روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وتسعة 109 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وتسعة 109 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وتسعة

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وتسعة

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وتسعة

||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل المائـة وتسعة :-
الجُـزء الثـانـي.
“مُنقسمٌة تمامًا، جزء يُقاوم و جزء ينهار، جزء يحن و جزء يصد؛ جزء ينتظر و جزء يوهم نفسه إنه لا يُبالي.”
____________________________________
الإنسان لا يعود بكاملهِ بعد الفقد، دائمًا يشعر بنفسهِ ناقصًا، وكأن المُغادر قد استقطع منه جزءًا وانصرف به، وتظل محاولات البقاء صامدًا مجرد محاولات بائسة للتعايش فقط؛ وإنما الحقيقة ياصديقي إنه لا يعود شيئًا كما كان، ولا تستعيد الحياة سيرتها الأولى مهما مضى عليها من زمن.
استغرق الأمر سبع ساعات متواصلة من النوم، لم يستيقظ فيهم “حمزة” بعدما قضى ليلهِ بين ذراعيها، متوسدًا أحضانها مُتدفئًا بحرارة جسدها. سبع ساعات كاملة وهي تطوّق رأسهِ بكلتا يديها، حتى رأت خيوط الشمس تخترق الستار الأبيض الفاتح وتُنعش الغرفة بضوئها، ففتحت عيناها ونظرت نحو الشرفة المقابلة لهم، ثم أخفضت نظراتها نحو رأسهِ المسنودة على نهديّها، وبدون أن تشعر بغريزتها العاطفية التي وجهتها حينئذٍ مسحت على شعرهِ المُشعث محاولة أن تساويهِ قليلًا، وبهدوءٍ حذِر كان تسحب نفسها من أسفلهِ رويدًا رويدًا، ببطءٍ شديد، حتى بات متسطحًا على الفراش. اعتدلت في جلستها فأحست بتلك الوخزات في كتفيها ورقبتها، كتمت تأوه متألمة وهي تقف على ساقيها المندملتين، ثم جلست على الفور بعدما أحست أنهما لا يستطيعان حملها الآن، لحظات وعاودت المحاولة مرة أخرى حين استعادت بعضًا من حالتهما العادية، ثم خرجت دون أن تصدر من الجلبة ما يوقظه؛ لكن كل ذلك الحذر ذهب هباءًا، وكأنه أحس بها بعيدة عن أنفاسهِ، وبدأ شعور البرد يُغلف جلدهِ الذي سرعان ما تنشّط، وبدأت حواسهِ تثير مستشعرات المخ ليفتح عيناه، فبدأ يُدرك للتو إنها ليست بجواره. انتفض “حمزة” من نومتهِ ينظر لليمين واليسار، فـ أحس بألم يضرب رقبتهِ ويعجزه عن تحريكها بحرية، لم يأبه بذلك ونهض عن الفراش متعجلًا، فتح الباب وخرج مناديًا عليها بأعالي صوتهِ :
– سُـــــلاف!..
اضطرب قلبهِ وبدأت نبضاتهِ في الإندفاع گالذي فقد والديهِ في الطريق، وقطعت قدميه أشواطًا من الخطوات المتعجلة ومازال ينادي :
– سُـــــــلاف!!!..
خرجت بعجالةٍ أثر صوتهِ من المطبخ، وفي يديها كأس الماء المُثلج مضافًا إليه شرائح الليمون، ثم سألتهُ في تلهفٍ مذعور :
– أنا هنا.. في إيـه؟؟.
وكأن صدرهِ تلقّى الهواء فورًا، بعدما ضاق عليه گالكهف المنغلق على نفسه، بدون ذرة واحدة من الهواء. حرر تنهيدة مستكينة من جوفهِ وهو يردف بنبرته الحاملة لشئ من العتاب :
– افتكرتك مشيتي.
وبعفوية شديدة كان يأخذ الكأس من بين يديها ويشربه دفعة واحدة، كي تبرد أحشائهِ قليلًا، فـ رمقتهُ مندهشة وهي تُعقّب :
– انت متعلمتش درسك كويس!
أنزل كأس الماء عن شفتيه فارغًا وقد ارتوى حتى آخرهِ، ثم هتف دون ترددٍ :
– أنا قابل أي حاجه منك.. مجتش عليكي يعني.
وكأنه تلميحًا حادًا قصد به كشفهِ لأمر “نضال”، ظن إنه سيقابل ردّ شديد اللهجة گعادتها؛ لكنها فاجئته بتجاهلها لعبارتهِ، وعادت إدراجها نحو المطبخ ليدخل هو أيضًا في أعقابها وهو يسأل :
– فين زين؟.
فتحت المبرد وهي تجيبه :
– في البيت مع أم علي.
جلس على (مقعد البار) أمام السطح الجرانيتي الأسود، يراقبها وهي تخرج الطعام من المبرد وتضع بعضهِ في السخان الكهربائي متابعة :
– آخر النهار هخليها تجيبهولك.
ذمّ على شفتيه وهو يسألها مستهجنًا :
– خلاص استغنيتي عنه؟.
التفتت إليه وفي عينيها معانٍ محذرة، وأضافت قائلة ببعض الحزم :
– مفيش واحدة بتستغنى عن ابنها يا حمزة.. انت اللي أجبرتني تاخده عشان مسكت الثغرة اللي مقدرش أقف قدامك فيها.. وأنا مش هدخل ابني صالات المحاكم وأسعى ورا إثبات نسب مزيف.
خَفُت صوتها بعدما لمعت فيه نبرةٍ حزينة لم تستطع بقوتها أن تطغى عليها أو تخفيها :
أنا عارفه إن زين ابنك.. وانت عارف كويس إني أولى بيه منك.
لم يعترض، على عكس توقعاتها كان يعطيها أكبر هدية قد يعطيها لإنسان قط :
– عارف إنك أولى بيه.. عشان كده مش هحرمك منه أبدًا، حتى لو كان قرارك النهائي تكوني بعيد عني.
كلمتهِ الأخيرة حملت معنى بليغ، أي إنه مازال متأملًا، مازال قلبهِ يحمل أملًا في وجودها بحياتهِ، مازال يطمع فيها بعد كل ما عاناه من قسوة الظروف التي جمعت بينهما. لحظات من تبادل النظرات بينهما، ما بين متأملٍ راجي وبين عِنادٍ متأرجح. تتخبط “سُلاف” بين حقيقتهم المريرة وبين رغبتها التي لم تعترف بها حتى الآن، بين دماءٍ انسكبت على ورقة امتحانهم القاسي، وبين الظُلم البيّن الذي جرّ في أعقابهِ مستقبل كامل كان من الممكن أن يحياه كلاهما. أسبلت جفونها وهي تلتهي في إعداد وجبة الإفطار، وبكلمة موجزة كانت تُحطم ذلك الأمل المنبعث من بواطنهِ الحالمة :
– قراري النهائي انت عارفه من زمان ومفيش فيه حاجه اتغيرت.
وضعت الطبق أعلى السطح الرخامي وقبل أن تبتعد كان يداه تنالها، أمسك برسغها ونهض عن جلسته وهو يسحبها إليه، ثم سألها وعيناه تتسلط على عيناها الهاربة من نظراتهِ :
– لما ده قرارك، إيه اللي جابك امبارح؟!.
تذبذبت ما بين الأجوبة العديدة التي أعدتها مسبقًا للرد على هذا السؤال، وكأن اضطرابها قد محى من ذاكرتها كل ما حفظته مسبقًا، فطال صمتها لحظات بينما تابع هو :
– أكيد مكنتيش جايه تعزيني في أبويا اللي بتكرهيه أكتر من أي حد في الدنيا.. جيتي ليه يا سُلاف؟؟.
ازدردت ريقها قبل أن ترد بـ :
– جيت أخلص نفسي من ذنبك.. جيت عشان أقولك كان عندك حق.
مازالت عيناها تتملص من مواجهتهِ وهي تستطرد :
– حتى لو كنت مذنب، مكنش ينفع تتاخد بذنب حد تاني.
أمسك طرف ذقنها يجذبه لأعلى، حيث يرنو إليها بهذه النظرات الشغوفة، وبكل ألمٍ وحسرة كان يعقب بـ :
– متأخرة.. ياريتك وصلتي للإكتشاف ده بدري شويه.
حاولت سحب ذراعها منه وهي تتراجع للوراء، إلا إنها وجدت تشبثًا منه غير قابل للإنسحاب منها :
– مكنتش أعرف إنك مرتبطة بأبن عمك أوي كده.. وإن الثوابت بتاعتك هتنهار قدام خسارتك ليه.
رفعت عيناها تنظر إليه، فترآى له ذلك اللمعان الذي قشعر بدنهِ، وأيقظ في نفسه ذلك الحنين القاتل لـ “يُسرا”، إنها نفس النظرة المعاتبة الحزينة التي تصل لمقتلهِ بسهولة، فتراجع على الفور عن النظر إليها علّها تُبعد عنه سِهام الإتهامات بتعمّد جرحها :
– آسف.
وأرخى يدهِ عنها، فـ ابتعدت عنه قائلة :
– أنا لازم أمشي.. الفطار عندك جاهز، زيدان قالي إنك مكلتش ليك يومين.
أسرع نحوها قبل أن تخرج من المطبخ يمنعها من الإنصراف العاجل ليهتف متلهفًا :
– متمشيش يا سُلاف، أنا محتاجلك أكتر من أي وقت تاني.
هزّت رأسها برفضٍ لتقول :
– مقدرش، أنا هنا امبارح يا حمزة وسايبة زين لوحده.
فعرض عليها اقتراحهِ متمنيًا رضاها :
– نبعت نجيبه حالًا.
تغضن جبينها بإستفهامٍ :
– وبعدين؟؟.
زفر “حمزة” وهو يبعد عيناه عن نظراتها الموحية، والتي تذكّره دائمًا بما يقف حائلًا منيعًا بينهما :
– انتي نسيتي إنك مراتي.. وحقي تعيشي جمبي انتي وابني.
كانت ابتسامة ساخرة، تلك التي بزغت على محياها وهي تقول :
– انت صدقت يا حمزة؟؟.. شكلك انت اللي نسيت مش انا، إحنا عمرنا ما هـنبقى آ……
قاطعها بإنفعال وقد بدأت عصبيتهِ تبزغ بوضوح :
– هـنبقى يا سُــلاف.. وكفاية عِند ومكابرة بـقى أنا زهقت.
ضمّ يداه على ذراعيها فـ انكمشت بين يديهِ وهو يذكرّها بليلة أمس :
– انتي اللي نسيتي ازاي جيتي لحد هنا امبارح وخدتيني في حضنك.. نسيتي إني طول الليل كنت جمبك وسامع كل دقاتك، انتي امبارح لأول مرة تتصرفي من جواكي بجد.
أرخى إحدى يديه، ولمس بأصابعهِ خدّها وهو يتابع :
– خلاص يا سُلاف خلصت.. مبقاش في حد تاني عشان تاخديه مني.
انقبض قلبها من المعنى القاسي الذي تضمنته عبارته، وقبل أن ترد كان يقاطعها قائلًا :
– انتي وزين اللي فاضلين ليا.. متعمليش كده..
بدأت تتراخى عضلاتها قليلًا، أحس بذراعها الذي بدأ يثقل مرتخيًا، فلم يفوّت فرصة ضمّها إليه وهو يغمغم بخفوتٍ :
– متمشيش..
اندفن وجههِ بين عنقها وكتفها، وأنفاسهِ الساخنة تُزلزل من ثباتها الخائر، قلبها يكاد ينهزم أمام عقلها الرافض وبشدة، متأثرة بضعفٍ انتابها بين ليلةٍ وضحاها، وما أن أغمضت عيناها تحس ذلك الدفء المنبعث منه، إذ بها تفيق بإنتفاضةٍ على ذلك الصوت الجهوري الآتي من خلفهم :
– جيبتلك شوية طلبـ…… ـات!.
وقف “زيدان” متحجرًا في مكانه، ثم أخفض عيناه عنهما وهو يضحك ببلاهةٍ غير مقصودة :
– لا مؤاخذة مكنتش أعرف يعني إنكوا هنا..
تراجعت “سُلاف” للخلف وقد أولتهم ظهرها، بعدما تخضبت وجنتاها بحُمرة الحرج، بينما كان “حمزة” يدفع به للخارج وهو يزمجر متضايقًا :
– يلعن أبو اليوم اللي عرفتك فيه ياأخي.. أمشي قدامي.
وما أبتعد به حتى بدأ توبيخه بحزمٍ :
– من أمتى وانت مهتم بالطلبات؟؟.. هو انا شغلتك أمين المطبخ وانا معرفش!؟.
برر “زيدان” بعفويته القاتلة، دونما يشعر إنه تسبب في إفساد إحدى أهم اللحظات بينهما في هذه المرحلة المضطربة:
– لأ ماانا بفهم في الزوء برضو يا باشا.. عارف إنك مش هتفكر في التفاصيل دي وانت زعلان كده قولت احسن نموت من الجوع فـ روقت علينا شويه.
ثم دنى منه وهمس بصوتٍ خفيض :
– وجايبلك معايا خبر معرفش هيريحك ولا هـ يهيج الدنيا كلها فوق دماغنا.
تحفزت حواس “حمزة” وهو يستمع إلى تفاصيلهِ :
– خبر إيه؟؟.
أخرج “زيدان” بطاقة شخصية من جيب بنطاله الخلفي وناوله إياه وهو يجيب :
– الطب الشرعي كله في الكارت ده ياأبو البشوات.
حينها كانت “سُلاف” تقف على الباب تتلصص على كلماتهم المبهمة، بعدما خفت صوتهم بشكل مثير للريبة، ورأت بنفسها ذلك الكارت الذي دسهُ “حمزة” في جيبه قبل أن يصعد الدرج، فـ تراجعت للخلف بسرعة قبيل ينكشف أمر تجسسها عليه، حتى دخل “زيدان” وعلى فاهه هذه الإبتسامة اللزجة ليقول :
– منورة ياأم زين والله.
تقلصت عضلاتها بتبرمٍ وهي تعترض على نعتهِ ذلك الذي لم يروق لها :
– متقولش الكلمة دي تاني.. أنا ليا أسم وصفة تكلمني بيهم.
ثم أشارت للحقائب العديدة التي تركها جانبًا وأردفت :
– حط الحاجه في التلاجة وروح هاتلي علبة لبن خالي الدسم بسرعة.
رمقها “زيدان” مستنكرًا طلبها، فـ رمتهُ بنظرةٍ مستخفة محتقرة وهي تكرر :
– أظن سمعتني كويس.
وتركته واقفًا هكذا يضرب كفًا بكف، بينما أوفضت هي ركضًا للأعلى، كي لا تفوّت فرصة التعرف على ما يدبره “حمزة”، وكان الأمر سهلًا بعد أن ترك الأخير بابهِ مفتوحًا دون عمدٍ وهو يتحدث في هاتفهِ :
– قولي التفاصيل يا دكتور.. إيه نتيجة التشريح الحقيقية بالظبط.
صمت “حمزة” للحظات ، وبدأت بشرتهِ تتوهج بإحمرارٍ وهو يستمع إليه، مانعًا نفسه من الإنسياق خلف إنفعالاتهِ المندفعة :
– يعني النتيجة كانت متزورة من حد جوا؟؟.
حمحم “حمزة” للتخلص من تلك الحشرجة التي أصابت حلقهِ فجأة ثم هتف :
– أبويا أنا مات مسموم؟!.
اقشعر بدن “سُلاف” من مجرد فكرة الشُبهه في موت أبيه، لم تأخذها شفقة ولا رحمة بذلك الميت الذي استحق أن يعيش ذلك المصير مرتين، وإنما ترسخ في بواطنها شعورًا مرعبًا من ردّ فعل ولدهِ الوحيد، والذي قد يُضحي بآخر أمل له بالحياة في سبيل الإنتقام لوالدهِ فقط. ارتبكت.. وبدأ عقلها يهذي بتخيل النتائج والتبعات القادمة، فـ لم تتحمل بتاتًا تقبل هذه الفكرة، وفي قرارة نفسها قد أخذت القرار بالتدخل في الأمر.
دلفت “سُلاف” في اللحظة التي كاد يخرج فيها “حمزة” من الغرفة، ونظرت لداخل عينيهِ وفي عيناها إصرارًا مستميتًا وهي تقول :
– أنا هبعت أجيب زين عشان يقعد معايا هنا…..
**********************************

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى