روايات

رواية خطايا بريئة الفصل السادس عشر 16 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الفصل السادس عشر 16 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الجزء السادس عشر

رواية خطايا بريئة البارت السادس عشر

رواية خطايا بريئة
رواية خطايا بريئة

رواية خطايا بريئة الحلقة السادسة عشر

التراكمات سمّ بطيء يقتل أي علاقة بصمت. لا تختبروا قوّة تحمّل الآخر، لا تعوّلوا على حبّه الكبير، وقلبه الأكبر. لا تتجاهلوا نفاذ صبره، لا تتوقّعوا أن تكون هناك صفحات جديدة دائما، فلا تدرون متى تأتي الصفحة الأخيرة. قد يبدو كلّ شيء على ما يرام بالأمس، فتصحُون على ثورة عارمة صباحا.

——————–

-ممكن اعرف في ايه ؟

قالتها هي ما أن دلفو سويًا لغرفة الفندق بعدما ظل طوال الطريق صامت و وجهه متجهم بشكل مريب جعل الكثير من الشكوك تنتابها، فقد حاول هو السيطرة على ذاته بصعوبة بالغة ونفى برأسه وأجابها بإقتضاب:

-مفيش…

لتتسأل من جديد بريبة أكبر:

-طب ايه حكاية الرصيد دي طلع فعلًا المشكلة من عندهم

أومأ لها بنعم وأخبرها كاذبًا كي لاتزيدها عليه وتشعره بمدى غبائه:

-اه المشكلة من عندهم الجرسون حمار ومكنش عارف يتعامل

هزت رأسها وعقبت بعد أن زفرت بارتياح واقتربت بخطواتها المتغنجة منه:

-طب خلاص ايه اللي مضايقك وغير مودك كويس أنه طلع الغلط عندهم وإلا كان هيبقى الموقف بايخ اوي يا “سُونة”

اغتصب بسمة على فمه واومأ لها بمسايرة وهو يحمد ربه أنه كان يحمل بضع نقود ورقية بحوزته للاحتياط وبالكاد غطت فاتورة العشاء، ليتناول نفسٍ عميق ويزفره على مهل ثم يمرر يده بين خصلاته بأعصاب تالفة قائلًا وكأنه يتوسلها:

-هاتي التليفون يا “منار” عايز اطمن على الولاد

جعدت جبينها و تأففت من جديد:

-يووووه انت مش بتزهق قولتلك لأ… وبعدين ولادك مش لوحدهم لترفع حاجبيها وتضيف وهي تتخصر أمامه متهكمة:

– اوعى تكون “رهف” هانم وحشتك ومش قادر تقعد من غير ما تطمن عليها

كان يشعر ببراكين ثائرة برأسه من شدة الغضب ورغم ذلك تمالك نفسه وقال بنبرة آمرة بعض الشيء:

-هاتي التليفون ومش عايز زن أنا على آخري والموقف اللي حصل ضايقني بما فيه الكفاية

لوحت بيدها أمام وجهه وهدرت دون أن تعير غضبه أي اهمية:

-هو أيه اللي حصل وأنت ليه مكبر الموضوع كده ده مجرد سوء تفاهم ولا في حاجة مخبيها عليا…

زفر حانقًا من جديد وهدر منفعل:

-مفيش زفت مخبيه عليكِ وبلاش تزني أنا بكره الزن وهاتي التليفون

لم تراه غاضبًا من قبل لهذا الحد واستغربت أن موقف تافه كهذا يكون هو سبب غضبه ولثقتها بثرائه وما يملكه من نقود لم تشكك بتاتًا بصحة حديثه و عاندت بثقة:

-لأ…ده شهر عسلي ومش هخلي المملة مراتك تاخدك مني وتتسهولك لما تكلمها

احتدت بنيتاه القاتمة وهدر من بين اسنانه بنفاذ صبر وبآخر حيلة لديه:

-مش هكلمها هي ….هكلم “يامن” وهخليه يطمني على الولاد هاتي التليفون يا “منار” ومتعصبنيش اكتر من كده

زفرت بضيق من إصراره ولم تريد أن تعاند أكثر كي لا تفسد الأمر بأوله فرغم تخوفها من استعطاف “رهف” له إلا انها تثق تمامًا بأسلحتها الفتاكة التي تجعله يرضخ لها ويصبح كالخاتم بإصبعها ولذلك وافقت قائلة بخبث وهي تحتضن وجهه:

-خلاص متتعصبش يا “سُونة” انا برضو عندي قلب وعارفة أنك اب و ولادك لازم يوحشوك

لتسير بضع خطوات ثم تفتح خزانة الملابس وتدس يدها بين طياتها تخرج هاتفه وتناوله إياه قائلة بوداعة لا تليق ابدًا بها:

-كلم “يامن” ومتنساش تسلملي عليه وتقوله انا نفسي اتعرف عليه وعلى خالتك

تناوله من يدها بتلهف شديد وقام بفتحه لتميل هي على وجنته تقبلها ثم تقول بنبرة ذات مغزى :

-هاخد Shower وهستناك متتأخرش عليا يا “سُونة”

هز رأسه ببسمة بالكاد اغتصبها،

لتبتسم هي وتخطو نحو المرحاض، بينما هو ما أن تأكد من إغلاقها الباب دلف للشرفة وأغلق بابها عليه ثم قام بالنقر على شاشة هاتفه يطلب رقم “رهف” وهو ينوي أن يصب جم غضبه عليها ولكن لصدمته كان هاتفها مغلق وحتى هاتف المنزل الأرضي لم تجيب عليه مما جعله يستشيط غيظًا ويتيقن أنها تتعمد أن تتجاهله، ونا إن تذكر أنه لم يعد معه مال كافي لسداد حساب الفندق قام بمهاتفة “يامن” وقبل أن يطلب منه العون سأله عنها وتحجج كونه اضطر للسفر وتركهم ولكن “يامن” أخبره أنه لا يعلم شيء ولم تقم هي بزيارتهم منذ وقت طويل ليستشيط هو أكثر ويكاد القلق يفتك به ولكن دائمًا ما يتدخل شيطانه مبرراً كونها تكيده ليس أكثر وتتعمد إفساد سعادته ورغم تلك الأعاصير التي تضرب برأسه إلا انه لم يخبر “يامن” بأي تفاصيل خاصة عن فعلته فقط طلب منه أن يرسل له المال بأي طريقة… و وعده انه سيشرح له فيما بعد وحين أغلق معه زفر حانقًا وأخذ يمرر يده بخصلاته بفوضوية هادرًا بغيظ:

-أنا ازاي غبي كده ونسيت موضوع الحساب ده

ليكور قبضته بقوة ويضعها بين أسنانه كي يتحكم بزمام نفسه كي لا يفتضح غبائه أمام الآخرى وتشعر به، ثم أغمض عينه وأخذ يهدأ نفسه ولكن من داخله يتوعد لها بأشد الوعيد حين عودته الذي قرر أن تكون فور إرسال “يامن” للمال في صباح الغد.

———————-

تنهيدات ونظرات هائمة كانوا يتبادلونها وهم يستندون على مقدمة سيارتها في المكان ذاته أعلى تلك الهضبة العالية التي تكشف البلد من عليائها فرغم عزلة المكان إلا أنها تشعر براحة عارمة به فقد أصرت عليه أن يأتي بها إلى هنا ورغم غيوم السماء و برودة الجو وتلك اللفحات الباردة إلا أن كان دفء قلوبهم يكفي العالم أجمع فكانوا غير عابئين بشيء وكأنهم بعالم أخر يهيمون به بمشاعر تشابه غيوم السماء التي انذرت لتوها بهطول الأمطار مصطحبة معها عاصفة هوجاء من المشاعر المتأججة بينهم فشهقت هي حين شعرت ببضع قطرات الماء على وجهها وقالت بعفوية تشبه عفوية الأطفال:

-الله مطر …

مسح على وجهه وقال وهو ينظر لما حل بالجو وكأنه فاق لتوه من غفوة قلبه:

-عجبك كده مش كنت روحتك احسن من البهدلة دي

نفت برأسها واخبرته ببسمة واسعة وهي ترفع رأسها للسماء وتفرد ذراعيها ترحب بالمزيد:

-انا جيت هنا مخصوص علشان كده …انا بحب المطر أوي يا “محمد” بحب ريحته وبحس براحة غريبة بعديه

أبتسم لتبريرها المرهف وقال :

-بس الجو برد عليكِ

نفت برأسها وظلت تدور وتدور حول نفسها ببسمة واسعة واستمتاع غريب دغدغ حواسه وجعله يتأملها بنظرات والهة يردد بداخله

كم أود أن أشاركك صخبك وسعادتك الآن، كم أود إطلاق العنان لنفسي وأغدق دون حُسبان، ياليتني أستطيع أن ادثرك بين طيات صدري وأناصفك أنفاسي بكل امتنان.

امنحك لحظات لا تليق سوى بكِ و أبوح لكِ بمعسول الكلام ولكن يوجد حديث يعجز عنه اللسان فأنا عاشق يعلم أن كافة أحلامه يستحيل تحقيقها ويجب أن تظل طي النسيان.

لا يعلم كم مر من الوقت وهو يتأملها ولكن ما يعلمه أن قلبه يهفو لها حد العناء

فقد تنهد بعمق ولعن تلك الحالة الغريبة التي أصبح عليها و تلك المشاعر التي لم يعد يستطيع التحكم بها وتعدت حدود عقله ومنطقه وكل ما نشأ عليه حين نزع سترته وتقدم منها يضعها على ظهرها، وقبل أن يسحب يده تراجعت هي خطوة واحدة للخلف وألصقت ظهرها بصدره وضمت يده الممسكة بالسترة حولها بحركة تلقائية للغاية أربكته و زادت من وجيب قلبه حين لفت رأسها كي تواجه وجهه وقالت ببسمة والهة متيمة تحت وطأة نظراته الحانية المفعمة بالاهتمام:

-عارف أن أنا أسعد واحدة في الدنيا اللحظة دي

غرق في بحر عينيها دون وعي وتمنى أن لن ينجو أبدًا وهي تميل برأسها لتواجه وجهه أكثر حتى تعانقت انفاسه واستأنفت بنبرة حالمة مفعمة بالسعادة غير عابئة بزخات المطر التي كانت تزف حديثها:

-علشان جمعت بين أكتر تلات حاجات بحبهم، المكان ده، والمطر، وأنت يا “محمد”

زلزلت قاع قلبه بل عصفت به وجعلت ارادته وعزيمته للصمود ذهبت ادراج الرياح من وطأة تصريحها الخطير له، ورغم ان لسانه عجز عن الرد إلا أن بندقيتاه كانت تعصاه و تهيم بها وكأنها تود أن تمتعه بتلك اللحظة الفريدة المميزة ، فكانت عيناها تدعوه دعوة صريحة للبوح؛ ولكن الأمر كان عليه ليس بيسير ابدًا فمكنون قلبه بمثابة وعد صادق وهو لم يتعود أن يصدر وعود يستحيل أن يفي بها، يأست من رده وكم شعرت بالإحباط حين تحمحم و أزاح برأسه بعيد عنها لتحل وثاق يده من حولها ويتراجع هو بضع خطوات للخلف قائلًا بجدية شديدة وبصوت مرتبك:

-لازم نمشي الوقت اتأخر و المطر بيزيد

حانت منها بسمة باهتة بعدما اندثرت لمعة عيناها وهزت رأسها بطاعة ليسبقها لداخل السيارة ، ليحتل الحزن من جديد عيناها وهي تظن انه لم يبادلها مشاعرها غافلة كونه أصبح غارق بها ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك فنعم هي تعدت حواجز قلبه وحدود منطقه ولكن يستحيل أن يتخطى هو تلك الفجوة الطبقية بينهم.

———————-

رغم ذلك الفراغ الموحش الذي يخيم على قلبها ويكاد يبتلع روحها إلا انها كانت تقاوم كي تصمد وتستعيد عزيمتها وتقف في مواجهة مع ذاتها لتردع ذلك التشتت المريب الذي أحتل كافة تفكيرها وجعلها تستغرب ما يحل بها، وحين أشتد الصراع بين ألم قلبها وهواجس عقلها انتصر من له سُلطة كبرى عليها فقد اسعفها بتلك الذكريات الأليمة التي يحتفظ بها بين طياته منذ زمن بعيد ودعم ظهورها ذلك اليوم الممطر الحافل بتلك الأصوات المرعبة التي طالما ذكرتها بتلك الليلة المشؤومة حين توفت والدتها، فكانت ترفع رأسها تنظر لعطاء السماء وهي تجلس على أرضية شرفتها الباردة دون أن تعير أن أطرافها تكاد تتجمد من برودة الجو بل كل ما كانت تعيره أهمية هو أن تعاند تأثير تلك الذكرى التي كلما راودتها سلبتها انفاسها وجعلت الرجفة تسيطر عليها وينتابها حالة من الهلع مثل تمامًا ما حدث معها في ذلك اليوم فكان كل شيء يمر أمام عيناها وكأنه حدث منذ قليل وليس من سنوات طويلة فإلي الأن تتذكر أدق التفاصيل بتلك الليلة الباردة التي لم تنعم بعدها بدفء ابدًا

flash back

كانت ليلة ممطرة، يلفحها الصقيع وصوت الرعد يتسلل إلى مسامعها أثناء نومها، فزت هرعة من فراشها تفرك عيناها وتسير نحو غرفة والدتها بخطوات وئيدة وهي تأمل أن تدثرها بأحضانها وتنعمها بدفئها الذي لا يضاهيه شيء ولكن عندما وصلت إلى باب الغرفة الموارب قليلًا استمعت لذلك الحوار المحتد بين أبويها:

-أنا تعبت منك ومش عارف أعمل ايه علشان اقنعك

قالها “عادل” بحدة وبنفاذ صبر جعل “غالية” ترد عليه بنبرة منفعلة شديدة الإصرار:

-عمري ما هقتنع يا “عادل” دي حياتي وانا حرة فيها

-لأ مش حرة يا “غالية” ولو مرضتيش هجبرك وهيبقى غصب عنك، ومش معنى اني وافقت على رغبتك وسمعت كلامك يبقى كده عملتي اللي عليكِ تجاهي وتجاه بنتك

نفت “غالية” برأسها بعدم اقتناع وصرخت بهستيرية:

-اللي حصل ده كان علشانك أنت وعلشان اديك فرصة تعوض كل اللي معرفتش ادهولك أنا عارفة أني قصرت معاك وأنت صبرت معايا كتير بس ياريت كان بإيدي …علشان خاطري يا “عادل” بلاش تضغط على اعصابي انا مش عايزة اتعذب أكتر من كده، صدقني مش هقدر اتحمل اللي أنت بتطلبه مني …

-يووووووه انتِ تفكيرك غلط… وانا يأست من عنادك ولعلمك بقى لو فضلتي على إصرارك هخالف رغبتك وهقول لبنتك وساعتها بقى هخليها تعرف اد ايه امها ضعيفة وانانية ومبتفكرش غير في نفسها

قالها بنفاذ صبر وهو يغادر الغرفة ويترك المنزل بأكمله دون أن يلحظ كون “نادين” تنكمش في أحد الزوايا و وصلها كل ما دار بينهم.

نظرت نظرة معاتبة لأثر أبيها وكم شعرت بلاستياء حينها كونه يتشاجر مع والدتها ويحزنها، ثم سارت خطوتين داخل الغرفة لتجد والدتها تجثو على ركبتيها بإنهزام تام وتبكي بكاء مرير جعل الدمع يتكون بعيناها أيضًا ويتهدل من سودويتاها التي كانت مفعمة بالبراءة حين غمغمت بحزن:

-ماما…

رفعت “غالية” رأسها المنكسة بضعف وكفكفت دمعاتها وفتحت ذراعها تحث ابنتها أن تقترب، وبالفعل انصاعت لها “نادين” وارتمت بين أحضانها لتدثرها “غالية” بحب وتهمس بحنو شديد وهي تمرر يدها على ظهرها كي تكف عن بكائها التضامني معها:

-انا كويسة يا قلب ماما متعيطيش انا بس اعصابي تعبانة وبابا مُصر يفرض عليا ال…

ابتلعت باقي حديثها بمرارة وصمتت وكأن شيء اقوى منها يمنعها عن الايضاح اكثر، لتربت” نادين” على ذراعها بحركة حانية بريئة و ببكاء تشارك به بؤس والدتها حين استأنفت:

-هو مش قادر يفهم اني خايفة …خايفة اوي …خايفة اتعذب يا “نادين” أنا اتعذبت كتيير اوي وكل يوم بستنى قدري يخبط على بابي، كل يوم بنام وببقى خايفة مصحاش، سامحيني يا بنتي انا عارفة إنك اتظلمتي بأم زي بس أنا تعبت ….والله تعبت ومبقتش قادرة استنى اكتر من كده

كانت تتحدث ومع كل كلمة تتساقط دمعة حارقة من عيناها التي ذبلت من شدة بكائها الواهن ورغم أن “نادين” لم تتفهم حديثها وماذا تقصد به إلا أنها كانت على دراية تامة أن والدتها ليست على ما يرام بتاتًا وانها تمر بشيء يفوق قدراتها على التحمل ولذلك تشبثت اكثر بها و قائلة ببراءة وبعيون تفيض بعبراتها وهي تمسح براحتها الصغيرة وجه والدتها:

-متزعليش يا ماما أنا بحبك ومش هزعلك وبلاش تعيطي علشان انا بعيط زيك

زاد نحيب والدتها وضمتها لها ولم يصدر منها شيء بعدها سوى تلك الكلمات التي ترجوها بها أن تسامحها وتغفر لها على شيء هي تجهله و لم تذكره والدتها قط وحين استيقظت صباح اليوم التالي علمت لمَ طلبت والدتها غفرانها.

فكان جسدها مسجي على ارضية الغرفة باستسلام غريب حين هرعت “نادين” لها متلهفة:

-ماما نايمة ليه على الأرض

لم يأتيها ردها بل كانت ساكنة لم يصدر منها شيء بتاتًا، لتغمغم هي من جديد بنبرة مرتعشة للغاية مغلفة بالقلق:

-ماما مش بتردي عليا ليه أنتِ زعلانة مني

ايضًا لم يصدر منها شيء مما جعلها تهزها وتصيح بنبرة راجية:

-ماما قومي وردي عليا… أنتِ مش بتردي على” نادو” ليه…!!!!! ماااااااما…

كانت تهز بجسدها المسجي أمامها تستجدي ردها او صدور أي ردة فعل منها ولكن والدتها كانت شاحبة، جسدها كقطعة ثلج ومتيبس لحد كبير، وشفاهها تميل للزراق، فكان رؤيتها هكذا أكبر بكثير من قوة احتمال طفلة بنفس عمرها لم تستوعب بعد فكرة الموت، ولذلك اخذت تمرر كفوفها الصغيرة على وجهها تزيح خصلاتها جانبا وتربت على وجنتها وهي ترجوها بنبرة هستيرية غير متزنة بالمرة:

-انتِ نايمة شوية وهتقومي تاني انا عارفة انك بتحبي “نادو” ومش هتهون عليكِ تسبيها قاعدة لوحدها… ماما أنا بخاف اقعد لوحدي… ماما ردي عليا و قومي اتكلمي معايا وانا مش هزعلك تاني وهخاصم بابا علشان زعلك، ماما ردي على “نادو” … مااااااما

لا شيء أيضًا وحينها شعرت بشلالات متدفقة تسيل من عيناها دون وعي و انتابتها رجفة قوية جعلت أسنانها تصطك ببعضها وكأن كافة حواسها ادركوا الأمر إلا عقلها آبى واستنكر، لتنفي برأسها مرة وراء مرة و تردد من بين أسنانها وهي ترفع رأس والدتها مستخدمة كل قوتها كي تضعه بحجرها وتظل تربت على خصلاتها قائلة بنبرة مرتعشة غير مستوعبة من هول الفاجعة:

-خلاص … مترديش ونامي هتبقي احسن …

ظلت تتمتم كلمات غير مرتبة وبعدم اتزان وهي تظن ان والدتها ستنهض بعد قليل وتنعم بدفها من جديد ولكن استمر الأمر لعدة ساعات مرو عليها بصعوبة بالغة على أمل حدوث معجزة من السماء.

في تلك الأثناء دلف “عادل” للمنزل وحين دخل لغرفتها وجدها تجلس على الأرض تحتضن رأس زوجته وتربت على خصلاتها بملامح شاحبة وعيون دامية تخبره بجنون وهي تضع سبابتها المرتعشة على فمها:

-ششششش ماما نايمة…شوية وهتصحى

تقلصت معالم وجه “عادل”من هول المنظر وهرول بلهفة ملتاعة يطالع هيئة زوجته ويلحظ علب الحبوب الدوائية الفارغة تغطي ارضية الغرفة، ليربت على وجنتها زاعقًا باسمها بهلع وبأعصاب تالفة يجس نبضها ولكن دون جدوى.

استغرق الأمر دقيقة واحدة كي يتيقن أن روحها فارقت جسدها لينهار باكيًا ويحاوط رأسه ينعي خسارته لزوجته ورفيقة دربه مغمغمًا:

-ليه يا “غالية” ليه حرام عليكِ ليه عملتي في نفسك كده وسبتيني

كانت تشاهد كل ما يحدث بنظرات زائغة غير مستوعبة ولكن حين تفوه ابيها تأكدت أن والدتها فارقتهم ولن تنهض بعد اليوم وحينها صرخت صرخات هستيرية ممزقة لأبعد حد قطعت نياط القلب:

-لأ… لأ……لااااااااااااا ماما مش هتسيب “نادو” …..ماما مش هتسيب “نادو” مش هتهون عليها مااااااااااااااااااااما

حاول “عادل” تهدئتها وأن يجعلها تبتعد عن جسدها ولكنها كانت تضم رأسها وترفض تركها وهي بحالة صدمة عارمة

من شدة وطأتها سقطت مغشي عليها وكأن عقلها قرر الفرار وأصر على إستنكار الأمر، فبعد تلك الفاجعة علمت أن والدتها تناولت جرعات كبيرة من حبوب دوائية مختلفة أدت إلى أرتفاع مفاجئ في ضغط الدم و تمزق في كافة الأوعية الدموية مما أدي إلى وفاتها…

لتمر هي بفترة عصيبة بعدها استدعت تدخل أخصائي نفسي كي يؤهل طفلة مثلها لتقبل الأمر، ورغم انها كانت تستجيب للعلاج إلا أن ظل عقلها لا يستسيغ الحوار الذي دار بين أبويها ولم تجد تفسير له وحين سألت ابيها ذات مرة رفض أن يوضح لها واخبرها ان تلك رغبة والدتها، ولكن عندما أحضرها والدها لمنزل” ثريا ” واخبرها بزواجه منها ظنت أن ذلك ما كان يخفيه ويحاول أن يقنع والدتها به قبل تخليها عن حياتها فمن وجهة نظرها حينها أن ابيها سبب نكبت والدتها إلا أن مع كثير من خطوات التأهيل ساعدتها كثيرًا لتخطي الأمر فكان ابيها يدللها كثيرًا و يغدقها بحنانه كي يعوضها عن ما فقدته فيظل هو رغم كل شيء أبيها وكل ما لديها ولذلك لن تنقم عليه هو بل وضعت العبء على كاهل “ثريا” ومن بعدها أبنها…

End Flash Pack

عادت بذاكرتها للوقت الحالي وهي تشعر بذات الشعور الذي انتابها حينها فقد اخذت أسنانها تصطك ببعضها وتضم ركبتيها إلى صدرها ودمعاتها الملتهبة عرفت طريقها إلى وجنتها تكويها من شدة حرقتها، تحتضن جسدها بذراعيها وتظل تتحرك بحركة غير متزنة للخلف وللأمام لعلها تطمئن ذاتها وتبث بجسدها السكينة والدفء التي لم تنعم به منذ رحيل والدتها وموت أبيها سوى بقربه وعند تلك الفكرة المتناقضة تمامًا بالنسبة لها وجدت عزيمتها تخور بل وتتلاشى تمامًا فرغم انه أهانها وعنفها إلا أنها تود لو أن يكون بجانبها الأن يواسيها مثل السابق ترتمي بين يديه وتستجدي ذلك القرب المطمئن لها ولكن أين هو الآن !

فقد زادها عليها وفرض عليها عزلة جبرية جعلت الذكريات تنتهك روحها.

———————-

بعد أن هاتفه ابن خالته قام بتدبر الأمر من أجله، وبعد عدة ساعات مضنية من التفكير الدؤب رفضت عينه أن تستسلم للنوم وقد انتابه حالة من الأرق الغريب بسبب تلك الأجواء التي بالخارج، فظل يتقلب على جانبي الفراش يتوسل قلبه أن يكف عن صرخاته المنافية لقرار عقله ولكن بلا فائدة ليزفر حانقًا ويتسطح على ظهره بالأخير ويتأمل سقف غرفته يسترجع بعقله تلك الهيئة التي كانت عليها، لا ينكر أن الخوف احتل قلبه حينها وتوجس خِيفة من ردود أفعالها ولكنه يثق انها لن تستسلم بتلك السهولة فكم تمنى أن يستشعر أي ندم من تصرفاتها او حديثها ولكنه لم يجد غير ذلك التمرد المعتاد الذي كان يقطر من كل كلمة تتفوه بها فهي مثل ما عاهدها دائمًا عنيدة يابسة الرأس و لا تعترف بخطئها؛ ولكن شعور دفين بداخله يخبره أنها عكس تلك القوة الواهية التي تدعيها دائمًا، ورغم دلاله المسبق وتهاونه معها و تغاضيه عن الكثير إلا انها تمادت كثيرًا تلك المرة وإلى الآن لم يجد مبرر منطقي لكل ما تفعله لوهلة تذكر جملتها حين ذكرت والدتها ولكن لم يستوعب ماذا تقصد فطالما جمعت علاقة طيبة بين والدته و والدتها حتى زواج والدته من ابيها كان بناءً على رغبة والدتها فكان كل شيء على مرأى ومسمع منه ومازال يتذكر كل شيء حدث حينها للآن،

زفر حانقًا عندما استمع لصوت الرعد المتكرر بالخارج ليهب من فراشه ويقف يزيح الستائر القاتمة عن نافذته ويتطلع من زجاجها المغلق إلى السماء وكأنه يرجو ربه أن يرأف بها فهو يعلم أن صوت الرعد يخيفها ويصطحب معه تلك الذكرى المريرة التي مهما ادعت انها تخطتها لم تفعل فطالما كانت تصر على أبيها أن يظل بجانبها حين تكون الأجواء مشابهة ومن بعد وفاته كانت تلتصق به دون أن تبرر خوفها ولكنه كان يستشعر ذلك من رجفتها وشحوب وجهها،

ظل صامد لكثير من الوقت ولكن قلبه اللعين ساقه إلى غرفتها وهو يوهمه أن نظرة عابرة لها لا تضر، وحين فتح باب غرفتها لفحات من الهواء الباردة استقبلته ودون أن ينظر لفراشها ويتأكد من وجودها به كان يهرول نحو تلك الشرفة المفتوحة على مصراعيها كي يغلقها ولكن لصدمته وجدها متكورة داخل زاويتها بشكل مريب ينم عن كونها ليست على ما يرام ابدًا فكانت مغمضة العينين وشاحبة شحوب الموتى، هرول إليها صارخًا بحدة من استهتارها وهو ينحني بجذعه ويقبض على ذراعيها كي ينهضها معه:

– ايه الجنان ده بتعملي في نفسك ليه كده؟

كانت حالتها يرثى لها حين حاولت دفع قبضته عنها بإيدي مرتعشة قائلة بنبرة ضعيفة بالكاد صدرت من بين اصطكاك أسنانها:

-ملكش دعوة بيا…

زفر هو حانقًا عندما تيقن ما بها وتحسس بيده جبينها فجسدها يكاد يحترق من شدة حرارته ليلعن ذلك العند المستوطن بها ثم دون أن يمهلها وقت لاستيعاب الأمر كان يضع يده خلف ساقيها ويحملها، شهقة خافته صدرت من فمها كانت أخر شيء صدر منها قبل أن تسقط رأسها على صدره فاقدة لوعيها مستسلمة لذلك الظلام الذي باد دفعاتها و وأد أي صلة لها بالواقع

———————-

كان يشعر أن جسدها يكاد ينصهر بين يديه وهو يضعها بالفراش و يدثرها بالغطاء ثم دون أضاعة أي وقت كان يهاتف الطبيب ويطلب منه الحضور في أسرع وقت ورغم سوء الجو بالخارج إلا أنه أتى بوقت قياسي وقام بفحصها واوصى لها بعدة عقاقير طبية تفيد حالتها، وحين غادر الطبيب جلست “ثريا” بجانبها بملامح متهدلة حزينة تضع قطع القماش الباردة على جبهتها بِمحاولة بائسة منها أن تزيح تلك الحرارة الناشبة بجسدها ولكن دون جدوى، لترفع نظراتها المؤنبة له وتقول:

– الحرارة مش عايزة تنزل؟

كان يجلس هو منكس الرأس بجانب فراشها دون أي ردة فعل تذكر، لتصرخ والدته من جديد :

– بقولك أتصرف الدكتور قال الحرارة غلط عليها

رفع عينه المُرهقة التي يحتلها الحزن ولم يقوى على الحديث فقط توجه بخطواته نحو المرحاض الملحق بغرفتها وملئ حوض الاستحمام بالماء ثم عاد بخطواته وغمغم لوالدته:

– روحي يا أمي حضريلها لقمة علشان تاكل وسبيني معاها انا هتصرف

تناوبت نظراتها المتوجسة بين تلك المحمومة المُلقاه بحالة يرثى لها وبينه واعترضت:

– مش هسيبها معاك وقسم ب الله لو حصلها حاجة عمري ما هسامحك يا “يامن”
(ميراكريم)
زفر بقوة وقال وهو يفرك ذقنه بتوتر:

-أمي هي غلطت بلاش تدافعي عنها وتاخدي صفها

لتجيبه “ثريا” بدفاع وحماية كأي أم:

– برضو ده ميدكش الحق تمد ايدك عليها وتحبسها وحتى لو غلطانة نقتلها يعني!! ……أنت ابني اه لكن عمري ماهسمحلك تفتري عليها دي أمانة “عادل” و”غالية” و وصوني عليها انا لو سكت؛ كنت بقول هي غلطت ومكنش ينفع تعدي اللي حصل بالساهل وكان لازم تهدى وتفكر بعقلك لكن أنت نسيت وصية أبوها وقسيت عليها

أغمض عينه بقوة يحاول أن يسيطر على عصبيته وأخبرها بتنهيدة مثقلة بالهموم:

-أمي أنتِ عارفة أنِ عمري ما كنت مفتري و إني ضدد المبدأ أصلًا بدليل إني كنت بتحمل عجرفتها وتجرحاتها وبطول بالي عليها على أمل انها تتغير …بس انا راجل جبت مراتي بعد نص الليل من القسم بعد سهرة هايلة في مخور يعني رقص وشرب وما خفي كان أعظم لأ وكمان بتستغفلني وكانت هتأذيكِ بالحبوب اللي بتخدرك بيها … والله أعلم للمرة الكام اللي عملت فيها كده …وبعد كل ده بتقوليلي افتريت عليها … لأ انا مفترتش ولو ابوها نفسه مكاني كان هيعمل أكتر من كده

ليكوب رأسه بين كفيه ويقول بنبرة ممزقة مثقلة بالكثير من الألم :

-انا من ساعة ما ابوها وصاني عليها وانا حاسس إني شايل هم الدنيا كله فوق كتافي وانا تعبت ومش عايز حاجة غير إني ارتاح.

تنهدت “ثريا” ونهضت من جلستها تربت على ظهره بعدما فرت دمعاتها حصرتًا عليهم ثم دون أضافت المزيد توجهت للمطبخ بينما هو رفع رأسه ينظر لموقع رقدتها بتنهيدات حزينة مثقلة تنعي حظ قلبه، ثم دون إضاعة أي وقت كان يقترب منها و ينحنى بجزعه عليها يجفف بيده حبات العرق المتلألئة على جبينها و يضع يده تحت ساقيها والأخرى بظهرها، ويحملها لتسقط رأسها و تتراخى يدها تتأرجح في الهواء بين يده و تأن بخفوت وتهمهم بعدة كلمات لم يفهم منها شيء سوى منادتها لوالدتها

ليزفر مرة أخرى من صحة يقينه نحوها ويتوجه بها للمرحاض وهو يشعر أن قلبه يكاد يحترق معها.
(ميرا كريم)
—————

وضعها داخل حوض الاستحمام بعناية شديدة لتشهق هي بخفوت وتأن بوهن و تتشبث بذراعه بقوة و تغمغم بضعف:

– بردانة يا يا…من

زفر أنفاسه دفعة واحدة عندما صدر أسمه من بين شفاهها بتلك الطريقة المتوسلة المحمومة ثم مال بجذعه عليها وجلس على حافة حوض الاستحمام يحاوطها بيد كي يدعم جلستها و باليد الأخرى يزيح خصلاتها القصيرة عن وجهها قائلًا بأهتمام رغم كل شيء:

– هتبقي كويسة…

ظلت تهز رأسها بضعف وتقاوم كي يخرجها من الماء ولكن لم ينصاع لها بل كان يغمر جسدها بالماء أكثر مما جعلها تتشبث به بقوة أكبر وهي تجهش ببكاء واهن إن دل على شيء دل على هشاشتها التي تتوارى دائمًا خلف رداء التمرد والقوة التي تدعيها، كوب وجنتها بكف يده وتمتم بنبرة مهزوزة بعض الشيء تأثرًا بهوانها وهو يمسح بإبهامه موضع سريان دموعها :

-بلاش بكى …هتبقي كويسة

نظرت له نظرة ضعيفة منكسرة

لأبعد حد يقسم انها المرة الأولى التي يراها بعينها فقد ألمت قلبه وجعلته يشعر بـ أعاصير تضرب دواخله من وطأتها، فهو يعلم انه قسى عليها ولكن لن يغشم حاله هي تستحق وهو ليس نادم على ردة فعله بل مازال غاضب حد الجحيم من فعلتها ولكن سيجبر ذاته أن يضع كل هذا جانبًا الآن إلى أن تتحسن حالتها، دام تواصلهم البصري عدة ثوانٍ قبل أن تغلق عيناها ويخور جسدها وتسقط رأسها على صدره، لم يتحرك هو بل ظل مستكين على وضعيته الغير مريحة بالمرة من أجلها و لمدة عدة دقائق وحين

شعر أن حرارتها قد انخفضت بعض الشيء أنتشلها من المياه وأجلسها على ساقيه وهو يستند على سور حوض الاستحمام، تعلقت هي بعنقه وهي بين الوعي ولا وعي ليتناول هو أحد المناشف ويجفف خصلاتها ثم يخبرها :

– لازم تغيري هدومك

أومأت له بضعف وبعيون مسبلة بأرهاق جعلته يلعن تحت أنفاسه وهو يتمنى لو يتبرأ من ذلك العاصي بين أضلعه الذي يطعن به ويخبره أن يرأف بها ليزفر أنفاسه على دفعات متتالية كي يستعيد رباط جأشه ويحملها من جديد ولكن تلك المرة لم تتأرجح يدها في الهواء بل تعلقت بعنقه وأرجحته هو بين غضبه منها ومن فعلتها وبين قلقه وخوفه عليها وهي بتلك الحالة، ليجد ذاته يزفر حانقًا مرة آخرى وكأن تضيق به أنفاسه ثم نظر لأعلى وكأنه يناجي ربه أن يرأف بنكبة قلبه ويعينه عليها.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى