روايات

رواية غوثهم الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الخامس والخمسون

رواية غوثهم البارت الخامس والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الخامسة والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________
هزني الليل لهفة واشتياقا ..
آن مسرى النهى فهات البراقا
خل روحي ترف من جذل اللقيا ..
وجسمي يذوق منها ذواقا
خل قلبي يذوب في غسق الليل ..
من الذكر والدعاء احتراقا
خل دمعي يسح من خشية الله ..
فدعه لقصده منساقا
_”عبدالكريم مهيوب”.
__________________________________
في باديء الأمر:
_دعيني أعتذر لكِ ولقلبي من قَبلكِ،
أعتذر لكما عن عدم تصديقكما، لكن دعيني أُبدي عُذري وأخبرك أنني كنتُ غريبًا، والغُربة لمثلي كانت قاتلة،
لكن بعد الإلتقاء بِكِ وجدتُ الأنس..
وما يتوجب على المرء أن يسكنه،
وكأنني وجدتُ الحياة من بعد موتي، فأنا معكِ على خِلاف ما يجب أن أكون، أنتِ وحدكِ من تُحددين من أكون،
أنا هُنا لكِ أتيت،
ولِسُبلُكِ من بين الدروب استهديت،
وقد أعلنها قلبي وصرح بها أنه سَكنَ هُنا لأجلها…
لأجل الحياة التي لم تكن حياة بدونها،
لأجل عينٍ لم يحيا المرء كريمًا من غيرها،
لأجل من تصالحت مع قلبي بسببها، وُجِدنا أنا وقلبي هُنا،
وُجِدنا لأجل إمرأةٍ رأينا الدنيا فيها ولا دُنيا لنا إلا بِها.
<“الجَرح ينزف والأيدي مبتورة”>
وقف بشموخه يرى أشباهه الذي تربى وسطهم وورث الحياة معهم من أبيه رحمه الله، نفس العِزة والشموخ والمعاندة مع الحياة، الصبر في الابتلاء والعزم عند السير والقوة عند الفعل والحكمة عند رد الفعل، “نَـعيم الحُصري” الذي تربى هنا وترعرع وسط الخيول يقف أمام الإسطبل الخاص بهِ ينتظر قدوم ضيفه الغير مرحب به لكنه مجبورٌ على استقباله في أرضٍ تحمل أشباهه.
وصل “ماكسيم” لعنده ببروده المعتاد وهو يقول بمعاندةٍ وكأنه يعلن تبجحه وسط الوادي أمام أهله:
_خير يا حج ؟؟؟.
ابتسم “نَـعيم” بسخريةٍ والتفت له يقول بتهكمٍ:
_هو فيه خير ييجي على يدك؟ أنا جيبتك هنا تاخد اللي ليك علشان بصراحة أنتَ أقل من إنك ابعتلك حاجة، هتقولي إيه حاجتك دي هقولك ****** اللي بعتهم يخطفوا “أيـوب” وبحذرك يا جدع أنتَ، أقسم بالله لو فكرت تقرب من عيل من عيالي أنا هاكل رقبتك بأيدي.
حرك “ماكسيم” رأسه موافقًا بنفس البرود وهتف مؤكدًا حديثه:
_صح أنتَ صح، بس الأولى إنك تاكل رقبة اللي خطف ابنك وسلط أخوك يعمل اللي عمله فيه وعايش براحته، زي ما بتقولوا كدا عندكم هنا بيعمل اللي على كيفه صح !!، مش تيجي تاكل رقبتي أنا ؟؟ على الأقل أنا مخطفتش طفل رضيع من حضن أهله ودبحته في مقبرة علشان تخرجلي آثار، مش أخلاقي دي.
توسعت عينا “نَـعيم” وكأن السوط نزل على جلد ظهره في ليالي السقيع بدون سابق إنذارٍ ليلجمه محله، اليوم يتلقى صدمة جديدة بشأن فقيده الأول الذي لازال جرحه غائرًا بداخل القلب وكأن القلب أدمى لأجلهِ من جديد، وعلى الفور تلاشى ثباته وحل محله الوجوم الظاهري من خلال تعابيره التي تبدلت كُليًا، فيما ابتسم “ماكسيم” حينما رأى تأثير حديثه وهتف بنبرةٍ درامية تمثيلية بوضوحٍ:
_أنا آسف يا حج، شكلك ماكنتش تعرف خالص إن أخوك لما خطف منك ابنك كان غرضه يفتح بيه مقبرة، الرصد اللي كان عليها شرطه إن دم طفل صغير يلمس المكان، وللأسف مكانش فيه غيره حبيب عمه، علشان من العصب.
أقترب “نَـعيم” منه يخطفه من تلابيبه وهتف بنبرةٍ هادرة أعربت عن غضبهِ وانفعاله وسخطه:
_قسمًا بربي لأدفنك مكانك وما هيهمني حد، أنتَ بتقول إيه ؟؟ ومين دا اللي سلط “شوقي” يعمل كدا ؟؟ أنطق !! حد أعرفه ؟؟ وابني حصله إيه ؟.
كاد أن يخبره بكل شيءٍ لكنه تذكر أنه بمثابة الحجر الذي يقف في منتصف الطريق يُعرقل سيره لذا تراجع مُدركًا عاقبة ما كان سيتفوه به وهتف بنبرةٍ ثابتة بعدما تصنع ما يجب عليه فعله:
_أنا اللي اعرفه أنه واحد من اللي كانوا شغالين مع “أشرف الموجي” لو عاوز تعرفه سيبني أجيبهولك هنا وأديني فرصتي، كدا كدا هو هييجي هنا قريب، بس أنتَ متعرفهوش، حط إيدك في أيدي وهات حق ابنك.
بَهُتَتْ ملامح “نَـعيم” وذُهِلَ مما قيل له وكأنه يتلقى صفعة على صفحة وجهه وهو يسأل باستنكارٍ لازالت ترافقه الدهشة:
_أنتَ عاوزني أنا أحط أيدي في إيدك أنتَ علشان أجيب حق أبني ؟؟ دا لو على رقبتي مش هعمل كدا وحق ابني هجيبه بطريقتي من حَباب عين اللي عمل كدا، وعندي أموت أهون من إني أساعد حرامي زيك.
أجاد صُنع ثباته من جديد إبان تَحدُثه لكي يعلن عن عِزتهِ وعدم قدرة الأخر في إخضاعهِ، ظهرت صفاته الحقيقية مما جعل “ماكسيم” يبتسم ساخرًا حينما أدرك أنه كان مُحقًا في تفكيره بهذا الشأن، مثل هذا الرجل لن يعلن إذعانه بهذه السهولة، لكن في الحقيقة كان “نَـعيم” النيران تتأجج بداخلهِ بعد استماعه لهذه الكلمات، حَيت الذِكرى بداخلهِ من جديد تُذكره بوجعهِ لكنه لم يخضع بهذه السهولة لذا قال من جديد مُضيفًا إلى سابق حديثه:
_اتفضل برة ومتنساش تاخد رجالتك في إيدك، ولا دول لامؤاخذة في الكلمة يعني، وإذا كان على حقي هجيبه هجيبه.
ابتسم “ماكسيم” له وأومأ موافقًا وهو يُضيف بنفس البرود الذي تتسم به صفاته:
_بس متنكرش أني فاجئتك بعملة أخوك، صدقني كان لازم تصدق إن أخوك اللي من لحمك ودمك عملها وحرمك من ابنك الكبير، وبرضه كان سبب إنك كنت هتضيع ابنك الصغير كمان، شقي أوي زي عمه، جينات برضه، علم الوراثة مسابش حاجة غير لما وضحها، خلي بالك منه بقى.
تحرك “ماكسيم” للخلف بظهره وهو يبتسم ببرودٍ جعل “نَـعيم” يوقفه بقولهِ الذي خرج قويًا لم ينهزم برغم ألمه:
_هو اللي عمل كدا أنا أعرفه؟ ولا أخويا اللي يعرفه؟.
قلب الأخر عينيه مُفكرًا في جواب السؤال ثم هتف بنبرةٍ خبيثة أعربت عن تواجدها ملامحه ونطقتها عيناه حين هتف:
_معرفتك بيه كانت سطحية، وأخوك كانت قوية والعكس بينكم صحيح.
رمى حديثه الغامض الذي يُشبه اللُغز فيما وقف “نَـعيم” يُقلب الحديث في ذِهنهِ يحاول التوصل لمن رافق أخيه حينذاك؟ من كان خليله في هذه الليالي، من يملك الجحود الذي يوصله لقتل نفسٍ صغيرة بغير حقٍ؟ من صاحب القلب المُتحجر الذي يفعلها دون أن يرأف بالصغير الذي لتوهِ فتح عينيه على دنياهِ؟ لوهلةٍ شعر بخطف قلبه منه وتذكر أمر صغيره “مُـحي”، لذا ترك مكانه وخرج من الإسطبل لكي يتجه إليهِ ويطمئن قلبه برؤيته، وحينها وجده يجلس بمفرده يمسك هاتفه يبدو أنه يتصفحه، لذا اقترب يجلس بجوارهِ بصمتٍ جعل الأخر ينتبه له وأغلق هاتفه فورًا.
ابتسم له “نَـعيم” وسأله بثباتٍ يواري خلفه خوفه:
_جيت أقعد معاك شوية، واتطمن أخبار حريم السلطان بتوعك إيـه؟؟.
ضحك له “مُـحي” وقال بسخريةٍ:
_هو أنا لاحق ؟؟ بروح الجامعة الصبح وأجي “إيـهاب” يرميني في الشغل وعاملي كمين في كل حتة، بصراحة ناوي أفوقلهم بعد الجامعة خليني أتخرج وأخلص بقى، هما مش هيطيروا يعني، موجودين.
فرح “نَـعيم” بحديثهِ كثيرًا وأراد أن يحتضنه لذا أقترب منه أكثر وقال بنبرةٍ هادئة رخيمة:
_عاوزك تتخرج وتاخد الشهادة وتبقى الدكتور “مُـحي” وهفتحلك الصيدلية اللي عاوزها كمان في المكان اللي تشاور عليه، ومش بس كدا بعد التخرج أنا ممكن أخطبلك واحدة بس بنت حلال، بلاش الأشكال اللي بتعرفهم دول.
تنهد “مُـحي” مُطولًا وقال بحزنٍ أتضح في نبرته:
_أهي الأشكال دي هي اللي بتحبني وبتجري ورايا مش أنا، مفيش واحدة فيهم بتحبني، فيهم اللي بتحب شكلي واللي بتحب فلوسي واللي بتحب خفة دمي، واللي بتحب تُقلي قدام الناس، واللي بتحب عربيتي، أنا مش بحبهم، أنا بس فرحان بلمتهم حواليا، واتأكدت إني مش هلاقي واحدة فيهم تحبني، دا أمي نفسها مشيت بعدما ولدتني، فيه واحدة هتحبني أنا !!.
رفعَ “نَـعيم” ذراعه يضمه إليه وهتف بنبرةٍ هادئة وكأنه يتحدث مع رفيقه بقولهِ:
_ما هما حرام، علاقتك بيهم حرام وعلشان كدا مش هتقدر توصل للحلال معاهم، مفيش راجل حكيم تبقى نقطة ضعفه ست، ولا الستات عمومًا، بس فيه راجل عاقل بيحط قوته في ست، هتقولي مين، هقولك أنا، أنا لما نقطة قوتي كانت أمك، ست واحدة بكل الستات ومن بعدها مفيش واحدة ملت عيني، حتى لما جيت اتجوز علشانك مقدرتش، حسيت إني مقدرتش أخون عشرتي معاها، ربنا يوعدك ببنت الحلال اللي تهديك، زي ما جت “سـمارة” بدلت حال “إيـهاب” و ظهرت “عـهد” تداوي جروح “يوسف” وبكرة تيجي اللي تفرح “إسـماعيل”، صح ولا إيـه.
حرك “مُـحي” رأسه موافقًا وهو يبادل طيبة والده ببسمةٍ هادئة وقد صدح صوت هاتفه في نفس اللحظة برقم فتاةٍ من إحدى الفتيات التي يعرفهن مما جعله يخطف الهاتف سريعًا وقد سأله والده بسخريةٍ:
_مش قولت برضه إنك مركز في حياتك وهما مش هيطيروا ؟؟ إيه يا عم دا الجملة لسه مخلصتش حتى.
تحرك “مُـحي” من جوارهِ وهو يجاوبه بمزاحٍ:
_ماهي دي بالذات قفصها مفتوح علطول يعني لو مخليتش بالي هتطير بجد.
ترك والده وفتح الهاتف فيما نظر الأخر في أثرهِ بتيهٍ وقد شرد من جديد في حديث صاحب الجنسية الإنجليزية وهو يحاول التوصل لرفقاء أخيه وقتذاك وحتمًا سيصل لمراده، طرف الخيط أمسكه هو وسيقوم بِسحب العبوة بأكملها لصالحه كما يتوجب عليه أن يحرص على “مُـحي” الذي يُعد نقطة ضعفه الآن.
__________________________________
<“خير البر عاجله، لكن لا تنسى أن العُجالة ندامة”>
حديث “عبدالقادر” كان مثل الصدمة التي وقعت عليهم وخاصةً “نِـهال” التي اتسعت عيناها بدهشةٍ وهي توزع النظرات لمن حولها وخصوصًا والدها الذي ابتسم بهدوءٍ وكأنه يُدلي بموافقته حين أضاف بنبرةٍ هادئة:
_موافق يا حج بس الأول ناخد رأيها هي، اسمحولي بس أتكلم مع “نِـهال” الأول بعدها نقولكم الرأي الأخير، عن إذنكم.
فهمت ابنته أنه يريد التحدث معها لذلك تركت موضعها وتحركت تسبقه لداخل غرفتها فوجدت والدها يتبعها نحو الداخل ثم هتف بنبرةٍ هادئة يحاول إرسال الهدوء لها قبل أن تتوتر:
_بصي قبل ما ترفضي اسمعي كلامي، أنا خلاص مفيش فيا نفس، يوم واقف صالب طولي وعشرة نايم مش قادر أتحرك، وأنتِ كتير عليكِ شغل الرخام والمحل مع شغلك، لازم حد يقف معاكِ، حد يكون في ضهرك، عمامك لو غفلت حبة هيعضوكم، كلامهم بين نيتهم، على الأقل لو جرالي حاجة أبقى عارف إنك مش لوحدك، الراجل محترم وطالما دخل البيت وقصد الخير أنا مش هرفضه، أنا كل خوفي أنه بيلعب ويتسلى، الإنسان مننا سُمعة برضه، وهو لما فهم جه البيت، ها !! قولتي إيه ؟ موافقة؟.
أراد أن يخبرها بما فكر فيه وبما استشفه مؤخرًا من خصالٍ سيئة في قلوب أخوته مما جعلها تفكر لوهلةٍ فيما حدث، أرادت أن تنسى ماضيها وتبدأ من جديد، تبدأ في حياةٍ تفتقدها، تفتقد لبيتٍ تكون هي المسئولة عن أهله ورعاية طفلٍ صغيرٍ يراها لقلبه فرحًا وهي تعتبره دواءًا لدائها، حياة ارادتها هي وأملت في الحصول عليها لذا دون أن تعي لنفسها ابتسمت حينما رأت صورة أسرة مُكتملة الأركانِ، زوج متفهم مثل “أيـهم” تستطع أن تخبره بكل مخاوفها، وطفلٌ مثل “إياد” تحتاجه أكثر من احتياجه لها، وبيت مثل المأوى يسكنه “عبدالقادر” الحكيم وملاكه التي تُدعىٰ “آيـات”.
لاحظ والدها البسمة التي رُسِمَت فوق ثُغرها حينما شردت في مستقبلها ولم يأخذ الكثر من الوقت لكي يفهم حالتها ويصله الجواب، لذا تحرك يحتضن صفحة وجهها بكفه وهتف بنبرةٍ هادئة أعربت عن فرحته بها:
_ألف مبروك يا حبيبة أبوكِ، الجواب وصلني.
زاغ بصرها من الخجل وأخفضت عينيها أرضًا بينما هو لثم جبينها باعتذارٍ توارى خلف قبلته هذه وكأنه يعتذر عن اخجاله لها وتخاذله في حقها سابقًا لكن هذه المرة رأى بعينيه حقد أخوته الصريح وتأكد أن بناته بدون من يحميهم ويقف لهم ستنقلب حياتهم لمآساةٍ خاصةً في عدم وجود أخٍ لهن وكأنها أصبحت من ضمن التقاليد السائدة في المجتمع، أن من لم يُنجب ذكرًا يتكالب على بناتهِ كل رجلٍ تخلت منه صفات الذكور.
خرج “شـلبي” يهتف بوجهٍ مبتسمٍ يُزيل به الترقب الذي يخالطه القلق وخاصةً من “أيـهم” الذي بدا القلق جليًا على ملامحهِ خوفًا من رفضها لكن حديث الأخر نحى كل ذلك حين هتف:
_العروسة موافقة، نتفق بقى؟؟.
قامت “نَـوال” شقيقة “نِـهال” برفع صوتها تعبر عن فرحتها بزغرودةٍ تشق بها الصمت الذي كان يسكنه التوتر وكذلك بدأت ترتفع الهمهمات المباركة لعائلة “العطار” بقدوم ابنة جديدة إليها، فيما ابتسم “أيـهم” وانتظر خروجها حتى عادت هي لسيرة جلوسها القديمة بجوار “إيـاد” وقد حصلت على المُباركات من العائلة ونسائها وكأنها تختبر هذه الفرحة للمرةِ الأولىٰ بالرغم من سابق تجربتها، بينما “أيـهم” ما إن تواصلت نظراته بنظراتها ابتسم لها يشكرها على الموافقة !! هي رأت هذا في نظراته وهو قصد ذلك حقًا، وأراد أن يمتن لها لدخولها في حياتهِ، يبدو وكأن قلبه أخبره بحديثٍ لم يفهمه لكنه شعر به حين قال:
_”البيت الأول لم يكن سكنًا بل كانت محطة عابرة
فمرحبًا بِكَ في محطة الوصول”.
تلاقت النظرات ونطقت بكل الكلام،
كلامٌ أشبه حالة الانتصار من الحروب أو حالة السلام، سلام أتى من السَكينة، سلامٌ أغدق القلوب التائهة في هذه المدينة، تلاقت أيضًا نظرات “قـمر” بـ “أيـوب” الذي برغم فرحته بأخيه رأت في عينيه خوفًا !! يبدو وكأنه يطالعها ليتأكد أنها هُنا، وقد ابتسمت له وأومأت بجفونها لتخبره أنها فهمت ما يُفكر به وكأن قلبه أخبر قلبها !!.
__________________________________
<“لم تكن يومًا صاحب مكانة، لازِلت عابرًا فقط”>
الصُدف حين تجتمع في بعض الأحيانِ تصنع لكَ دينًا يتوجب عليك أن تُسدده، وبصفتكَ المرء الحُر لن تتحمل أن تبقى مديونًا لأحدهم، لكن تُرى ما الحل إن كنت مديونًا بروحك لمن يُريد رَوحكَ ؟ جلس “عـادل” في حديقة منزله لكي يخرج من كآبة غرفته وجلوسه بمفردهِ في هذه الحالة المرضية وهو يفكر في “سـراج” الذي بين ليلةٍ وضحاها حمله دينًا بحياتهِ وهو حتى عَجز عن ردهِ، ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل ظهرت ابنته لتُزيد من سوء الأمور.
في الخارج كانت “جـودي” مع “نـور” بداخل المطبخ تستعيد كلتاهما الذكريات السابقة التي تركها لهما الزمن، كانت “جـودي” تعاونها في صنع العصير حتى صدح صوت جرس الباب فشهقت “جـودي” تلقائيًا بحماسٍ:
_دا “سـراج” أنا قولتله هاكل معاه.
ركضت بعد جملتها فيما وقفت “نـور” تحاول التحكم في ضربات قلبها الخائن الذي لازال ينبض لأجله ومن فقط مجرد ذِكر اسمه، وقد تركت ما تفعله وخرجت من مطبخها لتتجه إليه وقد وجدت “جـودي” عاجزة عن فتح الباب ومدبرة البيت تقوم بتنظيف الغرف بالأعلىٰ، حينها فتحت هي الباب لكنها تفاجئت بـ “شـهد” أمامها ومعها “نـادر” أيضًا ؟؟.
اتسعت عيناها بدهشةٍ وفرغ فاهها فاحتضنتها “شـهد” وهي تقول بحماسٍ وحبٍ لأجل ظهور رفيقتها:
_أنا مصدقتش لما عرفت إنك جيتي مصر تاني، وحشتيني أوي يا “نـور”.
خرجت الثانية من شرودها وصدمتها وطوقتها بكلا ذراعيها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول جعل صوتها طبيعيًا:
_أنتِ كمان وحشتيني أوي طمنيني عليكِ، كويسة؟.
حركت رأسها موافقةً فيما انتبهت هي لـ “نـادر” وسألته بنبرةٍ هادئة بعدما رسمت البسمة على شفتيها ترحب بضيفها:
_ازيك يا “نـادر” ؟؟ نورت.
جاوبها بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم هو الآخر:
_دا نورك يا “نـور” مصر نورت بيكُ، آسفين جينا فجأة كدا بس عرفنا اللي حصل لوالدك و “شـهد” صممت إنها تيجي تشوفك، هو أحسن؟؟.
حركت رأسها موافقةً ثم أشارت لهما بالدخول وهي ترد على حديثه بمجاملةٍ وما إن أرشدتهما إلى المكان ودلفا معًا كادت أن تغلق الباب لكنها تفاجئت بـ “سـراج” الذي حال بين الباب وجزئه الأخر وظهر فجأةً من العدمِ يسألها بنبرةٍ جامدة:
_الواد دا جـه هنا يعمل إيه؟ هو أنتِ مصممة تخليني أقل أدب ***** أمي ليه ؟؟ جه يهبب هنا إيه ؟؟.
نظرت له بضجرٍ وهتفت بنبرةٍ جامدة تحذره بقولها:
_لو سمحت مالكش دعوة، حياتي خط أحمر متدخلش فيه.
حسنًا اعادته لطبيعته السوقية التي تتنافى مع وسامة ملامحه الشقراء وأصل جنسيته المختلطة وأمسك ذراعها يضغط عليه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_خط أحمر مين يا أم خط أحمر ؟؟ متخلينيش أقلبها أسود ونزعل كلنا، لو فاكرة أني عيل خواجة وهسيبك براحتك تبقي غلطانة، دا أنا هكتم على مراوحك لو فكرتي تتهوري وتعملي حاجة كدا ولا كدا.
احتقنت الدماء في وجهها واستغلت هي محل وقوفه ثم قامت بإغلاق الباب في وجهه فجأةً ثم وقفت خلف الباب تحاول ترتيب البعثرة الداخلية التي دومًا وأبدًا هو المُتسبب فيها ثم دلفت للمطبخ من جديد تجلب العصير لضيوفها الذي لم تكن زيارتها في محلهِ.
استغرقت بعض الدقائق في الداخل ثم دلفت للحديقة تُرحب بهما من جديدٍ وقبل أن تقوم بوضع العصير على الطاولة ظهر “سـراج” من العدمِ يمسكه منه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عنك أنتِ متتعبيش نفسك.
رفعت عينيها تطالعه بنظرةٍ حادة حتى وجدته يغمز لها حتى تركت هي ما كانت تمسكه ثم جلست بجوار رفيقتها بينما هو رمق “نـادر” بسخطٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة يعتذر عن ظهوره المفاجيء من باب الحديقة بقولهِ:
_أنا أسف أني جيت فجأة كدا بس فيه دوا دلوقتي مهم خوفت “نـور” تنساه، نورتونا يا جماعة، والله.
أخفض رأسه يهتف لنفسهِ بقولهِ:
_إلهي تنور فيكم وانتم مولعين يا بُعدا.
رفع رأسه يبتسم لهما فيما تحدث “نـادر” بقوله الذي وجهه لـ “عـادل” بطريقةٍ رسمية قائلًا:
_ألف سلامة على حضرتك وآسف أني مقدرتش أجي من بدري، أتمنى إن حضرتك تكون بخير فترة وهتعدي.
أومأ الأخر له موافقًا، فيما لاحظت “شـهد” جلوس الصغيرة معهم ووجود “سـراج” أيضًا فسألت بتعجبٍ وكأنها تنطق بفرحةٍ لأجل رفيقتها:
_هو أنتوا رجعتوا لبعض ؟؟.
وزع “نـادر” نظراته بينهما وقد لاحظ “سـراج” نظرته فتحدث ببرودٍ يُجيد رسمه في صفاته:
_هو إحنا كنا سيبنا بعض أصلًا؟ كل الحكاية سوء تفاهم وخلص خلاص بعدين أي علاقة فيها مشاكل، مبتمشيش سالكة هي علطول.
لم ترد “نـور” إحراجه أمامهما بل سكتت عن الرد ونظر لها “نـادر” يسألها بعينيه حتى هربت هي من الجواب فيما صدح صوت هاتف “عـادل” بأحد الأرقام الخاصة من مسئولي الحكومة وحينها أعتذر منهم وتحرك يجاوب على الهاتف وقد أخذت “نـور” صديقتها والصغيرة أيضًا حتى لا تجلس معه وتضطر توافقه على كل حديثه.
نظر “سـراج” في أثرها ببسمةٍ هادئة حينما تحركت من المكان وتركت موضع جلوس “نـادر” وهذا هو الأفضل له، الأفضل من كل الجهات فيكفيه إنها أخبرته بمشاعرها القديمة حينما توهمت الحب فيه، وقرر هو أن يثبت الحب لها بطريقته ليكون درسه أكثر قسوة من فعلة “نـادر” وكأن كلاهما تفنن في كسر قلبها.
حرك رأسه لـ “نـادر” الذي سأله بسخريةٍ:
_إيه لسه مصالحتش صاحبك؟.
طالعه “سراج” بازدراءٍ وسأله بوقاحةٍ:
_ليك فيه ؟؟ شيء ميخصكش، أنتَ بقى صالحت قريبك؟
حرك كتفيه بلامبالاةٍ وهتف مؤكدًا على هذه اللامبالاة بقولهِ دون أن يُبدي أي إهتمامٍ:
_والله مش فارق معايا كدا كدا أنا وهو مش نافع أي علاقة بينا، مينفعش يكون فيه حاجة بيني وبينه ودا من يومنا أصلًا، لكن أنتَ في يوم من الأيام كنت صاحبه، وشكلك قلبت عليه، مالكمش أمان برضه.
ضحك “سـراج” ضحكة خافتة يستهزأ بحديثه ثم أضاف بثباتٍ يرد عليه بقولهِ:
_أديك قولت صاحبي، يعني مصارينا في قلب بعض، أحبه، أكرهه، أقلب عليه، يزعل مني، أزعل منه، مسيرنا راجعين في بعض، أخرج منها أنتَ بس يا رايق.
هتف “نـادر” بدون اكتراثٍ لكليهما وهذه هي الحقيقة التي أراد توصيلها:
_أنا أصلًا مش فارق معايا أي حاجة تخصه، لا أنتَ ولا هو ولا غيركم، أنتوا الاتنين اللي كارهيني علشان حاجة مش بأيدي أصلًا، أنا راجل قبطان بحري محترم وليا مكانتي، يعني برضه مينفعش أقلل من نفسي، أنا لو عليا نفسي أقطع علاقتي بالكل، وأفرح بنفسي واللي وصلتله.
كان حديثه خبيثًا يواري خلفه حديثًا يُشابه السم المحقون فيما رفع “سـراج” حاجبيه بسخريةٍ وهتف ردًا عليه بوقاحةٍ تفوق وقاحة البقية بمراحلٍ كثيرة:
_قبطان بحري !! سايس مراكب يعني، طب خلي بالك علشان فيه مركب جاية تركن صف تاني وراك.
أشار على “عـادل” الذي عاد لهما من جديد يجاورهما فيما بدا الانزعاج واضحًا على “نـادر” من إهانة الأخر له وقد رفع الأخر مقدار الإهانة بقولهِ:
_بس نورت يا سيادة القبطان، كلنا ولاد مركب واحدة، عندك مثلًا أنا !! خريج كلية إعلام وكان زماني إعلامي كبير بس خُلقي ضيق، عندك “يـوسف” مهندس بترول ليه وضعه برضه، شغله كله بالأخضر، المعلومة المهمة بقى إن أنا وهو أيتام، محدش وقف معانا، علشان كدا فرحانين بنفسنا، عن اذنكم هتطمن على “جـودي”.
ترك المكان وتحرك منه وكأنه كان يجلس مع غريمه وليس ضيفًا يزور البيت، الموقف الذي بينه وبين “يوسف” حتمًا سيأتي اليوم الذي ينتهي بهِ لكنه لن ينسى جرح قلب صديقه على أيدي هذه العائلة التي لم تحمل صفة وحيدة من الصفات الحسنة، سوى الأناقة والوسامة فقط طبقًا لمعايير المجتمع المخملي.
عبر من غرفة الصالون ليستمع لجملة “نـور” وهي تقول بنبرةٍ هادئة تخبرها بما حدث ويبدو أنها كانت تتابع على سابق حديثها:
_بس ولما جيت لقيت “سـراج” معاه مكانش سابه بصراحة وحتى “يـوسف” جه هو كمان ومعاه جوز أخته بس مش فاهمة بصراحة العلاقة بينهم.
طالعتها “شـهد” بتعجبٍ يغلفه الاستنكار فيما قام “سـراج” بالضغط على فكيهِ من تهور هذه الغبية التي ستتسبب في دمار كل شيءٍ واستمع لسؤال “شـهد” التي قالت بحيرةٍ:
_جوز أخت مين ؟؟.
كادت أن تجاوبها فيما ردع “سراج” هذا الفعل حينما تدخل هو وجاوب بدلًا عن “نـور” قائلًا:
_هي فهمت العلاقة بينهم غلط، “يوسف” جه وجاب معاه أخو مراته هو، بس “نـور” الحياة برة باين نسيتها العلاقات ومسمياتها الأصلي، مش أنتِ عارفة إنه اتجوز ؟؟.
سألها بتهكنٍ جعلها تبتسم له باقتضابٍ ثم سحبت حقيبتها وهتفت بتوترٍ وهي تستعد للرحيل بقولها:
_طب أنا هروح لـ “نـادر” علشان بابا مستنينا نتغدى مع بعض، عن إذنكم.
تركتهما بمفردهما مع الصغيرة التي جلست تمسك هاتفها تشاهد به الكرتون المفضل لديها بينما “سـراج” راقب رحيل الأخرى ثم وقف مقابلًا لـ “نـور” التي تعجبت من فعلهِ منذ دخوله واستماعه لحديثهما وقبل أن تتحدث أوقفها هو بقولهِ:
_قبل ما تسألي وتهبلي في الكلام، أبقي احسبي حساب كلامك الأول يا “نـور” كنتي هتودي الدنيا في داهية، محدش عارف حاجة عن حياة “يوسف” ولا حتى أهله وأي معلومة غلط ممكن تكون مشكلة ليه هو، ياريت تخلي بالك علشان “يوسف” ميتأذيش.
طالعته بتعجبٍ وهي تقف أمام حوارٍ بدا لها مُبهمًا هي لم تتطرق لأية تفاصيل في حياة الأخر لكنها أيضًا تعجبت من أمر زواج شقيقته، ألم تكن متوفاة منذ صغرها؟؟ لكنها أيضًا لم تغفل عن اهتمامه برفيقه بالرغم من الخلافات التي علمت بها بينهما مما جعله تطالعه بنظرةٍ أعطته الأمل من جديد في تقبلها له، كانت نظرة صافية وهي تخبره باعجابها لموقفهِ فيما ضحك هو بعينيه ليجدها تتركه وتعود للصغيرة تسحبها معها نحو حديقة البيت وهو هنا يتعرف على الأملِ من جديد.
__________________________________
<“نَعطيكم أنتم ما نحتاجه نحن، وأنتم هما نحن”>
الحكمة حضرت على الجالسين وخاصةً الكِبار حينما تحدث “عبدالقادر” يخبرهم عن إتمام الزيجة وكافة تفاصيلها واشترط أن تأتي العروس إلى بيتهم دون أي شيءٍ كما أمر بتجديد شقة ابنهِ وتغيير نظامها خلال الأسبوعين القادمين، فعل كل شيءٍ لأجل حفيده وفرحته ولأجل ابنه الكبير الذي وقع على عاتقهِ الكثير من المسئوليات وآن الوقت حتى يرد له معروفه.
تم الإتفاق على كل شيءٍ وحينما قالت “نِـهال” أنها ترفض الزفاف من جديد بالطبع حتى لا يزداد حديث الناس عنها كونها إمرأة مُطلقة سبق لها الزواج، فهم الجميع سبب مطلبها وحينها تدخل “أيـوب” بقولهِ الهاديء يقترح عليها قائلًا:
_طب أنا مع حضرتك إنك متعمليش فرح علشان الفرح دا لوحده عبارة عن ذنوب كبيرة علينا إحنا في غِنا عنها تمامًا وربنا يكفينا شرها، اختلاط وأغاني ومعازف بس برضه لازم إشهار علشان كدا هنكتب كتاب في دار المناسبات في و نعزم المُقربين لللعيلتين، الدور اللي تحت للرجالة واللي فوق للسيدات يكونوا براحتهم، قولتي إيه ؟؟..
ألقى الإقتراح أمام الجميع مما جعلهم يوافقون على حديثه ببهجةٍ وخاصةً “نِـهال” التي أعجبتها الفكرة كثيرًا ووافقت عليها، فمن سابق خبرتها في هذه المواضيع نضجت كثيرًا، أصبحت تعلم الأمور الأكثر أهمية من مجرد زفافٍ فاخرٍ يتباهى به الحاضرون، وأكبر من مجرد بيتٍ تملئه الاثاثات الفاخرة، إنما البيوت بسكانها وأهلها، وهي سبق وعاشرت أشخاصًا تجلت الرحمة من قلوبهم والآن تأمل في معاشرة من عُرِفَ عنوانهم باسم الرحمة، كعادته انقذ أخيه كما الغوث بهذه الفكرة حتى أبتسم له “أيـهم” وأعلن أمام الجميع إتمام كافة الأمور.
بعد مرور دقائق من المباركات وتناول الحلويات والتعارف بين الفتيات وتوديعهن لبعضهن تحركوا من البيت لكي يرحلوا إلى حارة “الـعطار” من جديد، حينها قام “أيـوب” بتولي مهمة توصيل “قـمر” إلى بيتها بعدما ترك عائلته وقام بادخالها لبيتها، أما هي فلم تغفل عن حزنهِ البائن في نظراته وعن شروده بين كل حينٍ وأخر حتى قال هو بنبرةٍ هادئة حينما أدخلها للبيتِ:
_أطلعي يلا ولما تدخلي الشقة كلميني.
حركت رأسها موافقةً وخطت خطوة واحدة تبتعد عنه ثم عادت من جديد تقول بتوترٍ:
_بص !! أنا معرفش مالك ولا إيه مزعلك حتى، بس أنا مش متعودة إنك تكون سرحان كدا وتايه يا “أيـوب”، قولي مالك طيب وأنا والله مش هعرف حد بس هساعدك.
رفع عينيه يُطالع وجهها البريء الذي لازال مُحتفظًا بدفء القلب، هي لم تفتعل أي شيءٍ لم تملكه، لم تتصنع ما لم يوجد بداخلها، هي فقط تتعامل بطبيعتها العفوية وتلقائيتها المعهودة مما جعله يقول بقلة حيلة بعدما فقد الحديث كعادته:
_والله العظيم مبعرفش أقول، ومش هكدب أني مش متضايق، بس قصاد زعلي دا أنا مش قادر أقول، ويعز عليا زعلك مني والله أو حتى زعلك علشاني، يا رب ألاقي طريقة أقدر أقول بيها.
طالعته بقلة حيلة واستغلت دراستها في علم الإجتماع حينما اقتربت منه تعانقه فجأةً حتى ذُهِلَ هو من فعلتها لكنه رفع ذراعيه يضمها هو الأخر مما جعلها تقول بنبرةٍ هادئة تعبر عن فرحتها بقولها:
_ولحد ما تلاقي أنا معاك، وأي وقت تعوز تقولي حاجة قولي، حتى لو كل الدنيا تعباك تعالى يا “أيـوب” وأنا هكون في صفك وأعادي الدنيا كلها علشانك.
ابتسم بفرحةٍ وأغمض جفونه حينما تذكر والدته التي كانت تخبره في صغرهِ بقولها الحنون حتى تُطمئنه:
_مين دا اللي يزعل عيل من عيالي؟ ولا مين اللي يفكر يخلي “أيـوب” يتضايق ؟؟ أنا أكله بسناني حتى لو كانت الدنيا كلها.
السكينة حضرت بداخله فور اقترابها منه وأراد أن يظل هكذا موجودًا هُنا بجوارها هي، أما هي فابتعدت عنه بخجلٍ وهي تسأله بوجهٍ أتضح عليهِ الخجل من تسرعها في فعلها:
_إنـ..أنتَ بقيت أحسن دلوقتي؟؟.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها مما جعل بسمتها تتسع هي الأخرى وودعته بقولها الهاديء الذي خالطه الفرح:
_طب عن إذنك، هكلمك كمان شوية.
تركته ورحلت بينما هو وقف ينظر في أثرها براحةٍ كبرى، كأنه يتأكد أنه حقًا وجدها وأصبح من بين سائر الدروب يخطو معها دربها، الحزن الذي عاشه منذ صغرهِ من الممكن أن يتحول إلى فرحٍ بمجرد فقط تواجدها بداخل بيتهِ.
خُلِقَ المرء ضعيفًا ولم يملك من الصبر ما ملكه “أيـوب”
ويتعجل في رزقه بالرغم أن رزقه قُدِرَ له وهو المكتوب، ورِزقه قُدِرَ له وكان نصيبه “القـمر” لتؤكد له أن اسمه في لوح الحُب مكتوب، وأن قلبه رُزِقَ كما رُزِقَت غيره من القلوب.
خرج من البناية وتقابل مع “تَـيام” المُتيم بشقيقته وهو يتجه إلى بيتهِ ووقف معه ودارت بينهما عدة أحاديث عابرة قطعها “تَـيام” حينما سأله باهتمامٍ إبان سيرهما سويًا:
_”أيـوب” هو ليه المفروض أحترم نفسي في الخطوبة، يعني ليه مينفعش أني أتكلم وأعبر وأقولها أنا حاسس بإيه ناحيتها ؟؟ عاوز أقول وأعرفها بس فيه حاجة مخوفاني أني أتكلم، مش عاوزها تزعل، إيه الخطوبة دي ياعم؟؟.
ابتسم له “أيـوب” ولمح درجات صغيرة أمام أحد المحال التجارية القديمة المُغلقة فجلس عليها وأشار له حتى أقترب منه وجاوره الأخر وبدأ هو الحديث معه بقولهِ:
_الخطوبة الشرعية هي الأساس للجواز السليم، يعني ربنا سبحانه وتعالى حللها محرمهاش، بس بشروط وبضوابط لازم كل شاب يلتزم بيها، يعني ميصحش أني أخد طريق غلط للوصول للحاجة الصح، يعني مثلًا أنا عاوز أتجوز وخلاص مش قادر أعف نفسي، ميصحش بقى في الخطوبة أني أضيع بركة الجواز مني، زي مثلًا بنت نفسها تلبس حجاب شرعي بس مش معاها فلوس فتروح تسرق، ربنا قال في كتابه العزيز بسورة البقرة:
_ {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
قال الآية الكريمة مُستدلًا بها ثم أضاف من جديد يُفسر الحديث بقوله:
_يعني إيه ؟؟ يعني المفروض فترة الخطوبة الراجل يكون حازم ويكون قد المسئولية والأمانة، ربنا شرعها ليك إنك تخطب بس حرم عليك إنك تتجاوز حدودك في الخطوبة، يعني لا تجوز المُصافحة بالأيدي بين المخطوبين، ومينفعش قعادهم لوحدهم علشان ميبقاش فيه خلوة، ولازم محرم يكون موجود، الخروج لوحدهم غلط، فكرة بقى نسيبهم شوية علشان يتعودوا على بعض دي حرام طالما مفيش عقد قران وطالما لسه مش مراتك، طب إيه اللي المفروض يحصل في الخطوبة وإزاي نتعرف على بعض؟؟.
استحوذ على انتباه “تَـيام” الذي هز رأسه يطلب منه التكملة حتى تابع “أيـوب” على سابق الحديث بقولهِ:
_المفروض نراعي ربنا قبل أي حاجة، يعني ربنا قال لا تواعدهن سرًا، معناها إيه ؟؟ إنك متتكلمش معاها من ورا أهلها ولا تحب فيها وتتغزل بكل صراحة وتقولها كلام حب غير لما تكون مراتك، لأن الخاطب أجنبي عن خطيبته، غريب عنها وبالتالي مينفعش أنه يلمسها أو يكلمها أو يخرج معاها أو يكون محرم ليها زي ما ناس كتير فاهمة إن خطيبها كأنه جوزها، الفكرة إن ذنوب الخطوبة بتضيع بركة الجواز، ومفسدات بركة الجواز بتكون ذنوب الخطوبة، اللمس والكلام والخروج، فتيجي في الجواز تدور على الراحة تحس إنك مش لاقيها، والذنوب مش على الرجالة بس، لأ لا سمح الله، دي للبنات كمان وربنا قال في كتابه العزيز:
_{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}
قال الآية الكريمة ثم أضاف من جديد مُتابعًا حديثه مُفسرًا:
_يعني إيه تخضعن بالقول ؟ يعني يرققوا صوتهم ويكون الكلام فيه رقة مصطنعة وميوعة تلفت الأنظار، ساعتها هيحصل إيه ؟؟ يطمع الذي في قلبه مرضًا، إزاي ؟؟ يعني اللي عنده شهوة تخليه يركز مع الست وباله يرسم حاجات كتير غلط لمجرد صوت، هل فيه ناس عبيطة كدا أصلًا؟؟ آه والله فيه، فيه ناس من مجرد كلمة خيالها اللهم احفظنا بيروح لبعيد أوي، علشان كدا ربنا حذر في كتابه العزيز، وسيدنا محمد ﷺ ذكر في حديثه الشريف عن عدم اختلاء الرجل بالمرأةِ في الحديث الشريف:
قال رسول الله ﷺ:
” لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما”
يعني الشيطان بيحضر بينهم، بيحضر بوسوسته وكلامه وأفكاره والنفس من الأساس أمارة بالسوء، يعني إيه ؟؟ يعني نجاة المرء في مخالفة الهوى، طب لو أنا غلطت في فترة الخطوبة وحصل مني تجاوزات كتيرة أعمل إيه ؟، ابدأ من جديد استغفر ربنا وأطلب منه العفو والمغفرة للذنوب، وافتكر إن الجواز علاقة طاهرة نقية مش مبوظها غير الخطوبة الغلط، واللي بيبدأ غلط عمره ما بيكمل صح.
تنهد “تَـيام” مُطولًا ثم قال بنبرةٍ هادئة بعد حديث رفيقه:
_تصدق كلامك ريحني، بس برضه أبوك دا مش سهل، يا أخويا كل ما يروح يطلب واحدة لواحد من عياله يقولك أكتب كتاب وجاي عند أمي أنا يمشيها خطوبة؟؟ عايش زي الصايم طول اليوم خايف ينسى ويشرب، يا رب، يا رب أخلص الشقة الفقر دي.
ضحك “أيـوب” عليهِ فيما ضرب “تَـيام” كفيه ببعضهما وأرتمى على كتف “أيـوب” الذي ربت على كتفه وقال بسخريةٍ يزيد من اشتعال غيظ الأخر:
_متزعلش نفسك يا حبيبي، أنا بقول تطلع تليفونك تكلمها وأنا جنبك، أعتبر نفسك بتتسحر بدري النهاردة.
نظر له “تَـيام” بطرف عينه وبمجرد التقاء نظراتهما ضحك الإثنان معًا بصوتٍ مسموعٍ على سخرية “أيـوب” وعلى حال “تَـيام”.
__________________________________
<“من جديد أصبحتُ هُنا، حيث أنتِ أتيتُ أنا”>
نزلت شقيقته لتذهب مع عائلة زوجها وجلس هو برفقة والدته طوال اليوم تقريبًا حتى طلبته معها في التسوق وأراد هو أن يستعيد الذكريات القديمة حينما كان يذهب معها في أماكنها التي تتردد عليها، كان كما ظلها لا يُفارقها وكأنه كان يشعر أن هناك فراقٌ سيأتي لُزِمَ عليهما، تسوق معها وابتاع للبيت العديد من الأشياء ولشقة خاله أيضًا ثم أعاد والدته من جديد إلى البيت وأخبرها أنه سيقوم بدفع الفواتير الخاصة باستهلاك الشقتين وسيعود من جديد.
تحرك “يوسف” من جديد بعد اعادته لوالدته وقام بدفع الفواتير إلكترونيًا لشقتهم وشقة خاله الذي لازال يرفض معاونته ماديًا وكأنه أعتاد على تدبير أمر الأسرتين معًا، قام “يوسف” بدفع كل شيءٍ لكنه تذكر أمر شقة “عـهد” وأنها أصبحت ملزومة منه هو، لذا سأل العامل بالمكان الذي يبدو عليه أنه يعرف زوجته:
_معلش في السؤال يعني، المدام عندي بتدفع مصاريف شقتها هنا كهربا ومياة وتليفون ونت، عاوز أدفعهم لو سمحت.
سأله عن الاسم وأخبره هو وحينها قام هو بإخراج الفواتير إلكترونيًا وقام “يوسف” بدفع الفواتير التي تخصها ثم طلب منه بثباتٍ:
_معلش أي حاجة بعد كدا تخصها تبقى عندي أنا ولو خدت حاجة من هنا برضه عندي أنا، أنا ساكن في برج “العـطار” وهتلاقيني، تمام؟؟.
وافقه الرجل في حديثه فيما تحرك “يوسف” للخارج يشعر أنه أحسن صُنعًا كان يتوجب عليه فعله، هي زوجته وفي رعايته ويتوجب عليه كرجلٍ أن يحميها هو ويقوم بتولي كافة مسئولياتها، وهنا تذكر هيئتها حينما ركضت من المكان بعد حديثه لها، وتذكر كيف ذهبت إلى عملها هربًا من مواجهتهِ بينما هو قرر أن يفعل ما يتوجب عليه فعلهِ لأجلها.
قرر أن يذهب إليها في عملها بما أن التوقيت شارف على انتهاء عملها وقد قرر أن يقطع المسافة سيرًا بدلًا من السيارة وقرر أن يستمتع بنسمات هواء الخريف الباردة، من الأساس كان يرتدي ملابس رياضية سوداء عبارة عن بنطالٍ أسود اللون بأكمله رياضي، وفوقه سترة قطنية بيضاء اللون وفوقها سترة سوداء من نفس خامة البنطال يُطلق عليه في اللغة الدراجة “سويت شيرت” وقام بفتح الجزء الأول من السحاب مع حذائه الرياضي ذي الماركة الشهيرة، وقف يراقب نفسه ثم قرر يذهب لها بهذه الملابس الرياضية وتذكر في صغره كيف كان يأخذ الثياب القديمة التي يتركها “نـادر”.
وصل إلى العيادة المتكدسة بالنساء صاحبات الأبطن المنتفخة وتعجب هو من المكان ووقف مشدوهًا ثم حرك رأسه يبحث عنها ليجدها تقف عند مكتب الاستقبال بشرودٍ تمسك القلم دون أن تنتبه لما تفعله، أما هي !! فكانت تفكر به وبحديثه، كانت تفكر في جملته التي ألقاها عليها يُخبرها بما حدث لقلبهِ الذي وقع بها، منذ الصباح وهي تشعر أنها مراهقة صغيرة، كلما تذكرته دق قلبها وكلما ذُكِر اسمه أمامها تتعجب وكأنه صاحب الاسم الوحيد.
وصل لعندها ولاحظ كثرة شرودها فقرر أن يتحرك نحوها وقام بفرك إصبعيه معًا حتى تنتبه له وما إن فعلها رفعت عينيها نحوه لِتُصاب بصدمةٍ فور رؤيتها له في مكان عملها خاصةً أنها منذ حديثه وهي تتعمد تجاهله واقعيًا، فيما حرك هو رأسه يسألها عن صمتها لتسأله هي بتوترٍ:
_بتعمل هنا إيه يا “يوسف”؟.
ابتسم لها وحرك كتفيه حينما لاحظ جدية ملامحها، فيما حركت رأسها هي تسأله بضجرٍ:
_يعني إيه دي ؟؟ أفهم منها إيه ؟.
قرر أن يراوغ وكعادته هتف يجاوبها بقولهِ:
_جاي أساعد وأسخنلكم مياه، مش دي برضه عيادة نسا وتوليد ؟؟.
استقرت بعينيها على وجهه المُبتسم لتضحك رغمًا عنها بعد حديثه المراوغ وقد رفعت كفها تضعه على فمها، هذه هي هديته منذ الصباح ضحكت له وأشرق وجهها العابس حتى مال هو برأسه عليها وسألها مُبتسمًا:
_طب ما إحنا حلوين أهو.
خجلت هي من فعله وتورد وجهها فورًا فيما ظل هو مبتسمًا حتى سألته هي بنبرةٍ هادئة:
_بجد جاي هنا تعمل إيه؟ دا مكان شغلي.
حرك رأسه موافقًا ثم تحرك ووقف محلها الأساسي بداخل فوهة المكتب وقال بثباتٍ:
_هساعدك، أنا مبعرفش أقعد بصراحة، والنهاردة قعدت من غير شغل هقف أساعدك هنا لحد ما تخلصي الكام جُثة دول وبعدها نمشي مع بعض، ها ؟؟.
انفرجت شفتاها عن بعضهما ببسمةٍ مكتومة تحاول إخفائها لكنها فشلت، لم ينطق فوق حديثه حديثًا أخيرًا، بل يفعل كل ما يُثبت اهتمامه وحبه لها، لاحظت إحدى النساء وقوفه بجوارها وتحدثهما سويًا فسألت بفضولٍ قاتلٍ:
_هو مين الأستاذ يا “عـهد” ؟؟ تبع العيادة هنا..؟
انتبه الجميع لسؤال المرأة وتوترت “عـهد” من الجواب بينما أضافت المرأة بتهكنٍ نبع عن العَشم الذي حل نتيجة علاقتها القوية بـ “عـهد”:
_أصله دخل واستقر كدا، خير؟.
جاوبها “يوسف” بثباتٍ بعدما وزع نظراته بين كل الجالسين وخاصةً الرجال الذين جلسوا برفقة نسائهم وقد عاد ببصره لـ “عـهد”:
_أنا جوزها يا حجة.
ابتسمت “عـهد” بتوترٍ وهي ترى دهشة النساء بهذا الخبر، فيما شهقت المرأة وقالت بمعاتبةٍ:
_اخس عليكِ يا “عـهد” ؟؟ من غير ما تعرفيني؟ طب مش أنا قولتلك الواد “أحمد” ابن أخويا طيب وهخطبك ليه؟ دا أنا كنت حالفة ما أسيبك برة عيلتنا أبدًا.
رفع “يوسف” حاجبيه مُستنكرًا ونظر لـ “عـهد” التي ظهرت أسنانها أسفل شفتيها حينما ضغطت عليهما بخوفٍ من حديث المرأة ليقول هو بنبرةٍ حاول التحكم فيها:
_ألف شكر يا حجة، خلاص بقت مراتي، ربنا يعوض على “أحمد”، ويرزقه ببنت الحلال، قولوا يا رب.
رفع الجميع صوتهم خلفه فيما قام هو بإمساك كفها يسحبها بهدوءٍ حتى جاورته أو لربما أخفاها خلفه يعلن سيطرته عليها وأمتلاكه لها، واستقرت هي خلفه على المقعد وظل هو واقفًا يتابع المرأة التي طالعته بفضولٍ وسألته باهتمامٍ:
_معندكش أخ شبهك يا حبيبي.
انتبه لها وضحك رغمًا عنه وهو يسألها مشيرًا على نفسه:
_أنا !! ليه عاوزاني لأخت “أحـمد” ولا إيـه؟؟.
مازح المرأة حتى ضحكت وضحك البقية وأولهم “عـهد” أيضًا فيما نظر لها وهو يضحك مع ضحكتها وحرك رأسه بيأسٍ، لقد أوشك على نسيان الناس من هذه الطبقة المتوسطة الشعبية بروحهم المرحة وفضولهم الذي يأخذهم في بعض الأحيانِ لهذه المواقف المُحرجة.
تابعت “عـهد” عملها في إدخال المريضات وظل “يوسف” معها يتابع الأحاديث الغريبة من النساء بعدة مواضيع مختلفة بدايةً من أسعار الخضروات، وتجفيف الفواكه مرورًا بمصاريف الدراسة وحملها الثقيل على المواطنين نهايةً بزواج شقيق “أحمد” الكبير بدون موافقة والديه.
أنهت عملها ورحلت الطبيبة وعاونها هو في إغلاق المكان ونزل معها للشارع وبادرت هي بسؤالها الذي ألقته عليهِ تستعلم منه عن حاله بعد جلوسه في هذه العيادة:
_ها !! شوفت شغلي عامل إزاي ؟ أهو أنا في الروتين دا كل يوم، صاحبت نصهم وعرفت ربعهم وساعدت حبة حلوين منهم، علشان كدا كلهم عارفيني وبيحبوني، والدكتورة كمان برضه بتحبني أوي علطول تدعي لعمو “عبدالقادر” علشان جابني الشغل عندها.
انتبه وحرك رأسه مستفسرًا أثناء سيرهما سويًا فيما أضافت هي من جديد بقولها تفسر سابق حديثها:
_ماهي الدكتورة دي مش بتاخد نفس السعر من المرضى، يعني دي أسعارها رمزية ودا طلب من الحج نفسه، علشان محدش يعني يكون محتاج، حتى ساعات عمليات ولادة بتعملها من غير فلوس، بس الحج هو اللي بيتحملها وشرط عليها إنها تكون في الحارة هنا تراعي ربنا في شغلها، وأنا بشتغل معاها هنا بقالي حوالي ٧ سنين، بقينا أصحاب أنا وهي، والبركة في عمو “عبدالقادر” لما لقاني مصممة اشتغل ومش عاوزة مساعدة من حد، جابلي الشغل.
ابتسم لها بعينيه يفخر بها، هي حقًا كما سبق وقال مُذهلة في كل شيءٍ تفعله، شتان بينها وبين أي أخرى توضع في مقارنةٍ معها، فتاة مسئولة قوية لم تمد يدها لمن يعاونها بل تفرد ذراعها لتعمل بكل جِدٍ وجهدٍ، لاحظت هي نظرته لها فسألته بتعجبٍ:
_بتبصلي كدا ليه.؟.
انتبه لصوتها الذي انتشله من شرودهِ وجاوبها قائلًا بصدقٍ يخبرها بما يفكر فيها تجاهها:
_علشان أنتِ مُذهلة، سنك كان صغير أوي إنك تنزلي شغل وتشيلي مسئولية بيت بعد والدك الله يرحمه، مقارنةً بغيرك مش زيك وعندهم كل حاجة بيت وأهل وفلوس ومع ذلك عينهم مش شبعانة، علشان كدا أنتِ مُذهلة.
ابتسمت له وتوقفت عن السير وتوقف هو الأخر يطالعا عينيهما، هو هنا غرق في السحر الأسود الذي ترمقه به عيناها على هيئات سِهامٍ وكأنها تتعمد هزيمته في حين أنه الماهر في كل مباراةٍ يدخلها يحالفه النصر، إلا هي كانت الهزيمة، لكنها هزيمة بطعم النصر الذي حالفه أمام الدنيا بأكملها.
طالت نظراتهما لبعضهما وكاد أن ينطق بالأسرار التي اختبأت بداخل قلبه حتى مرت سيارة من قربهما جعتله ينتبه للطريق ويحركها لجوارهِ وبعد خروجهما من حالة الشجن هذه نطق هو بنبرةٍ هادئة:
_شكلنا سرحنا شوية، يلا.
أشار لها أن تتجه أمامه وقد لاحظ أحد محلات البقالة وظن أنها ربما تكون جائعة بسبب عملها طوال اليوم بدون أن تتناول الطعام فتركها تقف محلها وهو يقول بثباتٍ:
_استني هجيب سجاير وجاي متتحركيش.
توقفت محلها فيما عبر هو تجاه المحل ثم دلف لداخلها وهي تراقبه بعينيها تتعجب من تفحصه للمكانِ ومنتجاته حتى عاد لها من جديد يمسك في يده حقيبة بلاستيكية وقال بنبرةٍ هادئة:
_دي علشان نتسلى لحد ما نوصل، أمسكي.
ذُهِلَت من موقفه وأخذت الحقيبة بأنامل مهتزة فيما قام هو بفتحها وأخرج منها علبة عصيرٍ ومعه كعكة مُغلفة ومد يده لها وأخذ له هو الأخر ليسيرا مع بعضهما بعدما ابتسمت له، كانت تتذكر في صغرها حينما كانت تسير مع والدها بعد عودتها من المدرسة ويجلب لها المُشتريات من محل البقالة، لذا تحديدًا هي تبتسم، أتاها رجلٌ يجمع خصال والدها دون قصدٍ منه وكأنه تفنن في ذلك.
سار معها يتسامران سويًا في عدة أحاديثٍ بشئون عملها وعمله حتى دلفا لمدخل الشارع الذي يسكنا بهِ وحينها كانت ضحكاتهما مرتفعة وهو يقلد لها المرأة صاحبة عرض الزواج، وخاصةً حينما قال بسخريةٍ:
_ست خارجة من فوازير “نيللي” و “شيريهان” فاكرة نفسها خاطبة، بس فيه سؤال محيرني أوي.
انتبهت له “عـهد” وتوقفت عند وصولها للبناية تسأله بعينيها عن سبب حيرته ليقول هو بشرودٍ:
_”أحمد” دا ساكن فين؟؟.
ضحكت هي من جديد وضحك هو الأخر بيأسٍ ثم أشار لها أن تدخل البيت، دلفا سويًا وترافقهما الضحكات وتصادق الفرحة سيرهما، استطاع ببراعةٍ أن يُبعد تفكيرها عن حديثه صباحًا، حتى يخبرها بطريقته المُناسبة، وهي وجدت صديقها من جديد وخاصةً وهو يشاركها سيرها ولحظاتها البسيطة مثل هذه.
كان هناك زوجًا من الأعين يراقبهما سويًا، يراقب ضحكاتهما معًا وحديثهما ووقوفهما، لم يكن سوى “سـعد” الذي تابعهما من داخل زجاج محله القاتم الذي يُخفي من يقف بالداخل ويُظهر من وقف بالخارج، قام بالضغط على قبضته بغيظٍ، الآن فقط تضحك ويرتفع صوت مرحها وتسير ليلًا مع رجلٍ؟؟ قام بركل الأريكة بقدمه وهو يسب بألفاظٍ خارجة والنيران بداخله ترتفع بسبب حقده ونقمه عليهما، وقد لاحظ “شُـكري” صديقه حالته فمد يده له بالسيجارة المُخدرة وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_الله !! وحد الله يا عم مالك..؟ فيك إيه رَوق بس.
خطف “سـعد” منه السيجارة وهو يقول بأنفاسٍ لاهثة:
_البت قهراني يا “شُـكري”، مش طالعة من دماغي، ضحكتها بقت من الودن للودن وخارجة وداخلة بكيفها معاه، كانت مقفلة عند العبد لله بس؟؟ ودلوقتي المياصة والدلع ظهر؟؟ صبرها عليا، وربي ما أعبد لأكون مخليه هو اللي يسيبها وقدام الكل.
ابتسم “شُـكري” بسخريةٍ وقام بتمرير لسانه فوق ورقة السيجارة المخدرة يقوم بطي أطرافها على بعضهما ثم قال بنبرةٍ يائسة حينما تذكر أمر شقيقته:
_فكرتني يا جدع، البت “أمـاني” من ساعة ما عرفت إن ابن “العطار” بيخطب وهي دماغها ورمت، عمالة تشتم وتسب وتعلن سلسفيل أبو عيلة العطار وأبويا معاهم، مع إن هي كانت فرحانة لما اتطلقت وقالت شميت نفسي، دلوقتي لما راح لغيرها زعلانة، بت ميملاش عينها غير التراب مبتسمعش الكلام.
انتبه له “سـعد” وأشار بإصبعيه نحو رأسه كعلامةٍ يدعوه للتركيز في حديثه وهتف بنبرةٍ عالية يهدر به:
_ولا !! مش أنتَ اللي طلبت منها تطلق منه؟ وقبلها قولت أنهم كابسين عليكم ومخليينها تقطع معاكم علشان الشُرب؟؟ أنا فاكر مش ناسي.
هتف “شُكري” بلامبالاةٍ ردًا عليهِ:
_ولو يعني، هل دا مبرر أنها تسمع كلامي؟.
رفع “سـعد” حاجبيه بذهولٍ ثم عاد بتفكيره إلى ما قام هو بفعلهِ في الشقة التي تعلو شقة والد “عـهد” حينما قام باستئجارها فقط ليجمع فيها كل ما يخصها وقريبًا ستكون هي بنفسها، وبعد ذلك هي بنفسها ستكون هناك معه ثم !! ثم يُطلقها “يوسف” ويحصل عليها هو، فليس من الطبيعي أو يُتيم هو بها ويأخذها غيره، وليس من الحق أن يبقى هو مهووسًا بها في حين أتى الغريب وقام بخطفها، لذا ازداد الانتقام بداخلهِ وعزم عليه بكل ذرة حقد طفقت تُعلن عن نفسها بداخلهِ.
__________________________________
<“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خيرٍ”>
تشابهت الأيام الأخيرة مع بعضها بروتينٍ لم يرحم، حيث التجهيزات في بيت آل “العطار” ترحيبًا بالعروس التي تبقى فقط ساعات لأجل قدومها البيت اليوم بعد مضي الأسبوعين المُنصرمين، أما عن “أيـوب” فشارك أسرته هذه المناسبة وعمل بكل جهده لأجل الاتمام على هذه الزيجة بكافة المخططات، كل شيءٍ تم الإتفاق عليه سعى هو لتنفيذه.
على الخلاف كان “يوسف” ينقسم بين عمله في شركة”الراوي” وبين عمله مع “نَـعيم” وبين الكافيه الخاص به وبين أسرته وزوجته التي يكتفي في يومه بالاطمئنان عليها وهو غائب عنها وفي المساء يُعيدها من عملها كما اعتادا لكنه انقطع عن هذه العادة لمدة ستة أيام، غاب فيهم عنها تمامًا حتى بدأت هي تفتقده، أما “قـمر” فقد شاركت عائلة زوجها العمل في البيت ومعاونة “آيـات” في التجهيز لاستقبال الكِنة الجديدة لهذه العائلة.
استيقظ “يوسف” صباحًا بعدما أخذ عطلة من كافة أعماله وانتظر قدوم “نَـعيم الحُصري” والشباب معه لحضور عقد قران “أيـهم” بعدما أصر “أيـوب” على ذلك وقام والده بنفسه بالاتصال ليقوم بدعوتهم لهذه المناسبة.
دلفت “قـمر” غرفته بعدما آذن لها وجاورته وهي تقول بحماسٍ شديد:
_أنا صاحية من بدري علشان متحمسة أوي للفرح، وعاوزة ألبس الفستان اللي جيبته، تفتكر هيعجب “أيـوب” ؟؟
سألته باهتمامٍ ليبتسم هو لها ثم هتف بنبرةٍ محشرجة:
_مش هو طلب حاجة واسعة مش ملفتة أوي؟؟ بصراحة معاه حق يغير عليكِ، كل ما تلبسي فستان تحلوي أكتر، الراجل هيركز مع أخوه ومعازيمه ولا يفضل يبص عليكِ؟؟.
أقتربت تتمسك بذراعهِ وهي تقول بمزاحٍ:
_خليه هو مع أخوه وخليني أنا مع أخويا، حلو كدا؟؟.
ضحك لها ثم مازحها بقولهِ يخبرها عما سيحدث:
_يعني مش هتسيبيني أول ما تشوفيه وتجري تقفي معاه؟
حركت رأسها نفيًا وقبل أن ترد عليه تبريء نفسها صدح صوت هاتفه برقم زوجها حتى تفاجئت وتركت شقيقها وركضت من الغرفة ليرفع هو صوتهِ قائلًا بضجرٍ:
_يلا يا واطية، أنتِ بتجري من دلوقتي؟؟.
ضحك رغمًا عنه بعدها وتذكر أمر زوجته حينما أعطتها شقيقته الفستان وأخبرتها أن ترتديه اليوم في عقد القران، قام هو بجلبه لها مثلما جلب لـ “ضُـحى” و لـ “قـمر”، أراد أن تكون مثل الجميع لم تقل عنهم في أي شيءٍ كما أنه يريد اخفائها عن كل شيءٍ، التناقض الذي يسير بداخله يجعله عاجزًا عن أي فعلٍ سوى الاستماع لأوامر القلب بعدما أخرس عقله تمامًا.
بعد مرور عدة ساعات بدأت الناس تتوافد على دار المناسبات لحضور عقد القران وبدأ “أيـوب” في استقبال الناس معه “بيشوي” أيضًا و معهما “تَـيام” الذي تولى جلب المدعويين إلى الدارِ.
تحدث “بيشوي” بضجرٍ بعدما انتبه للتوقيت:
_هو فين؟ البيه كل دا فين..؟.
جاوبه “تَـيام” بنبرةٍ عادية ردًا عليه:
_هو و “إيـاد” لبسوا خلاص وراحوا مع عم “عبدالقادر” يجيبوا العروسة، هانت، كلم بس المأذون يا “أيـوب” شوفه كدا لميجيش وتبقى ليلة مبروكة بجد.
في مكانٍ أخرٍ أرتدت الفتيات الملابس مع بعضهن وقامت “ضُـحى” هي بتولي الاتمام على المظهر وخاصةً “عـهد” التي خجلت كثيرًا من هذا الاهتمام كونها من الأساس لم تهتم بحضور المناسبات، وقد استأذن “يوسف” ودلف الغرفة بعدما سمحت له الفتيات، وقع بصره أولًا على “قـمر” التي أرتدت الفستان الأزرق بدرجتهِ القاتمة والحجاب باللون الفضي لون الزهرة الرقيقة المنثورة فوق أكمام الفستان، وارتدت “ضُـحى” يشابهه باللون الأحمر القاتم والحجاب باللون الأبيض، بينما “عـهد” ارتدت فستانًا باللون البُني بدرجةٍ أولية منه وارتدت الحجاب باللون الأسود لون الحزام الذي توسط خصرها النحيل، تفحصها بملامحٍ مبتسمة ثم رفع إبهامه يشير لها حتى ابتسمت هي بخجلٍ وخشيت أن يتحدث.
خرجت “قـمر” من أمامه بعدما أثنى عليها وعلى مظهرها وكذلك “ضُـحى” أيضًا وما إن مرت هي من جواره قال بنبرةٍ خافتة:
_كان معايا حق أجيبه بُني، حسيته شبهك.
رفعت عينيها تطالعه بنظراتٍ ضائعة فيما أمسك هو كفها لكي يخرج بها نحو الخارج مع نساء عائلته، صمت بعد هذه الجملة ولم يُضيف أي شيءٍ أخر فيما شردت هي في حديثه وفي طريقته وفي غيابه !! أين حزنها منه بسبب غيابه؟ لم تجده ويبدو أن عقلها وضع المُبررات اللازمة لذلك.
في طريقٍ أخر كان “نَـعيم” يجلس بجوار ابنه في السيارة ومعهما في الخلف “جـودي” التي طوال الطريق يمازحها “مُـحي” وهي تشكوه لوالدهِ.
وفي السيارة التالية كان “إسماعيل” يقودها وبجواره “إيـهاب” الذي يتابع العنوان مع “يوسف” عبر الهاتف وفي الخلف جلست “سمارة” تستعد لاستقبال الفتيات التي رأت فيهما أخوتها وتسعد بالاجتماع معهن.
في غضون دقائق توقفت العديد من السيارات أمام الدار منهم سيارة “أيـهم ” الذي قادها بنفسه وبجواره جلست شقيقته وفي الخلف خطيبته وابنه، وسار “عبدالقادر” على قدميهِ وصولًا إلى الدار يستقبل الناس حتى توقفت السيارات الأخرى ونزل منها “نَـعيم الحُصري” والشباب خلفه في نفس توقيت وصول “يوسف” بأسرتهِ كاملةً.
انتبه لهم “عبدالقادر” واقترب من “نَـعيم” الذي وقف أمامه مبتسم الوجه وما إن أقترب منه الأخر قال بنبرةٍ هادئة يبارك له:
_ألف مبروك يا حج، ربنا يتمم بخير.
مد يده له يرحب به وهو يهتف بحفاوةٍ شديدة:
_الله يبارك فيك يا حج “نَـعيم” نورت حارة “العطار” كلها زِدنا شرف بوجودك وسطنا هنا، وإن شاء الله متبقاش أخر مرة.
لقاء العمالقة كما يدعون، وقف “يوسف” يتابعهما بعينيه وكذلك “أيـوب” أيضًا، كان وجود الرجلين بجوار بعضهما يخطف الأنظار، وقف “يوسف” يتخيل والده بجوراهما وهز يتعجب من هذه الدنيا الغريبة، من كان وسيطًا بينهما لم يكن موجودًا ليجمعهما سويًا لكن اللقاء كُتِبَ لهما.
بدأوا يدخلون للدارِ تباعًا النساء للأعلىٰ والرجال في الطابق الأرضي وقد وقفت “ضُـحى” تتحدث في الهاتف مع رفيقتها في العمل وقد مر من جوارها “إسماعيل” الذي رفع صوته يجاوب على المكالمة قائلًا بصوتٍ عالٍ:
_يا حج “سيد” عيني ليك بس أنا في مشوار.
انتبهت له “ضُـحى” وأغلقت الهاتف مع رفيقتها وهي ترمقه بغيظٍ حتى أغلق هو الأخر وسألها بسخريةٍ:
_فيه حاجة يا آنسة؟؟.
اقتربت منه تقول بغيظٍ ردًا على سؤالهِ:
_فيه حاجة اسمها مراعاة مواقف الأخرين، يعني توطي صوتك علشان فيه غيرك بيتكلم، بعدين أنتَ هنا بتعمل إيـه؟.
رفع حاجبيه يسخر منها بملامحهِ ورد عليها بقولهِ:
_أنتِ مالك أنا هنا بعمل إيه ؟؟ هو كان فرحك ؟؟ الشيخ “أيـوب” عزمني على فرح أخوه، متبقيش تعزميني على فرحك يا مطرقعة.
ردت عليه بسخريةٍ تقلد طريقته في ردها:
_وأنا أعزمك على فرحي ليه أنا ؟؟ يا سمج.
_يلا يا مطرقعة من هنا.
انتبه لهما “أيـوب” الذي كان يستقبل الناس ويرشدهم إلى الدار وقبل أن يتدخل بينهما يفهم طبيعة المُشاجرة التي بدت واضحة للعيانِ برغم إنهما انزويا عن الأنظارِ لكن قبل أن يتدخل هو لاحظ قدوم “أمـاني” طليقة شقيقه إلى هنا وكأنها تدخل ساحة حربٍ بعزيمة مقاتلٍ في نفس التوقيت الذي أتى فيه المأذون الشرعي إلى المكان، ووقف هو حائرًا بينهم وكأن عقله لم يسعفه بما يتوجب عليه فعلهِ في إنقاذ الموقف.
______________________
_لا تنسوا الدعاء لإخواننا، ولا تغفلوا عن المقاطعة والدعاء للمقاومة ولعن الاحتلال، اللهم عليك بكل ظالمٍ.
________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى