روايات

رواية شغفها عشقا الفصل السادس عشر 16 بقلم ولاء رفعت علي

رواية شغفها عشقا الفصل السادس عشر 16 بقلم ولاء رفعت علي

رواية شغفها عشقا الجزء السادس عشر

رواية شغفها عشقا البارت السادس عشر

رواية شغفها عشقا الحلقة السادسة عشر

ما أجمل لقاء الحبيب بعد طول فراق، وبعد سيل من الأشواق، إنها لحظة ترسم أحداثها في لوحة ربيع العمر، لحظة يزاد فيها نبض القلب، وتتجمد المشاعر من فرح القلوب، لحظة فيها من الوفاء ما يروي الأحاسيس.
لا تغيب عن ذهنه المنشغل بها، يلوم نفسه آلاف المرات بسبب تعامله معها بهذه الحدة، ربما جرح قلبه وكبريائه هما المسئولان لذلك يجب عليه في أقرب فرصة أن يصلح ما أفسده كليهما.
صدح رنين هاتفه، فرأى رقم العم عرفة الوحيد الذي أعطى له رقمه لكي يطمئن عليه من حين إلى آخر وكذلك يطمئن عن زوجة أبيه وأشقائه.
– ألو أزيك يا عم عرفة؟
أجاب عرفة بصوت أضناه الحزن:
– الحمد لله على كل حال، معلش لو اتصلت بيك، أنا عارف إنك مشغول ربنا يعينك، بس كان لازم أكلمك و أقولك إلحق شقى وتعب أبوك وتعبك طول السنين هيروح بسبب أخوك المستهتر،الضرايب بعتت إنذار وهو عمال يتهرب ويرشي المندوب عشان يقولهم مش موجود.
زفر ويشعر بالعجز فسأله:
– طيب دلوقتي المحلات باسم أخويا أنا هتصرف ازاي؟
أجاب عرفة:
– مصلحة الضرايب أهم حاجة عندهم الدفع وعشان دي سلسلة محلات هتبقي الغرامة كبيرة جدًا، فلو ليك سكة أو معرفة عند حد فيهم كلمهم وادفع المطلوب من غير غرامات أو حجز على المحلات لا قدر الله.
تنهد الأخر ثم قال:
– اطمن يا عم عرفة هروح لهم بكرة إن شاء الله وهشوف المبلغ كام وربنا يقدرني وأسدده ليهم.
– ربنا يعينك يا ابني، و يهدي لك أخوك.
و بعد تبادل السلام أنهى المكالمة فصدح رنين الهاتف الخاص بالشركة والاتصال على العملاء، أجاب بجدية يظن أن المتصل أحد العملاء:
– ألو.
أجابت بصوت باكٍ ومرتجف:
– إلحقني يا يوسف، أخوك نزل فيا ضرب وهربت منه، أنا في الشارع وخايفة أروح لخالي، وخالي ما بيقدرش يقف قصاده، أنا خايفة قوي.
سألها بلهفة وخوف عليها:
– قولي انتي فين كدا وأنا جايلك حالًا.
وبعد أن ذهب إلى المكان الذي وصفته له أخذها داخل سيارته ووصل أمام البناء الذي يمكث فيه، نظر إلى ملامحها وآثار أنامل شقيقه على خديها فقال لها:
– أنا آسف، يا ريتني ما كنت انشغلت عنك ولا سيبتك فريسة له.
نظرت إلى الأمام ولم تملك أي رد سوى الصمت، فأردف:
– ده مفتاح الشقة، تالت دور أول شقة على اليمين.
سألته على استحياء حتى لا يظن خطأ:
– هو أنت هتبات فين؟
أجاب وهو ينظر إلى الأمام، لا يتحمل رؤية وجهها في تلك الحالة المزرية:
– أنا هبات في الشركة وكمان أحسن كدا، عشان عندي شغل كتير لسه ما خلصتهوش.
ابتسمت بشفتيها المنتفختين من الضرب التي تلقته على يد شقيقه، فقالت:
– ربنا معاك، وآه صح نسيت أقولك ألف مبروك على الشركة، ربنا يبارك لك فيها.
عاد ببصره إليها وبادلها الابتسامة ثم أجاب:
– الله يبارك فيكي، هي شراكة ما بيني وما بين صاحبي اسمه ماجد وأخته آية، هاجي أعدي عليكي بكرة إن شاء الله، هاخدك في الشركة تتعرفي عليهم وهتحبيهم جدًا.
شعرت بغصة عندما سمعت اسم فتاة أخرى غيرها في حياته، لاحظ ملامحها التي تبدلت في لحظة من الفرح إلي الغيرة والحزن فأردف:
– على فكرة آية زي أختي بالظبط.
تنفست الصعداء لكنها تظاهرت بنقيض هذا قائلة:
– وأنا مسألتكش.
جز على فكه بحنق ثم أردفت:
– عن إذنك مضطرة أسيبك عايزة أطلع أنام، هبقي أكلمك أول ما هصحى، سلام.
ترجلت من السيارة تحت نظراته إليها، لوحت بيدها إليه ثم دخلت إلى البناء.
ــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، ذهب إليها ينتظرها أسفل البناء ليعود معها إلى الشركة، وعندما وصل كليهما، قابل ماجد صديقه الذي سأله بمزاح:
– مش تعرفنا بالقمر اللي معاك؟
لكزه يوسف في كتفه وبتحذير قال له:
– اتلم، دي قريبتي.
كانت تخشى أن يخبره أنها زوجة شقيقه، يا لها من كلمة كريهة تمقتها بشدة وكأنها أبشع لقب، أجاب صديقه معتذرًاً:
– بعتذر أنا معرفش والله، كنت فاكر إنها عميلة.
رد يوسف وهو يشير نحوها:
– اسمها مريم.
مد ماجد يده ليصافحها قائلًا:
– أهلاً وسهلاً يا مريم الشركة نورت.
ابتسمت وأجابت:
– منورة بيكم، معلش ما بسلمش على رجالة.
كم أسعد يوسف هذا، فأشار إليها نحو صديقه:
– وده يبقى ماجد فؤاد صديقي طول أربع سنين الجامعة.
– هاي أزيكم يا شباب.
التفت ثلاثتهم إلى صاحبة الصوت الناعم، فأخبر يوسف مريم:
– ودي آية أخت ماجد والشريك التالت لينا.
وأشار لآية نحو مريم وأخبرها:
– مريم قريبتي.
لم تمد يدها لمصافحتها واكتفت بالنظر نحوها بشبه ابتسامة، بل تجاهلت وجودها بينهم، فقالت:
– يوسف عايزة أتكلم معاك خمس دقايق.
رد الأخر بعفوية:
– اتفضلي اتكلمي براحتك، مريم مش غريبة.
نظرت إليها من طرف عينيها وأخبرته:
– معلش الموضوع خاص.
– معلش يا مريم، خمس دقايق وراجع لك خليكي مكانك.
أخبرها يوسف بذلك فهزت رأسها بالموافقة، فذهب مع آية ووقفوا على بعد أمتار، لا تسمع حديثهما، لكنها على يقين أن هذه الآية تحبه كثيراً من خلال الغيرة الواضحة لديها وكذلك نظراتها إليه وهي تتحدث معه ، داهمها غصة في فؤادها عندما رأتهما معاً.
ولدى يوسف وآية…
– أنا خلاص هسافر بكرة وجيت عشان أسلم عليك.
كانت تخبره وكأنه وداعًا أكثر من كونه لقاء، فأجاب:
– ربنا يوفقك، وبتمنى ليكي حياة أحسن وحبيب يقدرك ويحبك.
حدقت بشبه ابتسامة ثم قالت:
– إن شاء الله.
ثم نظرت نحو مريم وسألته:
– حبيبتك؟
اكتفى بهز رأسه ولم يجرؤ البوح بالوضع الحالي بينهما حتى لا يعطي أملًا واهيًا لها، فأردفت:
– ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير.
وبالعودة إلى مريم التي تراقبهما، انتبهت إلى رنين هاتفها، وجدت المتصل ابنة خالها فأجابت وتخشى أن يكون قد أصابها مكروهًا على يد جاسر:
– ألو يا أمنية؟
انتبه يوسف إليها وهي تركض إلى الخارج، فذهب وترك آية قائلًا:
– معلش يا آية هروح أشوف مريم مالها.
لم يستطع اللحاق بها مثل المرة السابقة، ويخشى أن تعود إلى شقيقه مرة أخرى ويعتدي عليها بالضرب، لذلك استقل سيارته وانطلق خلف سيارة الأجرة التي هي بها.
ـــــــــــــ
ترجلت من السيارة أمام المستشفى ودخلت إلى ردهة الانتظار، فوجدت ابنة خالها في انتظارها وتبكي بشدة، سألتها بقلق وخوف:
– فيه إيه يا أمنية؟ خالو حصله حاجة؟
ارتمت بين ذراعيها وأجابت من بين دموعها الغزيرة كغيث الشتاء:
– ماما، ماما تعبت فجأة وجبناها على هنا، الدكتور بعد ما طلب تحاليل وأشعة اكتشف عندها كانسر في العضم.
رددت مريم بحزن وهي تربت على أمنية:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يشفيها ويعافيها، هي فين دلوقتي؟
أجابت وهي تشير نحو الرواق:
– لسه منقولة في أوضة هناك، سيبتها ترتاح وتنام حبة، الوجع كان صعب عليها قوي، الدكتور حقنها بمسكن و نامت من حوالي ساعة.
– مش تقولي إنك ماشية عشان جاية على هنا.
التفتت مريم إليه فأجابت:
– معلش يا يوسف، أصل أمنية كانت عمالة تعيط ومافهمتش منها غير إنها هنا في المستشفي.
– أنا قابلت عم عرفة برة بيشتري حاجات وراجع، ألف سلامة على طنط أم محمود يا أمنية.
أجابت وما زالت تبكي:
– ادعي ليها بالله عليك يا يوسف، أنا خايفة يحصلها حاجة، أنا بحب ماما قوي وماقدرش أعيش من غيرها.
قامت مريم بمعانقتها وقالت بمواساة:
– يا حبيبتي ربنا يديها الصحة ويبارك لك فيها، ادعي ليها وهي هتقوم بالسلامة.
اقتربت نحوهم ممرضة لتسألهم:
– مدام أمنية، والدتك صحيت وعمالة تقول هاتولي مريم.
– أنا مريم.
فأشارت إليها الممرضة:
– طيب تعالي معايا عشان هي عايزاكي.
وقبل أن تذهب أمسكت أمنية يدها وقالت لها:
– أنا عارفة إنها زعلتك كتير، بس بالله عليكي سامحيها، هي قلبها أبيض وبتحبك.
أومأت إليها وأجابت:
– اطمني يا أمنية أنا مسامحها من غير حاجة لأنها في مقام ماما الله يرحمها، وربتني زي ما ربتك بالظبط من غير ما تفرق في المعاملة.
وعند هويدا الممددة على المضجع المعدني الخاص بالمرضى، دخلت مريم فرأتها هويدا ورفعت يدها بصعوبة وهي تقول بصوت يكافح الخروج من بين شفتيها حيث هزمها المرض المفاجئ شر هزيمة:
– تعالي يا مريم، تعالي يا حبيبتي.
ذهبت إليها وجلست على مقعد مجاور لها، أمسكت بيدها بين كفيها وابتسمت لها قائلة:
– ألف سلامة عليكي يا ماما هويدا.
– ياه لسه فاكراها، لما كنتي صغيرة وبتقوليها ليا.
هزت رأسها بالإيجاب وأخبرتها بامتنان:
– أنا عمري ما أنسى الحلو اللي قدمتيه ليا، مهما كان مقابله مواقف سيئة، خلاص تقريباً نسيتها.
– بس أنا ما نستهاش، أنا فعلًا جيت عليكي كتير والمفروض كنت أخدت حقك من ابني لما كان بيتعدى حدوده معاكي، كنت خليت خالك يكملك تعليمك من غير ما تروحي تشتغلي وتتبهدلي، كنت وقفت لجاسر وماخلتهوش يتجوزك، أنا مكسوفة أطلب منك تسامحيني، دا أنا مش مسامحة نفسي على كل اللي عملته معاكي.
ما زالت مريم تبتسم لها، وتمسك بيدها تمسحها بحنان فأخبرتها بسعادة:
– أنا قولتها لأمنية وبكررها لحضرتك، أنا مسامحاكي من غير أي حاجة.
ودنت منها ثم طبعت قبلة فوق جبينها:
– ألف سلامة عليكي.
كم من قلوب نقية قُذفت بالوحل فجاء الغيث عليها بغزارة لتعود إلى نقائها مرة أخرى.
ـــــــــــــــ
و بعد ثلاثة أيام صرح الطبيب بخروج السيدة هويدا من المستشفى والمتابعة من حين إلى آخر و تذهب لأخذ جلسات العلاج الكيميائي.
ذهبت أمنية إلى المنزل فوجدته رأسًا على عقب وزجاجات خمر فارغة ملقاة على الأرض وأعقاب سجائر متناثرة فوق السجادة، حدقت نحو هذا المنظر الشنيع بازدراء قائلة:
– إيه القرف اللي هو عامله ده؟
ذهبت إلى غرفة النوم وجدته يتمدد على بطنه فوق المضجع، على الكمود جواره صينية عليها بقايا طعام من الوجبات الجاهزة، تركت مُتعلقاتها وحقيبة يدها جانبًا وأخذت ترتب هذه الفوضى حتى انتهت، داهمها الشعور بالتعب، ارتمت فوق الأريكة فانتفضت عندما رأته يقف أمامها يسألها بلهجة حادة:
– كنتي فين من ورايا؟ كنتي بتقابلي بنت عمتك السافلة اللي وربنا أول ما هشوفها هكسر عضمها عشان ما تقدرش تخطي برة باب الشقة تاني”
أثارت كلماته غضبها حيث لم تتقبل وعيده على صديقتها، فصاحت في وجهه:
– حرام عليك، ما تسيبها في حالها، هي مش عايزاك ولا بتقبلك ماسك فيها ليه؟
قبض على عضدها بأنامله التي انغرست بقوة في ذراعها فأطلقت صرخة بألم.
– انتي مالك، أنا أعمل اللي أنا عايزه وانتي تسمعي الكلام وتخرسي خالص، بدل ما اللي بعمله فيها اطلعوا عليكي، فاهمة و لا لاء؟
هزت رأسها بالإيجاب فنفض ذراعها واتجه نحو المرحاض ملقياً عليها أمره:
– حضري ليا حاجة أكلها عشان خارج.
استدار إليها وأخبرها لإغاظتها:
– رايح أسهر مع بنات عندك اعتراض؟
نظرت إليه بامتعاض واكتفت بالصمت وذهبت إلى المطبخ لتعد له الطعام.
وفي ساعة متأخرة من الليل، يجلس داخل الملهي الليلي يحتسي الخمر بشراهة، كلما يتذكر رفض مريم له شعر كم هو أحمق، لمَ يريد امتلاك أحد يمقته إلي هذا الحد؟ تذكر السبب الرئيسي والذي جعله يفعل هذا ألا وهو شقيقه، يشعر اتجاهه دائماً بالحقد والضغينة.
– إلحق بص كدا، مش ده جاسر الراوي اللي اتجوز مريم اللي كانت بتشتغل في محل أبوه؟
قالها أحد الشباب الجالسين بجواره فأجاب صاحبه:
– أيوه البت القمر عارفها، دا كمان تجوز بنت خالها اللي اسمه عرفة.
عقب الأخر بحقد وسخرية:
– دا يا بخته وخسارة فيه.
أخبره الأول وتعمد رفع صوته ليصل إلى سمع جاسر الذي يسترق السمع إلى حديثهما عنه:
– دا أنا عرفت من البت نهى إنه اتجوز اتنين عشان يعمل لنفسه قيمة على إنه راجل جامد ومفيش زيه، وهو أصلًا عيل أهبل وشكل مرتاته لتنين بيدولوا على قفاه.
نزل من فوق المقعد المرتفع بجوار البار، وقف أمامهما ويحثه الشيطان عن أن يقطع ألسنتهما.
– جرى إيه يا حلو منك له؟ عمال تلقحوا عليَّ بالكلام وأنا ساكت لكم، أنا أهبل يا ولاد الـ… ”
أمسكه إحداهما من تلابيب قميصه:
– طيب ليه الغلط بقى؟روح يلا من هنا مراتك بتنده عليك.
وربت على خده بحدة، فباغته جاسر بلكمة وهو يصيح في وجهه:
– ملكش دعوة بأهل بيتي يا… ”
وضع أحدهما يده على أثر الضربة، ثم تناول زجاجة خمر وقام بكسرها على طاولة البار الرخامية، فصرخت الفتيات وابتعدن وتوقف الشباب يشاهدون ما يحدث، فعل جاسر المثل وأشهر الزجاج المدبب نحو أحدهما قائلاً:
– لو راجل قرب ووريني نفسك.
صاح الرجل قائلاً:
– أنا أرجل منك ووريني هتعمل إيه؟
بدأت المعركة بينهما وابتعد الذين يقفون للمشاهدة من حولهما، أتى رجال أمن الملهي من الخارج ليلحقوا بهما.
– أنت اللي جبته لنفسك.
قالها جاسر بعد أن تمكن من إيقاع الشاب على الأرض وهو غير مدرك لما يفعله لأنه يقع تحت تأثير الخمر، رفع يده لأعلى بنصف الزجاجة المدبب والحاد ثم وغزه بقوة في عنقه فأصابها بجرح قاطع وغائر أدى إلى قطع العرق النابض، أخذ ينتفض جسد هذا الشاب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
الفصل السابع عشر
يتجمع العمال حول يوسف الذي وصل للتو، ما بين الترحاب وبين من يلقون عليه شكواهم من عدم أخذ رواتبهم منذ شهور نظير وعود شقيقه الواهية.
– نورت محلك يا أستاذ يوسف.
قالها أحدهم فأجاب ترحيبهم الحار بنبرة مليئة بالأمل والتفاؤل:
– ده منور بيكم يا رجالة، والمحل دا مش محلي ولا محل إخواتي، دا محلنا كلنا هو وباقي السلسلة، كل جدار شاهد على تعب وشقى سنين اتبنى بعرقكم ومجهودكم، مش عايزكم تقلقوا خالص أنا دفعت كل الضرايب بالغرامات اللي علينا كلها الحمد لله، مش ناقص غير حاجة واحدة وهي إنكم تاخدوا رواتبكم المتأخرة، وأنا بوعدكم هتاخدوها بعد ما أطلع على أساميكم واحد واحد ومين اللي اشتغل طول الشهر ومين اللي غاب، عشان كل واحد ياخد حقه بما يرضي الله، اتفقنا؟
تعالت الهمهمات وصاح من بينها:
– ربنا يبارك لك يا أستاذ يوسف، وإحنا معاك ومش محتاجة سؤال طبعًا اتفقنا.
ردد الآخرون أخر كلمة في صوت واحد، فأومأ إليهم قائلاً:
– تمام يا رجالة، يلا كل واحد يروح على شغله وعايز اتنين يشيلوا اليافطة اللي برة ويعلقوا اليافطة القديمة.
أجاب أحدهم أيضًا وكان رجلًا في منتصف العقد السابع:
– اعتبره حصل يا ابن الغاليين.
دخل عم عرفة من مدخل المتجر مهللاً:
– الله، الله هو دا الشغل ولا بلاش، نورت المحل يا ابن الغالي.
– تسلم يا عم عرفة، ألا قولي طنط أم محمود عاملة إيه دلوقتي؟
تنهد عرفة ثم أجاب:
– الحمد لله عل كل حال، بدأت جلسات الكيماوي ونسأل الله الشفا.
– بإذن الله، ربنا يشفيها.
قالها وأخذ ظرف من درج المكتب وضعه أمام العم عرفة الذي سأله:
– إيه دا يا بني؟
أخبره يوسف قائلًا:
– أنا عارف مصاريف العلاج غالية والدنيا مزنقة معاك، خد المبلغ دا و لو احتجت تاني أنا تحت أمرك، أنا برضو زي محمود ابنك.
لم يصدق حاله وشعر بالحرج:
– بس يا بني…
قاطعه بإصرار:
– مفيش بس، أنا لسه بقولك أنا زي ابنك وهو فيه أب بيتحرج من ابنه!
وقبل أن يرد عرفة بكلمة كان نداء وصياح السيدة راوية قد أفزع كليهما.
– إلحق أخوك يا يوسف، ابني ضاع خلاص.
وقف يوسف ثم ذهب إليها وسألها:
– فيه إيه يا ماما راوية، استهدي بالله وقولي لينا حصل إيه؟
توقفت عن البكاء والعويل لتجيب على حيرته:
– قبضوا على أخوك جاسر في جريمة قتل.
ردد يوسف بصدمة:
– قتل!
ـــــــــــــــــــــ
أطفأت الموقد بعدما انتهت من إعداد الطعام ولم تتحمل رائحته فما هي إلا أعراض الوحم، خرجت وكادت تعود إلى غرفتها حتى لا تجلس برفقته، فهي تتقبل المعيشة معه على مضض وخاصة بعد خبر حملها والذي كان شفيعًا لها حتى لا يعتدي عليها بالضرب مرة أخرى.
توقفت قبل أن تدلف إلى الداخل بعد أن وصل إلى سمعها صوت زوجها وهو يتحدث في الهاتف بصوت خافت، أخبرها حدسها إنه يتحدث مع امرأة لكن عندما اقتربت كانت الصاعقة!
يضع الهاتف على أذنه ويتحدث:
– انت متأكد إنه دفع كل فلوس الضرايب؟
أجاب أحدهم:
– والله زي ما بقولك يا باشا، وكمان هيقبض العمال، أنا أطقست وعرفت إنه صاحب أو شريك في شركة مشهورة الناس بتشتري منها حاجات عن طريق الأنترنت.
زفر بضيق وحنق فقال:
– هو الواد دا مش كنت خلصت منه، إيه اللي رجعه تاني؟ شكله مش هيجبها للبر وناوي على نهايته.
انتبه إلى تكرار نداء الرجل لاسمه:
– يا حمزة بيه، حمزة بيه؟
صاح بعد أن نفذ صبره:
– ما خلاص انت كمان، ارجع شغلك عشان ماحدش يشك فيك، ولو أي جديد حصل بلغني على طول.
– أمرك يا باشا.
أنهى المكالمة وقام بالاتصال على الفور وقال:
– ألو يا عشماوي، أنا حمزة الحلاج عايزك في مصلحة.
أجاب الأخر بصوته المخيف:
أؤمر يا بيه، عايزني أقتلك مين المرة دي؟
أخبره بلا تردد وبقلبٍ بارد:
– فيه واحد عايز أخلص منه هو وكل إخواته بأمهم.
سأله بتعجب:
– ياه يا باشا، للدرجة دي محروق منهم؟
أجاب حمزة بإصرار وحقد دفين:
– وأكتر وحياتك، أنا هبعت لك كل التفاصيل عنه في رسالة، هو اسمه يوسف يعقوب الراوي.
لم تتحمل سماع أكثر من ذلك، وقفت أمامه صارخة:
– الله يخرب بيتك، انت عايز تقتل أخويا!
رمقها زوجها بتحذير ثم قال للذي يتحدث معه:
– طيب اقفل انت دلوقتي يا عشماوي وهكلمك بعدين، مع السلامة.
أنهى المكالمة سريعًا وفي غضون لحظات، نهض وقبض على خصلاتها قائلًا:
– انتي إيه اللي موقفك وبيخليكي تتصنتي عليَّ يا بت؟
حدقت إليه بعدائية وأخبرته:
– إيه خوفت عشان كشفت حقيقتك القذرة؟ انت عايز مننا إيه أنا وإخواتي؟ عمال تأذي فينا ليه؟
ترك خصلاتها وأجاب:
– أيوة أنا بكرهكم من زمان وزمان قوي كمان، من وقت ما أبوكي أكل حق أمي وأبويا، أبويا اللي كان صاحبه وسابنا وفضل معلق أمي لا منها متجوزة ولا منها متطلقة، نفسي أفهم انتم أحسن مننا في إيه؟
تراجعت وهي تنظر نحوه بامتعاض غير مصدقة ما تسمعه:
– إيه دي كمية الغل والحقد والسواد اللي في قلبك دي يا أخي؟ انت لا يمكن تكون حمزة اللي حبيته زمان، دا أنت واحد مجرم وملهوش أمان، عشان كدا أنا لازم أبعد عنك ولا هقدر أكمل معاك.
لحق بها قبل أن تذهب يحذرها:
– رايحة فين يا حب؟ انتي فكراني عبيط وهسيبك بعد ما سمعتي المكالمة! انتي مش هتشوفي الشارع تاني وقبل كل دا هتعملي اللي هقولك عليه دلوقتي.
وأخذ مجموعة من الأوراق من فوق المائدة وأمسك بقلم فقال لها بأمر مشيراً نحو أسفل الورقة:
– اكتبي اسمك هنا، ده توكيل عام عن كل أملاكك لما يجي الدور على جاسر وأخلص منه هو كمان.
كان يقبض على كامل خصلاتها مما سبب إليها ألم مبرح فصرخت برفض:
– مش همضي واللي عندك أعمله.
– انتي اللي جيبتيه لنفسك.
أنهى كلمات وعيده الظالم وجذبها إلي غرفة النوم وفتح الخزانة فأتى من بين طيات ثيابه بمُدية وعاد بها إلى الخارج حيث الأوراق فوق المائدة، قام بتهديدها دون مزاح:
– عليا الطلاق لو ما مضيتي هكون شاقك نصين وهدفن جثتك في أي صحرا أو أولع فيها لحد ما تبقي رماد و ماحدش هايعرف عنك أي حاجة”
ابتلعت ريقها بخوف بل برعب ترتعد إليه أوصالها، ترى أمامها إبليس بل ما هو ألعن من أبليس في الشر، وجدت إنها قد وقعت ضحية بين يدي منتقم لن يتركها إذا لم تفعل ما أمرها به إلا وهي جثة هامدة كما هددها.
قامت بتوقيع اسمها عنوة وبعدما انتهت أخذ الأوراق و ذهب إلى غرفة النوم و فتح الخزانة و بداخلها خزنة ذات أرقام سرية، قام بفتحها و ألقى داخلها الأوراق وكل هذا بيد واحدة واليد الأخرى ما زال يقبض بها على خصلاتها بعنف.
أتاه اتصالاً فنظر إلى الرقم وقام برفض المكالمة، فألتفت إليها قائلًا:
– حظك إني ورايا مشوار هروح أخلصه على السريع وراجع لك، واعملي حسابك من هنا و رايح مفيش خروج نهائي، من الأخر هحبسك طول ما أنا مش موجود.
و بالفعل خرج وقام بوصد باب الشقة من الخارج بالمفتاح، أصابها حالة من الهلع لا سيما تعلم إنه سوف يتخلص من شقيقها ولم تستطع أن تتواصل معه لأن زوجها قد أخذ منها الهاتف حتى لا تخبر أحداً بما يحدث بينهما.
أخذت تفكر في طريقة للخروج فذهبت إلى المطبخ وتناولت من درج أدوات التصليح مفكاً و قامت بفك قفل الباب وأتلفته ثم لاذت بالفرار حتى تلحق بشقيقها.
ـــــــــــــــ
يقف العمال في صف أمام المكتب ويعطي يوسف لكل منهم راتبه والعم عرفة يسجل في الدفتر اسم من تم السداد له.
“الله يعمر بيتك يا أستاذ يوسف”
قالها العامل، وإذا بصوت شقيقته التي تركض نحوه بخوف وتبكي ، نهض قائلاً:
– معلش يا جماعة ارجعوا مكانكم دلوقت ولما أخلص هديكم فلوسكم.
أمسك يدها وذهب بعيداً، يحدق إليها بقلق يسألها:
– فيه إيه يا رقية؟
سردت له كل ما حدث منذ أن اعتدى عليها حمزة وإنه سبب في موت والدهما عندما أخبره بذلك، وما فعله بها طوال فترة الزواج حتى أحداث اليوم واعترافاته الصادمة.
و بعد أن انتهت من السرد قال لها يوسف:
– روحي شقتك وأنا هتصرف.
غرت فاها ولم تفهم شيء فأردف:
– ما تخافيش أنا هبقي معاكي بس هقولك في الطريق ازاي.
عادت إلى المنزل فوجدت الباب مغلق برغم خلعها للقفل قبل أن تهرب، دفعته بيدها فأنفتح و ولجت إلى الداخل، دقات قلبها كقرع الطبول، يديها ترتجف وهي تبحث عن زر الإضاءة في هذا الظلام الدامس، تمكنت أخيراً من تشغيل الضوء انتفضت بذعر عندما رأته يجلس في الردهة على الكرسي يضع ساق فوق الأخرى و ينفث دخان سيجارته التي أشعلها للتو، ابتسامة إبليس تزين ثغره فقال لها بهدوء الذي يسبق العاصفة:
– تعالي هنا.
تنظر له وقلبها يرتجف من نظراته الوحشية، تخشى أن لا تنجح الخطة ويتمكن منها فيريها ويلات العذاب على يديه مثل المرات السابقة بل أسوأ.
تفاجئ عندما وقفت تحدق إليه بتحدٍ يخلو من الخوف أو التردد قائلة:
– أنا مش خايفة منك وهتطلقني، والورق اللي مضيتني عليه بلوا واشرب ميته.
وقف ونفث الدخان من فمه ثم قال لها وهو يقترب منها:
– إيه اللي مقوي قلبك كدا يا بنت يعقوب؟ ولا دي لعبة جديدة؟ دا أنا كنت دفنتك في مكانك ولا انتي ولا إخواتك فيكم حد يقدر يمس شعرة مني.
اندفع الباب وصاح شقيقها، يحمل سلاحًا ناريًا يصوبه نحو حمزة:
– انت اللي مش هتعيش ثانية واحدة لو إيدك أتمدت تاني عليها.
نظر إلى ماجد وكان يحمل حبلًا متينًا، كاد حمزة يهرب فدفعته رقية ليتعثر فتمكن منه ماجد واستطاع يوسف السيطرة عليه، قام بتقيده في الكرسي.
وقف أمامه وسدد له لكمة في وجهه:
– دي عشان اللي عملته في رقية وانت عارف قصدي إيه.
– ودي عشان مد إيدك عليها وإهانتك ليها.
سدد له لكمة أخرى أقوى من سابقتها قائلًا:
– ودي بقى أبقى ابعتها للبلطجي اللي كنت بتتفق معاه على قتلي، وبالمناسبة حبايبي في القسم هيجوا لك دلوقت يخلوك تمضي على تعهد بعدم التعرض لأي حد فينا أنا وإخواتي حتى خالتك.
كان حمزة يحدق إليه بنظرة وحش مفترس فزمجر وقال من بين أسنانه:
– لو راجل فكني وأنا اللي هقتلك بنفسي.
ابتسم يوسف بسخرية ولم يعط إليه أدنى اهتمام وقال لشقيقته:
– روحي هاتي الخزنة اللي شايل فيها الورق.
ذهبت لإحضارها ثم وضعتها على الطاولة فسأله:
– الـ password إيه؟
صاح برفض تام:
– مش هقولك.
أشار يوسف إلى ماجد صديقه والذي اقترب من حمزة وأخرج جهاز صاعق، قام بتشغيله فأصدر أزيزاً، صاح حمزة بخوف:
– ١٥٣٨٩٩.
ضغط يوسف على الأرقام وفتح الخزانة فأخذ الأوراق، أخرج قداحة من جيبه وقام بحرقها قائلًا:
– كدا مفيش توكيلات.
نهض وأخرج من جيبه وصل ورقي وقلماً، فقال له بأمر:
– أمضي هنا.
نظر بتوجس وسأله:
– إيه ده؟
أجاب يوسف:
– ده وصل أمانة عشان لو حبيت تلعب بديلك تاني.
تردد في الإمضاء فنظر يوسف إلى صديقه:
– ماجد.
– همضي، همضي خلاص.
خط توقيعه بصعوبة بسبب قيود يده، فقال يوسف:
– كدا تمام، ناقص حاجة أخيرة، طلقها.
صاح بسخط:
– مش هطلقها وكمان حامل مني.
أخبره يوسف:
– كدا كدا هتطلقها، وابنك ولا بنتك هيبقوا في عيننا ولو عايز تشوفه تنور في شقة الحاج يعقوب غير كد ملكش حاجة عندنا.
جز على أسنانه بحقد وحنق فقال لزوجته على مضض:
– انتي طالق.
ـــــــــــــــــ
وبداخل قسم الشرطة يجلس في مكتب الضابط برفقة شقيقته ينتظرا شقيقهما الأكبر، فُتحَ الباب وظهر أمامهما، وقف يوسف ونظر إليه، لا يعلم ماذا يفعل، هل يعانقه أم يصفعه أم يتركه ويذهب.
– طبعًا انت جاي عشان تشمت فيا؟
نهضت رقية وتقدمت منه لتخبره:
– لا يا جاسر، يوسف أنضف وأعلى من إنه يعمل حاجة زي دي، أخوك جاي عشان ينقذك من المصيبة اللي ورطت نفسك فيها برغم اللي انت عملته فيه.
تدخل يوسف وعينيه لا تحيد عن شقيقه:
– سيبيه يا رقية، طول عمره سيئ الظن خصوصًا من ناحيتي كأني كنت عدوه، وأنا عمري ما أذيته ولا ضايقته، لكن هو رمى نفسه للشيطان ابن خالته اللي عمال يوسوس له من واحنا لسه عيال إن أنا أحسن منه وأبويا وماما راوية بيحبوني أكتر منه.
عقب جاسر قائلًا:
– مش دا فعلًا اللي كان بيحصل؟
– لو بيحصل فعشان كانوا بيحاولوا يعوضوني عن أمي اللي ماتت قبل ما أشوفها، غير كدا مفيش أي داعي يخليك تكرهني إلا إذا انت عايز كدا من جواك.
تدخلت رقية في تلك اللحظة وقالت:
– أو ابن خالته اللي زرع في مخه الأفكار السودا دي، زي مصايب كتير، وعيشته اللي حرام في حرام، انت تعرف اللي كان عامل في وشك إنه أخوك وحبيبك عمل إيه في أختك وانت ولا داري بأي حاجة؟
استطردت حديثها بسرد كل ما حدث معها على يد حمزة، وكان جاسر يستمع لها غير مصدق حدوث ذلك دون علمه ومن وراء ظهره، وبعدما انتهت من سردها عقب يوسف:
– أنا مش جاي أعاتبك في القديم يا جاسر، أنا جاي وعايز أفتح صفحة جديدة مع بعض، كلنا بنغلط وبنتوب لكن ما نكررش الغلط، أنا اللي بيني وبينك مش دم أبوك وبس، أنت أخويا الكبير اللي بحبه وبحترمه مهما حصل، أخويا اللي لو حصلي حاجة هتسند عليه، صديقي اللي أحكي له وأفضفض له لما تضيق بيا الدنيا، كلمة أخ معناها كبير قوي مش هيحس بقيمتها غير اللي مالهوش أخوات.
امسكت رقية يد جاسر وأخبرته:
– إحنا بنحبك يا جاسر وعايزينك تبقي كبيرنا من بعد أبونا الله يرحمه، وتبعد عن كل حاجة حرام عشان ربنا يبارك لك، عارف يوسف لسه مكلم محامي كبير هيمسك لك القضية ولما عرف التفاصيل قال لينا دا قتل دفاع عن النفس دا غير إنك كنت كمان سكران.
نظر جاسر إلى شقيقه بندم يشعر به منذ أيام فسأله:
– وبرغم اللي عملته معاك جاي تقف جمبي؟
اقترب منه وأجاب:
– عشان أنت أخويا.
فتح جاسر ذراعيه فارتمى يوسف بينهما في عناق أخوي لن يتزعزع مرة أخرى، لاسيما بعد أن ابتعد جاسر عنه وأخبره:
– انت فعلًا طلعت أحسن مني في حاجات كتير، وأوعدك هصلح أي حاجة انكسرت ما بينا أولهم هطلق مريم، وتاني حاجة هرجع لك حقك في ورث أبونا، ويا رب ربنا يسامحني على أي حرام عملته، وانت كمان يا يوسف يا ريت تسامحني.
– من غير ما تطلبها أنا مسامحك يا جاسر.
الفصل الثامن عشر والأخير
عندما تبتهج الوجوه بلقاء من لهم الوجدان يَسُر، تكفي الابتسامة في التعبير عن ما يُزخر القلب من غلا وحب لهم، وفي بعض الأوقات تسبق الابتسامات دمعة الفرح لترقص على خد كاد أن يجف ويذبل من طول الفراق، وتصطدم الأجساد بعضها ببعض لتولد حرارة الشوق، وتتلامس كفوف الأيدي لتعبر عن مشاعر الروح.
قام جاسر بطلاق مريم غيابياً قبل جلسة النطق بالحكم، عن مدي سعادتها عندما استلمت من المُحضِر وثيقة الطلاق، فكانت كالطير الأسير الذي أُطلق سراحه فأطلق جناحيه في سماء الحرية.
لن يقطع يوسف الوصال بينهما، فكل حين وأخر يطمئن عليها وعلى أحوالها ريثما تنتهي شهور العدة الثلاث لديها ويتم ما يريده كليهما.
واليوم في قاعة المحكمة يقف جاسر خلف القضبان في توتر وقلق وخوف، لكن تكفي نظرات شقيقه إليه تُشد من آزره، وعندما نادى الحاجب بصوت اهتزت إليه جدران القاعة:
– محكمة.
خرج القاضي والمستشارون ليسرد أوسطهم صيغة مقدمة النطق بالحكم بالصيغة المُعتادة والتي اختتمت بالحكم النهائي
– لقد أقرت المحكمة ببراءة جاسر يعقوب عبد العليم الراوي، رُفعت الجلسة.
أطلقت راوية الزغاريد التي دوي صداها في الأرجاء، وبعد انتهاء الإجراءات الروتينية، خرج جاسر ليجد والدته وأشقاءه في انتظاره وبينهما أمنية، التي كانت لا تترك أي زيارة إلا وتذهب لتطمئن عليه وتعد له الطعام.
– حمد لله على السلامة يا جاسر.
ابتسم لها بنظرة لأول مرة تراها، ربما هذا حب جاء بعد صبر طال أمره، أجاب قائلاً:
– الله يسلمك يا أمنية، ربنا ما يحرمني منك ولا من وقفتك معايا، اتحملتيني وصبرتي عليَّ كتير.
أخبرته بنبرة تفيض من ينبوع فؤادها العاشق إليه:
– عشان بحبك، واللي بيحب حد بيستحمله لحد ما يتغير للأحسن.
عانقها وربت عليها بحب وود:
– ربنا يقدرني وأسعدك.
ابتعدت عن صدره وحدقت إلى عينيه لتبوح له بأسرارها:
– أنا عندي ليك سرين، الأول هو أنا البنت اللي كانت بتكلمك على الفيس بوك وكانت هتقابلك بس محصلش نصيب.
غر فاهه بتعجب:
– هو انتي؟!
هزت رأسها بنعم وقالت:
– بصراحة كنت وما زالت بحبك من زمان.
سألها بفضول الهر:
– ويا ترى إيه السر التاني؟
اقتربت من أذنه بشفتيها وهمست إليه:
– أنا حامل.
ـــــــــــــــــــــ
– ناولني كاس كمان يا بني.
قالها حمزة الذي يرتشف الخمر إلى حد الثمالة، كلما يفكر أنه تم إيقاعه في شر أعماله على يد أبناء يعقوب، فيشعر بالقهر والمرارة، لذا قرر أن يخوض الانتقام بنفسه دون اللجوء إلى المجرمين، أخرج من جيبه الخلفي سلاحًا ناريًا قد اشتراه منذ يومين بعد قراره الأحمق، وهو التخلص منهم وسيبدأ بيوسف.
جاء إليه رجل همس إليه بشيء ما فنهض على الفور وغادر الملهي، استقل السيارة المستأجرة وانطلق بها نحو مقر الشركة حيث موعد خروج يوسف منها في هذا التوقيت، لكن كان للقدر رأي آخر، فأثناء سيره في الطريق الرئيسي المؤدي إلى الشركة قاطعته شاحنة خرجت من تقاطع لم ينتبه إليه، ولأنه ثملًا عجز عن تفادي التصادم، وفي غضون ثواني كانت سيارته رأسًا على عقب بعد أن تدحرجت بالقرب من مزلقان قطار قادم من على بُعد وضجيج صفيره جعله ينتبه إليه، اتسعت عينيه وهو يصيح رعبًا والقطار يدهس سيارته وهو بداخلها.
وصل خبر هذه الحادثة البشعة إلى سعاد والدته فأطلقت صرخاتها للعنان، واللحظة الأكثر صعوبة عندما ذهبت لرؤية جثمانه، لم ترَ سوى أشلاء وبقايا جثة وكأنه ألقي به داخل مفرمة.
فأصبحت قعيدة على كرسي متحرك بعد أن أصابها شلل نصفي، تتوقف أمام قبر ابنها تخبره بما قامت بخفيه منذ واحد وعشرين عاماً:
– سامحني يا بني، اللي أنا عملته زمان في رقية مرات يعقوب أديني حصدته أضعاف، انفطر قلبي عليك وبقيت عاجزة عشان أتعذب باقي عمري وأتحرمت منك زي ما حرمت ابنها منها.
ــــــــــــــــــــ
بعد مرور ثلاثة أشهر…
فرقعات ملونة تنطلق في السماء وأصوات طبول و مزامير تُعزف من الفرقة التي تتقدم العروسين، يرددون أغاني من الفلكلور الشعبي لحفل الزفاف وذلك في حضور العائلة والأصدقاء، عائلة عم عرفة زوجته التي أصبحت هزيلة من تلقي العلاج الكيميائي، وبجوارهما ابنتهما أمنية وبطنها منتفخة قليلًا تصفق وتردد الأغاني برفقة زوجها الجالس جوارها ومحاوط لجذعها بذراعه، كما أتى محمود ابن العم عرفة وذهب لتهنئة ابنة عمته وزوجها، ابتسمت مريم إليه و تذكرت عند عودته من السفر تحدث معها وطلب أن تسامحه لما كان يقترفه معها وكم شعر بالندم الشديد.
أتى أيضاً ماجد وقام بتهنئة صديقه وألتقط مع العروسين الكثير من الصور، قامت السيدة راوية باحتضانه و التربيت على ظهره، كم هي تشعر بالسعادة من أجله.
وختام تلك الليلة الرائعة هو أن اجتمع العاشقان من جديد و قلوب سقاها الحب من الوريد، وعاد الوصال بين الأخوة والأحباب كما كان يعقوب يُريد.
ـــــــــــــــ
و بعد عدة شهور أخرى، وضعت أمنية مولودها وأسماه جاسر على اسم شقيق يوسف، كما وضعت رقية مولودها والذي أسمته يعقوب وتمنت أن يصبح مثل والدها يتميز بدماثة الخُلق.
بينما يوسف ومريم، اليوم ينتظرها أمام بوابة الجامعة، خرجت فوجدته ينتظرها متكأ على مقدمة السيارة يبتسم إليها من خلف نظارته الشمسية سألها:
-طمنيني سيدة الأعمال بتاعتنا عملت إيه؟
تعلقت في ذراعه وأخبرته بفخر:
-امتياز طبعاً.
– مبروك يا حبيبة قلبي، أنا بقى محضر لك مفاجأة هتعجبك قوي، مش كنتي عايزة تعرفي بقالي شهرين كنت ببات كتير برة ليه؟
رفعت أحد حاجبيها وأجابت بمزاح:
– يا ريت وأحسن لك عشان أنا لو صدقت الشكوك اللي جوايا مش هيحصل كويس.
ضحك من عشقها وغيرتها الجنونية فقال:
– لا اطمني، قدامي يلا اركبي وهتعرفي كل حاجة لما نوصل.
ترددت في إخباره لكن لم تستطع أن تخبئ هذا الخبر الذي علمت صباح هذا اليوم:
– يوسف؟
أجاب وهو يقود سيارته:
– قلبي.
– أنا حامل.
توقف فجأة وكاد كليهما يرتطم في الزجاج الأمامي، سألها بسعادة عارمة:
– بتتكلمي بجد؟
هزت رأسها بالإيجاب:
– لسه كنت عاملة اختبار الصبح وقولت أقولك مع خبر النتيجة.
أمسك يدها وقام بتقبيل باطن كفها:
– ألف مبروك ليا وليكي ويطلع ذرية صالحة وبارة بينا.
وبعد قطع مسافة من الطريق ليست ببعيدة، دخل بالسيارة في منطقة صناعية، توقف أمام مبنى يحوطه سياج مرتفع، يقف حارسان على بوابته، كلاهما يرحب به:
“نورت يا يوسف بيه، جاسر بيه وعم عرفة في انتظار حضراتكم جوا.
عبرا البوابة فارتفع التصفيق والصفير من العمال وعلى رأسهم العم عرفة، جميعهم في انتظار تلك اللحظة، اقترب جاسر الذي يرتدي ثيابًا رسمية من شقيقه قائلاً:
– الناس اتحمصت في الشمس عشان مستنينك يا يوسف بيه، كل ده تأخير!
رفع يده بدفاع مازحاً:
– الحمد لله أنا نازل من بدري، مريم هي اللي أخرتني كالعادة.
حدقت مريم إليه بوعيد فضحك، وها قد جاءت اللحظة المنتظرة، تقدم رجل يحمل وسادة من المخمل الأحمر يعلوها مقص، أخذ جاسر المقص وعاونه شقيقه في قطع الشريط الحريري ثم إزاحة الستار عن لافتة كبيرة علي مقدمة المبني الكبير مدون عليها
مصنع أبناء “يعقوب لصناعة المنسوجات القطنية”
تمت بحمد الله.

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شغفها عشقا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى