روايات

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء التاسع والثلاثون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت التاسع والثلاثون

رواية بنت المعلم
رواية بنت المعلم

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة التاسعة والثلاثون

انتهى من صلاة الفجر وخرج متجه للمنزل يبدل ثيابه على عجلة قبل أن يقابل أحد أفراد عائلته.. ارتدى سروال جينز وتيشرت ثم خرج مجددًا دون أن يأخذ أي مستلزمات يحتاجها في سفريته الطارئة، أشعل المقود وتحرك يبتعد عن القرية دون واجهة .. لا يهم إلى أين يذهب كل ما يحتاجه الابتعاد عن كل شيء، يختفي في خلوة مع نفسه يسترجع ذاته المشتتة، ينفرد مع ضغوطاته لحلها بعيدًا عن ضجة من حوله، أصبح يعاني من التبرير لأفعاله وحديثه وكأنه مجبر على الصواب دائمًا غير مقبول أن يخطئ..
؛*************
: صباح الخير يا بابا
أبتسم بهدوء ورد عليها بمزاح :
صباح النور يا خيريه عاش من شافك
ضحكت بخفة وأردفت بزهو :
مشاغل يا حاج
جلس على المعقد قائلاً بفضول :
طيب ما تقعدي تحكيلي عن مشاغلك شوية
بهتت ملامح خيرية وهي تتذكر كل مرة تجلس فيها وتفشي كل ما يحدث في المنزل بتلقائية:
لا يا بابا كل مرة بتبدأ كده وبعدين بقول كل حاجه وبناتك بيعرفوا
: يا خيريه ده عشان مش برتاح للكلام غير معاكي
انشقت بسمة عريضة على شفتيها وهي تجلس بجواره مغمغمه بلامبالاة:
بقولهم كده مش بيصدقوا مفكرني على نياتي
رفع حاجبيه باستنكار لوصف إخوتها وهو يهتف مبتسمًا:
سيبك منهم واحكيلي حسناء كان مالها وقت العشا
استأذنت منه ونهضت تجلب طبق فاكهة وكوبين من العصير، فقد تطول الجلسة خاصة أن بعد صلاة الفجر حتى موعد الفطور يكون المنزل هادئ…. مر ساعتين فضفضة فيهما خيرية عن كل ما حدث خلال العشر الأيام الماضية، يحتاج قدرة خارقة لفهم ما يدور بين عشر نساء كل واحده منهن لديها شخصيتها المختلفة، وعليه أن يكون ذو دراية بما تخفيه زوجاته حتى لا يغفل عن أدق التفاصيل في حياتهن،
طلب منها أن تنتظره حين يعود، ولج إلى مكتبه دقيقة وخرج يمسك ملف قدمه إليها مع قلم .. نظرت خيرية إلى الملف تقرأ محتواه ومن ثمّ رفعت وجهها وعلى ملامحها الاستغراب:
ايه ده يا بابا ؟؟
: زي ما أنتِ شايفه، عامر كلمني انهارده وبعت العينة مع المهندس الجديد وبما إن الآلات اشتغلت لازم عقد الشراكة يتم عشان يبدأ في الترخيص
ابتسمت متسائلة بعدم فهم:
طيب كويس، أنا بقا مالي ومال العقد ده ؟؟
رد عليها بسلاسة يوضح إليها مقصده :
مش أنتِ صاحبة الفكرة وهو اللي هينفذ يبقا العقد بينك وبينه
تدلى فم خيريه بذهول وحركت رأسها بعدم استيعاب:
لا يا بابا، دي كانت فكرة عادية وبعدين ما حضرتك مشاركه بنص مبلغ الآلات دي
: امضي يا خيريه واختاري اسم زي ما عامر طلب
نظرت إلى الملف لبرهة ففتح والدها القلم وأعطاها إياه بحزم، ابتسمت بعدم تصديق وهي توقع باسمها داخل عقد شراكة مصنع (الخير) للخضروات المجمدة .. قرأ الاسم مغمغمًا بحنو :
والخير كله بيجي معاكي يا خيريه
عانقته بقوة وهي ترد عليه بلطف، فرفع ذراعه يحاوطها برفق .. قطعت اللحظة الأبوية اندفاع صباح وهي تفتح الباب بعنف، حدقت خيريه بريبة فقال المعلم سالم بجمود:
مفيش باب قبلك قبل ما تدخلي كده
ضيقت عينيها وهي ترمق خيريه:
معلش يا حاج بحسب البنات لسا صاحيين
واسترسلت تسأل بشك:
هي خيريه بتعمل ايه هنا دلوقتي ؟!
رد عليها باقتصار وهو يأخذ الملف وينهض:
جات تشوفني لو محتاج حاجه
أسرعت خيريه تتبعه إلى الطرقة ودلفت إلى غرفتها قبل أن تأتي والدتها وتنفرد بها في حصار من الأسئلة.. بينما بدل المعلم سالم ثيابه وارتدى جلباب رمادي وفوقه العباءة الرجالية السوداء ذات الأطراف الذهبية، أمسك عصاه السوداء التي صنع مقبضها من الجلد الخالص، وأخذ مسبحته متجه للخارج .. حاولت صباح أن تساعده في ارتداء الحذاء ليكون رفضه قاطع مثل كل مرة، أعطاها العصا والمسبحة وجلس على المعقد المجاور للباب..
: هو أنت رايح فين يا حاج بدري كده؟؟
استقام بطوله يمسح يده في المحرمة الورقية التي قدمتها إليه ومن ثمّ ألقاها في صندوق القمامة الصغير، هندم جلبابه ونثر من زجاجة المسك على كفيه، أخذ العصا والمسبحة منها ورد باقتصار:
متستنوش على الغدا
ظلت تحدجه بعدم ارتياح إلى أن اختفى من الدرج، أسرعت تتجه إلى النافذة المطلة على الباب الحديدي للمنزل.. وجدت إحدى سياراتهم تقف تنتظره والتي تحركت ما أن صعد بجانب السائق التي لم تحدد هويته، إلى أين يذهب باكرًا هكذا ؟! ولِما تجاهل سؤالها !!!
؛************
الساعة العاشرة صباحًا وقف مع والدته يحمل حقائب كثيرة بها هدايا مختلفة منتظرين خروج أحد أفراد المنزل … رحبت دولت بهما بحفاوة وأشارت إليهما بالدخول على الفور فهما من أهل المنزل، جلس محمد وهو يضع الحقائب بجانبه والتي لفتت انتباه دولت لكثرتها.. تعجب معتصم من زيارتهم في هذا الوقت ولكنه اقتصر النقاش وخرج يرحب بهما كما أمرته دولت، ومن ثمّ انضم إليهم صبري والذي اندمج في الحديث المتباهي مع هانم إلى أن خرجت ريهام باستحياء،
: أول ما الهدايا وصلت من السعودية صممت نيجي على طول عشان نشوف حبيبتي ريهام
ابتسمت دولت وقالت بترحاب :
دا انتوا تنورنا في أي وقت
حركت هانم رأسها بكبر وقالت بتفكير :
بما أن صبري موجود وعروستنا قاعده ايه رأيكم نعجل في كتب الكتاب والفرح بما أني اشتريت البيت وفي دروين تشطيب سوبر لوكس
هللت دولت بسعادة غير مبالية بتلك المذهولة:
ومالو خير البر عاجله والعريس والعروسة عيالنا
نظرت ريهام إلى والدتها بدهشة فتحدث معتصم بوجوم:
ناخد رأي ريهام الأول وتفكر براحتها
رمقته هانم باستنكار وهتفت بسخرية:
هو حد ماسك لسانها، لو معترضة تسمعنا رأيها
نظر معتصم إلى ريهام يحسها على التحدث والاعتراض وهو سيقف معها في كل ما تتخذه، ولكن لم تعطي دولت فرصة لأحد بعد قولها :
ريهام رأيها من رأينا واللي أبوها يشوفه هيكون الصالح
: أشوف الشقة الأول وبعدين نقاول مع النجار على العفش وربنا يسهل على كتب الكتاب
أضاف صبري جملته بغطرسة فردت عليه هانم بطريقة مماثلة:
شقة ريهام هتكون الدور اللي بعدي، والبيت أكيد عارفه عبدالخالق قال إن صحابه كانوا مجهزينه لعرسان بس سابوا البلد لظروفهم أما العفش فاختاروا اللي يناسبكم واحنا جاهزين بس نستعجل
تابعت حديثها وهي تتطلع إلى محمد :
عايزه أفرح بالكبير بتاعي على طول قبل اخواته
طرقت زوجة معتصم الباب لينهض زوجها يأخذ صينية الضيافة يضعها على الطاولة بحده، وبعدها استأذن وخرج من المنزل بأكمله فوجده ليس مهم بتلك القرارات التي تأخذ وهو يجلس كهواء شفاف مثل أخته، يرسمون حياتها على هواهم .. سلبوا حق الاختيار منها وكأنها دمية تتحرك بأمرهم حتى وإن كان الأمر بخصوص زواجها!!
؛**************
على صعيد آخر في نفس التوقيت، وضع طبق به شطيرة جبن على الطاولة الكبيرة التي كانت تمتلئ بكل ما لذ وطاب… سال لعابه وبطنه تصدر أصوات عالية وهو يرمق الشطيرة بشهية، لم يذق الطعام منذ يومين بعد أن انتهى آخر قطعة خبز من الكيس الذي اشتراه بما يملك من النقود .. ولحسن حظه أنه وجد بعد النقود المعدنية المتناثرة في أرجاء المنزل، اشترى بهم تلك الشطيرة من إحدى المحلات:
ياله يا لوجينا كلي عشان نروح نشوف ماما
حركت الصغيرة رأسها بالنفي وهي تهمس بتذمر :
مش عايزه أكل أنا عايزه ماما
رتب على خصلاتها برفق فقد مرت بتجربة عصيبة انتهت حين اتصل به المركز أمس يخبره بالعثور عليها في شقة ما استأجرها محامي عز .. ولأنه الوحيد الموجود من أهلها ذهب واستلمها لتجبره على العودة لمنزل آل عزب بدلاً من مكوثه في الطرقات
: هنروح لماما لما تاكلي لأننا هنتأخر لحد ما نرجع هنا
إلى الآن تستمر التحقيقات في القضية ولكن هناك بصيص أمل لخروج ليلى خلال الأيام المقبلة، بعد اعتراف المحامي أثبت في أخر المستجدات أنها قتلته دافعًا عن النفس ولكن تتخذ الإجراءات أوقات روتينية .. إذا استطاع توفير شطيرة الآن ماذا سيفعل بعد ذلك ؟! إلى متى سيتدور جوعًا في قرية تنفر من وجوده بينهم !! مع أنه فرد من نفس عائلتهم لكنهم اكتفوا من نسل منصور الذي جاء بالخراب عليهم طيلة السنين الماضية.. تنهد سيف بقلة حيلة وأخذ لوجينا معه إلى مركز الشرطة يقف هناك يتابع ليلى لعل يسمح إليه بالتحدث معها، وربما يكون لديها حل ينتشله من بئسه الذي سيقتله بالفقر..
؛*************
: دي كلها طلبات ؟؟ دا أنا لو هعمل عيد ميلاد جماعي لعيال البلد مش هيكلفني كل ده !!
زفرت مي بضجر من تضخيمه للأمور وخاصة إذا تعلق بالنقود :
عاشر مره أقولك دي البنت على الصبيان ولازم يكون عيد ميلادها مميز
نظر ربيع إلى ابنته التي ترمقه برجاء كي لا يرفض، لأول مرة يجهز إليها حفل مثلما تخطط إليه مي رغم أن الكعكة التي كان يجلبها ربيع خلال الأربع سنوات كانت تسعدها وهي تحتفل بين إخوتها وأبناء عمها وعمتها .. لكن إذا صمم فستان للأميرة المفضلة لديها مع حفل من تنظيم مجموعة مختصين لتنظيم الحفلات من خارج القرية وكعكة مزينة باسمها فمن المؤكد الأفضلية لصالح مي :
مش الفلوس دي لو اتشالت تنفعها في جوازها أحسن
فتحت عينيها مرددة باستنكار:
جوازها!!! بنت اللي مكملة 5 سنين بتفكر في جوازها!!
أكملت بسخط :
بقولك ايه يا ربيع مش كل ما سيرة فلوس تيجي تقعد تماطل معايا وتفرهدني
دار برأسه يرمق ابنته التي صاحت باعتراض:
أنا عايزه زي ماما مي ما قالت عشان اعزم صحابي
قرص وجنتها قائلاً بسخرية:
صحاب ايه يا شبر ونص
ابتسمت ابنته وأردفت بزهو :
آه صحابي وهاروح مع ماما مي الصالون تغير شعري وتعملي مناكير
انكمشت قسمات وجه ربيع وهو يحدق مي بدهشة طاغية، فأمسكت الأخرى يد حنان وولجت إلى الغرفة وهي تفكر في لون طلاء الأظافر الذي يتناسب مع فستان الحفل .. ثبت ربيع محله يبرطم بغيظ من أساليب حياته التي تغيرت كلياً :
ربيع متنساش إننا هنجهز كمان ساعة لأني حجزت في المطعم من بدري
ضحك بسخرية وهو يفر من الشقة قبل أن تتذكر شئ أخر يفقده صوابه، لم ينتبه أنها قررت أن تخصص يوم للتنزه من كل شهر مع أطفاله حتى وإن أبدى اعتراضه، فهي لا تنتظر موافقته لأنها تفعل ما بوسعها لتقوية العلاقة بينهم بأسلوبها الخاص الذي يروق إليها وللأطفال،
؛***********
: لا مش هتمشي غير لما تتغدى معانا خالك يزعل
أبتسم يونس قائلاً باحترام :
مره تانيه وأن شاء الله هاجي قريب لما سالم يرجع البيت
تركته على راحته كي لا تسبب إليه إحراج.. ولكنها أصرت على انتظار كوب العصير وبعدها يرحل، خارج الغرفة جلسن الفتيات يتحدثن في أمور مختلفة بعد أن رحبوا بابن عمتهن .. صدح صوت أحد الصبية ليخبر المعلم سالم بوقوف العمدة صبري أمامهم ومنعهم من إكمال عملهم في هدم منزل الحاجه مبروكه لتجديده، ويأهل لطابقين عيادات خاصة سيتكفل بتجهيزهم، أسرعت هند تبدل ثيابها مُصره على الذهاب مع الصبي لفهم ما يحدث.. حاولت صباح منعها وهاتفة والدها لكن لم تجد رد، فطلبت من يونس اتبعها حتى يلحقهم أحد من أبناء اعمامها،
وقفت أمام العمال تسألهم عن سبب توفقهم فظهر صبري من خلفها وهو يقول بسخرية:
مش كنتي تستني بابا يجي معاكي يا هند
ابتسمت هند بخفة وردت عليه ببسالة متجاهلة لهجته :
متقلقش بنات سالم يقدورا يسدوا اي وقت
واسترسلت تسأله وهي تشير على العمال :
ممكن أعرف ليه وقفت العمال عن شغلهم
: ومين اداهم حق يشتغلوا في البيت من أساسه، ست ماتت وملهاش حد لدلوقتي وممكن اي وقت يظهر ليها قرايب وساعتها أنا اللي هتسأل
حركت هند رأسها بتفهم وأردفت بتوضيح رغم أنها تدرك أنه يعلم جيدًا كل ما تقوله :
حضرتك مش غريب عن البلد وأكيد عارف صلة المعرفة بين جدتي مبروكه وبابا، وبرده كان ممكن يكون الكلام موجه بطريقة مباشرة بدل العمال ما يضيع عليهم اليوم
كاد صبري أن يعترض فأكملت هند برجاحة :
وبعدين اللي بابا بيعمله لمصلحة البلد وصدقة على روح شخص غالي علينا، في الأول والآخر لما يتوفر دكتورين يومين في الأسبوع هينفع البلد وأهلها
نظر يونس إليها بإعجاب شديد، لم يختلف أسلوبها الهادئ عن والدها في شئ .. لديها قدرة ملحوظة في الثبات الانفعالي ظاهرًا على ملامحها ونبرتها الرزينة، وصل عبده ومحمود حين هاتفهم صباح ليلحقوا بهند كي لا يغضب المعلم سالم،
: هو العمدة مش فاضي غير لينا ولا ايه!!
أبتسم صبري ابتسامة صفراء مردد بتهكم :
لو عايزني أقعد في البيت واسيب شغلي عشان خاطرك ومالو
تطلع عبده إلى هند متسائلاً بجمود عما يجري، فاقتصرت وقفتها وهي تأمر العمال بأن يعودوا إلى عملهم .. احتدت نبرة صبري وهو يصيح بضيق :
وأنا قولت محدش يمد أيده في البيت ده لحد ما يبان ليه صحاب
: صحابوا واقفين قدامك
قطب صبري جبينه باستفهام وهو ينظر إلى عبده بتعجب، وقبل أن يسأله عن مقصده أخرج الآخر ورقة وقدمها إليه:
البيت ملك الحاج عثمان الله يرحمه يعني ملك الورثة اللي واحد منهم واقف قدامك يا عمدة
أنهى عبده جملته باستهزاء وطلب من هند العودة مع محمود ويونس … احتقن وجه صبري بالغضب وغادر بعجلة لحفظ ماء وجهه، على الجهة الأخرى تسأل يونس بعدم فهم:
ليه حاسس أن صبري ده بيدور على المشاكل
رد عليه محمود بجفاء :
والمفروض أنك واحد من العلية وعايز تفهم وكده
نظرت هند إلى محمود باستغراب ورددت باقتضاب:
ما هو فعلاً واحد من العلية
تغاضى محمود عنها وغمغم وهو يرمق يونس :
كنت فاكر مش هنشوفك بعد ما تاخد اللي يلزمك
لوى يونس جانب فمه وتمتم بتهكم :
فهمت ليه مروه قالت إنهم مش ناقصين شبيه منك
قطب محمود جبينه بضيق عند ذكره اسم مروه، وبانفعال ارتفعت نبرته المقتضبة غير مبالي بأحد:
وأنت مين أصلا عشان تتكلم معاها وتقول فهمت ومفهمتش دا إحنا لسا متفاجئين بيك أول امبارح
قبل أن يرد يونس هتفت هند بحده :
ومالوا عالي صوتك كمان وخلي الناس تتفرج
انسحب يونس تقدير لوجوده هند وسلك طريق يتذكره للذهاب إلى منزل عامر .. نظرت هند إلى محمود وقالت بكدر :
هتعمل ايه تاني تطفش بيه الناس من حياتك
: معلش مش بعرف أكون على مزاجكم
رفعت هند حاجبيها باستنكار وأردفت بحنق:
بابا ممكن يعرفك تكون على مزاجنا كلنا
واسترسلت بضيق بادي:
مش معقول كده كل مره بتعمل تصرفات وكأنك طايش، مهما كان طبعك مش بالطريقة دي أبدًا لأن هيجي يوم وتلاقي نفسك لوحدك وسطينا
لم يُعقب عليها لأن حديثها سيفتح نقاش لن يكون بفائدة، متيقن أنهم لن يفهموه أبدًا… غير مستعدين لتقبل فكرة حبه المتيم وعدم قدرته على النسيان، حاول الانشغال بحياته والاهتمام بأسرته، لكنها دائمًا تكون حاجز بينه وبين قلبه .. لجأ إلى علاقة هوجاء مع رنا كي تسحبه لعالم مختلف لعله يجد بديل يشفي جرحه،
تقدم إلى منزلهم بعد توصيل هند .. انكمش بين حاجبيه من تجمع أفراد الأسرة بأكملهم في حالة من السكون المريب، صغى إلى صوت أخيه المرتفع الذي صدح من طابقه ومقابل له ردود ندى بنبرة حادة !!!
: أنا هطلع أشوف في ايه
توقفت رحاب وهي تستعد للصعود كي تفهم ما يحدث بينهما، فأشار عبده إليها بأن تعود محلها :
محدش طالع وملناش فيه
قطبت رحاب جبينها باستغراب وهتفت بتهكم :
يعني ايه ملناش دعوة!! مش نفهم صوتهم عالي كده ليه وليه بيتخانقوا
تحدث سعد بضيق طفيف :
لو حد أتدخل الموضوع هيكبر على الفاضي وسالم وندى هيعرفوا يحلوها مع بعض
تنهد عبده بصوت مرتفع وهو يفكر بحيره في حال أولاده، بصعوبة يقفد سالم أعصابه وتكاد تكون مرات معدودة الذي رفع صوته بغضب هكذا في حياته .. وما يشعره بالقلق أن ندى لديها قدرة عجيبة في احتواءه، منذ زواجهما لم يسمع شكوى من أحدهما، يحلوا مشاكلهم دون أن يشعر أحد بتغيرهم حتى !!
اختفت نبرتهم بغتةً وبعدها ظهر صوت خطوات أحدهم يهبط الدرج .. كانت أعينهم تتطلع بفضول تبدل لذهول عندما ظهر سالم وخلفه ندى ؟! ألقى التحية وجلس على الأريكة بوجه خالي من التعابير، ومن ثمّ لحقته ندى تجلس بجواره!!! … تعلقت الأنظار عليهم منتظرين ردت فعلهما أو شكوى أحدهما، وكأن شيءً لم يكن تسألت ندى بهدوء :
مش هنحضر الغدا ؟؟
ضيقت رحاب عينيها بشك وسألتها باستفسار:
انتوا كنتوا بتتخانقوا وصوتكم عالي ليه ؟؟
لهفة طاغية كانت على وجوههم لمعرفة إجابة سؤال شاغل لتفكيرهم، ولكن رد سالم اقتصر عليهم الفضول :
بينا وبين بعض يا أمي متشغليش بالك
وقفت سحر تخبرهم أنها ستدلف تجهز للغذاء مع ندى، اتبعتهم مياده وسميه التي أعجبت كثيرًا بشخصية ندى الحكيمة… بعكس مياده التي ما أن وقفوا يوزعون المهام سألت ندى باستهجان :
أنتِ هتقفي تحضري الغدا عادي كده ولسا متخانقة مع جوزك ؟؟؟!
رمقتها ندى بثبات وقالت باستغراب :
سؤالك غريب يا مياده، حاجه بيني وبين جوزي في شقتنا مش بره باب الشقة
رتبت سحر على كتفها مغمغمه بعاطفة :
شاطرة وعبده مغلطش لما قال عليكي دماغك كبيره
هتفت مياده بلا اكتراث وكأنها تقنع نفسها بعدم صحة حديث ندى :
ما احنا منعرفش ايه اللي بينهم يمكن موضوع ميستهلش أو أنتِ اللي غلطانه
حركت ندى رأسها بهدوء مردده باقتصار:
اللي بينا كبير أو صغير سواء بقا غلطانه ولا مغلوط فيا يخصني مع سالم في شقتنا
لم تعطيها فرصة للمجادلة واتجهت تغسل الخضروات لتغلق أمامها أي أبواب لحوار لا يخص أحد سواها .. شعرت مياده بالضيق الشديد واحتياجها للبكاء كطفل وبخته والدته على خطأ فادح.. ليس حقد لكن حزن على خصوصيتها المهدرة، عاتبت نفسها على البقاء لأجل أطفالها بدلاً من حفظ كرامتها أمام أفراد الأسرة فالجميع يعلم كيف تسير علاقتها مع محمود، كلا منهما يكمل في الزواج لأجل الأطفال!!
؛*********
وضعت زينب الوسادة خلف ظهره وساعدته على التمدد وهي تقول بحنو :
حمد لله على سلامتك يا حبيبي ربنا ما يكتبها علينا تاني
أبتسم بوهن وعاد بظهره برفق فأردف جابر بعدم ارتياح:
وكان هيجرى ايه لو استنيت الأسبوع ده كمان في المستشفى
تمتم بتعب من حركته خلال عودته للمنزل :
القعدة هناك بتتعبني اكتر يابا وبعدين ما هي نفس النومه
ولجت خلود وهي تحمل طبق الشوربة مع قطع الدجاج بالإضافة إلى كوب عصير :
معاد العلاج كمان ربع ساعة يدوب تاكل
أبتسم سالم بامتنان وهو يحدق بتلك الواقفة في أحد أركان الغرفة بصمت .. وضعت خلود الصينية على فراشه فقال جابر وهو يخرج:
تعالي يا خلود طلعي علاجي ونيره مع سالم
أومأت بتفهم ولحقت والدتها بهدوء، تحركت نيره بآليه تُقرب الصينية منه دون أن تنظر إليه…. لم يكن بحاجة لتوضيح إجبارها على العودة فقد شرح أسلوبها كل شيء،
: رجعتي أمته ؟؟
ردت عليه باقتصار وهي تخفض رأسها:
الصبح
لوى جانب فمه مردد باقتضاب:
وليه جيتي على نفسك كده
حدجته بثبات وأردفت بجمود:
بابا زعق وكان هيضربني لولا أخويا وصلني هنا بعد ما حلف ما أنا قعدة يوم كمان هناك
فرت مشاعره إلى الخلاء وأصبح قلبه مهجور.. فراغ انتابه بشكل جعله يتعجب من ذاته!! لم يهتم لِما تفوهت به، لا يشعر بالضيق لجلافتها التي كانت تكنها إليه وهو كفيف عنها … وكما تضج اللامبالاة إحساسه قال ببرود :
اصبري الأسبوع ده وأنا هرجعك بنفسي
هزت رأسها بالموافقة فاستكمل بفظاظة:
واهو لوقتها نكون خلصنا لأن الموضوع بوخ
تطلعت إليه متسائلة بدهشة:
دا أنت ما صدقت بقا ؟!!
لم يرد عليها وظل يرمقها بحده فقالت بسخرية:
آه وهو ده بقا العيل اللي كنتي مستنيه من خمس سنين وعايز تخلص موضوع أمه قبل ما يجي
قطب سالم جبينه بعدم فهم، ماذا تريد الوصول بكلماتها إذا كانت أفعالها خير برهان !! صمت لبرهة وسألها مستفسرًا:
أنتِ عايزه توصلي لايه يا نيره ؟؟ يعني بتفكري مثلاً إني هكمل بطريقتك عشان العيل !! ولا بتحاولي تلوي دراعي بأنك حامل ؟!
: أنا مش فاهمه فيها ايه لما أقعد عند أهلي لحد ما أولد!
حرك رأسه باستياء مغمغمًا بكدر :
مش بتردي على سؤالي كل مره لأن نفسك مش عارفه عايزه ايه
احتدت نبرته المقتضبة مسترسل بضيق:
انسي أنك تضغطي عليا بأي وسيلة تخطر على بالك، زي ما عشت خمس سنين من غير خلف أقدر أكمل لحد ربنا ما يكتبلي وزي ما أنتِ هتخلفي في غيرك برده
استقامة بانفعال وهي تهدر بشراسة:
خلاص روح شوف غيري مادام كله بالبساطة دي
بدأ يشعر بالدوار فقال بلا اكتراث:
عايز أنام دلوقتي
رفعت أحد حاجبيها باستنكار ورددت بحنق وهي تغادر:
افتكر أن مش كل حاجه بمزاجك يا سالم
أغلقت الباب بعنف وهي تتحسس بطنها المنتفخ، استند رأسه على الوسادة ونظر إلى سقف الغرفة بشرود .. دقائق معدودة وغلبه النعاس، لازال جسده هزيل لا يتحمل أي مجهود، وبدلاً من تفهمها لحالته تزيد بأسلوبها الجاف ضيقه من حياته معها.. مرت أيام معدودة على رؤيته للموت قريبًا جدًا منه، وجد الخوف والقلق والحب الحنان في وجوه الجميع إلا هي، لم يراها من الأساس.
؛************
في تمام الساعة الرابعة عصرًا ترجل من السيارة مشيرًا إلى مرتضى بالعودة لمنزله.. دخل إلى الطابق الأول فوجد صباح تجلس بارتباك، ما أن رأته وقفت على عجلة متسائلة بتوجس :
ايه يا حاج من صباحية ربنا بنحاول نوصلك وتلفونك مقفول ؟؟
: خير !!
عقدت بين حاجبيها بحيره، ومن ثمّ قالت باقتضاب:
أبدًا كنا قاعدين في أمان الله مع يونس جه صبري عكر قعدتنا لما وقف العمال وواحد منهم كان عايز يوصلك
أصغى إليها بانتباه وهي تستكمل بقلق لردة فعله :
هند صممت تروح تشوف فيه ايه وأنا طلبت من يونس يروح معاها لحد ما عمها يحصلهم
أومأ بهدوء وهو يجلس دون أن يبدر منه كلمة تشبع فضولها .. سكن محله بمعالم هادئة فسألته بأهمية:
هو أنت كنت فين يا حاج ؟؟!
نظر إليها بجمود فاستعادة ذهنها وتراجعت عن سؤالها مردده بتودد :
احضرلك الغدا ؟!
هز رأسه بالنفي مردفًا بصرامة:
اطلعي شقتك دلوقتي يا صباح
التفت تغادر بوجه عابس فوجدت سعد يمشي بتمخطر متقدم من البهو وعلى شفتيه بسمة مشرقة :
ايه يا مرات عمو الحلاوة دي
فتحت عينيها على وسعهم وهي تشير إليها بكفها خلسة كي يحافظ على تصرفاته .. وقف بعنجهية واستند بذراعه فوق حافة الدرج مغمغم بغرور :
أنا مش عارف من غيري في العلية دي كنتوا هتعيشوا ازاي
تمتمت صباح من بين أسنانها:
مش هتطول بيك يا سعد
ضيق عينيه بعدم فهم وصاح بلا اكتراث:
المهم بلغي مها إني عرفت مرتضى كان فين من الصبح عشان بس تتأكدوا إن مفيش حاجه بتخفى عني
: وياترى كان فين يا أبو العوريف
اعتدل سعد في وقفته وتهته بهلع بحديث غير مفهوم، وفي هذه الحالة لا يوجد سوى حلين إما توضيح موقفه أو الاعتراف على بنات عمه لِما طلبوه منه .. لكنه اختار حل ثالث وعلى حين غرة دار يركض بسرعة لخارج المنزل، تدلى فم صباح بذهول وهي ترمقه يختفي بتصرف طفولي ساء من وضعه حيال عمه الذي ضحك بسخرية متمتم بخيبة أمل :
قال شاب متجوز وشايل مسؤولية
صعد للدرج يبحث عن مها، التي خرجت من غرفة هند وهي ترد عليه باحترام:
أظن أنتِ مش صغيره عشان اوقفك قدامي واقولك على الصح والغلط وكانك لسا متجوزة امبارح
جاءت صباح من خلفه وهي تهتف بهدوء :
يا حاج دا سعد بيهزر
قاطعها بضيق وسأل مها بوجوم :
بعتي سعد يشوف مرتضى كان فين من الصبح ؟؟
هزت رأسها برفق مردده بخفوت :
قلقت عليه وسعد كان هنا وطلبت منه يشوفه فين
: كذابه
قالها بحده واستكمل بانزعاج:
مرتضى رد عليكي قدامي وبلغك أنه في مشوار وهيرجع على بعد العصر عشان متقلقيش
أخفضت رأسها بحرج فصاح بسخط وهو يجول بنظره بينهن :
انضجوا شويه وفكروا قبل ما تتصرفوا
تركهن وصعد إلى شقة ناديه وأمرهن بعدم ازعاجه مهما كان الأمر .. اتبعته ناديه لتكون بجواره إذا طلب شيء، لكنه ولج للمرحاض وبعدها خرج يبدل ثيابه وأدى فروضه، ثم استلقى على الفراش محذرًا من اي ضوضاء تصدر بجانبه .. هبطت ناديه مجددًا فوجدت صباح لازالت توبخ الفتيات على تصرفاتهن وخاصة مها التي لم تقصد اختلاق المشاكل بينها وبين مرتضى كما تصف والدتها، هو فقط فضول جمَّ لمعرفة واجهته الباكرة دون أن يوضح إليها،
؛*************
استغل عامر صدفة أنه سيسافر هو الآخر في نفس اليوم، جهز حقيبة صغيرة تفي بغرضه فلن تطول سفريته في الإسكندرية ويعود لمباشرة أعماله التي أصبحت تشغل كل أوقاته وما يدفعه لذلك هي والدته التي تخبره بأن يباشر مشاريعه ولا يقلق باله بهما، ألقى الحقيبة في المقعد الخلفي وصعد بجانبه متسائلاً بحيره:
ايوا برده مش فاهم ايه يخلي محمود يعاملك كده؟!
أشعل يونس السيارة وهو يردد بلامبالاة:
معرفش بس شكله تنح لوحده
واسترسل يسأله:
فين عربيتك ؟! بقالي فترة ملاحظ أنك بتركب مواصلات
أجابه عامر مبتسمًا :
بعتها لما كنت بكمل على فلوس الشراكة
: اشكرني إني هنقذك المرة دي، واوعدك لما اغير العربية دي هدهالك تمشي نفسك بيها
ضحك عامر قائلاً بسخرية:
هتعيش وتموت وأنت عايش في ماية البطيخ يا يونس، يابني بهدلتي في المواصلات متجيش حاجه جنب لما أشوف المشروع مطلع أو طلبية
رفع يونس حاجبه وهتف بسلاسة:
ربنا يوفقك يا سيدي، أنا المرة الجاية لما أنزل البلد هكلم خالي سالم يشوف مشتري للأرض وهبيع نص اللي مكتوب، اشتري عربية جديدة، واغير عفش البيت ولو طلعت في دماغي ابيع الشقة واشتري في منطقة تانيه وبعد سنه لما اتعود على البلد ابيع باقي الأراضي وابني بيت شبه بيتك اروح واجي عليه لحد ما أشوف بابا هينوي على ايه
رمقه عامر بذهول ومن ثمّ سأله بشك:
أنت بتتكلم جد ولا بتهزر ؟؟!
لم يفهم مغزى سؤاله فقال بعفوية:
لا مش بهزر ومالك مستغرب ليه
: لا ما هو أكيد بتهزر يا يونس!! دا لو مكنتش قاصد كله ياخد فكرة عنك غلط بكلامك ده
نظر يونس إليه بعدم فهم فقال عامر بتوضيح :
ايه اللي فجأة ظهرت وبعدها طلعلك ورث وهوب تقول عايز ابيعه واعمل وابني دا أنت داخل على طمع كده
حرك يونس رأسه مردد باعتراض وهو يحدق بالطريق:
طمع ده لو أنا أعرف حكاية الورث وجاي عشانه إنما أنا معرفتش غير بعد ما جيت مره واتنين، وبعدين ما هو خالي اللي عرفني بالحق ده وطالما في فلوس ممكن ترفع مستواي ليه لا
تطلع عامر أمامه بعدم اقتناع، فقد يكون يونس بالنسبة إليه إنسان يعيش بلامبالاة في كل شيء بحياته، يقابل مشاكله بصدر رحب وبردة أعصاب، مقولته الشهيرة أن الحياة لن تتكرر وعليه عيشها كما يحلو إليه .. لذا اعتقد أن عليه تركه يجول تجاربه كما يفعل دون أن يتدخل بخصوصيته حتى وإن كان ابن عمه كل ما عليه تقديم النصيحة فقط….
؛*************
في منزل عزيز
ضربت حسنيه على ركبتها بنحيب وفايزة ترتب على كتفها برفق.. مقابل لها جلس عبدالله وعلي بعد عودتهم من المحاجر دون جديد:
في ايه ياماما هو يعقوب صغير ولا تايه ما يمكن عند حد من صحابه وتلفونه فصل شحن
نظرت حسينه إلى مايسه تردعها بعنف :
اسكتي أنتِ، ابني وأنا حاسه بيه وقلبي مش مطمن
تابعت حديثها وهي تتطلع إلى زوجها :
من أمته ويعقوب بيختفي كده من غير حس ولا خبر
: تحبي أقوم أنده عليه في الجوامع عشان ترتاحي
تحدث علي بتفكير :
يابا ما هو برده دي مش عوايد يعقوب
رد عبدالله ببرود وهو ينظر إلى والدته بتهكم:
دول مكنوش كام ساعة ياما للمناحة دي
ولج شريف من الخارج وهو يقول باستياء:
لسا تلفونه مقفول
واسترسل موجه حديثه إلى فايزه:
ما تكلمي حسناء يمكن تعرف مكانه أو توصلنا لحاجه
انتفضت مايسه من جلستها مردفه بعجلة:
أنا هكلمها
اقترب شريف منها يعيدها للمقعد متمتمًا بأمر صارم :
ارتاحي وفايزه هتكلمها
زوجته ويعلم نواياها جيدًا وليس من الطبيعي أن يداوي اختفاء يعقوب بإنهاء علاقته مع حسناء بسبب جهامة أخته!! .. وافق عزيز على فكرة شريف وأشار إلى فايزه بالإسراع لمهاتفة حسناء، التي جاء ردها بخيبة أمل إليهم فهي لا تعرف عنه شيء منذ مقابلته في منزل عمها ..
لتصاب بالحيرة هي الأخرى ويستحوذ تفكيرها أفكار مريبة لاختفائه !!
؛؛؛؛
على صعيد آخر في مكان يبعد عن القرية ساعتين ونصف تقريبًا، جلس على أريكة خشبية تطل على أمواج البحر المتصاعدة بأصواتها وكأنها تعزف ألحان متناسقة… مستمتع برذاذ الماء من اصطدام الأمواج في الصخور الضخمة ينثر عليه من حين لآخر، لا يعلم كم مر وهو يمكث محله يحدق في السماء تارة وزرقة البحر تارة .. يتنفس بعمق يخرج كل طاقته السلبية يلقيها على بُعد يده، أخرج الضجيج الناشب في رأسه يحله واحد تلو الآخر بهدوء ورفق دون أن يشعر بالضغط..
تفاقم شعور الندم لتراجعه عن قراره في عدم الزواج على الأقل لحين العثور على الفتاة المناسبة.. بالأدق لتهوره وانجرافه خلف مشاعره والتفكير في حسناء كزوجة، أحياناً يجد نفسه أمام فتاة ناضجة، فطنة، تفقه خبايا الحياة .. وأحياناً يرى طفلة عنيدة، تتصرف بأسلوب اهوج يفقده صوابه!!
زفر بصوت مسموع وهو يصارح ذاته بعدم قدرته عن الابتعاد عنها، يشعر بالضعف إذا تخيل أنها تصبح لغيره، لا يفهم ما أصاب رزانة عقله التي تختفي عندما يتعلق الأمر بتلك الفتاة.. لديها شيء مميز استحوذ قلبه، صوتها، بسمتها، حديثها بنبرة حادة لا تناسب هيئتها البريئة، خجلها، تفكيرها المتناقض .. ابتسم بسخرية على حاله وهو يعد مزاياها التي لا تحصى بالنسبة إليه، أجزم بأنه سيصاب بالجنون قريباً وبدايته تفكيره في فسخ الخطبة والزواج منها في آن واحد!!
؛*************
عودة للقرية
ركع على ركبته ليكون قُبالة عينيها المتورمة من البكاء، مسح وجهها الصغيرة براحة يده، ولأول مرة يشعر بقلبه ينبض بمشاعر دفئ وحنان..
: مش قولتلك بطلي عياط
وكيف تكف عن البكاء وهو وسيلتها الوحيدة، بنبرة منخفضة همست تترجاه بتوسل:
عايزه ماما، متسبنيش يا عمو
اهتزت لهجته وهو يرد عليها بعاطفة:
مش هنعرف نشوف ماما الأيام دي لأنها تعبانه وبعدين مش أنتِ بتحبي زياد ويزيد، هتقعدي معاهم شويه لحد ما أرجع وماما تكون كويسه
حركة لوجينا رأسها بهدوء واتجهت حيث أشار إليها :
متخفيش هفضل واقف هنا لحد ما تدخلي
اختبأ خلف منزل قريب وهو يتابع سيرها المتوتر، تمنى أن يكون لديه قدرة على تحمل مسئوليتها وتظل تعيش معه لحين خروج ليلى من المصحة النفسية، التي دخلتها صباح اليوم بناءً لحالتها المضطربة.. انتبه عندما فتحت إمراه لم يحدد هويتها ولكن استنتج أنها والدة الشاب الذي سجن كما استمع من الأهالي،
: أنتِ مين يا بنتي ؟؟ وايه مخرجك لوحدك بليل ؟
سألتها والدة منير وهي تبحث بعينيها حول المنزل علها تجد أهل تلك الطفلة التي هتفت ببكاء:
عمو قالي اجي أقعد مع اخواتي
” اخواتك!!! ” رددتها والدة منير بتعجب .. ظهر زياد من الداخل وهو يركض خلف أخيه الذي وقف يتأمل من الطارق، وما أن رآها صاح يقفز بسعادة وركض يحتضنها تحت نظرات والدة منير المذهولة، انسجمت لوجينا مع إخوتها وهي تلتف تحدق خلفها من حين لآخر :
انزل يا عمر شوف الخير اللي جايلك نص الليل
قالتها بتكهم ونادت عليه بصوت مرتفع.. دقيقة وهبط عمر وهو يتساءل بقلق، لكن ابتلع باقي سؤاله ووقف على الدرج يرمق لوجينا بصدمة:
انزل يا خويا بتقولك عمها قالها تيجي تقعد مع اخواتها
هرول لباب المنزل معتقد أن سيف بالخارج، تجول في الشارع واتجه حيث أشارت لوجينا بوجود عمها… حرك رأسه بعدم تصديق وعاد يحدج الأطفال بسكون، يستحق لقب التعيس بجدارة بفضل تلك العائلة، نظر إلى والدة منير وهي تأخذهم معها لداخل شقتها وسأل نفسه ماذا سيكون حاله إذا كان يرعى أولاد أخته لوحده؟؟ .. جلس على الدرج متنهد بتعب، جاء سيف إلى هنا وفر قبل أن يقابله لأنه متيقن أن لوجينا في أمان معه، لكن إلى متى سيتحمل فوق طاقته؟!!
؛*************
بمساعدة الجيران وبعض الأهالي نظفت المنزل قدر المستطاع، واشترت قطع أثاث بسيطة تفي بالغرض لحين مجيء العمال لتجهيز المنزل بأكمله من آثار الحريق، رفضت والدتها الذهاب لأي مكان للإقامة به لعدم شعورها بالراحة سوى بمنزلها رغم إصرار ضياء على مساعدتهم…
: لا يا ضياء مش هتجوز مع أمك في بيت واحد
قطب جبينه باستفهام وسألها بأهمية:
لكن دا مش نفس كلامك أول الخطوبة صح ؟؟
ردت عليه بعفوية :
متزعلش بس أمك محدش يعاشرها غير واحد بيحب الفرهدة وأنا مليش في اللت والعجن
انكمشت تعابير ضياء وهو يقول بتبرم:
لاحظي أنك بتتكلمي عن أمي
رفعت ساره كتفيها ببراءة متمته بدلال :
وهو أنا بقول كده غير عشان هي أمك
مرت فتاة تسألها عن الأحوال فردت ساره بحنق ودارت تستكمل بسلاسة:
بعد الجواز لما يحصل مشكلة مش هتعرف تقف مع أمك ولا مراتك وبما إننا أصلا مش طايقين بعض في الخطوبة أكيد الجواز هيكون مستوى أعلى
شعر بالإحراج من وقفته معها أمام منزلها فقال باقتصار:
ادخلي دلوقتي ونتكلم بعدين بدل وقفتنا دي
: لا هنكمل كلامنا لو عليا ادخلك بس امي بتنام بدري ومش هينفع نقعد أنا وأنت لوحدنا
واستكملت تسأله بدهاء:
وبصراحه قولت أسألك هي أمك تعرف بأنك عايز تكتب كتابنا مع أخوك ؟؟؟
: لما أقرر هبلغها أكيد
رمقته بتفحص وهي تسأله بفضول بادي :
طيب قبل ما تقرر عايزاك ترسيني على حوار نزولكم مصر تستقروا بعد العمر ده كله ؟؟
رفع ضياء كتفيه وهو يرد عليها بتلقائية:
عادي اكتفينا من العيشة لوحدنا
رسمت بسمة خبيثة على ثغرها مردده بمكر :
بقولك ايه يا ضياء أنا ساره أبو الفضل مش عيله هتضحك عليها بكلمتين، واوعى تفتكر إني مخدتش بالي من رقم أخوك المصري وهو بيكلمك على أساس أنه مسافر السعودية
: مفيش الكلام ده
قالها باقتضاب مصطنع انشغاله في هاتفه، من الواضح أنه استخف بذكائها وقد تكون هي سبب كشف الخبايا .. همهمت ببرود وقالت بمراوغة:
يبقا بتحور عليا وفاكر إني هبلعها مع أن الصراحة مفيش أحلى واريح منها
نظرت إلى تعبيره المرتبكة واستطردت بخبث:
وعشان اكون صريحة معاك ممكن تعدي معايا أو مع بنت الحاج صبري لكن بنت سالم سويلم مظنش
انكمش بين حاجبيه وتمتم متسائلاً بسخرية :
دا تقليل منك ومن ريهام ولا أنا فهمت غلط ؟؟
ضربت على كتفه بخفة مردده باستهتار :
لا وأنت الصادق بنمشي على طريقه بالمختصر زينا زي بنته
احتدت لهجته وهو يردف بضيق من صراحتها الفظة :
يا سلام اصحى الصبح ألاقيكي بتقولي ملناش نصيب مع بعض عشان سالم قرر يفسخ خطوبة بنته
هزت رأسها بتأكيد فرفع ضياء حاجبيه باستنكار واسترسل بغضب :
وأنا مقبلش على نفسي الطريقة دي ولا أنا ناقص ولا معيوب عشان حضرتك تهيني كرامتي بالشكل ده رغم إني قبلت بيكي
ضحكت بصوت مرتفع غير مبالية باستغرابه ثم وضعت يدها في خصرها وهتفت مبتسمة:
وحد كان ضربك على ايدك يا صغنن تقبل بيا
: قصدي إني لما نزلت البلد كله حذرني منك، وأنا شوفت بعيني طريقتك وأسلوبك بس برده اتشديت ليكي واقتصرت الطريق وخطبتك مع إن ماما رفضه بس حبي لاختلاف شخصية زوجتي المستقبلية مخليني مكمل لحد دلوقتي وبعد كله ده أنتِ مش مقدره أساسًا
ردت عليه بحده مماثلة لنبرته :
مش مقدره ايه يا ضياء ؟ أنك متكرم عليا عشان خطبني!! ولا اني مستحقش واحد زيك !! ولا يكون لازم أبوس ايدي وش وظهر وأحمد ربنا عليك ليل نهار ؟!
ضحكه خافته باستهزاء وهي تستكمل بتهكم :
لا يا حبيبي صحصح كده وفوق، واوعى الشعرتين بتوعك دول يقوك، أقعد مع نفسك كده شوف ايه ميزتكم غير امكم المتصابية اللي بتلف على كبير البلد من ساعة منزلت ولما ملقتش منه رد قلبت على صبري وجابر وعبده واهو اللي يوقع فيهم يقضي غرضه
أعتقل لسانه وهو يرمقها بوجه محتقن بحمرة الغضب الشديد، لاحظت ساره نظراته القاتمة وعروق يده البارزة فضحكت بميوعة وهي تصيح بغنج:
متزعلش حبيت اثبتلك كلام الناس يا ابن سعاد حسني
دارت وأغلقت الباب في وجهه وهي تغمغم بحنق :
تعالي ياما شوفي الثري العربي، صاحب بنوك الخليج، ملك زمانه ابن هانم المتصابية بيقولي أنا قال ايه قبلت بيكي
تسمر مكانه لدقائق يحدج الباب بثبات، ومن ثمّ التفت يغادر وهو يعيد حديثها على سمعه مرارًا.. لم يأخذ التفكير وقت ليحسم الأمر ويخرج هاتفه يبحث عن أقرب موعد لحجز طائرة يعود بها للسعودية، واتجه يجهز حقائبه قبل أن يواجه والدته بقراره المفاجئ الذي لن يتغير قط،
؛***********

: موسى!!! ايه اللي مصحيك دلوقتي ؟؟ حاسس بوجع ؟!
حرك رأسه بهدوء متمتم بخفوت :
لا مش عارف انام
جلست بجواره وهي تسأله بقلق :
ليه يا حبيبي؟ ولا بتفكر في رد هند ؟!!
دار برأسه ينظر إليها متسائلاً بحيره :
تفتكري هتوافق ؟!
ردت عليه كوثر وهي ترتب على يده بحنو :
إن شاء الله هتوافق ونفرح بيكم قريب
: مش مضايقه من اختياري يا ماما ؟؟؟
هزت رأسها بالنفي مردفه بسعادة :
أنا هكون أسعد واحده لما أشوفك أنت وعليا مبسوطين ودي أهم حاجه عندي
اقتضبت ملامحه وهو يهتف بضيق طفيف :
بس عليا مش هتكون مبسوطه باختيارها
قطبت كوثر جبينها باستغراب ورددت تسأله بعدم فهم:
ليه حكمت عليها مع أنك اخترت بحريتك ؟!
تطلع إلى الشرفة وقال بحده :
يا أمي مفيش مقارنة بين هند وعمر
ردت عليها بإصرار:
لكن كان ممكن أرفض حبك ليها واقولك دا اعجاب مش في محله، ومقللتش من مشاعرك رغم ظروف هند الصعبة
أبتسم باستهزاء وغمغم باستنكار:
تعرفي أن عليا كلمتني الصبح واقترحت أنها تشتري البيت اللي عمر مأجره من المعلم سالم !!!
أومأت بتفهم واسترسلت بتوضيح :
عارفه وقالت ليا قبل ما تعرفك، وأنا معاها لأنها فكرة كويسه وهتساعد عمر كتير
فتح عينيه على وسعهم بدهشة، ثم مسح وجهه متمتم بتبرم :
عمر مش مناسب ليها لو فضلنا العمر كله نساعده
واستطرد بجمود :
مش معنى أن والدها اتوفى ومعها فلوسها أنها تتصرف فيها بالشكل ده، واحده كل همها شوبينج وفسح ولبسها كل ماركات، أقل ساعة عندها ممكن تشتري عمر ذات نفسه.. ترمي نفسها في النار وأنا واقف اتفرج
: وأنا مش هجبرها على حاجه طول ما أنا عايشه يا موسى
وقفت تنهي جداله وهي تهتف بهدوء وحكمة :
كل اللي بتقوله ده كان زمان حالياً في واحده بتتعلم تشيل المسؤولية وكل تفكيرها اتغير تمامًا، شوف بنفسك هي بتكون مبسوطه ازاي لما تحاول تعمل أكله وتنجح
أغلقت زجاج الشرفة وهي تهتف برفق قبل أن تغادر غرفته:
أرتاح وفكر كويس وصدقني أنا مش عايزه غير سعادتكم
وأين يجد الراحة بين قلق وحيره يمتلكان عقله؟! تارة يفكر في قصة حبه المتيم التي على وشك البدء، وتارة ينتاب قلبه الخشية من رد محبوبته… وهذا كله لا يضاهي انشغاله الدائم في إبعاد عمر عن حياتهم بمشاكله التي لا تنتهي،
؛*************
الحادية عشر قبل منتصف الليل .. أعاد تشغيل هاتفه على مضضٍ من نسيان فتحه باكرًا، لم يشعر بمرور الوقت وهو يجلس محله، ولج إلى عالم آخر مع نفسه في استراحة هادئة، يجول بأفكاره بين شتات عقله متصارعًا مع ضغوطاته التي كادت أن تخنقه إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة .. استقبل رسائل عديدة من رقم شريف وأخويه للاطمئنان عليه، وكذلك محاولة الاتصال به من أرقام مختلفة، أخذ نفس عميق وهو يرمق رقم والده الذي يعتلي شاشة هاتفه.. لم يتفوه بكلمة من مقاطعة عزيز بانفعال وهو يزجره بحده :
أنت فين من صباحية ربنا وقافل الزفت ليه؟؟
رد يعقوب باقتصار وهدوء :
في إسكندرية والتليفون فصل من غير ما أخد بالي
: في إسكندرية بتعمل ايه ؟؟ وازاي تسافر من غير ما تعرف حد ؟! هو إحنا هوا بالنسبالك ولا ملكش كبير!!
احتفظ بنبرته الرزينة واجاب بتلقائية، فذلك خطأه لأنه يفهم مدى شعور والدته بالقلق إذا غاب أحدهم ساعة عن عادته :
معلش يا حاج واحد معرفة قصدني في خدمة وسافرت بعد صلاة الفجر ونسيت اشحن التلفون
عنفه عزيز بغضب، بعيدًا عن أجواء التوتر بسبب نحيب حسينه طيلة اليوم هو أيضاً أصابه القلق لشعوره باختفائه بدون إنذار:
تقوم تسافر من غير ما تعرف حد دا كان فاضل شويه واطلع أنادي في الجوامع عن عيل تايه بسبب أمك
استمع إلى صوت والدته وهي تترجاه بأن تتحدث إليه، صاح عزيز بانزعاج يردع من حوله ومن ثمّ أمره باقتصار:
تيجي بكره الصبح وبعدين نشوف تصرفاتك اخرتها ايه
استمع إلى صوت إغلاق المكالمة فنهض يزفر بقلة حيلة، تجول في الشوارع المحيطة من جلسته وبدأ يسأل عن مكانه بالتحديد .. بحث عن مقهى قريب يأخذ كوب قهوة أثناء سيره، ومن ثمّ أتجه إلى مطعم وجبات سريعة يختار ما يناسب ذوقه، لم يعاني من البحث عن مكان للمبيت فقد تكفلت السيارة بتلك المهمة، صفها بإحدى الشوارع الجانبية المطلة على البحر مباشرة وأغلق الزجاج الأسود فحجب الرؤية من الخارج .. ارتشف كوب القهوة وأثناء عودته لاستلام الوجبة من المطعم ولج إلى أول مسجد يقابله يؤدى فروضه الفائتة، عند عودته إلى السيارة أخرج هاتفه على صوت رسالة نصية، كاد أن يغلقه مجددًا من كثرة رناته المزعجة،
وضع الوجبة على المقعد المجاور وهو يقرأ محتوى الرسالة التي كانت من حسناء تطلب منه أن يتواصل معها عندما يقرأ رسالتها ويكف عن الحركات الصبيانية، لوهلة كان سيتصل بها ويطمئنها كما فعل مع والده، لكنه تراجع لأنها ربما لن تصدق حديثه وتلقي على سمعه كلمات ساذجة تثير ضيقه وهو يحاول الاسترخاء عن كل هذا الهراء .. ضغط على زر بجانب المقود جعل مقعده يعود للخلف بشكل مستقيم، تمدد بجزئه العلوي ووضع وسادة صغيرة خاصة بسيارته أسفل رأسه ليكون الأمر مريح إلى حد ما .. أغمض عينيه يبذل قصارى جهده في الاكتفاء من عناء عقله الذي كان لو باستطاعته الفرار لهرب من معقله وتركه في فوضى معضلة …
؛************
أوصدت الباب بحرص وهي تلتفت تحدجه بحده :
يعني ايه هترجع السعودية!! وازاي أصلا تقرر من نفسك ؟!
ردد ضياء بفتور وهو يرتب ثيابه في الحقيبة:
قرار يخصني ومش محتاج مساعدة حد فيه
قطبت هانم جبينها باستغراب وسألته بعدم فهم:
مش كلامنا إننا هنستقر هنا من بعد اللي حصل؟!
ألقى ما في يده يعنف وهو يردف بضيق:
اللي حصل مش ذنبي وأنتِ ومحمد اللي وجودكم هناك صعب يعني أنا مش مجبر اقعد هنا واوقف حياتي
: لا ده مش كلامك وأنا متأكدة أن البيئة اللي أنت مصاحبها هي السبب في حالك اللي اتبدل
احتدت نبرته وهي يهتف باستياء:
هي قالت الحقيقة اللي كله شايفها حتى احنا بس بنقاوح
استكمل بكسرة وخذلان :
وقفت مكسور وأنا بسمع كلام زي السم عن أمي المتصابية
صدته هانم وهي تصيح بغضب:
مبقاش غير الجربوعه دي اللي تتكلم عني
ضحك ضياء بسخرية وقال بأسى:
هو ده اللي فرق معاكي، ماما إحنا شايفين وساكتين غصب عننا لاني مقدرش أقف قصاد أمي واعرفها الصح من الغلط وقبلنا على نفسنا قلة قيمة بين الناس
تدخل محمد الذي كان يستمع إلى حديثهم من البداية:
مش كده يا ضياء وبعدين مش من أول مشكلة تفكر تمشي
نظرت هانم إليه وأردفت باستهجان :
لا سيبه يقول اللي نفسه فيه وشايله في قلبه من زمان
لم يرد ضياء عليها ونظر إلى محمد مردفًا بحزم:
خلاص أنا قررت هرجع وافتح الجيم تاني والمكان اللي فيه راحتي هستقر فيه على الأقل احافظ على صورتي قدام نفسي كراجل
دار يكمل ترتيب ثيابه تحت نظرات هانم المقتضبة التي فشلت كل محاولاتها في الاستحواذ على أفكاره… ظل محمد مع ضياء يقنعه بأن يأجل قراره إلى أن يهدأ، حتى أنه أقترح عليه بأن يذهب إلى ساره كي يصلح بينهما ولكن أصر الآخر على المغادرة في أسرع وقت لحين موعد طائرته ظهر الغد ..
؛؛؛؛
في إحدى غرف المنزل تمدد عبد الخالق على فراشه متهيئ للنوم .. دلفت زوجته وهي تقول بكدر:
اصحى يا خويا شوف أختك وعيالها
رد عليها دون أن ينظر إليها:
ملناش دعوة هي حره مع عيالها يسافروا ولا يقعدوا
هزت رأسها بلامبالاة فقد ظن أنها تقصد صوت هانم المرتفع مع ضياء كي لا يسافر :
اديك قولت حره مع عيالها إنما لما تجبلنا مصيبة بقا
اعتدل عبدالخالق في الفراش متسائلاً بقلق :
مصيبة ايه ؟؟ ما تقولي اللي عندك مره واحده
حركت فمها بحركة سوقية وهي تهتف بتهكم:
أختك راحت لأم شوقي
عقد بين حاجبيه وتمتم بعدم فهم:
أم شوقي مين ؟؟ وايه المصيبة في كده
جالت بنظرها في المكان وهي تهمس بخوف :
بعيد عنك أم شوقي بتاعت الأعمال والسحر اللي ساكنة في العزبة اللي جنبنا
انتفض من الفراش وهو يرمقها بصدمة ثم سألها بشك :
وأنتِ عرفتي منين؟!
: اظاهر أن هانم نسيت إن أختي بيتها قصاد الست دي واكدتلي أنها شايفها داخله أول امبارح عندها وطلعت بعد نص ساعة
صمت لثوان واعاد يسألها مستفسرًا:
مش يمكن رايحه في خير ؟؟
رفعت زوجته حاجبيها باستنكار وأردفت بسخرية :
ومن أمته الناس دي بيجي من وراها خير ولا أنت عايز تداري على أختك وخلاص
واستطردت بلا اكتراث:
على كده أروح أشوف الخير ده لعيالي أنا كمان
انكمشت قسمات وجهه وهو يهدر بحده :
هتتهبلي على كبر ولا ايه، تروحي للدجالين على آخر الزمن
: يبقا متسكتش لأختك ما أنا أخاف على بيتي وعيالي منها طالما فكرت في الاذية والله أعلم كانت بتعمل لمين
جلس على المعقد وهو يستجمع خيوط الأمور حوله لفك لغز هانم المخيف… فقالت زوجته قبل أن تغلق الإضاءة وتتجه للفراش:
يمكن كانت بتعمل لساره عشان تبعد عن ضياء ولا بتعمل لابن عمكم عشان تتجوزه
(سالم!!) ردد عبدالخالق الاسم بدهشة، إذا صدق تخمين زوجته الأول أمره هين ولن يكون أسوأ من الثاني .. ظل يفكر في عقلية هانم وهي تذهب إلى ذلك الطريق، وكيف يأمن وجودها بين أسرته بعد ذلك؟؟
: مش هتنام ؟!!
نظر إليها بطرف عينه قائلاً بضجر :
وهو بعد اللي قولتيه ده في نوم
؛***********
شعرت من بين نومها بعدم وجوده بجانبها، فذلك الفراغ لا يشغله سوى أنفاسه التي تطمئنها .. فتحت عينيها وهي تجول برأسها في الظلام تبحث عنه، أخذت مئزرها ترتديه فوق منامتها وهي تخرج للطرقة، اكترثت على ظله من إضاءة الشرفة الخافتة:
سالم !!
وقف من المقعد ودخل يجيبها وهو يمسك كوب شاي في يده، فسألته بتعجب :
بتعمل ايه دلوقتي؟!
ارتشف من الكوب وقال باقتصار:
حنين قلقت من نومها فعملت شاي لحد ما نايمتها
: غريبه مسمتعش صوتها ولا حسيت بيكم
واسترسلت تسأله باهتمام:
احضرلك عشا ؟!
هز رأسه بالنفي فأردفت بضيق عكس نبرتها الحنونة من ثوان :
هو أنت كمان هتزعل وتتقمص وأنت غلطان
نظر سالم إليها وسألها مبتسمًا:
وغلطان في ايه يا ندى؟؟
استفزازها ببسمته الهادئة مع أنها متيقنة من أسلوبه الهين في معاتبتها .. هتفت بصوت مختنق تجاهد في إخراجه بلهجة طبيعية حادة بعض الشيء:
ما هي دي المشكلة أنك شايف كذبك عليا عادي وكمان تتعصب وتتنرفز وصوتك يجيب أخر الشارع عشان بعاتبك
رمقها لبرهة وردد بلوم :
أقل حاجه كان ممكن تعمليها وقتها تنهي النقاش بدل ما وقفتي قصادي بطريقة مستفزة رغم أنك عارفه ان دي مش طريقتي ولا أسلوبي
رفعت حاجبيها باستنكار متسائلة بحنق:
هو بجد المفروض مني اعمل ايه وأنت بتكذب عليا؟؟!
: برده هتقول بتكذب عليا، وهو ايه اللي حصل أصلا عشان احكيه !!
نظرت إليه بضيق فاستكمل بفطنة :
ندى كلنا عارفين إن ميادة مرت بظروف صعبة مع محمود وهو انسان مستهتر أساساً وعديم المسؤولية عشان يقول كده قدامك وهو متأكد أنها كانت في حالة مش كويسه وبتقول اي كلام وبعدين بأي حق احكي وهز صورتها واجرح مشاعرك وبعد كده يكون في حساسيه بينكم في التعامل
حدجته بغيظ وصاحت بسخط:
وأنت عايزني اتعامل معها ازاي إذا كان جوزها ذات نفسه اللي قال إنها عرضت نفسها عليك
حرك رأسه بلامبالاة مغمغمًا برجاحة:
مسمعش الحوار من أوله وقال قدامك كده عشان يسكت مياده بدل ما تصدق هي كمان وتمسك في أنه السبب في ولادتك بدري ودا اللي صحيح المفروض اعتب عليكي فيه
تلعثمت وهي تهتف بارتباك:
ما أنا لو قولتلك ساعتها ممكن تحصل مشكلة كبيرة ومحمود أصلا حاسس بالذنب لحد دلوقتي
عم السكون بينهما لدقائق معدودة كسرها وهو يغمغم بهدوء :
طيب يعني من الآخر أنتِ خوفتي على مشاعري وأنا كذلك واظن دا كفايا عشان نقفل على الموضوعين
: بصراحة هي مش سهله عندي كده وأنت لسا من كام شهر ضاحك عليا وبدلت حبوب منع الحمل يا سالم
: وأنا معترف بغلطي واعتذرت بدل المره عشره ولحد دلوقتي زعلان من نفسي وبعدين مفيش أنسان معصوم من الغلط يا ندى
ضغطت على أحرف اسمها وكأنه ينتشلها من حدتها كي تبعد وجه لا يليق لنعومتها .. بينما سألته بتلجلج وهي تحدجه بتفحص :
أنت مش هتتكلم مع محمود ولا تعاتبه صح؟؟!
: هيفرق !
هزت رأسها بتأكيد فضحك وهو ينهض يجلس بجوارها قائلاً بحنكة :
وأنا معقول برده يكون عندي شك أنه يقصدها، حبيبتي مفيش حد هيخاف عليكم من بعدي قد محمود وابويا ومش هلاقي كلام بعد حاله المقلوب من يوم ولادتك
تنفست براحة وهمست بعفوية:
يا سلام لو تصرفاتك بعقل زي كلامك ده
ضحك بخفة مردفًا بمزاح وهو يلف ذراعه حول كتفها :
معلش بقا حظك ولازم تستحملي
كادت أن تبتسم فقالت باقتضاب مصطنع:
محتاجه فتره انسى وارجع اتعايش تاني بدل كل صدمه ما بتطلع من نفوخي بسببك
طال يرمقها بثبات دون أن يتفوه فشعرت هي بالتوتر من صمته .. تعلقت عينيها على بُنيته تتأملهما بفضول، تقرأه ككتاب مفتوح حفظت كل ما بداخله، وهو يبسط صفحاته بكل حب بين يديها … مؤنس لا تتعب الروح برفقته، تهون معه معضلة الحياة، كلاً منهما يعتبر الآخر بملاذ الأمان والسكينة فمن التعسف على الخصام يجد مكان بينهما،
رفعت راية الاستسلام أمام نظراته وقالت بقلة حيلة:
متقعدش تبصلي كده، أمري لله هتعبرها زي ما قولت إن كل واحد فينا خاف على مشاعر التاني
أشارت بسبابتها مستكملة بتحذير:
لكن دي آخر مره هعديها خد بالك
أومأ بآليه وهو يرمقها بسخرية:
حبيبتي يا ندى طول عمرك قلبك كبير
رفعت يدها ترتب خصلاتها بغرور ونهضت تطمئن على أطفالها قبل أن تعود لغرفتها فإن استمرت في جلستها معه لن يشعروا بالوقت ولن تستطيع الاستيقاظ مبكرًا…
؛*********
في الصباح الباكر وقفت ساره أمام منزل المعلم سالم تنتظره كما طلب منها .. لم تهدأ طيلة الليل وهي تفكر في الإهانة التي تعرضت إليها، على أحر من الجمر سارت بداخل البهو عندما أشار إليها المعلم سالم بالتقدم :
في ايه يا ساره ؟؟!!
ردت بنبرة مقتضبة:
معلش يا معلم قلقتك بدري لكن بصراحه مش قادره أصبر
فتح باب المجلس إليها وطلب من صباح أن تحضر كوب الشاي خاصته مع ضيافة ساره:
طول الليل قاعده على نار وكان هاين عليا اجي بليل افش غيظي من ابن هانم
قطب جبينه باستفهام فصاحت ساره بحده :
الناس دي وراهم مصيبة وجايين البلد يداروا
ضغطت على أسنانها واستكملت بغيظ :
بقا يعايرني عشان قبل بيا ابن سعاد حسني
دخلت صباح تضع الضيافة أمامها وكوب الشاي بجوار طاولة المعلم سالم الذي سألها بعدم فهم:
مين عايرك ؟! ومصيبة ايه اللي بتتكلمي عنها؟؟
ابتسمت بخبث وافصحت عن كل ما يثير شكوكها خلف هانم وأولادها.. شعرت بالتشفي وهو تقص أشياء مريبة جمعتها منذ أن اجتمعت مع ضياء :
وبعدين هو ايه اللي كتب كتاب وهي لسا مكملتش شهرين هنا يعني مره واحده كده افتكرت أن عيالها كبروا وعايزه تجوزهم
انصت إليها إلى أن انتهت ثم سألها بشرود:
وضياء كان ايه رده ؟؟!
مصمصت ساره شفتيها وقالت بتهكم :
ولا اي حاجه كالعادة كل ما يجي سيرة موضوع أمه ولا اخواته يتوتر وشكله مش مريحني
هز المعلم سالم رأسه بسخرية مردفًا بوجوم :
كل الكلام ده في كفه وأنه يسكتلك امبارح دا كفه تانيه
انكمش بين حاجبيها بعدم فهم ثم تسألت بحيره:
ازاي ؟! يعني هو أنا قولت حاجة غلط عشان يعرف يرد!!
: لا يعرف يرد زي اي واحد يدافع عن رجولته قدام كلامك وده مش عشان اي حد دي أمه، لكن هو ذكي وسكت عشان يخلي زي ما بيقولوا الطَابق مستور وميفتحش على نفسه باب لو اتفتح مش هيعرف يسده
توسعت بسمتها بشر مغمغمه بخبث:
يبقا كلامي مظبوط وأكيد المعلم سالم مش هيسكت
لا يهم إذا جاءت هانم للاستقرار أو لسبب لا يعلمه، فالعائق في اتخاذ أي قرار وجود صلة لرحمه معهم … لا يفهم ما سر تمسكها بـ علاء لتلك الدرجة سوى أنها تحلم بالسفر للخارج، عليه التحلي بالهدوء للتأكد أولاً من صحة شعور ساره ثم يطوي صفحة علاء من حياة رحمه دون خسائر،
؛**********
: يالهوي أنت نايم كده ليه ؟؟؟
شهقة خرجت من شفتي والدة منير وهي ترى عمر يجلس على الدرج نائمًا .. نادته بقلق وهي تهز كتفه برفق فهمهم بتكاسل، صاحت والدة منير بنفاذ صبر:
مسبتش حاجه من هطل ابني، أهبل زيه بالظبط
فتح عينيه بتثاقل متمتمًا بنعاس :
هو أنا نمت هنا ازاي
ضربت على يدها مردفه بكدر :
قول لنفسك يا خويا اظاهر مخك ساح
رفع يده يمسح وهو يتثاءب متسائلاً عن الأطفال، فأجابته وافدة منير بعاطفة:
اسكت البت يعيني مبطلتش عياط طول الليل وهي بتنادي على أمها
أخرج هاتفه من جيب سرواله يرى الساعة بتبرم، ثم وقف بعدم اتزان مردد بحنق :
مش عارف أنا لسا عايش ازاي بعد كل اللي بيحصلي ده
: هي أمك لسا قاطعة الأكل؟؟ أنت معرفتهاش ظروفك وأنك مش هتقدر على المصاريف دي ؟!
أخفض رأسه باستياء وهتف بيأس :
هسيبها لمين ولا ايه في ايدي اعمله، المشكلة أن الدنيا قفلت في وشي مره واحده
: لا متقولش كده أنا من يوم ما عرفتك وهي متقفله في وشك
نظر إليها بوجوم ثم هتف بامتنان:
بس معرفش لما ترجعي بيتك هعمل ايه من غيرك يا أم منير، معروفك مش هنساه طول حياتي كفايا انك شيلتي حمل التفكير في زياد ويزيد وأنا بشتغل
ابتسمت بحزن وهي تردف بأسى :
أنا اللي معرفش هرجع البيت ازاي والواد منير مش فيه، ربنا يفك ضيقته ويجازي اللي كان السبب
واسترسلت بحنو :
بس متقلقش أنت زي منير والعيال هخدهم عندي ولما تخلص شغل تعدي تخدهم لحد ربنا ما يفرجها عليك وأهم يسلوني بدل ما أقعد لوحدي
: ولوجينا ؟؟
تسأل بحيره وهو يفكر في حل ما يفك عقده، فقالت الأخرى بتلقائية :
هتعمل ايه هترميها في الشارع وهي ملهاش ذنب
ابتسم بسخرية مغمغمًا بحزن :
وأنا ايه ذنبي في كل ده
نظرت إليه بشقفة وأردفت وهي تدخل تجهز الإفطار:
محدش بيختار أهله يابني
لو استطاع أن يقدم إليها الشكر بوسيلة أخرى عن كلماته لفعل، لكن ما باليد حيلة ولن ينسى معروفها طيلة حياته… لا ينكر حزنه عندما أمره المعلم سالم بترك الطابق الأول إليها وجعله في غرفة صغيرة على السطح، لكنه تأقلم مع الوضع سريعًا خاصةً أنه لا يملك خيار .. حين عودة أولاد أخته واعتنت بهم دون أن يطلب، رأى منها حنان ومشاعره تفيض بالعطف لم يشعر به من والدته، حينها تيقن من كرم الله عليه في كل موقف شاق يظن أنه لن يهون،
؛**************
طرقت بخفة على الباب ثم فتحته وهي تقول بعفوية:
رحمه الفطار جاهز وهيبرد وأنتِ لسا مصحتيش
قطبت جبينها بتعجب عندما رأتها مستيقظة وتجلس أمام شاشة اللاب توب بتركيز … دلفت مروه وأغلقت الباب متسائلة باستنكار:
يعني أنتِ صاحيه وقاعدة هنا وسمعانا بنادي عليكي؟؟!
ردت عليها وعينيها معلقة على الشاشة:
ثواني يا مروه الدنيا مش هتطير
تحركت مروه إلى أن وقفت خلفها ترمق ما يشغل انتباهها .. أبعدت نظرها عن الشاشة احترامًا لخصوصية رحمه عندما وجدت محادثة بينها وبين علاء :
طيب ما تقولي لنفسك ولما نفطر تعالي كلميه
: دا على أساس إني بلاقيه أصلاً
كادت أن تدور وتخرج تخبر أخواتها بأن يتناولوا وجباتهن ولا ينتظرن رحمه، لكن رغمًا عنها لفت نظرها آخر رسالة من علاء ” الأفضل ليكي تقرأي كتير لأن الإنسانة المثقفة بتفهم الحياة الزوجية صح إنما كلام المخطوبين ده ما هو إلا تضيع وقت، وأنا وقتي مش ببلاش”
التفت تحدج رحمه متسائلة باستغراب:
هو الأخ بيتكلم كده ليه ؟!!
أغلقت رحمه المحادثة وهتفت باضطراب:
عادي يعني كلام بينا، ياله هطلع معاكي نفطر
رفعت مروه حاجبيها باستنكار ورددت بسخرية:
لو حد فينا قالك نص كلمة من كلامه كان زمانك قلبتيها مناحة يا رحمه
: يوه عليكي، عادي هو بيقول كده عشان بقوله إننا مش بنتكلم وبصراحة عنده حق بلاش تضيع وقت
توسعت مقلتي مروه بدهشة وغمغمت بعدم اقتناع:
وهتفهموا بعض ازاي لما هو مسافر ومش بتتكلموا، يعني ايه لازمة فترة الخطوبة مادام هي تضيع وقت
قالت بلامبالاة وهي تتقدم للخارج :
بعد الجواز نفهم بعض
أمسكتها مروه من معصمها وسألتها باستفسار:
أنتِ شايفه ايه مميز في علاء غير حياته بره مصر ؟؟
لوت جانب شفتيها مردفه بضجر :
مروه كل واحد فينا ليه دماغ مختلفة واللي هشوفه مميز في علاء هتشوفيه عادي من وجهة نظرك
حركت مروه رأسها بالنفي وقالت برفق :
بس أنا مش متخيلة أنك تتجوزي وتبعدي عننا
عقدت ذراعيها متسائلة بسخرية :
ليه هو أنتِ مش هتتجوزي، ولا فاكره أننا هنفضل طول عمرنا مع بعض ؟!
: هتجوز بس مش هقدر أستقر واسافر بعيد عن هنا
واستطرد باستغراب:
وبصراحه كفايا انك قابله جدت عيالك تكون هانم
اقتضبت تعابير رحمه وخرجت بضيق من نفسها لأنها انسجمت في الحديث معها وهي تعلم مدى فظاظة لسانها .. اتبعتها مروه وهي تهتف بين أخواتها بأن عليهن بقراءة الكتب كي يصلحوا ليكونوا زوجات يتحملن المسئولية، في البداية لم يفهمن ما تقصده إلا حين خروج رحمه عن صمتها وشاجرتها بحده كي تكف عن المزاح في أمر يخصها .. وفي المعتاد لن ينتهي الشجار إلا عندما تعنفهم إحدى أمهاتهن أو التهديد بمهاتفة والدهن،
؛************
صف السيارة أمام باب المنزل، وهبط يهيئ نفسه لِما هو مقبل عليه… بخطوات ثابتة دخل ملقي التحية بصوت واثق رزين، قابلته حسنيه بحفاوة وكأنه غائب لسنوات، احتضنته بسعادة وهي ترتب على ظهره برفق تحمد الله على عودته سالمًا .. ابتسم يعقوب بخفة يمزاح والدته وهو يقبل يدها، فجاء استقبال عزيز الجاف كما توقع وهو يقول بجمود:
لو عيل لسا ابن امبارح هنقبلها منه إنما أنت بقا
قاطعه يعقوب بهدوء :
ملوش لزوم الكلام ده ياحاج، السفرية جات فجأة والتليفون فصل
ابتسمت حسنيه مردفه بحنو :
ولا يهمك المهم أنك بخير
حدجها عزيز بحده وصاح بغضب شديد:
واولع أنا مش مهم يا حسنيه
تحدثت فايزة تهدأ من حدة والدها :
ماما متقصدش يا بابا، احنا بس اطمنا لما شوفنا يعقوب
أضاف يعقوب وهو يقترب من عزيز يقبل رأسه:
حقك عليا يابا شوف ايه يرضيك وأنا أعمله
حدجه بضيق من دهاء عقله وفصاحة لسانه، اقتصر عليهما جدال سيطول باعترافه بالخطأ وفي النهاية هو رجل مسؤول عن تصرفاته ولن يعاقبه كمراهق .. ولكن ما جعل يعقوب يشعر بالحيرة هي نظرات والده الجامدة، قتامة لم يعرف أهي لأجل قلقه أم هناك شيء آخر!!
ظهر عبدالله من أول الطرقة قائلاً بعجلة :
المعلم سالم بره وعايزك يابا
تطلع عزيز إلى يعقوب بريبة وخرج مرحب بالمعلم سالم الذي طلب منه أن يتجه معه إلى مكان ما … عقد يعقوب بين حاجبيه باستغراب وهو يتأملهما يسيران لأخر الشارع، أخرج هاتفه وأجرى اتصالاً بها فلن يصل تخمينه إلى عقلها وقراراتها المتقلبة،
: كويس إنك هنا لوحدك
نظر يعقوب خلفه إلى شريف وقال بسخرية:
مش برتاح لدخلتك
أومأ إليها بتأكيد مردفًا بوجوم :
نصيحة اسمعها يمكن تعمل بيها
تعجب يعقوب من أسلوبه الجاد عكس طبعه الخفيف، اقترب منه قليلاً واخفض صوته وهو يهتف بجدية:
من رأي أنك تفكر تاني في خطوبتك من حسناء
ضيق يعقوب عينيه وسأله بعدم فهم :
افكر تاني ازاي ؟!
: يعقوب أنت وهي مش هتنفعوا مع بعض، بلاش تتعب نفسك وتعلقها معاك
حدجه شزرًا مغمغمًا بكدر :
لولا أنك غالي عندي كنت سمعتك كلمتين ملهمش لازمه
أبتسم شريف بخفة وقال باستغراب:
طيب اسألني الأول ليه بقول كده !!
ضغطت على فكه يكتم غيظه وهو يردد بحنق:
مش محتاج أعرف السبب لأن كل واحد في البيت بيعتبر نفسه ليه الحق يأمر وأنا أنفذ
حرك شريف رأسه بالنفي متمتم بهدوء :
اللي حصل امبارح في غيابك هو السبب في إني أقولك كده يمكن افتح عينك على حاجه أنت مش شايفها
ظهر الفضول على تعابير يعقوب فاسترسل شريف باستياء:
أبوك عرف أنك مبعتش الأرض لعمك زي ما قولت
جحظت أعينه بصدمه فاستكمل شريف موضحًا:
امبارح عمك جه وأنا قاعد وكان كلام عمي عزيز غريب وتحسه فعلاً كان عنده شك، وفي نص كلامهم قال أنك عرفته أن الأرض لسا بتاعتك وعمك مخدش باله طبعًا وأكد أن كده الصح ولازم انتوا الاتنين تتفهموا في موضوع الأرض، وعينك ما تشوف إلا النور أبوك اتعصب وزعق وعمك زعل لأنه اتهموا أنه بيقويك ويساعدك تعصي أبوك، حاولت اهدي الدنيا بدل الخلاف ما يكبر بينهم بس عمك أصر ومشي، كل البيت طلع الصوت لكن محدش عرف بالحصل غيري ونظرت عمي عزيز ليا وهو طالع بتدل على أنه متأكد اني هعرفك دا ان مكنش شك إني عندي خبر من أساسه
مسح يعقوب وجهه وهو يتنهد بصوت عالٍ، ومن ثمّ أردف باقتضاب:
كل ما احلها تتقفل من الناحيه التانيه
واستطرد يسأله مستفسرًا:
وايه دخل حسناء بكل ده ؟؟!
رفع شريف حاجبيه قائلاً بسلاسة:
يابني هي مش الأرض دي عليها خلاف بينكم عشان البيت اللي عايز تبنيه وتتجوز فيه، طبعي أول حاجه ابوك يفكر فيها أنك مصمم على البيت بطلب من حسناء أو أبوها
أومأ بتفهم ثم ولج معه إلى الداخل كي يبدل ثيابه ويفكر في تلك الورطة… كان من الأفضل أن يمهد للأمر بدلاً من الصدمة التي وقعت على والده، حتمًا ستكون مواجهة ملتهبة لا يتصور نهايتها،
؛************
ضج صفير سعد في المنزل وهو يدور حول سمر بإعجاب متغزل بها بانبهار بعد أن خرجت من غرفتها :
ايه الشياكة والجمال ده أكيد طالعة لتوأمك
دفعته من أمامها باقتضاب فقال غامزًا:
كل الحلاوة دي للواد خليل
: تعرف تسكت
قالتها بحده ووجه عابس، فنهضت ندى ترتب على كتفها برفق تخفف من توترها وهي تقول مبتسمة :
عروسة زي القمر بلاش تضايقها يا سعد
نظرت سمر إلى فستانها متسائلة بقلق:
شكلي حلو ؟! ولا الفستان مش لايق ؟؟
جاء من خلفها صوت سالم وهو يردد بحنو :
بتحلي اي حاجه تلبسيها يا سمر
ابتسمت بخفة وهي تردف بارتباك:
حاسه إني مش مرتاحه عشان رايحه لوحدي
رد عبده عليها باقتصار:
مها ومرتضى معاكي وكلها ساعة تختاري الدهب
: وأنا بنتي ليه تروح لوحدها ملهاش حد ولا مقطوعة من شجرة
تطلع عبده إليها مغمغم ببرود:
ريحي نفسك مش هتروحي
على الجهة الأخرى صعدت مها جانب مرتضى وهي تهندم حجابها برفق متسائلة بحنق :
أخوك مرتاح في الحيره دي ؟؟
حرك السيارة وهو يرد عليها بلامبالاة:
عادي عايز يوصل بيت عروسته لوحده
واستكمل بمكر :
افردي وشك بس وكله هيتحل
لم تُعقب عليه وظلت تنظر للطريق فسألها بتذكر :
صحيح مكملتيش امبارح ايه اللي حصل مع سعد ؟؟
رفعت كتفيها ببراءة وتمتمت باضطراب:
محصلش أنا قولتلك أصلا عشان متفهمش غلط زي بابا
ضحك مرتضى ورمقها بخبث :
بابا برده اللي فهم غلط ولا بتلحقي نفسك من الغلط
اعتدلت تحدق به وهي تهتف بضيق طفيف:
لا على فكرة أنا حكتلك لاني استغربت بابا اضايق كده ليه مع إن عادي أقلق عليك وسعد فعلاً كان عندنا عشان كده قولتله يشوفك فين إنما مش حوار شك وكلام من ده
حدجها بثبات مغمغم بنبرة جادة، مؤكدًا على كل حرف يخرج من فمه :
ما أنا برده عارف أنك أكبر من كده
تعلم أنه كشف أمرها ويفهم جيدًا شكوكها في اختفائه أمس، فحاولت تغير الحديث بسؤالها الفضولي:
طيب ما تقولي كنت فين مع بابا ؟؟!
: اسأليه وهو يقولك
انكمش بين حاجبيها باستنكار، ثم أخرجت هاتفها تجيب على اتصال عمها لتخبره بأنهم على وشك الوصول ..
عندما رأى مرتضى خليل يقف مقابل منزل عبده قال بتحذير:
بلاش تظهري أنك مش قابلة خليل في عيلتكم
احترامًا إليه لم ترد رغم شعورها بالضيق الشديد من تلك الخطبة، لا تتقبل وجود خليل أبدًا وهي تفهم نواياه.. تشعر بالذنب من مسايرة ابنة عمها وكأنها تلقيها في بؤرة مظلمة وتظلمها بالزواج من شخص بغيض مثله ..
هبطت لداخل منزل عمها تأخذ سمر التي كانت تمشي بخجل وتوتر ملحوظ، لم تقابل خليل مرة اخرى بعد أن جاء يعتذر منها على ما بدر منه ووضح سوء الفهم، حتى أنه اعتذر من محمود في وجود والده ومرتضى لبدء صفحة جديدة.. تقبل عبده الاعتذار بصدر رحب واكملوا اتفاقات الزيجة في وجود المعلم سالم الذي أصر على سماع موافقة سمر بنفسه،
قاد مرتضى السيارة وفي المقعد المجاور جلس خليل، وخلفهما جلست سمر مع مها تتسامران في أشكال الذهب التي تروق للعروس.
؛*************
تسمر محله يقرأ محتوى الورقة بعدم تصديق، أعاد النظر بدقة على كل حرف وهو يحرك رأسه بعدم استيعاب .. برزت عروقه وهو يتنفس بسرعة من أوج غضبه، صك على اسنانه بحده وهو يخرج من غرفتها يصيح باسمها، وجدها تجلس مع والدتها في غرفة المعيشة، قبض على مرفقها يشدها بقوة ورفع الورقة أمام وجهها متسائلاً بشرار يتطاير من أعينه المكسوة بالحمرة :
ايه ده ؟!!
تأوهت هيفاء وهي تنظر للورقة بفزع، لم تقدر على التفوه عندما انهال طلال عليها بالصفعات وهو يهدر بسباب بذيء .. ركضت والدتهما تنتشل هيفاء من بيد يديه وهي تستغيث بسفيان الذي هبط راكضًا على أصواتهم،
: أنت اتجننت ايه الألفاظ اللي بتقولها لأختك دي، بتمد إيدك عليها وأنا عايشه
صاح بصوت جهوري وهو يحاول أن يمسك هيفاء من خلف سيفان :
دا أنا هخليكي تتمني الموت ومتعرفيش طريقه
ظهرت نبرة هيفاء المرتعشة وهي تقول ببكاء:
اسمعني بس وهفهمك أنت فاهم غلط
كثور هائج انقض عليها غير مكترث بوالدته التي اختل توازنها وسقطت بينهم، ركض سيفان يساعد والدتهم على الوقوف وهي تصيح بذعر بأن يبعد طلال عن هيفاء التي تستغيث بصراخ من ضربه المبرح .. عندما فشل سفيان في انتشالها من بين يده دفع طلال بكل قوته للجهة الأخرى، ثم سحب هيفاء خلفه وهو يهدر بغضب:
لو فكرت تمد ايدك عليها محدش هيقفلك غيري يا طلال
زعق طلال متوعد بغل موجه حديثه إلى هيفاء التي تختبئ خلف سفيان تبكي بشهيق:
هقتلك وارميكي للكلاب ومحدش هيرحمك مني
تحاملت والدته على نفسها ووقفت تسأله بذهول:
أنت ايه جرالك ؟؟ مالك ومال أختك ؟!
: الهانم المحترمة بنت الحاج عادل متجوزة عرفي من الكلب اللي اسمه خالد
رفع الورقة في وجههم مستكملًا بتجهم :
لا وشايله العقد بين الكتب ما إحنا مغفلين ونايمين على ودانا
التفت سفيان يرمق هيفاء بعد تصديق، بينما أخذت والدتهم الورقة من طلال تقرأ محتواها وهي توبخه بشدة، لا تستوعب صحة ما تقرأ، لن تخون ابنتها ثقتهم وتضع اسم أبيها أرضًا .. لن تلطخ سمعتهم بالوحل من نشأت في منزل رُسخ على القيم والأخلاق، ظهر صوت هيفاء المحشرج وهي تقول بنحيب :
ماما صدقيني عارفه اني غلطانه بس اسمعيني افهمك، دي ورقة خالد عملها عشان خايف من طلال يرفضه لما يجي يتقدم ولما فهمت أنها غلط قولتله يقطعها والله مفيش حاجه تانيه
ثبتت مكانها وهي تسألها بتوجس:
أنتِ بجد عملتي كده ؟!
وضعت هيفاء يدها تحمي وجهها عندما دار سفيان بجسده معتقده أنه سينثني عليها بالضرب مثل طلال.. لكنه أزاح يدها بهدوء ومسح الدماء إثر جُرح شفتيها من الصفعات القاسية التي تلقتها ثم سألها مستفسرًا:
مفيش حاجه تانيه بينك وبين خالد غير الورقة صح؟!
جن جنون طلال من ثبات سفيان وبرودة أعصابه وهو يسألها بكل بساطة عن شرفهم المهدور .. تفاقم غضبه ووصل إلى ذروته، بانفعال تقدم منها محاولا الإمساك بها وهو يهدر بكلمات وقحة، فوقف سفيان إليه بالمرصاد ودفعه بعنف فاختل توازن الآخر وكاد أن تنزلق قدمه لكنه استند على المقعد .. صاحت والدتهم كي يكفوا عن الشجار وهرولت إلى هيفاء تطلب منها الإجابة على سؤال أخيها، وهي تأمل بأن يخيب ظنها ولم يحدث أي تجاوز بينهما :
مفيش حاجه تانيه صدقوني، هو كان بيجي ساعات يوصلني من السنتر وأوقات كنا بنقعد في كافيه استنى معاد الدرس التاني، الورقة دي عملها عشان طلال ..
قاطعها طلال بامتعاض:
عشان يلوي دراعي ويحطني قدام الأمر الواقع صح
: طيب ما أنت عملت كده واتجوزت سوزي وحطيت بابا قدام الأمر الواقع وكمان عرفنا وهي حامل
تسمر محله يحدجها باقتضاب وقد احتبس عن الكلام، تقارن بينه وبينها وكأنها فعلت مثله لتحصل على مبتغاها .. ولِما يلومها وهو سبقها في نفس الطريق مع فتاة أحبته واقترفت ما فعلته أخته، لكن الأخرى سلمت نفسها لأجل رضاه بينما هيفاء أفاقت باكرًا ..
: ودا مبرر أنك تعملي كده ؟! هو دا اللي اتربيتي عليه ؟؟ إزاي قدرتي تخوني ثقتنا فيكي؟! وايه ضمنك أن خالد نيته أنها حتة ورقة ؟؟ مش يمكن مستني وقت مناسب ويستغلك قبل ما نعرف!!
أسئلة كثيرة هتف بها سفيان وهو يرمقها، ربما لم يندهش مثل طلال ووالدتهم من تصريح هيفاء لتيقنه أنهم سيذوقون من كأس تذوقته سوزان وأهلها قبلهم ..
: طلع أختك فوق يا سفيان، وكلم خالد يجي دلوقتي
نفذ سفيان أمر والدته التي استكملت بتحذير تقصد طلال:
مش عايزه أسمع صوتك ولا تتدخل بيني وبينه
؛؛؛؛؛
مرت ربع ساعة وكأنها سنوات تمر ببطيء مميت، بقدر استطاعتها ترسم تعابير الصمود وبداخلها أوصالها ترتجف برعب .. ولج خالد وبسمته المشرقة تزين وجهه، سيحظى برؤية حبيبته دون عناء، استقبله سفيان باقتضاب وافسح الطريق لوالدته التي وقفت قبالة وهي تنظر إلى طلال بتحذير .. لكن لن يجدي مع ذلك المشتعل بنيران الغضب الجامح أي تحذيرات، فقط يريد أن يشفي غليله برؤية دمائه تسفك عل تخمد ثورانه … انقض عليه يكيل إليه الضربات المتفرقة وهو يسبه بغيظ، لم يهتم بصراخ والدته ولم يقدر سفيان على إبعاده..
استحكم طلال على رقبة خالد بين قبضته يضغط عليها بكل قوته إلى أن رأى سفيان خالد يختنق ويتنفس بصعوبة، يتفهم مشقة وضعهم بسبب تصرف هيفاء لكن لن يُحل بقتل ابن عمهم… لم يشعر طلال بنفسه إلا وهو يطرح أرضًا إثر ركلة عنيفة سددها سفيان لإبعاده عن خالد الذي نهض يسعل ويفرك رقبته بألم :
هتحلها أنت كده لما يموت في إيدك
واسترسل وهو ينظر إلى خالد :
مع أنك تستاهل اكتر من كده يا ابن عمي يالي بتحافظ على بنت عمك اللي كان بيعتبرك ابنه
لم يحتاج الكثير من الذكاء لمعرفة مقصد الحديث، ولن يضيع الفرصة التي قدمت إليه على طبق من فضة ليجتاز طريق طويل.. هرول خالد إلى زوجة عمه التي جلست بتعب وهي تنظر إليهم بحسرة:
مرات عمي أنا بحب هيفاء ولو لفيتي الدنيا دي كلها مش هتلاقي حد يخاف عليها قدي، أنا اللي ألحيت عليها عشان تمضي على الورقة لان طلال مقفل كل الأبواب في وشي
وقولت دا الحل لو رفض
حاول طلال الهجوم عليه لكن سفيان وقف يمنعه :
وأنت فاكر هتلوي دراعي كده وتتجوزها
صاحت والدته تزجره بعنف ومن ثمّ سألت خالد بأهمية:
في حد يعرف بالورقتين دول غيركم ؟
هز رأسه بالنفي فقالت بقوة مزيفة:
يبقا بليل تيجي مع أبوك تطلب أيدها رسمي وتبلغه أنك اتكلمت معايا وأنا وفقت، وبعد ما تخلص الثانوي تتجوزو
ابتسم خالد بسعادة وكاد أن ينطق بفرحة، لكن صوت طلال الشرس وهو يسأل والدته باستنكار كان الأسرع:
ايه الكلام ده يا ماما!! أنتِ بتساعديه ينفذ اللي هو عايزه
: امشي أنت يا خالد وعلى معادنا بليل
تابع خطواته إلى الخارج بغيظ، كما لو أنه لم يفعل شئ يغادر دون أن يحاسب… انتبه على سفيان وهو يقول بتفكير :
مش المفروض كنا كلمنا عمي يجي وهو أنا أحسن
ضحك طلال بسخرية مردد بسأم :
وده اللي قدرت عليه، دا كتر خيرك أننا سمعنا صوتك
تغاضت عن سخرية طلال وقالت بحزن عميق :
لو مجاش بليل هنكلم عمك وهو هيتصرف
نهضت تصعد للأعلى متجاهلة صراخ طلال واعتراض على تصرفها .. فتحت غرفة هيفاء فوجدتها تجلس تبكي بجانب الباب، نظرت إليها بخزي وقالت بصوت مرتفع وصل إلى إخوتها:
يا خسارة تربية عادل فيكي، كويس أنه مات قبل ما يشوف اللي عملتيه، مفيش خروج من البيت ولا مدرسة ولا سنتر، التليفون والكمبيوتر هخدهم ومن هنا لحد السنه دي ما تعدي متطلعيش من اوضتك
شهقت هيفاء وهي تمتم ببكاء:
مش ده اللي عملتيه مع طلال لما عرفتي أنه متجوز ومراته حامل
ردت عليها بخذلان قبل أن تغلق الباب بالمفتاح مجددًا:
كفايا موت ابوكي بحسرته من اللي عمله
نظر سفيان إلى طلال بحده وغادر من أمامه بانزعاج .. تعمد تركه يفكر في الثمن الذي سيجبرون على دفعه وهو وحده المسؤول عنه، على عكس الآخر الذي جلس ينتظر مجيء خالد وعمه على أحر من الجمر فلن يرتضي بالأمر الواقع مهما كلفه الأمر، وإن كان روحه مقابل رد اعتبارهم.
؛**********
مضغ الطعام بتمهل وهو يحدجها بتفحص مستنكر حركتها العشوائية وهي تلتفت يمينًا ويسارًا بعدم ارتياح بادٍ على ملامحها :
أنتِ قاعدة مش على بعضك ليه؟؟!
سألها بجمود بعد نفاذ صبره، منذ أن خرج من عرفته وانضم إليهم وهو يتجاهل عن تصرفاتها التي عجز عن فهمها .. ردت نيره عليه بنبرة غير مهتمة:
ما أنا قاعدة أهو، أنت اللي مركز معايا بزيادة
وضعت خلود يدها على رأسها بملل فقد بدأوا الجدال باكرًا اليوم.. بينما نظرت زينب إلى جابر كي ينقذ ما يمكن إنقاذه فقال بضيق طفيف:
ولا كأننا قاعدين وسط عيال صغيره، صعبان عليكم نفطر زي الناس ما انتوا طول النهار ناقر ونقير
نظرت نيره إليه وقالت بتبرم :
مش شايف يا عمي بيبصلي ازاي
ضحك سالم بسخرية بالغة وعلق بتهكم:
هكلك وأنا مش واخد بالي
استمعوا إلى صوت هند تستأذن بالدخول فنهض جابر يرحب بها، وكذلك زينب التي أصرت أن تنضم إلى المائدة:
ما شاء الله بقينا أحسن من الأسبوع الفات أهو
ابتسم سالم مردد بامتنان :
الحمدلله، تسلمي يا هند على سؤالك
انكمش بين حاجبيها باستنكار وأردفت بمزاح :
هو إحنا عندنا كام سالم مطلع عنينا يعني
واسترسلت وهي تنظر إلى نيره:
عامله ايه يا نيره؟ وأخبار النونو ايه
وضعت يدها على بطنها وهتفت باقتصار:
كويسه
ضحكت خلود وصاحت بضجر :
لسا حالا كانت هي وسالم هيمسكوا في خناق بعض
تطلعت هند لابن عمها مردفه بعتاب :
على فكره الفترة دي بتكون تعب وزهق على الست فبلاش تعند وتنشف دماغك
واستكملت نصائحها العفوية إلى نيره :
وبرده يا نيره بلاش نطلع هرمونات الحمل عليه وهو لسا تعبان أنا حاسه بيكي..
قاطعتها بحده دون أن تفكر في ردها الفظ :
وأنتِ تعرفي منين اللي أنا فيه وعمرك ما جربتيه
لم يظهر اي تعابير على وجه هند وهي تهتف بهدوء:
أكيد التجربة غير الكلام بس على الأقل الإحساس وصلني
استوعبت نيره ما قالته عندما رأت النظرات المعلقة عليها، وخاصة ذلك الذي يرمقها بغضب كاد أن ينفجر من مقلتيه .. وضع جابر كوب الشاي من يده وهو يرمق نيره بلوم فقالت بتلجلج :
لا مقصدش يا هند ما أنتِ عارفه مش بفكر في كلامي، متزعليش مني أنتِ أختي وبتعامل معاكي بطبيعتي
ابتسمت هند بخفة ورددت بلطف :
أزعل ليه ما أنتِ فعلاً قولتي الحقيقة، ربنا يقومك بالسلامة والنونو يجي ينور حياتكم
عندما رآها سالم تقف سألها مستفسرًا:
رايحه فين ؟؟ أنتِ لسا وصله
: اصلا رايحه المصنع وقولت اعدي اطمن عليك
استقام جابر يوصلها مغمغم بحنو :
فيكي الخير يا بنتي
انتظرت زينب أن يبتعدا وهدرت بجمود:
وده كلام تقوليه والست بتنصحك لا ملكيش حق يا نيره
وضح الندم في نبرتها وهي تتمتم بتلعثم :
مكنتش أقصد هو الكلام طلع مني كده
فزعت من جلستها عندما ضرب سالم بيده على الطاولة وصاح بغضب:
أنتِ اتهبلتي وحتة العيل الجاي ده لحس مخك
: بقولك مش قصدي ازعلها، أنا بعز هند زي أختي بس أنت اللي كنت مضايقني
أمسكها من معصمها مردفًا بصرامة:
قومي روحي عند أهلك بدل ما ابعتك على نقاله
أسرعت زينب تفصل بينهما قائلة بحنق :
خلاص يابني متزودش الطين بلة
: شوفي يا ماما زينب عايز يضربني قدامك أهو وبيطردني ولا همه بيته ولا ابنه
رمقتها زينب بطرف عينها وهي تهمس من بين أسنانها:
اسكتي دلوقتي
أومأ سالم رأسه بريبه وهو يغمغم بوعيد ماكر :
ماشي يا نيره يا أنا يا أنتِ في البيت ده
استطرد وهو يعود لغرفته :
شهرين ومبقاش سالم جابر لو ما جتلك ضره وعاشت في شقتك
جحظت أعين نيره بصدمه بينما قالت خلود بكدر :
ارتحتي كده
؛؛؛؛
على صعيد آخر وصلت إلى المصنع في وقت قصير لم تشعر به.. ولجت للغرفة الخاصة بهم، وأغلقت الباب بحرص ثم اتجهت تجلس على المقعد بوهن، وكأنها سارت لمسافات طويلة كلفتها عناء سنين.. ترقرقت العبرات في عينيها وجرح قديم لم يشفى بدأ ينزف من جديد … غصة استحوذت عليها حينما استمعت إلى حديث ذكرها بماضي تجاهد نفسها لنسيانه، وكأنها منبوذة من الجميع، تحمل نتيجة شخص أناني قرر حرمانها من أبسط حقوقها لأجل نفسه .. زعزع ثقتها في نفسها، وتعمد غرس أنها أقل من أن تستحق رجل مثله!!
في وسط أفكارها الموجعة رأت يد تسحبها من دوامات الماضي إلى شاطئ النور، كمن جاء يزيل أثر حريق اندلع لأعوام واصلحه بحقل زهور … رأت عينيه النابعة بمشاعر جياشة عندما ظن أنها أصبحت لغيره، محاولاته المستمرة وعدم يأسه في إثبات حبه المتيم بها.. وقفت تأخذ نفس عميق واخرجته بهدوء، ثم أخذت هاتفها تتصل بكوثر، جاء ردها بالسؤال هن الأحوال فأجابت هند باقتصار وقالت بتوتر :
لو سمحتي يا طنط الكلام اللي هقوله لحضرتك يكون بينا
؛**************
تأكد من صحة حديث زوجته عندما وجدها استقبلت الأمر بهدوء، لم تدافع عن نفسها أو توضح سبب ذهابها إلى تلك السيدة :
عايز ايه يا عبدالخالق ؟؟
عقد بين حاجبيه بذهول من شؤالها وقال باستغراب:
عايز ايه!! ده ردك على كلامي ؟!!
هتفت بلامبالاة وهي ترمق بخبث :
مش مراتك حكتلك ام شوقي دي مين
: عادي كده تروحي لدجالة ؟؟ طيب ليه ؟! وعشان مين ؟مش خايفه من ربنا وأنتِ عندك خمس رجالة ؟؟
قطبت جبينها باستنكار وقالت بتبرم :
ما تقول إن مراتك خايفه على نفسها وعيالها مني
هز رأسه بتأكيد متمتم بجمود :
حقها وحقي نخاف من واحده ليها في أذية الناس
واستكمل يسألها مستفسرًا:
كنت بتعملي ايه هناك ؟؟
: كنت بطمن على عيالي وأن محدش عاملهم حاجه
نظر إليها بشك ومن ثمّ ردد باقتضاب:
لو عرفت انك روحتي هناك تاني ولا أنتِ أختك ولا أعرفك وانسي إن ليكي أخ، إحنا ناس بنخاف ربنا وملناش في السكك دي
انتفضت من الأريكة وهي تغمغم بحنق:
وعلى ايه يا خويا هدخل احضر شنطي وانقل في بيتي اكرملي بدل ما تطردني كمان ساعة
خرجت من الغرفة وجدت زوجة عبدالخالق وبناتها رمقتهم بغيظ واتجهت لغرفتها تجهز أغراضها كي تنفذ قرارها.. توقفت في الطرقة تستمع إلى حديث زوجة أخيها ببسمة ماكرة وكأنها وصلت إلى مبتغاها بجعلهم يهابون وجودها:
قومي يا أسماء شغلي سورة البقرة وامسحي البيت بمايه وملح وأنتِ يا نورا ولعي بخور وهاتيه
بعد نصف ساعة كانت تضع حقائبها أمام المنزل، أخبرت محمد بأن يذهب بهم إلى منزلهم الجديد وينتظرها هناك لحين مجيئها… ستحصل على ما تريد بكل الطرق، لن تترك سعادتهم تدوم وهي وحيدة بينهم ويكفي تمسك من أنجب سبع فتيات بزوجاته وهي من تنجب الصبية يتجاهلها ..
؛************
مر الوقت في حديث مختلف عن أمور القرية، وقبل أن يرحل سأل بجمود بعد أن أصبح على انفراد معه :
أنت تعرف أن يعقوب مبعش الأرض لعمه
تغاضى المعلم سالم عن لهجته وقال بهدوء:
وأنا أعرف منين وايه يخصني
رمقه عزيز بشك مردد باستهجان :
خطيب بنتك ويمكن يكون الكلام على هواك مثلاً
ابتسم المعلم سالم قائلاً بدهاء :
اللي على هوايا بعمله في النور يا عزيز
هز عزيز رأسه بتفهم وأردف متسائلاً باقتضاب :
وعشان نكون على نور عايز أعرف لو أنت متفق معاه على بيت لبنتك لوحدها ؟؟
قاطعهم دخوله ملقي التحية، بعد أن بدل ثيابه إلى جلبابه المريح خرج يبحث عن والده كي يفهم ما يدور في رأسه.. لكنه علم من أخيه أنه لازال مع المعلم سالم في مجلس منزله منذ عودتهما من رؤية أرض تبعد عن القرية مسافة قصيرة .. تطلع عزيز إليه بكدر وتمتم بحنق :
أهو جه على السيرة
جال يعقوب بنظره بينهما بريبة متسائلاً بعدم فهم:
هي القاعدة كانت عليا من الاول ولا إيه ؟؟
رد عليه المعلم سالم وهو يحدج عزيز بمكر :
أبوك بيوصيني عليك وخايف لاخدك منه
ضحك عزيز بسخرية بالغة :
ما هو لقيت نفسي زي قلتي في حياة عيالي
فرك يعقوب ذقنه قائلاً بحنكة:
عيالك ميسوش من غيرك ياحاج، ومش أراضي الدنيا اللي تعرفك غلاوتك في حياتنا
: وأنا مش عيل عشان تضحك عليا بكلمتين من بتوعك، شغل دماغك على حد غيري
رفع حاجبيه بدهشة وتسأل بحيره :
يابا هو ايه العيب إن يكون ليا بيت؟؟!
صاح عزيز بانفعال وهو يشيح بيده :
وأنا مقعدك في الشارع ولا مبقاش يليق بيك وبحياتك الجديدة

أنهى جملته وهو يحدق بالمعلم سالم الذي ضحك مردفًا باستغراب:
مشكلة بينك وبين ابنك مدخلني فيها ليه!!
ردد بحده غير مكترث لشيء سوى إثبات أنه يملك سلطة التحكم في حياة أولاده:
لأن بنتك جزء من المشكلة ولازم تفهم اللي بيجرى
واستطرد وهو ينظر إلى يعقوب :
ولو عشان تتجوز تطلع عن طوعي يبقا بلاها جواز خالص
هنا تحدث المعلم سالم بصرامة عندما أصبح الحديث يخص ابنته:
لا استنى هنا، اللي بينك وبين ابنك شيء وأنك تلعب ببنتي وسطكم دا شيء تاني
قبل أن يتفوه يعقوب أشار إليه بجمود مسترسل بوجوم:
فهم أبوك يا يعقوب إني قابل طريقته عشانك وأمر البيت ده تحلوا بدل ما افضها واريحك خالص على رأيه
كانت تختلس السمع خلف باب المجلس بهدوء كي لا تصدر أي ضوضاء، لا تفهم لِما يصر على منزل خاص به ووالده معترض!! ضغطت على العلبة القطيفة بقوة تستمد قواها، ثم طرقت الباب ودخلت قبل أن يأذن والدها.. ألقت التحية وهي تبتعد بنظرها عن يعقوب الذي حدق العلبة التي تحملها بيدها بصدمة، تمنى لو يخطئ في تخمينه تلك المرة ونظر إليها برجاء كي لا تقطع آخر حلقة وصل بينهما .. شعرت حينها أنها ستتراجع عن قرار دامت تفكر فيه منذ يومين، لكنها تذكرت تقليله من مشاعرها وعدم احترامه لقلقها ليلة أمس عندما علمت باختفائه من أخته، لم يكلف نفسه ويرد على اتصالاتها أو حتى يرسل إليها يطمئنها كما أخبرتها سميه بتواصله مع عائلته مساءً .. وقد اكتفت من شاجرهم الدائم واستخفافه بوجودها في حياته، كان ارتباطهم خطأ منذ البداية وعليها إصلاحه، لكنها لم تنتبه أنها أخذت القرار في وقت ليس لصالحها ليفتح عليها أبواب لن تقدر على الصمود حيالها …
وضعت علبة الذهب على الطاولة بين عزيز ووالدها وهي تقول بارتباك :
كده هيكون أفضل لينا
تطلع عزيز إلى المعلم سالم بذهول ثم نقل نظره إلى ابنه بعدم فهم .. لم ينطق يعقوب بكلمة وظل يحدجها بثبات جعلها توتر أكثر، بينما احتدت تعابير وجه المعلم سالم الذي سألها باستهجان :
وده قررتيه من نفسك
رجفة سرت في أوصالها وهي ترى نظراته الغاضبة ترمقها بقتامة .. شهقت بخضة عندما دوِّى صوته المرتفع يأمرها بأن تغادر المجلس على الفور، فوقف يعقوب ورحل هو الآخر متجاهل نداء والده، لن يتحمل سماع كلمة تخصها بعد الآن، جعلته أضحوكة أمام نفسه وهو يحارب مع الجميع لأجلها .. غبي ومغفل تهور وراء مشاعره دون تفكير ، تمرد على حزنه الذي انتاب قلبه بخنجر الأنين، وتحرك إلى منفذه يخرج كل طاقته في المحاجر كي لا ينفجر غيظاً …
؛*********

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!