه تراجع مُفكرًا بحنوٍ بعض الشيء وقد تخلى عن قسوته بقولهِ:
_خمس دقايق وخليهم يفطروا، عن إذنك.
رحل بعدما أبلغه قراره وقد ابتعد عن الجميع داخل غرفته وأخرج سيجارةً ينفث هوائها بعيدًا عن مُحيط البحث والتنقيب، وحتى يقو على القادم خاصةً إن كان هذا العمل يجلب له الذكريات المريرة التي تذكره بنفسهِ قديمًا قبل إيجاد عائلته حينما كان وحيدًا وغريبًا يفعل كل شيءٍ حتى يسمى إنسانًا يملك هوية فحسب، هنا هو يجد الهدوء من ضجيح الرأس وغوغاء المدينة القاسية، هنا قد ينجح في ترويض نفسه، بالرغم من فشله في ذلك عدة مرات..
__________________________________
<“أيا صُبحٍ مَرَّ على الناس عدا ليلي ظل يؤرقني”>
قد ينتج عن الماضي حاضرًا لم تحبه النفس في حين أنها من تسبيت في ذلك بأفعالها القديمة، وقد يساهم هذا الماضي في تغيير الحاضر بدرجةٍ كُبرى حتى تظل النفس حينها تفكر ماذا فعلت لتستحق هذا الحاضر؟ رغم أنها نفس قد تكون مُجرمةً، وعلى ذكر هذا المثال أوقف هذا المجرم “مُـنذر” دراجته البُخارية أمام المشفى الخاص بالأمراض النفسية والعقلية تزامنًا مع وقوف “فُـلة” بسيارتها في مواجهتهِ وقد ترجلت خارج سيارتها وهي تقول بنبرةٍ هادئة على غير المعتاد:
_صباح الخير يا دكتور “مُـنذر”
انتبه لها وخلع الخوذة السوداء يرد عليها بإيجازٍ:
_صباح النور يا كتورة، خير؟.
سألها بكلمته الأخيرة حينما لاحظ ارتباكها وكأنها تصارع للإفصاح عن شيءٍ ما وقد برع في قراءة ما بها كعادته، بينما هي لاح في أفق عقلها ذكرى مقابلتها الأولى معه ووعدها لشقيقها أن تعتذر منه، لذا رفعت نظارتها الشمسية فوق مقدمة رأسها وهتفت بصوتٍ مُتسرعٍ:
_أنا كنت عاوزة أعتذر ليك عن موقفي المُتسرع يوم ما حضرتك جيت المستشفى، أنا كنت ساعتها متضايقة جدًا وجت فيك أنتَ، بس أكيد تصرفك كان غلط يعني، المفروض حضرتك دكتور نفسي يعني لازم تكون على أكبر درجة من الإتزان في رد الفعل الصادر منك، لكن حضرتك كنت غوغائي جدًا.
رفع أحد حاحبيه يبتلع توبيخها بإرادته لكن نزل من فوق الدراجة البخارية ووقف في مواجهتها مُباشرةً وهو يقول بتهكنٍ مُشيرًا إلى حديثها وطريقتها السابقة معه:
_طب مقولتيش لنفسك ليه الكلام دا؟ على ما أظن كدا إنك دكتورة نفسية أنتِ كمان والمفروض تكوني على درجة من الإتزان برضه، ثم إني مش هتقبل الإهانة لمجرد مهنة أو وظيفة تخليني آجي على كرامتي، مش كدا يا دكتورة؟.
ضيقت جفونها ترمقه بغيظٍ فيما تعمد هو التحرك من جوارها وإصطدام كتفه بكتفها عن عمدٍ حتى كادت أن ترفع صوتها وتعنفه بطريقةٍ لاذعة جعلته يستشعر رد فعلها وإذ به يلتفت لها مُبتسمًا بتسليةٍ واضحة في عينيهِ مُشيرًا إلى حديثها السابق منذ دقائق:
_لأ!! عيب يا دكتورة، فين الإتزان النفسي؟.
ألقى جملته عليها ثم ألتفت من جديد يتسلق الدرجات الثلاثة لكي يعبر داخل المشفى بعدما تجاهلها فيما كورت هي كلا كفيها تمنع صرخة مكتومة من بين شفتيها قبل أن تُفلت منها ولإخراج غيظها قامت بضرب الأرض أسفلها ثم تبعته نحو الداخل وهي تسبه وتُغمغم بحنقٍ حتى وصلت لغرفة الإدارة الخاصة بشقيقها ثم أرتمت على مقعد المكتب وهي تقول بضجرٍ:
_غوغائي بصحيح.
بينما هو دلف الغرفة التي خصصها له “جـواد” ثم سحب أول الملفات التي يتوجب عليه دراستها قبل التعامل مباشرةً مع الحالة، هي حقًا تجربة ممتعة له أن يباشر العمل في مجال العلاج النفسي مع الضحايا وجهًا لوجهٍ، وقد لاحظ أن المكان هنا يضع المشاعر في طابعٍ ذا أهميةٍ كُبرىٰ واضعين في عين الإعتبار أن من قدموا إلى هنا هم ضحايا في المركز الأول والمرضى في الخارج وقد جال بعينيهِ في ملف الحالة التي قرأ هو مُلخصها بصوتٍ مسموعٍ لكي يّكسب عقله مزيدًا من الإهتمام بهذا الشأن مما ينتج عنه الكثير من التركيز:
_”محمود محمد الألفي”
شاب عنده ٣٥ سنة، صاحب شركات ومصانع مواسير مياه، ورثها عن والده، عنده إكتئاب حاد من الدرجة الأخيرة، السبب فيها مراته السابقة وأخوه الكبير، والسبب جواز الاتنين بعدما تسببوا في مرضه النفسي، وطول فترة طويلة كانوا بيحطوا حبوب هلوسة خلت أخوه يحجر عليه!! والنتيجة وجوده هنا بإرادة خالته.
زفر بقوةٍ وأمعن النظر في بيانات الحالة التي سرقت حواسه ويبدو أنها شغلت حيزًا كبيرًا في عقلهِ وعليه إن يبدأ في معالجتها، ثم استمع لصوت عقله الذي حذا حذو قلبهِ حينما هتف يذكره بوضعهِ:
_أيعالج مريضٌ مريضًا غيره؟ أم يهرب المريض من مرضه في معالجة غيره؟ على كُلٍ هم مجرد ضحايا تتم معاقبتهم، والمريض الحقيقي حُرًا، فمن كان يُصدق أن الطيور الحُرة تبقى حبيسة خوفًا من إرتفاع صوت غنائها؛ والصقور الجارحة تتحرك في السماء ترعب الجميع بصوتها؟.
__________________________________
<“ربما تظنه جبانًا، لكن إنسحابه أنقذ الموقف”>
في حارة العطار بعد عدة ساعات تحديدًا قرب صلاة العصر..
جلست هذه الفتاة في إنتظار أبيها وهي تفرك كلا كفيها معًا ضاغطةً عليهما فلازال لديها العديد من الأسئلة التي تحفظها بداخل جوفها، وقد وقعت أسيرة في معتقلٍ ملئته بالأسئلة على الحوائط وجلست في إنتظار الجواب، قد رأف بها “جابر” الذي دلف الشقة مما جعلها تزفر بإرتياحٍ ثم أقتربت منه تقف بمحاذاتهِ وهي تقول بلهفةٍ:
_بابا معلش عاوزة أتكلم معاك ضروري.
انتبه لها وحرك رأسه موافقًا ودلف معها يجلس في مواجهتها بغرفة الجلوس وبجوارهما جلست زوجته و “مارينا” التي كانت تمسك هاتفها تراقب صفحة الدكتور الجامعي المنتظر وقد راقها التجوال في هذا الحساب كثيرًا بعد جلوسهما سويًا منذ يومين وكيف عرض عليها الزواج وصمتت هي وآخر ما لفت نظرها هي الأغنية التي قام بمشاركتها عبر صفحته الشخصية لتبتسم هي بإتساعٍ وقد سرق انتباهها من محورهِ صوت شقيقتها التي هتفت تستفسر من والدها:
_هو إزاي يا بابا حضرتك كنت عارف موضوع “تَـيام”؟ إزاي اتسببت في وجعه كدا؟ بعدين المفروض كنت قولت، كنت عرفته وعرفت عمو” عبدالقادر” وليه مقولتش على اللي حصل؟.
حسنًا هاهي الأخرى تضغط عليه وهو بالطبع يعلم من المُتسبب في ذلك، وقد ألقى المفاتيح على الطاولةِ الزجاجيةِ وزفر بقوةٍ ثم التفت بجانبه الأيسر ليصبح في مواجهتها أكثر:
_هو أنا بأدن في مالطة؟؟ محدش فيكم عاوز يفهمني ليه؟ كان المفروض أروح أقوله تعالى يا حبيبي أنتَ عايش وسط ناس كدابة، دول مش أهلك وروح شوف أنتَ مين؟ ولا كان المفروض أسيب “سامي” يلعب بيه وربنا أعلم بمصيره إيه، يبقى ابن شوارع ولا عيل سوابق، ولا حتى بيتاجروا بيه؟؟ أنا باللي عملته دا أنقذته، كونكم مش شايفين حاجة زي دي يبقى دا غلطكم، علشان أنا صح وبكرة لما كل حاجة تظهر هتعرفوا إني كتر خيري أتسببت في إن عيل صغير بقى ليه بيت وعيلة، وعيلة كانت محرومة وهتعيش في حزن وغم، بقى عندهم عيل يملا بيتهم، الكلام سهل والله، بس ساعة الفعل العقل بيتشل ويقف، حضرتك بتعاتبيني ليه؟.
حركت رأسها نفيًا بسرعةٍ كُبرى تزيل عن كهلها إتهامه ولأول مرة تشعر بالفخر به، حيث للمرةِ الأولى يتصرف دون أنانية بل يُفكر في غيره، لذا هتفت وهي تتحرك تجلس بقربهِ:
_أنا عاوزة أقولك إني فخورة بيك أوي، ولما عرفت اللي حصل كنت مش مصدقة إنك عملت كدا بجد، دي أول مرة ألاقيك بتتصرف علشان خاطر حد، أول مرة أحس إنك مش أناني في التفكير، صدقني أنا معاك ولو كله مش واقف في صفك أنا في صفك، ومبسوطة إن بابايا لحق ولد صغير من مصير ربنا يعلم بيه، وساعد ناس تفرح، أنتَ كبرت في نظري أوي.
لمعت عينا “جَابر” بغير تصديقٍ حتى بدا وميضها مُنبهرًا بحديث ابنته التي قلما دارت الأحاديث بينهما، وقد أضافت هي بسعادةٍ مقروءة في عينيها ومسموعة في صوتها تُكمل ذهوله بقولها:
_عارف؟ جدو “مَلاك” كلمني وعرفته اللي حصل وهو فرح أوي بيك وكان حاسس إنه مبسوط، وعرفت إنك طلبت مساعدة “بيشوي” كمان وصدقني هو مستحيل يتأخر عليك، أنا مبسوطة بجد بيك.
ابتسم هو لها بصمتٍ وقرر أن يسكت تمامًا أمام فرحتها به، فهذه المشاعر نادرة النشوء بداخلهِ لذا سعادته بها قد تكون شبه محتملة الحدوث من جديد، لذا أطلق زفيرًا قويًا دون أن يخبرها عن التهديدات التي تلاحقه فيما هتفت “مارينا” تقطع وجل تلك اللحظة بقولها الغير ملائمٍ للموقف:
_طب يا جماعة مع إحترامي ليكم ولمشاعركم أنا فيه عريس متقدملي، أقوله ييجي إمتى بس علشان حاسة إن الدنيا زحمة عندكم وأنا للآسف عندي ميد تيرم.
ألقت الحديث عليهم ببلاهةٍ جعلت أمها تمسك مرفقها وهي تسألها بنبرةٍ مندفعة بقلقها وخوفها من طيش ابنتها:
_نعم!! عريس مين دا يا قلب أمك؟ يطلع مين؟.
عادت “مارينا” للخلف بخوفٍ زائفٍ من اندفاع والدتها وأنكمشت على نفسها وهي تلفظ اسمه وكأنها تُفشي سرًا حربيًا:
_أول حرف من اسمه “يوساب رأفت”.
شهقت أمها بفرحةٍ تلقائية ثم صدح صوتها تطلق زغرودة عالية لفرحتها بابنتها فيما طالعت” مهرائيل” وجه شقيقتها بحيرةٍ وقد أومأت لها الأخرىٰ تُؤكد حديثها على عكس “جابر” الذي رفع كفه يمسح على وجهه بعنفٍ فهاهي النسخة المُستحدثة من “بيشوي” قدمها تطأ بيته ليخطف صغيرته كما تم خطف كبيرته، الأمر في قمة الغرابة لديه، أهذه العائلة أصابها العمى عن كل الفتيات عدا فتياته هو؟ لذا قرر أن ينسحب من الجلسة قبل أن يزداد حنقه فهو لم يهنأ بعد بمشاعر ابنته نحوه لتصدمه الصُغرى من جديد.
__________________________________
<“لقد كان البيت مُظلمًا وأضاء بوجودكم”>
سبحان الخالق حينما يضع الشعور ثم ينزعه ثم يُكرم المرء بغيره، يبدو الحال وكأن رحمة الخالق تجلت في الرأفة بالقلوب، فمن كان يُصدق أن هناك قلوب ماتت من فرط الحزن أن تحيا من جديد؟ قلوب أكلتها الشيبة ودمرها العجز أصبحت شبابًا أكثر من الصبية أبناء العمر القليل، وقد شرد “نـَعيم” مبتسم الوجه وفرح العينين حينما تذكر مشهد صغاره صباحًا بجوار بعضهما بعدما على ألح على ابنه الكبير أن يقضي ليلته معهم حتى طلبه “مُـحي” بداخل غرفته وأنتهى الأمر بنوم الأثنين بجوار بعضهما و “تَـيام” يحتضن شقيقه وكأن كلاهما أضحى آمنًا بجوار نصفه الآخر..
انتفض قلبه بسعادةٍ حينما تذكر ما حدث وخرج من شروده على صوت “إيـهاب” الذي عاد للبيت يطمئن على زوجته المريضة قبل أن يعود إلى العمل من جديد:
_أنا مصدقتش الست “تحية” لما قالتلي إنك في المطبخ بنفسك وبتعمل عصير كمان؟ قولت يعيني مخها فوت خلاص وربنا هيرحمها قريب، بس شكلي أنا اللي مخي لحس.
ضحك “نَـعيم” بملء شدقيه ثم ألتفت يواجه المتحدث بقولهِ:
_لأ يا سيدي لا مخك لحس، ولا هي فوتت، أنا قولت أعملهم كوكتيل حلو من إيدي، وشكل البت “سمارة” بتجيب سيرتك لأمها بالخير علشان بتحبك وهتشرب معانا، قربت أخلص أهو.
أنهى جملته ثم التفت يُكمل ما يفعله بينما “إيـهاب” ضرب كلا كفيه معًا بذهولٍ سيطر عليه، ثم تتبع حركة “نَـعيم” بعينيهِ وهو يقوم بسكب العصير داخل الكؤوس الزُجاجية وحمل عنه صينية التقديم وهو يسخر بينه وبين نفسه على وضعه، فمن يصدق أن الشاب الذي يطلق أوامره ويفرض سيطرته ينتهي به الأمر وهو يمسك صينية عصائر!! وقد تحدث لسان حاله يسخر منه بجملةٍ تهكمية:
_ياريته كان شاي، دا عصير يا عمهم.
كان يسخر من نفسه حتى وصل إلى الخيمة القماشية ووضع العصير بها أمام “تَـيام” و “مُـحي” وتبعه “نَـعيم” وعرض عليه الجلوس معهم لكنه رفض مُتحججًا بمرض زوجته وقبل أن يلتفت مغادرًا أوقفه “نَـعيم” بقولهِ:
_هو “يـوسف” راح فين يا “إيـهاب”.
ألجمه بسؤاله الذي أتي غير متوقعٍ في هذه اللحظة وقد تلاقت النظرات ببعضها وقبل أن يكذب”إيـهاب” علم بذلك “نَـعيم” الذي هتف يوقفه بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_”يوسف” عمره ما هيخبي عليك حاجة، دايمًا بيقولك على كل حاجة حتى لو الحاجة دي هيخبيها على الدنيا كلها، علشان كدا بقولك هو راح فين؟ وأنا هتصرف متقلقش ومش هجيب سيرتك ليه.
علم “إيـهاب” أنه وضِعَ في خانة اليك بين المطرقة والسندان ومن المؤكد أنه لن يقو على الكذب أمام إصرار “نَـعيم” فهتف بثباتٍ دون أن يخرج ما في كامل حوزته:
_ معرفش غير إنه راح شغله القديم تاني علشان فيه بريمة بترول فيها أزمة وهو راح يحلها قبل ما كل حاجة تقف وتوقف ترقيته، بس دا اللي أعرفه.
رفع “نَـعيم” أحد حاجبيه وتشدق بنزقٍ عبر عن كشفهِ أمر “إيهاب” الذي يبدو أنه خفى المكان المُحدد حتى لا يتم التوصل إليه:
_مش هفكرك إن شغل الموجي دا مش بياكل معايا، وعاوز أعرفك برضه إني مش أنا اللي حد يطوحني في الموج يا “عمهم” بس طالما أنتَ متطمن خلاص، أمان، خدلك كوباية عصير لمراتك ولو كدا نجيب ليها دكتور ييجي يكشف عليها.
أومأ موافقًا ثم أخذ الكأس الزجاجي وأنسحب أخيرًا من المحيط مُتجهًا إلى شقته لكي يطمئن على زوجتهِ التي مرضت بالأمس وأرتفعت درجة حرارتها وقد وصل إليها بلهفةٍ وقدمه تسوقه إليها لكنه نجح في إخفاء هذه اللهفة ووصل لغرفته ليجدها بداخلها على الفراش تستند بظهرها على ظهر الفراش المخملي مُغمضة العين وقد ألمه حقًا مظهرها الضعيف الذي ذكره بأمهِ في آخر أيامها، لذا استعاد رابطة جأشه وأقترب منها يمسد على مقدمة رأسها وهو يحدثها بنبرةٍ هادئة بها لمحة ألمٍ:
_قوم ياعمنا!! دا أنا سيبت كل حاجة وجيت علشانك، قومي بس كدا مالك فيه إيه؟ متبقيش خفيفة كدا!!.
فتحت عينيها بوهنٍ لكن بسبب درجة الحرارة المرتفعة شعرت بالآلم بمجرد فعل هذه الحركة البسيطة مع جفاف حلقها فعاودت الإغلاق مُجددًا فيما قام هو بلمس جبينها وما إن استشعر ارتفاع درجة الحرارة خلع ساعته وأخرج اشيائه من جيبه ثم حملها على ذراعيه ثم فتح المرحاض بأحد كفيه بعدما أحكم الحصار على جسدها ثم فتح الكابينة الزُجاجية ووضعها بها ثم فتح المياه الباردة عليها من كل إتجاهٍ حتى شهقت وارتعشت فدعم هو ثقل جسدها بعدما أغلق المياه ثم حاوط جسدها بالمنشفةِ فوجدها تبكي من ألم رأسها وعظامها لذا حاوطها بكلا ذراعيه يمسح فوق رأسها.
بعد مرور عدة دقائق جلست فوق الفراش بعدما عاونها وساندها وبدل لها ثيابها المُبتلة بأخرى ثقيلة ثم صنع لها كوبًا من الأعشاب الطبية لكن قبله قام بصنع الوصفة التي كانت تعدها له أمه عند تعبه هو وشقيقه وقد تذمرت “سمارة” وهي تسأله بحنقٍ:
_ إيه دا يا “إيـهاب” هي ناقصة قرف يعني؟.
هتفت جملتها وهي تبعد أنفها المُجعد عن الوصفة فيما تنهد هو بثقلٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء لكن لم يتخل عن حنوه معها:
_أولًا دا مش قرف، دي وصفة أمي السحرية، يعني تتكلمي بأدب، ثانيًا بقى دي وصفة متجربة عليا أنا شخصيًا، طول عمره بعملها ليا ولـ “إسماعيل” كمان، نص كوباية عسل أسود على فصين توم، جربي بس، أنا قدامك أهو بقالي فوق الـ ٣٠ سنة عايش عليها.
طالعته بشكٍ جعله يدفع الكوب نحو فمها بينما كفه الآخر أمسك به رأسها حتى لا تقاومه وقد ارتشفت الكوب بأكملهِ بينما هو تنهد براحةٍ عميقة وهو يعلم أن أمر استسلامها للنوم لم يستغرق إلا دقائق معدودة، بينما هي فاهتمامه بها جعلها تطالعه بعينين دامعتين ثم أحتضنته بقدر ما سمحت لها حركة ذراعيها وهتفت بإعياءٍ واضحٍ:
_عارف؟ أهو أنا لو بموت حتى حنيتك دي قادرة ترد فيا الروح، يا أخويا دا ربنا عوضني بيك بجد، تسلملي من كل شر ويبعد عنك كل سوء، أنا بحبك يا “إيـهاب” أوي والله، ونفسي تحبني كدا زي ما بحبك.
ابتسم رغمًا عنه وأسبل عينيه للأسفل حيث موضع تواجدها ثم رفع الغطاء يُدثرها به ولازالت بين ذراعيه كما هي فيما استغل هو فرصة نومها في البوح بمشاعره التي قلما يصرح بها:
_والله بحبك ويمكن أكتر ما بتحبيني كمان، أنا لو مش بحبك مش هتشغليني بشلن حتى، بس مصيبتي السودا إني مبيشغلنيش غيرك أنتِ وبس، ومسيرك تعرفي دا.
أنهى جملته تزامنًا مع حركة رأسهِ نحو جبينها يُلثمه ثم مسح على ظهرها من جديد ومسد خصلاتها المبتلة وداخله يصرح أن ضعفها يتسبب في ضعفه، وقوتها وعزتها نسخة من عزته وشموخه، هي الجزء الآخر للروح وهي من تستحق أن يصادقها القلب ويصرح بما فيه لها مُرتاحًا من كتمانه لأجلها بالبوح..
__________________________________
<“أنا معك في ظُلمتك وليلك، أنا نورك وضُحاك”>
كان يجلس “سراج” في مقر عملهِ يراقب بعينيهِ “جـودي” التي جلست أمام شاشة التلفاز في مكتبه وأمامها العصير المُفضل لديها، وقد ابتسم بعينيهِ عند رؤيته لراحتها وهي تأكل المُقبلات المُحلاة والمالحة ثم أخفض رأسهِ يتابع عمله في دفتره الحسابي اليومي، وبعد مرور دقائق فُتِح مكتبه بواسطة “نـور” التي هتفت بضجرٍ:
_أنا عاوزة أفهم أنا لسه قاعدة هنا بعمل إيه؟ لازمتي إيه في حياتكم طيب؟ أنا عاوزة أسافر تاني مكاني، الوضع مش مريحني هنا.
رفع “سراج” رأسه بحدةٍ يُطالعها حتى وجدها تجلس على المقعد المقابل لمكتبهِ فيما ركضت نحوها “جـودي” وهي تحتضنها وقد أضافت لصفوها المُعكر النقاء الخاص بها لتحتضنها الأخرى وتلثم وجنتها ثم جعلتها تستقر بين ذراعيها وهي تلصق ظهرها بصدرها متجاهلة بذلك “سراج” الذي حسد الصغيرة لوهلةٍ وهو يفكر بوقاحةٍ لما لا تعتبره صغيرًا هو الآخر، هو أيضًا حُرِمَ من أهله وقد لاحظت هي نظراته نحوها فرفعت رأسها تسأله بسخريةٍ:
_مالك؟ فيه حاجة يا أخ؟.
رفع حاجبيه بذهولٍ ثم هتف بتهكمٍ يشير إلى طريقة دخولها المكان:
_لأ خالص، دا يدوبك بس دخلتي زي الإعصار في وشك وعاوزة تسافري بعدها نزلتي أحضان وبوس فيها وأنا حتى مرميتيش السلام عليا، شوفتي الموضوع بسيط إزاي؟ سلامة الشوف يا شابة، إيه اللي صابك.
سألها بتهكمٍ جعلها تتنهد مُطولًا ثم هتفت بنبرةٍ ضائعة ظهر بها التشتت في الحال حيث ما تواجهه هنا أضحى أكبر من قدرة تحملها:
_أنا آسفة بس أنا حاسة إني ضايعة هنا وماليش لازمة، مفيش حد هنا أعرفه غير بابا وعمتو وأنتَ، وتحكماتك صعب، مبقاش عندي صحاب ولا أعرف حد، وبابا شغله مش بيخلص دا بيزيد، وعمتو الأتيليه بتاعها واخد وقتها ومش عاوزة أشغلها، وأنتَ كأنك رابطني جنبك، ومفيش شغل حتى!! سفروني ووعد هرجع ليكم.
زفر بقوةٍ ثم ترك مقعده والتفت يجلس على المقعد المقابل لها وهو يقدر حجم ضيقها وحزنها، فمن المؤكد أنها أصبحت تشعر بالضيق من بقائها هنا بهذه الطريقة كما لو كانت قطعة من قطع الزينة:
_عارف إنك اتخنقتي، بس أنا مش بتحكم أنا بشاورلك على اللي بعيد عنك يا “نـور” بوريكي الحاجة اللي مش واخدة بالك منها، ومش عاوزك تزعلي مني بس أنتِ كان عجبك وضعك قبل كدا؟ مش بلومك وعارف إنك ماكنتيش فاهمة حاجة، بس سهر وشرب وصحاب وسفر، دي مش حياة تناسبنا، حتى لو أنا مش شيخ بس أكيد دا غلط، ومش هنظر عليكِ، بس أنا يهمني أنتِ، شوفي إيه يريحك وأنا هعمله بس إلا السفر، أنا عندي تكوني معايا في نفس البلد وتتمنيلي الموت، أحسن من حب أضعاف بس غايبة عن عيني.
ابتسمت له تلك البريئة التي يبدو أنها تقع تحت أثر حديثه ثم قالت بنبرةٍ ظهر بها الخجل وهي تمسح على خصلات “جـودي” التي تابعت الحديث بينهما بوجهٍ مُبتسمٍ:
_ مش عاوزة خلاص، عاوزاك كويس علطول ومبسوط.
ألقت جملتها عليه وهي تطالعه بعينيها الخجولتين فيما ابتسم هو لها بصفاءٍ تعكر فور دخول “إسماعيل” المكتب وما إن رآها تجلس ابتسم لها يرحب بها ويُحييها قائلًا:
_إزيك يا “نـور” المكان نور بيكي والله.
ابتسمت له بمجاملةٍ وهي توميء برأسها فيما سأله الآخر عن سبب قدومه وتركه للعمل وقد برر “إسماعيل” مجيئه قائلًا بقلة حيلة:
_جيت أعرفك إن “يـوسف” سافر ودي فيها أسابيع لحد ما يرجع تاني، علشان كدا بقولك خلي “عزيز” يمسك هناك وأنتَ ركز هنا لحد ما “مُـحي” يخلص الامتحانات اللي عليه.
زفر “سراج” وأخرج أنفاسه المكتومة ثم هتف بنبرةٍ حائرة وكأن هذه المهمة أثقل مما يمر عليه في خضم أعماله المتراكمة:
_طب ما أنتَ عارف إن “عزيز” مراته هتولد خلال الشهر دا ومواعيده بايظة، وأنا هنا وسايب الكافيه التاني لـ “عزيز” شوف “ميكي” كدا وخلي “إيـهاب” يتابع معاه.
رفع “إسماعيل” كفه يحك فروة رأسه بحيرةٍ حتى تدخلت “نـور” في الحديث تقترح عليهما بما يحل معضلة بقائها هنا:
_طب إيه رأيكم فيا؟ والله أنا بفهم في الشغل دا وجربت قبل كدا لوحدي، أهو أكون معاكم أنتم مش غرب يعني، وأكون متطمنة وأنا بشتغل معاكم هنا، قولتوا إيـه؟.
ألقت الإقتراح عليهما وحركت عينيها بينهما تراقب ردود أفعالهما ونظراتهما لبعضهما سويًا ولم تأخذ الكثير من الوقت حتى تفهم أن الفكرة لاقت استحسانهما وقد أيد “سراج” هذه الفكرة بإعجابٍ صريحٍ على الأقل سيأمن عليها أمام عينيهِ وبجواره، ويبدو أن هذه الذكية أضاءت دربه بهذه الفكرة.
__________________________________
<“الأيام تمر، ونحن كما نحن وقفنا في الممر”>
بعد مرور أسبوعين كاملين..
الوقت الذي يمر في الإنتظار لا يَمر بتاتًا، تُرى عقارب الساعة اللعينة تحب التسكع وتهوى التوقف، كيف يُفنى عمر المرء في إنتظارٍ يرجوه؟ أسبوعان فاتا على غيابه دون حتى مكالمةٍ هاتفية واحدة يُطمئنهم بها، تركهم خلفه يعانون من ألم الفقد وقد أنتقل الحزن منهم للجميع، ولاقى الأثر كل من حولهم، وأكثرهم شعورًا بالذنب كان “أيـوب” الذي ألتزم بكلمة العهد بينهما، وقد تبدل حال “قـمر” كثيرًا حتى أضحت كما الوردة الذابلة التي أهملها ساقيها..
جلس “أيـوب” في حديقة البيت يراسلها عبر تطبيق الواتساب كتابةً وهي تتجاوب معه بإقتضابٍ أنها لازالت قلقة على شقيقها خوفًا من أي مكروهٍ قد يصيبه، كما أن هناك هالة من الغموض تحاوط أمر رحيله تجعله يتهرب منها ومن الجواب حتى استأذنته هي وأغلقت المحادثة فيما زفر هو بقوةٍ ثم مسح وجهه بكلا كفيه معًا حتى أتى له “أيـهم” حاملًا ابنه على كتفه ثم هتف ساخرًا:
_مالك ياض؟ القمر لسه زعلان ومزعلك صح؟.
رفع رأسه نحو أخيه وحرك كتفيهِ بقلة حيلة جعلت شقيقها يجلس على مقربةٍ منه وقد أتت “نِـهال” تجلس بجوار زوجها ووضعت أكواب الشاي ثم هتفت بنبرةٍ هادئة بعدما لمحت حزن من أعتبرته أخًا لها:
_عملتلكم شاي أهو، مالك يا “أيـوب”؟ على فكرة كلمنا
“قـمر” تيجي تقعد معانا بس هي مش راضية، وقالت إن مامتها محتاجاها، بس أنا عندي ليك فكرة حلوة، فيه محل هنا قريب هي بتحبه أوي بتجيب منه حاجات خاصة بيها، ممكن تاخدها تجيب حاجات من هناك، وهاتلها حاجة حلوة وأتكملوا مع بعض، إيـه رأيك؟.
حرك رأسه نحوها بلهفةٍ وضيق جفونه يتفرس ملامحها بينما هي فتحت الهاتف الخاص بها وأرسلت له موقع المكان واسمه على الفور ثم هتفت بسعادةٍ كونها تساهم في حل الأمر المعقد:
_تمام كدا، بعتلك مكانه أهو، روح دلوقتي وخرجها وخليها تجيب حاجات هي بتحبها.
ترك المقعد بعدما شكرها مرارًا وقد ركض خلفه “إيـاد” لكي يذهب معه بينما “أيـهم” راقب حركة شقيقه بعينين مُبتسمتين ثم وجه نظراته نحو زوجته وهتف يشاكسها بقولهِ:
_أيوة يا جامد يا حلال العُقد أنتَ!! روحي ربنا يبارك ليكِ للغلابة اللي زينا كدا، مش عاوزة تحليلي عقدي خالص؟ أنا مكلكع وجوايا عيل توكسيك، عالجيني يا ست “نِـهال”.
تبسمت هي له ثم مسدت على كفه وهتفت بنبرةٍ هادئة أعربت عن صدقها في لحظة صفاءٍ بينهما:
_أنتَ أحسن وأحلى صدفة في العمر كله.
رفع كفيه وكاد يقترب منها لكي يحتضنها لكنه خدعها وقام بسحب كوب الشاي يرتشف منه بتلذذٍ حتى ضربته هي بكفها في كتفهِ بغيظٍ منه وهتفت حانقةً على فعلهِ:
_والله؟؟ طب أشبع بيها بقى.
تركته ورحلت فيما نظر هو في أثرها مبتسمًا ثم عاد للخلف يستند بظهره مستمتعًا بحنقها لكونها هي من أصبحت تحب صحبته ورفقته، بينما هذا المُخادع يصنع لها مفاجآة دون أن تعلم هي.
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا بشقة “عـهد”…
اليوم هو يوم الخميس وفي قاموس الفتيات العاملات هو يوم السعد، وهاهي عادت من عملها أخيرًا بعدما رجعت له وقد سأمت الإنتظار الممل القاتل لروحها، سأمت كونها تنتظر حتى سماع صوته لكنه بخل عليها بذلك حتى، وقد بدلت ثيابها بعدما تحممت وأرتدت منامة حريرية كُحلية اللون ولائمت بشرتها ثم فردت خصلاتها تدلك فروة رأسها بالزيت، ثم أغلقت الإضاءة الكبيرة وأضاءت الفرع المُزين ونثرت عطرها المفضل ثم جلست على الفراش وتسائلت كيف إذًا بشعور النعيم في الجنة، إذا كانت هذه الراحة في الدُنيا؟؟..
لكن يبدو أنها لم تكتب لها الراحة حتى صدح صوتٌ من الخارج جعلها تجعد جبينها ثم ركضت للخارج مُهرولةً لتتفاجأ بصوت آخر من توقعت وجودها هنا وهي أم “سعد”
وقد وقفت “عـهد” مصدومة من تواجدها في عقر دارها بينما الآخرى تجاوزت “مَـي” التي وقفت تطلق الشرر من عينيها لضيفتها الغير مرحب بها ونطقت مباشرةً للأخرى:
_بصي علشان معنديش وقت، أنا جاية أقولك خليكِ ناصحة وهديكِ ٢٠٠ ألف جنيه وتروحي تتنازلي عن القضية وتغيري أقوالك قدام النيابة من جديد، ابني يخرج براءة، وأنتِ تضمني أمانك، أظن يعني إني عرفت إن المحروس بتاعك مشي، يعني مين هيقف في صفك؟.
حقًا يا له من عرضٍ مُغري!!!
____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى