روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الخامس 5 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الخامس 5 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الخامس

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الخامس

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الخامسة

ما مر يوم منذ استلمت الهاتف الجديد من أيوب، إلا ودقت على هاتفها القديم، لعل خيرية أعطته لأخيها من أجل بيعه كما قالت، لكنه احتفظ به بعض الوقت، حتى يستطيع بيعه بسعر مناسب، لكن الهاتف كان مغلقا على الدوام.
انتهت من أحد دروسها مع ساجد، وقررت أخذ استراحة بسيطة، أمسكت هاتفها تدق على رقم هاتفها القديم، لعل وعسى يرد أحدهم بعد فتحه للهاتف، إن لم يكن صبحي باعه بالفعل.
كان صبحي بورشته، يتعامل مع عطب بمحرك إحدى السيارات، وما أن رن هاتف سلامات، الذي كان محتفظا به في جيب بنطاله، إلا وانتفض يمسح كفه المشحمة، مخرجا الهاتف، يرد في لهفة على الرغم أن الرقم غريب وغير مسجل، لكنه جاءه بكود البلد الذي تتواجد فيه سلامات وزوجها: الوو، ايوه يا مجدي!
هتفت سلامات في لهفة: ايوه يا صبحي، أنا سلامات، إزيك عامل ايه!
هتف صبحي معاتبا: بقى كده يا سلمى! تروحي وتقولي عدولي، لا أنتِ ولا مجدي، تتصلوا تطمنونا إنك وصلتي بالسلامة، ده أنا كنت هموت من قلقي عليكِ.
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تهتف سلامات متعجبة: معقول مجدي مكلمكش ولا مرة!
أكد صبحي: والله أبدا، ده أنا حتى رنيت على تليفونه، فضل يرن شوية حلوين ومردش، ومن ساعتها كل أما أرن، ألاقيه مقفول، قلت بلاش تزن يا واد، عرسان فشهر العسل، سبهم على راحتهم، ولما طولتوا قلت أسأل صاحبي اللي عرفنا عليه، طلع يعرفه أصلا معرفة طياري، ومش معاكم فنفس البلد.
ساد الصمت من جديد، لا تدري هل تخبره بكل ما حدث ويحدث معها، أم أن الأمر لن يزيد أخاها سوى القلق! هو عاجز فعلا هناك، لن يستطيع مساعدتها بأي معلومة قد تفيدها في تحسين هذا الوضع الغير طبيعي، والذي وجدت نفسها متورطة فيه.
استطرد صبحي متسائلا في محبة: أنتِ كويسة يا سلمى! مبسوطة!
ردت في سرعة لتطمئنه: اه، زي الفل، مفيش أحسن من كده، الحمد لله يا صبحي، خيرية والعيال عاملين ايه!
أكد في سعادة: كلهم بخير، المهم إني اطمنت عليكِ، مش عايز أطول، عشان المكالمة غالية، خلي بالك على نفسك، وابقي طمنيني عليكِ كل فترة والتانية.
همست في شرود: حاضر، سلام عليكم.
رد صبحي السلام، منهيا المكالمة، ليضع الهاتف في جيبه من جديد، معاودا العمل منشرحا، بعد أن اطمأن أن أحوال أخته الوحيدة بكل خير.
بينما ظلت سلمى على شرودها، لا تعلم، هل ما فعلته بإخفائها كل الأحداث التي مرت بها كان صحيحا! أم أن عليها إخبار أخيها بكل التفاصيل التي جرت لها منذ أن وطأت أقدامها هذه البلاد!
هي تدرك تماما أنه لا يملك من الأمر شيئا، ولا يمكنه مساعدتها في الوصول لزوجها الغائب هذا، والذي اختفى فجأة في ظروف غامضة، دون أن يترك دليلا واحدا، يمكنها من الوصول إليه حتى!
أم أن عليها إخبار أيوب بالحقيقة كاملة! ..
هي فالإساس لم تنجح في إحراز أي تقدم في حالة ساجد، يشفع لها في البقاء لإتمام ما بدأت، فليكن رحيلها إذن دون أي أثر سيء على حالته، مثلها مثل من سبقها من المعالجين، شاكرة لأيوب جميل صنيعه معها، ومساعدتها في العودة لمصر، حتى تدرك نهاية قصتها مع زوجها الغائب هذا.
انتهت فترة الاستراحة، فدفعت نفسها للعودة لساجد، محاولة التركيز في حاله، وصرف ذهنها بعيدا عن حالها الغريب، الذي لا تعرف متى ينتهي.
*****************
دقت الساعة الثالثة، ليكون الجميع على مائدة الطعام كما هو متفق، كانت سلمى بصحبة سعدون ونفيسة بالمطبخ، وأيوب ووالده على المائدة بالبهو الخارجي، تطلع الشيخ نحو المائدة ما أن استقر موضعه على رأسها، هاتفا في تساؤل: وينها سلامات!
مال أيوب صوبه مفسرا: بالداخل، مع سعدون ودادة نفيسة.
تطلع الشيخ نحو أيوب في تعجب هاتفا: وليش ما بتشاركنا الطعام!
همس أيوب: سلامات ما هي ضيفة يا شيخ، مكانها مع سعدون ونفيسة.
تجاهل الشيخ كلام أيوب، هاتفا في صوت قوي، مخالف لطبعه اللطيف، مناديا سعدون، الذي ما أن حضر، حتى أمره: أحضر سلامات، بتشاركنا الطعام من ها الحين.
هز سعدون رأسه طائعا، غاب لحظات، وعاد وسلامات تجر أقدامها خلفه جرا، لم تكن بها رغبة في الجلوس مع أيوب على طاولة طعام واحدة، لكن ما عساها أن تفعل، وذاك أمر الشيخ الذي لا راد لأوامره، جلست على يسار الشيخ حيث أشار، بينما أيوب يحتل الجانب الأيمن، بعد أن وضع سعدون أدوات المائدة خاصتها على الطاولة، ليهتف بها الشيخ في محبة: مكانك هنا يا سلامات، ما فيه طعام بيكون من دون صحبتك الحلوة.
ابتسمت في دبلوماسية، تحاول أن تحيد بناظرها حتى لا يقع على محيا أيوب، الذي تدرك تماما كيف هو اللحظة، نظرا لمخالفة أحد أنظمته الصارمة، لكن الأمر خارج عن إرادته هذه المرة، فلا قدرة لديه على مخالفة الشيخ، الذي امتعض اللحظة ما أن وُضع أمامه طعامه المسلوق ودواؤه الذي حان وقت تعاطيه، ليتأفف في حنق، مؤكدا: والله هاد طعام يقصر العمر، ويجيب المرض، وما راح اتناول هاد الدواء، والله ما منه فايدة بالمرة.
هتف أيوب الذي كانت قسمات وجهه تشي أنه على وشك ارتكاب جريمة، وما كان من الصعب عليها معرفة من الضحية: ما يصير يا شيخ، هاد دواءك، تناول طعامك، ومن بعده دواك الله يرضى عليك.
هز الشيخ رأسه رافضا في إصرار، لتتدخل سلامات هاتفة: ليه مش عاجبك الأكل يا شيخ! شكله حاجة آخر جمال.
دفع الشيخ الطبق نحو سلمى هاتفا: احكمي بنفسك.
تذوقت ملعقة من الطعام، حاولت ابتلاعها بالكاد، لتهتف اخيرا مجاملة: حلو، بس إيه رأيك اظبطه زي ما إحنا بناكله فمصر، واحكم أنت بقى بنفسك!
هتف الشيخ في سعادة: هاد هو الكلام المظبوط.
هتف أيوب معارضا: يا شيخ، أي إضافات فيها دسم ممنوعة بأمر الطبيب، هاد بيخالف.
هتفت سلامات وهي تهم بحمل الطبق للمطبخ، لتقوم ببعض التعديلات المطلوبة لضبط المذاق، هاتفة في مرح، تسأل الشيخ: بيخالف يا شيخنا!
هتف الشيخ مقهقها: والله ما يخالف.
حملت الطبق في آنفة، أشبه بسيدات الطبقة المخملية بالعصر الفيكتوري، تسير في شموخ على أطراف أصابعها باتجاه المطبخ، وعيونها في اتجاه أيوب، لا تعرف لما كانت رغبتها في اغاظته، تتعاظم داخلها في هذه اللحظة، كاد شموخها ذاك أن يتبعثر أرضا، حين كادت أن تسقط نظرا لتعثرها في طرف أحد البسط الممتدة على الرخام الفاخر للأرضيات اللامعة، لولا أنها تمالكت نفسها فاللحظة الأخيرة، سالمة من شماتته.
عادت بعد دقائق قليلة، واضعة الطبق أمام الشيخ، الذي ما أن تناول ملعقته الأولى، حتى هتف مستحسنا في استمتاع: الله يرضى عنك يا بنتي.
ابتسمت سلامات في مودة، تطلع أيوب نحوها في ضيق، وهم أن يسألها عن الاضافات، حتى يطمئن قلبه، إلا أنها أشارت إليه بطرف خفي، ما جعله يبتلع سؤاله، لا لأنه وعى إشارتها الخفية، ولكن لطبيعة هذه الإشارة، التي كانت أشبه بغمزة عين، جعلته يزدرد طعامه في صعوبة، محاولا التحلي بالصبر بصحبة هذه المرأة العجيبة، التي تتسرب إلى حياته بشكل خارج عن إرادته.
أكل الشيخ كل ما كان بصحنه على غير العادة، متناولا الدواء بعدها حين قدمته له بلا أي اعتراض من قبله، لتوصله سلمى حتى حجرته، وما أن عاودت طريقها للمطبخ، حتى هتف بها أيوب يستوقفها، أمرا إياها باللحاق به.
سارت سلمى خلفه لداخل المكتب، ليجلس على كرسيه المفضل، متطلعا نحوها، متسائلا في حنق: الشيخ ممنوع من الدسم والأكل التقيل، وحفاظا على صحته، ممنوع منك التدخل في أموره، أرجو إن ده يكون واضح بالنسبة لك!
هزت رأسها في طاعة، واستدارت لتغادر، ليهتف بها متسائلا: حطيتي إيه ف أكل الشيخ!
عادت لمواجهته، مؤكدة في هدوء: ولا حاجة.
امتعض، هاتفا في نفاذ صبر: دي المرة الأولى اللي الشيخ ياكل فيها أكله كله، وياخد دواه من غير شكوى .. لازم أعرف، عشان لو..
هتفت سلمى تقاطعه باسمة: شوية بهارات..
تطلع نحوها مصدوما: بهارات!
هزت رأسها مؤكدة: أيوه، بهارات بسيطة ملهاش أي ضرر عليه، غيرت فالطعم اللي كان شبه العجين الني، وخلت الأكل أحلى شوية، أما بقى الدوا اللي خده من غير شكوى.. اتسعت ابتسامتها مؤكدة في نبرة تتصنع الكبر: ف دي قدرات على الإقناع، اجتهاد شخصي حضرتك.
هز رأسه متفهما، هامسا وهو يحيد النظر عنها: تمام..
لتستطرد هي في هدوء عجيب مخالف لطبيعتها، جذب انتباهه نحوها مجددا: أوقات كتير بتكون معالجة الأمور أبسط ما يمكن، والحل قدامنا، يمكن تحت رجلينا، بس عقولنا بتروح للحل البعيد والأصعب، ومش عايزة تقتنع باللي عيونا شيفاه.
ساد الصمت، وهمت بالرحيل، ليستوقفها مجددا لا رغبة لديه في رحيلها، هاتفا في لين غير معتاد: أنا نسيت أشكرك على مجهودك مع ساجد.
هتفت وابتسامة رضا على شفتيها: مفيش أي داعي للشكر، ده واجبي اللي بقبض عليه مرتبي، و..
هتف مقاطعا: آه بمناسبة الراتب، اتفضلي..
فتح أحد الأدراج، مخرجا ظرفا أنيقا يحمل راتبها، مد كفا مترددة يسلمه لها، لكنه عدل عن الفكرة، واضعا الظرف على طرف الطاولة، لتمد كفها مستلمة الظرف في أريحية، سارت نحو الباب لمغادرة الحجرة أخيرا، وفكر هو في ابقائها من جديد، لكن لأي سبب!.. وبأي حجة!
تطلع نحوها وهي تغلق الباب خلفها في هدوء، تاركة إياه وحيدا، وللمرة الأولى منذ زمن بعيد، يدرك أن الوحدة شيء مقيت، والأنس شيء غالِ، عليه دفع ثمنه، فهل هو على استعداد ليخطو مثل هكذا خطوة، في طريق جديد، غير مأمون العواقب!
****************
صوت نفير عربة خارج البوابة الحديدية، علا عدة مرات، جعلت حارس البوابة الهندي، يفتحها على مصراعيها، لتدخل سيارة حديثة، اصطفت قرب المدخل، وهبطت منها امرأة ترتدي عباءة سوداء أنيقة، يزينها بعض الأحجار اللامعة التي لا تناسب فترة الصباح على أي حال، وتضع شال من الشيفون على رأسها بعشوائية، بديلا عن غطاء رأس شرعي، لا يستر مقدمة شعرها الأسود الفاحم، الذي يتطاير غير ملتزم بغطائه الغير محكم، اقتربت من المدخل، وهتفت في أريحية وهي تدق جرس الباب، ما دفع نفيسة للإسراع نحو مدخل الفيلا، مرحبة بها.
كانت تضع كمية هائلة من مساحيق التجميل، على وجه لم تتبين سلمى معالمه من موضعها المستتر، بالردهة المفضية للمطبخ، تتطلع للقادم بعين فضولية، كانت الضيفة أشبه بنجمة سينمائية بهذه الطلة المبالغ فيها بوضح النهار، رائحة عطرها يفوح شذاها بقوة، حتى أنه وصل مكانها معبقا الأجواء.
هتفت الضيفة في ابتسامة متكلفة: يا هلا يا نفيسة، الشيخ بانتظاري.
هزت نفيسة رأسها مؤكدة: عندي علم، هو بانتظاركِ، اتفضلي.
سارت الضيفة في اتجاه حجرة الشيخ، تحفظ طريقها جيدا، لتعود نفيسة للمطبخ لتعد لها قهوتها، بادرتها سلمى متسائلة في فضول: مين دي يا دادة!
أكدت نفيسة، وهي تضع بعض البن بماكينة صنع القهوة: دي الأستاذة رياحين.
قهقهت سلمى: آه، ما هو باين، دخلت من هنا، والفيلا فحفحت بريحة البرفان بتاعها، بس برضو مقلتيش، مين الأستاذة فواحة دي!
ضحكت نفيسة مؤكدة: دي مديرة مكتب الشيخ، هي اللي شايلة شغل مكتبه، من بعد ما وقع بتعبه الأخير، بتيجي كل فترة، لو فيه أوراق مهمة، الشيخ لازم يمضيها.
هزت سلمى رأسها متفهمة، وهمست: مكنتش أعرف إن الشيخ له شغله الخاص، كنت فكراه كان موظف وطلع معاش بقى وقاعد بحكم السن والمرض.
هزت نفيسة رأسها نفيا: الشيخ من كبار رجال الأعمال هنا، شركته لها فروع كتير، لكن بحكم مرضه، هو بقى مشرف عليها بس، وبيروح كل فترة مع أيوب بيه، عشان يتأكد إن الأمور ماشية تمام.
تساءلت سلمى متعجبة: وهو أيوب بيه له فالإدارة وشغل التجارة!
أشارت نفيسة لسلمى وهي تحمل صينية القهوة: هودي القهوة وارجع لك.
عادت نفيسة بعد دقيقة، مستطردة الحديث: أيوب بيه له في كل حاجة، كان شغال مع الشيخ في الشركة من سن ١٨ سنة، ولما أختار يبقى طيار، الشيخ عمره ما عارض، ولما تعب ووقع في مرضه الأخير، أيوب بيه ساب كل حاجة، واتولى إدارة الشركات، لحد ما الأمور اتظبطت، ورجع شغله تاني.
ساد الصمت لبرهة، لتتنهد نفيسة بعدها هامسة: أيوب وهو أيوب.
همت سلمى بسؤال نفيسة عما تعنيه، لكن تليفون الأخيرة رن، فاندفعت تجيب على سعدون، تاركة سلمى تهرول بدورها تجاه حجرة ساجد، والفضول يتآكلها تجاه هذا الأيوب.
****************
صعد الدرج المتهالك في بطء، يصدر صفيرا منغما في انسجام تام، حتى دخل إلى شقته، وهو على نفس الحال، ما دفع خيرية التي كان يتحاشاها منذ ما حدث، ولا يخالطها مهما حاولت معه من ألاعيب، أن تتطلع إليه في حيرة، هاتفة بنبرة متعجبة: سبحان مغير الأحوال، ايه اللي حصل عشان الانسجام ده كله!
تطلع نحوها في هوادة، تاركا سؤالها بلا جواب، مندفعا نحو غرفته، ليبدل ملابسه من أجل قيلولة سريعة، قبل النزول إلى الورشة من جديد، لتتبعه خيرية في إصرار، متسائلة في فضول: لا، ما هو أنا مش هسيبك إلا لما تقولي ايه سبب الروقان ده كله!
تطلع نحوها، وهو يتمدد على الفراش متنهدا في راحة، يريحها حتى تحل عنه ليرتاح بدوره من النقر فوق رأسه: سلمى كلمتني وطمنتني عليها.
انتفضت من موضعها، هاتفة في فرحة حقيقية، لا خوفا على سلمى، وإنما من أجل خروجها من مأزق الهاتف: والنبي صحيح! طب الحمد لله إنها بخير، مش قلت لك كده، قلبتها علينا نكد.
ودفعت بكتفه في دلال، هاتفة: بقى ينفع كده!
أدار لها ظهره، هاتفا في تعب: خيرية، خدي الباب وراكِ وأنتِ خارجة.
امتعضت، وتغيرت تقاسيم وجهها، لكنها لم تيأس، وهتفت تسأله: وهتعمل ايه فالتليفون! هتبيعه!
هتف في حنق، دون أن يستدير لمواجهتها: مفيش تليفونات هتتباع يا خيرية، واخرجي وسبيني أنام لي ساعة قبل ما أنزل أشوف أكل عيشي، ورزق عيالك.
زفرت في حنق، ونهضت مبتعدة، مغلقة الباب خلفها في حنق.
******************
مرت فترة لا بأس بها على بداية محاولاتها لإخراج ساجد من عزلته، كانت محاولات مضنية، وعلى الرغم من ذلك، لم تحقق أي تقدم ملحوظ، كان عنيد متشبث بعزلته، مكتفيا بعالمه الخاص، ولا رغبة لديه في الخروج لعالم الآخرين الذي على ما يبدو، لا يستهويه مطلقا، كان صاخبا، كثير الحركة، سريع الغضب، حاد الانفعال، قد يبكي لساعات فقط من أجل الحصول على غرض يريده، ولا يهدأ حتى يحصل عليه، لكنها أبدا ما منحته ما رغب، تحاول أن تروض ذاك الجموح فيه، لعل وعسى يؤتي هذا ثماره، في محاولاتها التالية..
كانت تقف اللحظة خارج غرفة ساجد، وفتحت إحدى أغنياته المفضلة، انتظرت رد فعله من الداخل، بعد أن مرت دقيقة، لتجده يفتح باب الحجرة في لهفة، متطلعا نحو هاتف سلمى في سعادة، وبدأ في القفز بفرحة غامرة، على الألحان التي اشعلت حماسه، لكن فجأة، أغلقت سلمى الأغنية، ما دفع ساجد ليصرخ في حنق، وقد بدأ وصلة تمدده على الأرض، راغبا في مواصلة تشغيل الأغنية من جديد، لكن سلمى لم تستجب لطلبه، بل نادت عليه باسمه: ساجد، بص عليا، وأنا اشغل لك الأغنية.
لم يستجب، بل زاد من صراخه، ضاربا الأرض بأقدامه في عزم، لتهتف سلمى من جديد: ساجد..
لم يستجب أيضا، فجلست جواره في هدوء، تاركة إياه يزيد من رد فعله الغاضب لبعض الوقت، والذي هدأ فجأة، ما جعلها تتنبه، متطلعة نحوه في استفسار، ليدق قلبها في شدة، ما أن وجدته ينهض جالسا في صمت، أعادت نداءها باسمه: ساجد!
نهض من موضعه، سائرا في اتجاهها، حتى توقف قبالتها، مشيرا للهاتف، تطلعت نحوه غير مصدقة، لقد استجاب أخيرا، تطلعت نحوه في عدم تصديق، ثم شهقت في فرحة، ما جعلها تجذبه نحوها، تضمه في سعادة غامرة، هاتفة ودموعها تغرق وجنتيها: أنت عايز الأغنية! حاضر من عنايا، دي أحلى مكافأة، لأجمل ساجد.
أمسكت بكفه، ليدخلا الغرفة من جديد، فتحت الأغنية، ورفعت صوتها لآخر درجة يسمح بها الهاتف، ليبدأ ساجد في القفز فرحا على الأنغام، لتشاركه القفز والرقص في سعادة منقطعة النظير، فها هي أخيرا، قد جذبت ساجد خطوة خارج عتبة عالمه المتوحد، نحو عالم البراح، غير مدركة وهي تتقافز اللحظة في نشوة، أن أعين باسمة تتطلع نحوهما، من خلال ذاك الزجاج الموجود بأحد جوانب الغرفة، والمصنع خصيصا للاطمئنان على ساجد، أثناء بقاءه وحيدا، تنبه أيوب أنه أطال النظر لمهرجان البهجة المقام بالداخل، مندمجا بلا وعي مع حيوية هذه المرأة، التي بدأت من حيث انتهت الأخريات، واحتلت جزء لا بأس به من تفكيره، جعله يحاول التقهقر قليلا للوراء، متحاشيا أريحية التعامل معها، متجنبا تواجدهما سويا خلال الفترة السابقة، طائرا من بلد لبلد، متنقلا من رحلة لرحلة، محاولا الابتعاد قدر إمكانه، لكنه وللعجيب، كانت معه بكل أسفاره، تقفز لذهنه إحدى دعاباتها، فتقفز لشفتيه ابتسامة مجهولة المصدر، يحاول مداراتها في جهد، وهو بين جمع من الناس، حتى لا يظنه البعض مخبولا، كانت ذكراها أشبه بزجاجة عطر، يفوح شذاها بالبال، دون حتى العبث بغطاء القنينة، يكاد يجزم، أنها قد تخرج له ذات مرة، من حقيبة سفره، إذا ما فتحها، في نوبة شوق إلى روحها المرحة، التي باتت محببة إلى نفسه، بشكل لم يعهده مع امرأة سواها، وهذا كان مربط الفرس، وسبب البعاد، ودافع الانسحاب..
تحرك قاطعا استرسال خواطره الخطرة، نحو باب الغرفة الذي كان مفتوحا بالفعل، ورغم ظهوره على أعتابها، لم يفطن لوجوده أحدهما، مع صوت الموسيقى المرتفع ذاك، حتى مع نحنحته بصوت عالِ، ما اضطره للطرق على الباب في قوة، وهو يحيد النظر عنها.
تنبهت أخيرا، لتتوقف عن القفز في صدمة لمرأه، مندفعة صوب الهاتف، لتغلق تشغيل الأغنية الصاخبة، وهي تلتقط أنفاسها في تتابع محموم، هاتفة في سعادة: أهلا يا أيوب بيه، اتفضل..
وأشارت نحو أحرفها المتقطعة، وأنفاسها اللاهثة، هاتفة في مزاح: الفتنس في ذمة الله، الواحد لازم يضرب الترنك، وينزل الجيم بقى.. ويبقى أحمد ذكي فنفسه.. وأتقدم .. أتقدم..
أمسك قهقهاته على مزاحها، ساخرا بدوره: أو يبطل أكل أسهل..
قهقهت، وأنفاسها ما زالت متقطعة، هاتفة بدورها: تغور الفتنس، إلا الأكل سعادتك.
ابتسم متطلعا نحو ولده، الذي أمسك بالهاتف، يقلب فيه حانقا، رغبة في تشغيل الأغنية من جديد، سألها أيوب في هدوء ظاهري، مشيرا لساجد: إيه الأخبار!
ابتسمت في سعادة، ابتسامة جعلته يحيد بناظره عن محياها في عجالة، هاتفة في نبرة منتصرة: تمام أوي.. الحمد لله.
واقتربت منه، ما دفعه ينكمش على نفسه داخليا، وهي تهمس: خد التليفون، ونادي على ساجد، وشوفه هيعمل ايه!
عادت خطوة للوراء، فتنفس الصعداء وهو يقترب من ساجد، متناولا الهاتف من يده، ليبدأ في الصراخ، الذي توقف ما أن ناداه أيوب: ساجد، تعال وخد الهاتف.
فتح أيوب الأغنية، منحنيا يستند على ركبته، ليصمت الولد فجأة، مستجيبا لاسمه، مقتربا من أيوب، متناولا منه الهاتف.
رأت سلمى اللحظة، ما لم تكن تتوقع رؤياه، جلس أيوب على الأرض بكليته، جاذبا ساجد نحوه في شوق، يلف ذراعيه بالكامل حول جسد طفله، يكاد يعتصره فرحا، هامسا بصوت متحشرج تأثرا: حمدا لله بالسلامة.
أخذا في هدهدة الصبي، الذي كان في عالمه السعيد مع أغنيته المفضلة، غير عابىء بمشاعر والده.
سالت الدموع من عيني سلمى بلا وعي، ما جعلها تندفع في عجالة، مغادرة الغرفة، تاركة لأيوب حرية التعبير عن مشاعره دون حرج لوجودها..
**************
دقت الساعة الثامنة تماما، فنهض من موضعه خلف مكتبه، متجها صوب الخارج، حتى إذا ما وصل، جلس على كرسيه أمام طبقه المعد مسبقا على مائدة الطعام العريضة، في انتظار أبيه، ومعلمة ولده.. بعد أن فرضها والده على المائدة، خلافا لرغبته، لكنه وجد نفسه يتساءل، هل كان بالفعل لا يرغب في رفقتها! أم أنه يحاول أن يقلص الوقت الذي يتواجد فيه بحضرتها! .. وهنا بزغ السؤال الأهم، لماذا يتجنبها من الأساس!
تنهد في ضيق وهو يجلس للمائدة، تكاد خواطره ترتسم جلية على قسمات وجهه، الذي بدأ في الامتعاض لمرور بضع دقائق على موعد العشاء، ولم تظهر الأخت سلامات بأعلى الدرج، ولا ظهر والده كذلك، ما دفعه ليأمر سعدون في ضيق: اتفقد الوالد يا سعدون، شوف إيه اللي أخره.
هز سعدون رأسه في طاعة، وسار نحو غرفة الشيخ.
ظهرت سلمى أخيرا وهي تهبط الدرج مهرولة في اتجاه طاولة الطعام، التي أعدتها نفيسة في احترافية كعادتها، تطلع نحو ساعته في حنق، فقد تأخرت عن ميعاد تقديم الطعام سبع دقائق كاملة، وجه ناظره نحوها في ضيق هاتفا: في سبع دقايق تأخير يا آنسة! أنا مش نبهت على الالتزام التام بمواعيد الأكل!
أومأت برأسها تأكيدا، هاتفة في نبرة معتذرة: معلش، بتبقى أمور غصب عني، بإذن الله مش هتتكرر.
تطلع نحوها، مشيرا نحو مقعدها الذي خصصه لها والده مقابلا لمقعده، لتجلس على المقعد المشار إليه، وما أن همت بمد يدها نحو الطعام في أريحية، إلا وهل سعدون مؤكدا في هدوء: الوالد نعسان، اعتقد إنه مش هيقدر على مشاركتكم الطعام.
هز أيوب رأسه متفهما: فعلا، كان مؤرق طول الليل، ما قدر ينام، وما أخد قيلولته، النوم لازم له، والأكل يبقى.
بدأت في تناول الطعام في أريحية، دون حتى انتظار دعوته لبدء الطعام، ما جعله يتطلع متعجبا لحالها، وهو الذي أدرك محبتها للطعام بشكل لا يمكن تجاهله: واحدة زيك بتعز الأكل زي عينيها، إيه اللي يأخرك عن ميعاده!
هتفت بعد أن أتمت ابتلاع لقيمتها، التي كان فمها عامرا بها، مؤكدة وعلى شفتيها ابتسامة: يمكن في حاجة أهم عندي شوية من الأكل هي اللي اخرتني!
هتف ساخرا: أهم من الأكل عندك! أشك إن في حاجة أهم، عندي فعلا فضول أعرفها.
ابتسمت وهي تضع في فمها لقيمة آخرى ولم تعقب لبرهة، وأخيرا هتفت في هدوء، وبنبرة غريبة على مسامعه: اللي ممكن ياخدني من أي حاجة بحبها، هو اللي عمره ما سبني لوحدي أبدا.
ترك الشوكة من كفه، واضعا إياها على حافة صحنه في هدوء، وتطلع نحوها في دهشة، هامسا في سخرية: ده مين بقى! حبيب قديم!
همست في وجد: هو حبيب، بس يا ريته هو اللي يحبني.
اتسعت حدقتا عينيه في دهشة لهذه الجرأة الغير عادية من قبلها، لكنه أصر على السخرية هاتفا: أنتِ من بتوع، استني بتقولوها ايه فمصر، .. اااه .. يا عيني ع اللي حب ولا طلشي!
ارتفعت قهقهاتها المرحة المعتادة، مؤكدة له في نبرة تحمل الكثير من البشر: فكرك راح لبعيد أوي، أنا الحب وحواديته رميتها ورا ضهري من زمن، الحب ده أكبر مقلب عمله البني آدم فنفسه.
هتف في جدية: أكبر صح، أول مرة نتفق، لكن لو الكلام ده كله، مش على حبيب ناسيكي، اومال على مين!
تركت ملعقتها جانبا، وتطلعت نحوه بنظرات واثقة، مؤكدة في هدوء: ربنا.
لا يعلم لما اهتزت كل دواخله، ورغم ذلك حاول أن يبدو صلبا تجاهها، فلم يحد بناظريه عنها، وهي تستطرد في نبرة لم يسمعها تتحدث بها من قبل : ربنا، هو اللي كان دايما معايا وجنبي، اللي كل ما اقع في ضيقة، ألاقيه بيمد أيده ويطلعني منها، اللي كل ما أبقى في كرب واحكيله اللي بيحصل معايا، ألاقيه بيجبر بخاطري، ويراضيني، أنت عارف! وأنا فالمطار كنت قاعدة بدعيله لما أتأخر الناس اللي كنت مستنياهم، ولما كنت خلاص جبت أخري، قلت له يا رب أنا تعبت، لقيتك قصادي فجأة بتعرض عليا الشغل، زي رحمة جت من عنده، وده موقف من المواقف الكتير اللي حصلت معايا، معقول لما يناديني عشان أقابله، بعد كرمه ده كله، ملبيش، ولو كلفني إيه!.. إيه رأيك الأكل أهم برضو!
ارتعدت دعائم روحه، واهتزت دواخل نفسه، واستطاع أخيرا أن يحيد بناظريه عن محياها، والذي كان يعتقد أنه مخير في تقليب عينيه بعيدا عنه، فإذا به مأخوذا كليا.
تنحنح قليلا، يحاول أن يجلي صوته، من حشرجة تملكته، لا يعرف لها سببا، وحمل شوكته من جديد، حاملا بعض من طعام، دفعه بفيه، لكنه لم يستطع ابتلاعه إلا بشق الأنفس، مستعينا على ذلك، برشفة من ماء من كأسه الكريستالية التي كانت بالقرب.
لتهتف هي مستطردة، بعد فترة من الصمت، سادت بينهما، وهي لا تدرك مدى التزامه بالصلاة من عدمه: أنا بشفق عليك الصراحة، أنت كل يوم في بلد، وأحيانا بتبقى فبلدين في نفس اليوم، إزاي بتنظم مواعيد الصلاة!
ساد الصمت من جديد، يحاول أن يجد لها إجابة شافية، تعفيه من الحرج، ليجدها أخيرا وهي يتنحنح مشيرا لجواله: عن طريق الموبيل، بتظبط تلقائي مع توقيت البلد اللي أنا فيها، فبعرف أنا فأي توقيت صلاة، بسيطة أهي..
ابتسمت مؤكدة: فاتت عليا دي، شاطر.
تطلع نحوها ممتعضا: شاطر!
أكدت مترددة، وقد استشعرت أنها أثارت حفيظته من جديد: قصدي يعني، جدع إنك..
هتف في امتعاض أشد لهجة: جدع! أنتِ بتكلمي عيل صغير!
هتفت تحاول تدارك الخطأ في ذاته العلية: يا سيدي مقصدش، أنا قصدي أقول، أحسنت، بارك الله فيك، كده كويس!
وقف منتفضا في حنق غير مبرر، لا يعرف له سببا مقنعا، هاتفا في سخرية: أحسنت! وبارك الله فيك! .. أنا حاسس إن ناقص يتحط لي نجمة في كراسة الواجب، ويتنادى على اسمي فطابور الصباح، والعيال يصقفوا لي فالكيلاس.
زمت شفتيها، محاولة أن تمسك ضحكاتها قدر استطاعتها، وهي تتخيله على هيئته تلك، طفلا مغرورا منتفخ الأوداج، لديه المزيد والمزيد من تقدير الذات، يتطلع لمدرسته وباقي الأطفال من برجه العاجي، يسبهم بصوت أحد ممثلي الستينيات: أوباش، رعاع.
دفعها التخيل لتقهقه في أريحية غير قادرة على ضبط نفسها، ليتطلع نحوها لبرهة بنظرة فاضت بالغضب، قبل أن ينهض مبتعدا، وهو يبرطم بفرنسية متقنة معترضا، ما دفعها لتهمس خلفه ضاحكة، وهي تدفع بلقيمة ضخمة إلى فمها: اشتم اشتم، علموك أهلك تشتم الناس كده، ولا اكمني مش فاهمة أنت بتقول إيه! ماشي يا مؤدب، قال وعامل لي فيها ابن ذوات!
استمرت في تناول طعامها، حد الامتلاء، وما هز فيها غضبه شعرة، أو نال من شهيتها أبدا.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى