روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الرابع 4 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الرابع 4 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الرابع

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الرابع

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الرابعة

٤- ترويض
لم تحظ أمس بمقابلة أبيه، فقد كان على ما يبدو، يمر بحالة من التوعك، حتى أنها لم تره يشارك ولده مائدة الطعام سواء في وقت الغذاء، أو حتى في العشاء، وها هو أيوب يستدعيها من أجل مقابلته، طرقت عليه باب مكتبه، وهمت بالدخول، إلا إنه كان الأسبق، فتح الباب، فتقهقرت للخلف خطوة، فأشار نحو مدخل مؤدي لردهة قصيرة، ما أن خطت بها جواره، حتى تناهى لمسامعها صوت أم كلثوم صادحا في حسرة:
يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء..
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم، بعدما عز اللقاء..
توقفت خلف أيوب بخطوة وهو ينتظر قبالة الباب، الذي طرقه في تهذيب، طرقة واحدة قوية، جاءه بعدها الإذن بالدخول، فدفع الباب يخطو داخل الغرفة المريحة، المعبقة برائحة المسك والبخور، وصوت أم كلثوم الصادح منذ لحظات، قد هدأ قليلا، كأن الوالد اخفض صوت مشغل الأغاني عند دخول أيوب، الذي انحنى في وقار، مقبلا ظاهر كف الشيخ، الذي لم تتبين ملامحه من موضعها، حيث توقفت على أعتاب الحجرة، حتى يأذن لها رب عملها بالدخول.
كان يهامس والده، الذي هز رأسه موافقا، ليأمرها أيوب في نبرة رزينة: قربي يا آنسة.
اقتربت في وجل، لتظهر في مجال رؤية الوالد، الذي ما أن وقعت ناظره عليها، إلا وتطلع نحوها بنظرة مشدوهة، لم تعرف لها تفسيرا، وأيوب يعرفه بها: الآنسة سلامات، معلمة ساجد الجديدة.
اقتربت سلمى في تأدب، وانحنت مقبلة ظاهر كف الشيخ في ود فطري، فقد ذكرها محياه بوالدها رحمه الله، هامسة في محبة: طولة العمر لك يا عم الحج.
ربت الشيخ على رأسها في ود، هامسا بنبرة متحشرجة تأثرا: أنتِ مصرية!
هزت رأسها مؤكدة، ليستطرد هامسا: والله مبين من لحظة ما هليتي عليّ، هلت معكِ روائح الغاليين، يا هلا بكِ.
هتف أيوب مفسرا لسلمى: الوالد عاش بمصر لفترة، ودرس هناك.
هزت سلمى رأسها في فرحة، ليهتف الوالد في محبة: إذا بتنتهي مع ساجد، ربنا يجعل شفاه على يديكِ بإذنه، بتمنى نستأنس وياكِ وأحكي لي كتير عن مصر، والله هلتك يا بنتي ردت لي روحي.
ابتسمت سلمى ودمعت عيناها لتقدير الشيخ، الذي قالت له في سعادة: ده أنا هحكي لك عن كل اللي تحبه، بس يا رب أنت اللي متصدعش مني، أصل أنا رغاية.
قهقه الشيخ في سرور، مؤكدا: لا ما تخافي، والله ب حكيك يطول العمر.
اخجلتها رقة الشيخ، وتطلعت لأيوب الذي كان يقف في صمت، وقسمات وجه محايدة، لا تحمل أي تعبيرات يمكن قرأتها، لمعرفة انطباعاته عن اللقاء، الذي حاولت فيه على قدر استطاعتها، التحلي بروح العقل والرزانة، وتعجبت، كيف يكون هذا الرجل الصارم، ربيب الجدية، وريث الصرامة، ابن هذا الشيخ البشوش، حلو اللسان، طيب المعشر! .. وتساءلت داخليا.. هل هي جينات برلنتي هانم وشيرين باشا، والتي سيطرت بشكل كامل على صفات عاقد الحاجبين ذاك، والذي يقف كالصنم، لا حرف نطق ولا حركة أصدر! .. كادت أن تضحك على هذا الخاطر، الذي قفز لمخيلتها وهي تراه بعين خيالها، شاي بشارب مبروم، يمسك المنشة، ويلبس الطربوش الأحمر، في صورة تجمعه مع العائلة الكريمة، التي شربت برميلين من النشا قبل أخذ الصورة الوقورة، أمسكت ضحكاتها بالكاد، لكن الابتسامة ارتسمت على قسماتها رغما عنها، انتبهت من خواطرها، ما أن هتف الشيخ مستجديا: خليكِ وياي يا سلامات، بظن ما حان وقت عملك مع ساجد!
همت سلمى بالرد، إلا أن أيوب نفض أخيرا عباءة صمته، هاتفا في تأكيد: ما بيصير يا شيخ! هاد وقت قيلولتك، وهي لها عملها، راح تبدأه هالحين مع ساجد.
هز الشيخ رأسه موافقا، رغم عدم اقتناعه، ليستطرد أيوب مهادنا: بتخلص وتنضم لك، إذا كان هاد يناسبها!
أكدت سلمى باسمة: طبعا يناسبها، عنينا لعم الحج.
قهقه الشيخ من جديد في سعادة لكلماتها التي تلقيها بأريحية محببة لنفسه، ليستأذنه أيوب مغادرا بصحبة سلمى، التي تبعته حتى مكتبه، منتظرة منه أي أمر جديد، قبل المغادرة لتنضم لساجد، وتبدأ جولة ترويضها لمرضه.
أشار لها أيوب لتجلس على أحد المقاعد، قبل أن يمد كفه بقنينة دواء، هاتفا: ده دوا ساجد، كتبه له الدكتور من فترة، نسيت اديهولك إمبارح مع ملف حالته.
تطلعت للدواء في حنق، هاتفة: أنا كنت لسه هسأل حضرتك، إذا كان بياخد أي أدوية من اللي لقيتها فالأوراق، عشان نوقفها فورا.
جلس بالمقعد المقابل، متسائلا في قلق: ليه!
أكدت في جدية: الأدوية دي بتشتغل ع المخ، عشان كده انتبهت إن الولد كان هادي شوية، على غير عادة أولاد التوحد، اللي فالأصل عندهم فرط حركة.
وضعت كفها بشكل لا واعِ على خدها، الذي نال صفعة ساجد المدوية بالأمس، تنبه أيوب لذلك، وسيطر على ابتسامة كادت أن ترتسم على قسماته، وهي تستطرد متسائلة في جدية، وقد انقلب حالها لامرأة عملية بامتياز: دلوقت عايزة أعرف، إيه أكتر حاجات بيحبها ساجد! سواء أكل، ألعاب، موسيقى، كل حاجة حرفيا.
بدأ أيوب في سرد ما يعلمه، فنهضت هي في أريحية، لتجلس خلف مكتبه، ممسكة قلم وإحدى الأوراق البيضاء، وبدأت في تدوين ما يقوله، حتى إذا ما انتهت، دفعت بالورقة أمام موضع جلوس أيوب، هاتفة في مزاح: الدوا ده تاخده بانتظام، وتجيلي الاستشارة بعد أسبوع، وإن شاء الله بالشفا.
تطلع في عدم فهم لمزحتها، وأخيرا تنبه أنها تجلس خلف مكتبه أشبه بالأطباء، وتضع قائمة طلبات ساجد أمامه كوصفة للدواء، فانفجر ضاحكا بشكل لا إرادي، لتشاركه الضحكات، التي توقفت فجأة كما بدأت، وساد صمت ثقيل بعدها، قطعته وهي تنهض مؤكدة في نبرة علمية من جديد، تخالف لحظات مزاحها منذ برهة: الطلبات اللي فالورقة دي عايزاها ضروري قبل ما أبدا تكنيك شغلي مع ساجد، وهحاول أقصى جهد معاه، وأنا متأكدة إن ربنا هيكرمنا، ووضعه هيتحسن بإذن الله.
تطلع نحوها في تعجب، الآن هي تحمل شخصية مختلفة تماما عن هذه المرأة الساذجة المرحة، التي اعتقد أنها شخصيتها الوحيدة، لكنه كان مخطئا، فها هي تظهر شخصية واثقة، قديرة، تتحدث بكل احترافية عن عملها، وثقة في قدراتها، من تكون هذه المرأة، وكم من شخصية تملك، لم يكتشفها بعد!
تنبه أنه أطال التطلع نحوها، ما أثار توترها واضطرابها، الذي كان واضح جدا على محياها المصطبغ بالوردي خجلا، ما جعله ينهض بانتفاضة مندفعا نحو أحد رفوف المكتبة، متعللا بالبحث عن أحد الكتب.
استجمعت سلمى شتاتها بعد لحظات من التوجس في نظراته المتفرسة، يبدو أنه يشك في قدراتها، ويرغب في ثبر أغوارها حتى يدرك مدى صدقها فيما تدعيه عن مهاراتها في معالجة حال ولده! له كل الحق في كل هذه الريبة، بعد كل هذه المحاولات السابقة، والتي لم تسفر عن أي نتائج مبشرة.
سألته فجأة، ودون أي لحظة تفكير، وهو ما يزال يوليها ظهره، يبحث عن كتابه المجهول: أيوب بيه! ممكن أسألك فين أم ساجد!
سقط من كفه الكتاب الذي كان قد وجده أخيرا، وسادت لحظة من صمت ثقيل، قبل أن ينحن ملتقطا الكتاب، هاتفا في نبرة باردة، خلت من أي مشاعر: ماتت من سنين.
همست سلمى متعاطفة: أنا آسفة، ربنا يرحمها.
نهضت من موضعها في اتجاه الباب، وما أن أدارت مقبضه، حتى استدارت هاتفة: أيوب بيه!
استدار بدوره لمواجهتها، لتهتف بكلمة واحدة: اتحرر..
فتحت الباب مغادرة، قبل أن يتنبه ليسألها ماذا تقصد! .. تركته يقف حائرا، لا يملك تفسيرا عن معنى كلمتها الوحيدة، والتي كان على يقين لا يعلم من أين أتاه، أنها تعني الكثير.
***************
خرج من الحمام، في اتجاه حجرته، جاذبا ضلفة خزينة الملابس المتهالكة في حرص، حتى لا تنخلع في يده، باحثا عن ملابس نظيفة يرتديها لينزل للورشة، التي تأخر عنها اليوم على غير العادة..
جذب قميص من هنا، على بنطال من هناك، ليسقط نظره أثناء بحثه، على جسد معدني لامع، برق فجأة بضوء الغرفة أمام ناظريه، مد كفه، ليخرج من بين الملابس المكومة في ذاك الرف، هاتف فضي، مخبأ في حرص بين طيات الملابس، برفقة قابس الشحن الخاص به، ولم يظهر للعيان، إلا عند عبثه بهذا الرف البعيد، الذي لا يوليه اهتماما من الأساس، فقد كان يحوي بعض من ملابسه القديمة، وملابس خيرية المنزلية.
جلس على حافة الفراش يقلب الهاتف بين كفيه، لا يعلم لمن يكون!.. ضغط على زر الفتح، لكن على ما يبدو أن الهاتف قد نفذ شحنه، فوضعه في قابس الشحن الذي وجده برفقته، وانتظر لدقيقتين في اضطراب، حتى يستطيع ضغط زر التشغيل من جديد، والذي استجاب هذه المرة، لتسطع شاشة الجوال، بصورة أخته سلامات، تطلع في تعجب للهاتف، ماذا يفعل جوال أخته في ضلفة ملابسه، ومخبأ بهذا الحرص والحيطة!
أمسك هاتفه المتواضع، ورن على رقم أخته، ليصدر هاتفها صوت الرنين الذي كانت سلامات قد خصصته له في محبة، كاد أن يجن، ماذا يفعل هاتف أخته هنا في بيته! ولما الهاتف ليس معها!.. هذا يفسر عدم ردها، حين حاول شحن هاتفه بمبلغ معقول يخوله الاتصال بها دوليا، فقد أكد عليها تشغيل خدمة التجوال، حتى يتسنى له الاطمئنان عليها عند وصولها، وها هو زوجها لا يجيب على اتصالاته أيضا، ما الذي يجري! ..
انتفض صبحي من خواطره، مندفعا باتجاه باب شقته، الذي فُتح اللحظة، وظهرت على أعتابه خيرية، وهي تزفر في ضيق، دافعة عنها حملها من مشتريات، خالعة غطاء رأسها في نفاذ صبر، والتي انتفضت في ذعر عندما وجدته خارجا من حجرتهما، مندفعا بهذا الشكل الهجومي نحوها: أعوذ بالله، مش تقول أحم يا راجل، خضتني.
هتف صبحي متسائلا، في نبرة هادئة تحمل تهديدا مبطنا، وهو يظهر الهاتف أمام ناظريها: تليفون سلامات بيعمل إيه وسط هدومك يا خيرية!
اضطربت للحظة، لكنها استطاعت السيطرة على اضطرابها في احترافية، هاتفة في نبرة مزجتها بالعتب، وهي تضرب على رأسها في لوم: يخيبك يا بت يا خيرية! أنا إزاي نسيت أقولك حاجة زي دي! بس أعمل إيه فعيالك، كلوا دماغي ومبقاش فيا عقل.
زعق صبحي، مكبلا عضد خيرية بكف من حديد، يهزها في حنق، متسائلا من جديد: اخلصي، موبيل سلامات بيعمل إيه عندك! ومش معاها ليه من أساسه!
أكدت خيرية بنبرة مهادنة: والله هقولك حاضر، أصل سلامات ربنا يرجعها بالسلامة، اديتني تليفونها وهي نازلة ع المطار، وقالت لي اديهولك، عشان هي عارفة إنك أنت اللي دفعت فلوس تذكرة الطيارة، ومحبتش تكلفك يعني، فقالت إنك تبيعه وتاخد تمنه، وهي جوزها هيجيب لها أحسن منه هناك.
هتف صبحي في شدة، يهزها من جديد: ومين اللي قال لسلامات أصلا، إن أنا اللي دفعت تمن تذكرة السفر!
تلعثمت الكلمات على لسان خيرية، هاتفة تنفي التهمة عنها في عجالة: معرفش، أنا ايش عرفني اللي بينك وبين أختك! ما يمكن يكون المحروس جوزها هو اللي قال لها!
دفع صبحي بخيرية في عنف، لتسقط على أقرب مقعد لها، زاعقا فيها بثورة: والله العمايل دي ما تخرج إلا من تحت إيدك، لأن جوز سلامات هو اللي بعت تكاليف كل حاجة، وأنا مدفعتش مليم ف أي حاجة تخصها.
لم ترد بحرف، خوفا من أن يؤخذ عليها لاحقا، لذا أثرت الصمت، وقد انكمشت موضعها في قلق، حين اقترب منها صبحي، هاتفا بنبرة تهديدية: اللي كان بيحصل بينك وبين سلامات أنا مكنتش بدخل فيه وساكت وبقول شغل حريم ويصطفلوا سوا، لكن والله يا خيرية لو عرفت إن في حاجة حصلت لسلامات فالغربة من تحت راسك، ما هيكفيني فيكِ روحك.
ابتعد عنها متنهدا في حنق، وهو يتطلع لهاتف أخته، لا يعلم كيفية التصرف في هذه اللحظة، يتضرع لله داخليا، أن تكون بخير وسعادة.
نهضت خيرية تقترب منه في مهادنة، هامسة وهي تربت على كتفه، في محاولة لامتصاص غضبه: والله سلامات بخير، وزمانها مبسوطة وعايشة أحلى عيشة كمان، أهدى بس، وأكيد هي أو جوزها هيردوا ع التليفون ويطمنوك.
دفع كفها عن كتفه، مندفعا في اتجاه الخارج، تاركا إياها تضرب اخماسا في اسداسا، تتمنى للمرة الأولى بحياتها، أن تكون سلامات بخير، وإلا لن تكون العواقب سليمة.
***************
كانت تقدم قدم وتأخر الأخرى، فما تقوم به ليس من مهامها من الأساس، مستشعرة أنها ستنل منه التقريع، لقيامها بعمل ليس من اختصاصها، فهو دقيق حد الحنق في مثل هذه الأمور المتعلقة بالنظام والانضباط داخل الفيلا، لكنها عزمت أمرها وليكن ما يكون، وقفت أمام باب مكتبه، وقد طرقت الباب طرقة واحدة، جاء على إثرها أمره بالدخول بذاك الصوت الرخيم الذي يحمل بعض من نبرات الحزم، مثيرا فيها مشاعر من اضطراب وتوجس، ومشاعر آخرى لم تكن لتدرك ما تصنيفها، أطاعت الأمر ودفعت الباب في حذر، خطت للداخل في هدوء، واضعة جواره صينية القهوة، رفع رأسه متطلعا للقادم، شاكرا، لكنه تفاجأ لوجودها، متطلعا نحوها بتعجب: أنتِ ليه جايبة القهوة بنفسك، فين دادة نفيسة!
أكدت بابتسامة: دادة نفيسة تعبانة شوية، وكانت مستنية مخصوص عشان تجيب لك فنجان القهوة فميعاده، قلت لها تروح ترتاح، وأنا جبته.
هز رأسه متفهما، على عكس ما كانت تتوقع من ثورة على مخالفتها النظام والقواعد، وهمس مستحسنا: خير ما عملتي، متشكر.
هزت رأسها وقررت الرحيل، كان جو المكتب حميمي بشكل عجيب، وهو أيضا كان على خلاف جديته، التي تجده عليها داخل هذه الغرفة الرسمية، التي انقلب حالها، فالأضواء خافتة بشكل مريح يوحي بشاعرية كبيرة، وهناك موسيقى كلاسيكية تنبعث من مصدر ما لا تبصره، باعثة جو أسطوري، وهو على وجه الخصوص، كان يجلس على أحد الكراسي الجلدية الوثيرة، في ذاك الركن القصي عن المكتب، مسترخيا بشكل جديد عليها، يفرد ذراعيه باتساعهما على ذراعي المقعد، يدخن غليونه، الذي عبق الأجواء برائحة تغبه الثمينة والمميزة، يمدد رجليه، واحدة فوق الأخرى، مريحا قدميه فوق مقعد وثير منخفض من الهواء المضغوط.
همت بالرحيل، إلا أنها انتفضت فجأة ما أن علا صوت صرخات مع الموسيقي، ما جعلها تضع كفها على صدرها مستعيذة بصوت عالِ، أمسك ضحكاته على أفعالها، لتهتف ما أن استعادت رباطة جأشها: هو حضرتك بتحب الصريخ ده!
تطلع أيوب نحوها، وهو يخرج غليونه من فمه هاتفا في صدمة: صريخ! دي أوبرا!
أكدت مازحة: ايوه عارفة إنها أوبرا، بس عبارة عن صريخ وصويت، ويا ريت حتى حد عارف هي بتصوت على إيه، أهو نروح ناخد بخاطرها.
تطلع إليها كالمصعوق : تاخدي بخاطرها! ده فن راقي.
تطلعت سلمى نحوه، هاتفة في نبرة مشككة: يمكن، بس أنا أول ما بسمعها مش بيجي فبالي إلا مشهد واحد بس.
تطلع نحوها مستفسرا في فضول : مشهد إيه!
أمسكت طرفي غطاء رأسها، وجذبت كل منهما في اتجاه معاكس في نفس التوقيت، كأنها تخنق نفسها به، هاتفة تولول: مكنش يومك ياخويا، يا شندلتي أنا والعيال من بعدك يا سبعي.
ساد الصمت، ليمسح على وجهه، مؤكدا لها في هدوء حذر: بصي، حفاظا على حياتك، أوعي، هااا أوعي.. تعرضي وجهة نظرك دي، وخاصة بالفيديو كليب الهابط ده، قدام حد بيحب الأوبرا، صدقيني أنتِ اللي خسرانة.
همت بالرحيل هاتفة: شكرا ع النصيحة الغالية، بس الحمد لله اللي حواليا كلهم كانوا ناس فرفوشة ملهمش فالنواح والعديد ده.
ما أن وصلت للباب، إلا وتوقفت متسائلة بدافع الفضول: طب أنا الفضول قاتلني وعاوزة أعرف، هو حضرتك فاهم هي بتصرخ بتقول إيه!
تطلع لها عاتبا، لتعدل من صيغة السؤال: أقصد يعني عارف هي بتغني تقول إيه!
أكد بإيماءة من رأسه، وهو يرتشف أول رشفة من فنجانه مستحسنا: آه طبعا عارف، بس يمكن أنتِ عشان مش عارفة اللغة اللي هي بتغني بها، فمش فاهمة إيه اللي بيتقال.
هتفت مستفسرة : طب هي بتغني بأنهي لغة!
أكد: الإيطالية.
تطلعت نحوه متعجبة: وأنت تعرف إيطالي!
أكد في ابتسامة فخمة، ليست معتادة: أنا أعرف أربع لغات غير الإيطالية، وبتكلمهم بطلاقة.
هتفت في أريحية: أيوه طبعا ابن بشوات بقى، قاموس ماشي ع الأرض، نروح فين إحنا، ده أنا العربي بتاعي أصلا في ذمة الله، تقولي خمس لغات!
قهقه رغما عنه، فمهما حاول في وجودها التظاهر بالجدية، هي قادرة تماما على إخراج الضحكات من أعماقه، بنفس القدر الذي تستطيع فيه استفزازه وإثارة حنقه.
هتف مؤكدا: الموضوع بسيط، كل ما سافرتي واحتكيتي بشعوب كتير، اتعلمتي لغتهم وخاصة لو عشتي وسطهم عشان الدراسة، وده اللي حصل معايا مش أكتر.
هزت رأسها متفهمة، وأشارت للموسيقي، والغناء الذي تصاعد وتيرته: هو فيه إيه، الحجة مالها!
ابتسم رغم سخريتها، لاستشعارها وقع الموسيقي والغناء مؤكدا: برافو عليكِ، أهو فهمتي إن في حدث مهم، دي أوبرا من أروع مسرحيات الأوبرا اللي بحبها جدا، يمكن عشان فيها طابع مصري، اسمها أوبرا عايدة.
هتفت في فرحة: عايدة، على اسم أمي الله يرحمها.
هتف في تهذيب: والدتك اسمها عايدة!
هزت رأسها مؤكدة، ووجدها تجلس على أحد المقاعد الجانبية في استكانة، هي نفسها لم تعي أنها فعلت، وهي تتطلع نحوه تطالبه بإكمال الحكاية، ليستطرد : المشهد اللي سمعتيه ده، صرخات عايدة، لما حبيبها مات.
هتفت مذعورة: مات!
هز رأسه: وهي كانت عايزة تحصله.
أكدت بشجن: عندها حق، ما يا نعيش عيشة فل، يا نموت إحنا الكل.
أمسك ضحكاته على ضحكاتها، مستطردا الحكي: اتسللت عايدة عشان توصل للقبر قبل ما يقفلوه، واندفنت معاه.
شهقت في صدمة: أد كده كانت بتحبه!
هز رأسه مؤكدا: آه.
هتفت متنهدة: أحسن برضو إنها تموت معاه.
تطلع نحوها مصدوما: إيه الكلام العجيب ده!
هتفت مؤكدة: مش عجيب ولا حاجة، ده حتى أنا شايفة إنها نهاية سعيدة، طالما حتى لما ماتوا، ماتوا مع بعض، تبقى برضو نهاية سعيدة، محدش فيهم عاش يتألم بعد التاني، أو خلينا نتخيل إنها نهاية سعيدة.
ابتسم ساخرا : مبقاش في حاجة اسمها نهايات سعيدة يا آنسة، الدنيا بطلت تنتج القصص دي من زمان، وآخر نسخة كانت في قصص الأطفال، بتاعت سندريلا والأمير اللي جه على حصانه، لكن في قصص الحياة الواقعية، معتقدش.
لم تستطع جداله، هي نفسها لم تجد نهاية سعيدة واحدة لقصة من القصص التي عاشتها، حتى قصتها الأخيرة، العالقة بها حتى اللحظة كزوجة مع ايقاف التنفيذ، لا تعرف على ماذا يمكن أن تنتهي.
نهضت وتناولت صينية القهوة، التي انهاها في استمتاع، متجهة نحو باب الغرفة، هاتفة به في هدوء: عندك حق.
شعر أنه اطفأ سراج من أمل، كانت تحاول الحفاظ عليه مشعلا لهدف ما، استشعر الذنب، فهتف متسائلا: عجبتك قصة عايدة!
أكدت بإيماءة من رأسها، هامسة في نبرة مستكينة: مختلفتش كتير عن قصة أمي، كانت عايزة تتدفن مع بابا يوم ما مات، وفعلا حصلته من قهرتها عليه، بعده بشهرين.
تطلع نحوها مصدوما ولم يعقب، ألهذا قالت إن حتى النهاية المأساوية بموت الأبطال، تعد سعيدة لأنهما معا!
خرجت وأغلقت الباب خلفها في هدوء، لكنها أبدا لم تتركه على نفس الحال التي جاءته بها، فمنذ ظهرت بحياته هذه السلامات، أصبحت وظيفتها الأساسية، تكدير سلمه الداخلي، وإثارة العديد والعديد من التساؤلات حولها، بشكل أصبح يشكل خطر فادح على ثباته المعتاد، وسلامه النفسي.
****************
مرت أربع أيام، كان مختفيا فيها تماما، وتذكرت أن له عملا يؤديه، وأنه بالتأكيد لديه رحلة ما يقوم بها ليوم أو يومين، ثم يعود بعدها لمنزله، ليعاود الغياب من جديد، مع موعد الرحلة الجديدة، لم يقصر فيما يخص ساجد، الذي كانت تبذل قصارى جهدها في إخراجه من عزلته، أحضر لها سعدون كل ما طلبته، وبدأت مهمتها، كان هدفها الأول، والتحدي الذي عليها تخطيه في كسر أول أسوار العزلة، هو جعل ساجد يستجيب لندائها اسمه، حاولت على قدر استطاعتها الثلاثة أيام السابقة، لكنه كان عنيدا متمسكا بعزلته باستماتة، هي تعلم علم اليقين أنه يسمعها، ويدرك أنها تناديه، لكنه يرفض الاستجابة، رافضا أن يسمح لها بدخول عالمه، الذي يستمتع فيه بصحبة نفسه ووحدته، ولا يرضى عنهما بديلا، دخلت عليه حاملة هذه السكاكر الملونة التي أكد لها أيوب أنه يعشقها، مخبأة بجيب سترتها، وبدأت في مناداته باسمه، ظل يتجاهلها كأنها ليست موجودة، منشغلا عنها بالقفز على سريره، لتجلس قبالته مخرجة السكاكر الحلوة، وبدأت في فتح غلافها المزركش ببطء مثير، مدعية الاستمتاع، وهو ما زال يقفز مدعيا عدم الاهتمام، هاتفة باسمه: ساجد..
لم يستجب لهتافها عدة مرات، بل إنه اندفع في الأخير محاولا بغتة نزع السكاكر من يدها، لتكون هي الأكثر سرعة هذه المرة، فما مكنته من أن يطلها، ليبدأ في الصراخ بصوت عالِ، وقد تمدد أرضا، يحاول الضغط عليها، ليحصل على مبتغاه دون الاستجابة لأوامرها، ما دفعها لتخرج سدادات الأذن التي كانت قد وضعتها ضمن قائمة المشتريات التي طلبتها من أيوب، تجلس قبالة ساجد، تستمتع بأكل السكاكر، تدعه يبكي كيفما شاء، بلا أي انزعاج من قبلها، ليدرك أن رغباته لن تلبى بالصراخ والعويل، وأن عليه مهام لابد له من القيام بها، إذا ما أراد الحصول على مبتغاه.
*****************
كان ذاك هو اليوم الخامس لغيابه، كان من المفترض عليه العودة منذ أول أمس، لكن ما علمت به من سعدون فيما بعد، أن رحلته تأخرت بسبب سوء الظروف الجوية، كان عليها الاعتراف، بكل حيادية، أن الفيلا دونه لها طعم آخر، على الرغم أن وجوده كان يثير في الجميع حس الانضباط والتأهب العالي لتنفيذ أوامره بلا إبطاء، وأن غيابه جعلهم يستشعرون بعض الخمول والدعة، بعيدا عن نواهيه التي لا تنته، وصرامته الخانقة، لكن وعلى الرغم من كل هذا، كان لوجوده وقعا خاصا، ولحضوره ذاك الأثر الذي لا يمحى.
بدأت معدتها تقرقر كعادتها عندما تعمل بتركز في أمر ما، فقد استهلكت أوراق ساجد، الكثير من طاقتها بالفعل، ما جعل معدتها تثور وتمور طلبا للطعام.
تطلعت لساعة هاتفها الجديد، والتي تجاوزت التاسعة بنصف الساعة، تنهدت في حنق، عليها ألا تغادر حجرتها الآن، كان ذاك أحد البنود المتفق عليها، وعليها الطاعة والامتثال للأمر.
عاودت معدتها الصياح جوعا، بعد مرور ربع الساعة، حاولت فيها تجاهل ذاك النداء الملح، لكنها قررت اخيرا الانصياع لنداء الجوع القاهر، ومغادرة غرفتها، مخالفة للأوامر، وخاصة أن صاحبها غائبا، ولا أمل في عودته الليلة، ستخرج وليكن ما يكون.
نزلت مهرولة إلى المطبخ، وصلت إلى المبرد، فتحته تتطلع لما يحويه، لا تدرك أنه كان قابعا بذاك الركن المظلم بالمطبخ الواسع، يتطلع إليها في شغف وفضول، وهو يجلس هادئا، يتناول مشروبه الدافيء، وتساءل كيف لم تدرك حضوره، وهو الذي أطلق بوق سيارته عدة مرات، حتى استيقظ ذاك البواب الأحمق، ليفتح له بوابة المنزل، لعطل في نظام الفتح الإلكتروني، وأغلق الباب الداخلي خلفه في عنف غاضب، وهو يتوجه إلى هنا، لتحضير مشروب يهديء من أعصابه، بعد رحلة طويلة في أجواء ملبدة، استنفذت كل طاقته، وما أن لمح طيفها حتى تسمر موضعه في صمت يترقبها.
لا يعرف لما تثير به دوما الفضول لاستكشافها، والتعرف على كل ما تخبئه بعيدا عن أعين الناس.
ازدرد ريقه فجأة، وهى تتمايل الأن في سعادة أمام المبرد المفتوح على مصرعيه تنتقي منه ما تشتهي لتناوله في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وقد أدرك لتوه سر عدم معرفتها بقدومه حتى اللحظة، فقد اكتشف أنها تضع سماعات جوالها بأذنيها، تتمايل الأن على ما يبثه بهما من ألحان..
مدت كفها تتناول شيئا ما من داخل المبرد، لتلقيه بفمها في أريحية، كان الطعام نقطة ضعفها .. عرف ذلك منذ اليوم الأول الذي قابلها به .. ابتسم للذكري رغما عنه، ونظر إلى جسدها المائل للامتلاء، والذي يحمل أنوثة متفجرة تربكه وتحيره، أدرك منحى أفكاره، فهتف داخليا في حنق معاتبا نفسه، فمنذ متى تشغله ذوات الجسد الممتلئ! فهو دوما يفضّل المرأة النحيفة، فرنسية القوام، التي تحافظ على رشاقتها.
لكن هي، بذاك المئزر العجيب الذي ترتديه، والذي تضمه لخصرها فيظهر كل منحنياتها التي تذهب بوقاره، لها وضع خاص بين النساء اللاتي مررن بحياته، ويبدو أن مرورها لن يكون مرور الكرام.
تنحنح مؤكدا على حضوره لعلها تنتبه، لكنها استمرت على وضعها تتمايل في سعادة، وهى تضع غطاء رأسها ذاك، والذي تربطه لما خلف عنقها، عندما تكون في عجلة من أمرها، ومئزرها الذي يشبه أحد أغطية أريكته المفضلة بالبهو هناك، ما دفعه ليقف أمامها مباشرة لتعرف أنه هنا، فقد أكتفت أعصابه، من عرضها المثير.
انتفضت مذعورة لرؤياه، حتى أنها غصت بتلك اللقمة التي دفعتها بحلقها قبل ظهوره بثوانِ.
أصبح السعال هو سيد الموقف .. أخذت تسعل في شدة، فاندفع يقدم لها كأس من الماء، أحضره لها سريعا،
تناولته مرتشفة رشفة كبيرة، وأخيرا أبعدت الكوب عن شفتيها متنهدة في راحة، لحظة صمت مرت، قبل أن تقطعها وهى تنظر إليه في عتب هاتفة، بصوت متحشرج من أثر السعال: شكل نهايتي هتكون على إيدك.
ثم ضمت باطن كفيها لبعضهما، تضعهما أسفل ذقنها في توسل كما يفعل البواب الهندي، هاتفة: بالله عليك، متظهرش كده فجأة زي العفاريت، فيه حاجة بنسميها استئذان، كلمات بسيطة خالص والله، مساء الخير، سلام عليكم، العواف.
تلقى توبيخها في هدوء قاتل، وهو يتطلع لتلك الندبة العجيبة، بالجانب الأيمن من رأسها، بالقرب من منبت شعرها، والتي لاحظها لتوه، بسبب انحسار غطاء رأسها للوراء قليلاً، وأخيرا همس بلا مبالاة: أنا مش هستأذن في بيتي، أنتِ اللي ملتزمتيش بمواعيد الخروج من أوضتك، زي ما اتفقنا، يعني دي مشكلتك أنتِ.
هتفت معارضة: أنت اتأخرت عن الميعاد اللي قاله عم سعدون، وده تعارض مع نداء معدتي، أقصد .. حسيت إني جعانة، وافتكرت أنك مش جاي النهاردة، زي ما حصل قبل كده، ورحلتك اتأخرت، ومرجعتش إلا تاني يوم.
أكد ساخرا: ومن أمتى مش بتحسي بالجوع! ده أنا لو حطيت مواعيد خروجي من أوضتي، طبقا لعدد مرات شعورك بالجوع، ده معناه إني مش هخرج من أوضتي أبدا.
قهقهت على غير المتوقع، فقد أعتقد أنها ستشعر بالضيق لملاحظته تلك، ولكن على العكس، باتت منشرحة لا ينشغل لها بال، وهي تهتف مؤكدة: معلش، أصل كنت براجع تقارير الزملاء في حالة ساجد، وبقرا بعض المراجع عن حالته، وأنا معرفش اشتغل إلا وأنا باكل، وبعد الأكل أحلي، يرتفع الأنسولين، أحس بالجوع، أروح أكل، وبعده أحلى، وبعدين يرتفع الانسولين، ولفي بينا يا دنيا.
هتف بها في سخرية: واللفة دي هتخلص أمتى!
قهقهت مؤكدة: لما أخلص شغلي، بسيطة أهي.
واستطردت ما لم يعقب: ع العموم، هعمل حسابي بعد كده، عشان لما أجوع فترة وجودك فالبيت، مضطرش أخرج من أوضتي، واهدم النظام المقدس، واخرق ساعات حظر التجوال، تصبح على خير..
همت بالتحرك في اتجاه باب المطبخ مغادرة، إلا أنها تذكرت تلك الشطيرة التي كانت تعدها، والتي تناولت منها قضمة بالفعل، وغصت بها عند ظهوره، فعادت القهقري، وجذبت الشطيرة من أمامه، واندفعت من المطبخ في اتجاه الدرج، تاركة إياه ممزق، ما بين اللحاق بها ليدق عنقها بعد ملاحظتها الأخيرة على نظامه، أو الانفجار ضاحكا على أفعالها، وخاصة مع تلك النظرة التي رمقته بها، وهى تجذب شطيرتها العزيزة من أمامه، تضمها لأحضانها!
*****************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!