روايات

رواية غوثهم الفصل المائة واثنان 102 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة واثنان 102 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة واثنان

رواية غوثهم البارت المائة واثنان

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة واثنان

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السابع عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
من لي سواك إله الخلق يهديني
وفي طريق الهدى والنور يبقيني،
يا واهب العفو هب لي منك مغفرةً
إلى جنابك يا رباه تدنيني يارب..
الذنب عندي يا رباه يقتلني،
والعفو عندك يا رباه يحيني
يامن يجود ولا تفني خزائنه،
إني سألتك إحسانا لتعطيني.
_”محمد الطوخي”
__________________________________
اليوم وعلى عكس المُعتاد كانت المدينة هادئةً،
لم تكن كما اعتدناها صاخبةً، أو كما عهدناها قاسيةً، بل أضحت راحمةً، رأينا فيها النور من بعد الظلام، والرأفة من العتاب، والرحمة من بعدِ العذاب ووجدنا أخيرًا للحريةِ منها الباب، اليوم مدينتنا ترأف بنا وتُنعم بدفء شمسها في قلوبنا، تلك المدينة القاسية التي ألمت الزاهد، وأتعبت الغريب ثم قست على الخشن الغليظ، ومن ثم لم تهدأ مع الشريد، وهي ذاتها التي قضت على الوحيد، ورُبما تكون قررت اليوم أن ترحمهم من جديد، اليوم..
اليوم وعلى غير غِرارٍ كل يوم، سنسهر نتابع أضواء مدينتنا حتى يهرب من بين جفوننا النوم..
ثم نُتابع طيفكم خِلسةً ونرى الأضواء في عينيكم،
ونخبركم أن المدينة برغم كونها مُضيئة، إلا أن لا داعٍ لوجود أضوائها في تواجد مُقلتيكم، فاليوم وكل يوم مدينتنا ذاتها هي التي أرشدتنا بها السبل حيث أهتدنا بالدرب إليكم سائرين نحو ضوء عينيكم..
<“كُلما حاولت أكون هادئًا، تجعلني الدنيا “إيـهاب”>
ضحك “إسماعيل” على مزاح شقيقه وكذلك “سـمارة” أيضًا فيما وقف “سـامي” يرمقهم بسهامٍ حاقدة وناقمة وغلٍ من عينيهِ، لقد حاول تمالك نفسه قدر الإمكان خاصةً حينما قام “نَـعيم” بالأشارة على باب البيت وهتف بتهكمٍ:
_أنتَ طبعك زي طبع اليهود بالظبط، تبدأ قلة الأصل والغدر وتيجي تدور على حقك، بس أنا مبديش حقوق للجُبنا، علشان كدا برة بيتي وروح دور على اللي يخصك بعيد عننا، لأن ابنك بصراحة أكيد عينتك يعني غدار ويتخاف منه، أنا لو عليا مبخافش، بس بقرف، زي ما قرفان منك كدا.
ضيق “سـامي” جفونه يتفرس ملامحه ثم قرر أن يقوم بتفجير آخر القنابل لديه في أرضهم، وكأنه وصل لمنطقةٍ ممتلئة بالألغام وقرر أن يضرب هذه الأرض لعلها تنفجر بالمارين فوقها بكل ثباتٍ وهو يشير نحو “إيـهاب”:
_قرفان مني أنا؟ طب مش قرفان من نفسك وأنتَ آوي في بيتك واحد قتل أبوه؟ إيـه؟ عامل نفسك مش داري يعني؟ ولا فاكر هتفضل مخبي كتير؟ إيـه يا “إسماعيل” متعرفش إن أخوك قتل أبوك ولا إيـه؟ والحج معاه كمان.
لم يأتي منه إلا كل شرٍ وحقدٍ، ألقى القنبلة وخرج عن طور التعقل وتوابع الإنفجار الجديد سنراها لا شك في حتمية ذلك، بالأمس كانت له واليوم تقف ضده، هو أفجج النيران وسيتلقىٰ مصيره هنا، هُنا حيث جفت صُحف الصبر ورُفعت أقلام التدوين، وأغلِقت أبواب العقول، وماهو قادم في غير المعقول، وقد تبدلت التعابير في نفس اللحظة وتخشبت الأجساد وكأنه أتى يسلب منها الأرواح، توسعت الأعين، وتجمدت الأطراف والأذن أصابها الطنين وكأنها تتصادم في البحر مع أمواجٍ صادمة؛ تقتل كل ما هو رخوٍ وتُفتته..
حينها أول من خرج من قوقعة الصدمة وطور الصمت كان “نَـعيم” الذي هتف بنبرةٍ جامدة بعدما ضرب الأرض بعصاه كتعبيرٍ منه على الغضب:
_أنتَ بتقول إيه يا خايب أنتَ؟ مجنون ولا إيـه، مخك خلاص فوت وعقلك شت منك، أخرج من هنا قبل ما تبقى خَارجتك على أيدي، وساعتها أنا هعرفك مين القاتل بجد، روح دور على ابنك بعيد عننا، شوفه في أنهي داهية تشبه الدواهي اللي أنتَ جاي منها، غـور.
أقترب “سـامي” منه يهتف من بين أسنانه متغاظًا منه لكنه اتخذ سياسة الطوفان المُدمر للكل حتى الآمنين عند هتافه:
_وأنا مش هسكت ولا هرتاح غير بحلين ملهمش تالت، ابني يرجع لحضني ويبقى معايا، يا تخرب على الكل وأنتَ والصيع اللي مربيهم أولهم، أظن خلاص أنتَ ابنك رجعلك وبقى معاك في حضنك بلاش تخسره تاني، اللي فاضلك مش قد اللي راح منك.
هدده بكل صراحةٍ وهو يتحداه بنظراتهِ حتىٰ بدأ الصراع ينشب بين العينين في محيطهما وكأنها نيرانٌ طفقت في إحراق المَطرح الآمن، وعلى النقيض هناك نوعٌ من نظراتٍ أخرىٰ تواصلت مع بعضها، حيث الإنكسار والخزي في عيني الفاعل، والصدمة والذهول في عيني المُتلقي وكأن الألسنةِ شُلت عن وظيفتها وأقدمت العين بكل شجاعةٍ تقوم بمهمتها، وقد صدح صوت “سامي” في الأرجاء يُعلن التهديد من جديد ذاكرًا اسم “إيـهاب” فوجده يتخطى حواجز الصدمة مثل الخيل الجامح قافزًا بأقصى تهوره ثم اصطدم به يفرض هيبته الطاغية وهو يسحبه من عنقه ضاغطًا عليه بقوةٍ حتى أقتربت منه زوجته صارخةً وهي تتولى مهمة إبعاد فيما هتف “إيـهاب” ما بعثر الثبات وأدخل الشتات بقولهِ:
_بما إنك دكر أوي وفاتح صدرك كدا في وشنا، أنا كمان هوريك الرجولة عاملة إزاي وهعلمك على أيد المعلم زي ما بيقولوا، تفتكر أنتَ اللي قتل أبوه وعاش حياته عادي، هيعز عليه يقتل واحد ****** زيك أمه عالمة من عوالم الغجر؟.
أنهى حديثه لتزداد الغيامة في عينيه والقوة في قبضتيه وقد تلاشي السمع عن أذنيه بعدما وقع أسيرًا صراعٍ بين الماضي والحاضر حيثما أزهق روح أبيه والآن يُكررها مع غريمه والهدف فقط الثأر لأجل طفولته المهدورة حتى أعاده لرشده صوت “إسماعيل” الذي وبالرغم من آلام جسده الذي أنهش عظامه إلا أنه نجح في أن يُصبح حائلًا بين الجسدين ووقف يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة فيما هتف “إيـهاب” الذي أمسكه “نَـعيم” يسيطر عليه:
_أقسم بالله لو ما خرجت من هنا بكيفك لأخليك دواسة في الأرض الجزم تفعصها وهقتلك، هقتلك زي ما قتلت مرة وعادي أكررها اتنين وتلاتة طالما المقتول **** زيك كدا يبقى يستاهل إني أجيب رقبته تحت رجلي.
زادت حدة النظرات بين الجميع وقد ترك “سامي” المُحيط لهم وقبل أن يُجليه منه ألتفت له لهم يُطلق تهديده الأخير هاتفًا بنزقٍ:
_أنا لو ابني مجاش لحد عندي متزعلوش مني.
أنهى تهديده ورحل ليعم الصمت في المكان من بعدهِ وكأنه أتى مثل الأمطار الإعصارية تقتلع الأشجار وتنشر الدمار، تشبه تلك التي تأتي فجأةً مُحملة بغياهب السحاب المُظلمة ومعها الرياح ويرافقها الأتربة، ومن بعدها تختفي شمس الربيع، وتظهر الغيوم المُظلمة، وقد وقف “إيـهاب” بينهم يكره نفسه حتى وصل لمرحلة العجز عن رفع عينيه لمواجهة البقية، وقد تحرك هو الآخر يهرب منهم، أو هكذا ظن أنه يهرب من عدوٍ، لكنه لم يعلم أن العدو يسكنه ويعيش في جوفهِ، هذا المُدعىٰ “إيـهاب” كُلما حاول أن ينجو بنفسهِ في عالمٍ هاديءٍ ذكرته الدنيا أنه كان ولازال “إيـهاب” ومن الجميع يُهاب.
_________________________________
<“مثلك يستحق أن يفرح، الحُزن لم يُخلق لكَ”>
في قاموس الأغبياء فاقد الشيء لن يُعطيه، وفي قاموس الضعفاء من فقد شيئًا إذا وجده يحسب نفسه هو الأحق بِـه، وفي قاموس الرُحماء _وهم قلة قليلة_ فاقد الشيء هو أحق من يُعطيه لأنه أكثر الناس درايةً بحاجة الآخرين إليه.
في حارة العطار تحديدًا وسط اليوم قُبيل الغروب..
خرج “يـوسف” من غرفة الرعاية التي أجلسته بها والدته فرضًا وإجبارًا وهي تهتم بِـه بعدما بدل ثيابه وقبل خروجه من الشقة أوقفته أمـه بقولها ملهوفةً عليه:
_رايح فين يا حبيب عيوني؟ أنتَ لسه تعبان.
ألتفت لها يبتسم بقلة حيلة وهتف مُرغمًا على الحديث أمام خوفها وقلقها عليه بتلك الطريقة التي تسرق لُبه:
_أنا مش بتاع قاعدة وأنتِ عارفة، وسامع كلامك من الصبح وعمال آكل وأشرب ووضعي كدا غلط مش هينفع أوصفه، بس هنزل أتمشى علشان وعدت “أيـوب” هروحله ونشرب عصير مع بعض، مش هتأخر والله، حضري الغدا لحد ما أجيلك.
أومأت له موافقةً فيما أقترب هو منها يضمها بين ذراعيهِ ثم مسح على ظهرها ورأسها وهتف بصوتٍ مخلمي ودافيء:
_ربنا يزودلي عمري ويبارك في عمرك علشان أعيش معاكِ قد اللي فاتني، عن إذنك ووعد مش هتأخر عنك، سلام.
لا يعلم لما اليوم يشعر بطاقة حُبٍ نحو الجميع، يغدو كما الطفل الذي حصل على إذنٍ بالبقاء في الشارع بين الصبية عشية العيد يقضي الليل ساهرًا بملابسه الجديدة ومعه لعبته المفضلة وجيبه الممتليء بالنقود الجديدة حادة الطرف في شاكلة “العيدية” واليوم تبدو مدينته هادئة على عكس اهتياجها عليه، وقد تحرك نحو الأعلى لسطح البيت ليجد ضالته جالسةً بجوار القطط تضع لهم الطعام فاقترب يجلس على عاقبيه فابتسمت له بعينيها وكأن المدينة أعلنت الأضواء ورفعت الظلام فيما هتف هو بنفس الهدوء:
_لو كل مرة معاكِ همشي ورا إحساسي أكيد هييجي يوم وهبطل أسمع لأي صوت تاني جوايا.
ابتسمت “عـهد” وهتفت بنبرةٍ عميقة ودافئة تشبه الهدوء المقتبس منه هو:
_يا رب يا سيدي هو أنا أكره يعني؟ أنا قولت أطلع آكلهم قبل ما أروح الشغل دي أرواح برضه وهتحاسب عليها، و “وعـد” كتر خيرها عمالة تجمع فيهم حواليها وخلاص عرفوا إن راحتهم هنا، بقيت أحس بالمسئولية ناحيتهم، أنتَ بقى طلعت ليه وأنتَ تعبان لسه؟.
حرك كتفيهِ وهو يبتسم لها بحيرةٍ وحقًا هو لم يعلم لما صعد لهُنا لكنه أنصاع لصوتٍ مُبهمٍ بداخلهِ أوصله لعندها وقد مد كفيه يمسك هِرَّة صغيرة من وسط البقية ثم مسح على بطنها فحركت هي رأسها نحو كفه تمسح عليه؛ فقالت “عـهد” بنبرةٍ أقرب للضحك تمازحه:
_عارف؟ كان حلم حياتي وأنا صغيرة إني أفتح سوبر ماركت كبير ويكون عندي بيت صغير زي بيوت الكارتون وبيطل على جنينة واسعة ويكون عندي مطبخ باصص على الزرع والشمس وأقف أعمل كيك ومخبوزات، وكل القطط تكون صحابي، حققت نص الأحلام ولسه الباقي بس علشان كدا بحب القطط تحديدًا وأنا في سنة خامسة، أنتَ بقى إيه أحلامك مع القطط؟.
سألته وهي تطالعه مُبتمسة العينين والشفتين فيما رفع عينيه نحوها وابتسم ساخرًا بوجعٍ طفق يظهر في عينيهِ:
_وأنا في سنة خامسة تحديدًا كان حلمي أنام متعشي والله، بس من غير ما استنى بقى حد ينام وأقوم أدور على أكل، وكان نفسي “يـوسف” تربية “مصطفى” ميضعش مني، شوفتي كانت أحلام أكبر مني إزاي؟.
استشفت هي القهر في حديثه ونظراته وهو يهرب من نظراتها وقد حركت كفها يشق الطريق نحو كفه تمسكه ثم هتفت بصوتٍ تملئه العزيمة والقوة:
_كانت أحلام واعية وعاقلة لطفل كبرته الأيام، ممكن يكون “يـوسف” التاني ضاع منك بس لسه جواك، بعدين أنتَ نسخة من باباك، بشهادة العيلة كلها سواء مامتك أو أختك أو كلهم قالوا إنك نسخة تانية منه بس الحياة عدلت فيها شوية، بعدين متقلبهاش نكد، أنا مبسوطة النهاردة ورايقة.
طالعها بتعجبٍ بعض الشيء بسبب حديثها وذلك لأن حالته لم تختلف عن حالتها البتة، بل اليوم يشعر بالراحة وقد يكون السبب مجهولًا لكن يبدو أن أضواء عينيها أفترشت في أطراف المدينة ووصلت حتى أوسطها وحينها وقف هو وتحرك صوب اللوح الخشبي المُعلق ثم أمسك القلم يرجع لعادته القديمة معها حين كتب:
_أخبروا المدينة أن تُطفيء أضوائها اليوم،
فلا حاجةٍ لها أمام لمعة أضواء عينيكِ.
كتبها راضيًا بوجهٍ مُبتسمٍ ثم أقترب منها يجلس على عاقبيه ولثم وجنتها في نفسها الحركة المُفضلة لديه معها لكن وبكل آسفٍ صدرت شهقة كبيرة من فم “وعـد” التي صعدت لتوها ورآته يُلثم وجنتها وقد خجلت “عـهد” من الموقف برمتهِ فيما حمحم هو بخشونةٍ وقبل أن يُبريء نفسه أمامها هتفت هي بنبرةٍ ضاحكة:
_عادي عادي، مش أنتَ أتجوزتها؟ يبقى مش عيب.
أنهت جملتها بكل بساطةٍ وهي تضحك له وقد أقترب منها هو يحملها بين ذراعيه ثم أدارها وهو يمسكها بكفيه لتشبه العصفور الحُـر في السماء ثم لثم وجنتها وهتف بحماسٍ طفولي:
_علشان جدعنتك دي أنا هجيبلك كل حاجة حلوة.
صفقت هي بكفيها معًا فيما تركها هو ثم أعتدل في وقفته وأشار للأخرى بحديثه خفيةً مقتضيًا بمنطق الصغيرة:
_أبقي أتعلمي من أختك يا “عسولة”.
رحل بعد جملته يترك المكان بينما هي فقد نفذ صبرها من وقاحته وقد قررت أن تنظر للوح المُعلق فرآت جملته المكتوبة لأجلها وقد تبسمت بعينيها ترفع الأضواء أكثر وقد تمنت أن يرى هو تلك الأضواء، وسرعان ما تذكرت أن سبب لمعة هذه الأضواء هو وليس غيره.
بعد مرور دقائق كان “أيـوب” يجلس في حديقة البيت ويُنقيها بتلاوته للقرآن الكريم بصوته العذب وتلاوته الخاشعة على غرار تلاوة الشيخ “محمد صديق المنشاوي”، المكان كان يشبه قطعة من الجنة فوق الأرض؛ حيث صوت التلاوة الخاشعة والهدوء المحاوط للحديقة بعيدًا عن الضجيج في الخارج ورائحة الزرع الأخضر مع الزهور المُفعمة بالحياةِ ورائحة المياه موضع سقاية الزرع، وقد ولج “يـوسف” في تلك اللحظة ووقف يشعر بالإنتشاء في أوردتهِ خاصةً مع صوت “أيـوب” ووقوف بعض الطيور البيضاء على أغصان الأشجار الصغيرة وكأنها رُقعة سلامٍ وسط توبٍ من قماش الحرب.
أقترب منه وجلس مقابلًا له وما إن انتبه له “أيـوب” أغلق دُفتي المُصحف وهو يذكر ربه سرًا أو رُبما يُغمغم بحديثٍ لم يلتقطه “يـوسف” كعادته، بينما رحب به الآخر ثم عدلَّ ذراعه المُصاب في الحامل الطبي وحول نبرته للمزاح قائلًا:
_دي الجنينة نورت بيك، مش كنت كملت جميلك وجيبت الحاجة الحلوة معاك بدل ما أنتَ داخل كدا أيد ورا وأيد قدام؟.
ابتسم “يـوسف” له ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة يوضح له:
_ولا تزعل نفسك عندي أنا دي، بس هي نايمة علشان فضلت سهرانة جنبي طول الليل، صعبت عليا أصحيها قولت خليها نايمة أحسن، ولا أصحيها وأكبر للموضوع بتاعك؟.
لاحظ “أيـوب” حديثه الذي يخصها وكأنه يثبت صك ملكيته فيها فهتف بتهكمٍ هو الآخر وهو يحرك كتفيه:
_طب وفيها إيـه يعني؟ ما أختي فضلت طول الليل في حضني وبايتة جنبي، محدش أحسن من حد، أستناني هقوم أجيب اللمون علشان أشوف أنتَ عاوز إيـه، عن إذنك.
تركه وولج للداخل وهي دقائق قليلة مرت عليه بمفردهِ تبعها عـودة “أيـوب” يمسك الزجاجتين فوق الحامل المعدني وجلس مُقابله يُعطيه العصير وهو يسأله عن سبب الزيارة فهتف الآخر بثباتٍ بعض الشيء يواري خلفه الحماس:
_كل ما في الموضوع إني بكسر القواعد وبرجع في كلامي علشانك، معاك مُهلة شهر من دلوقتي وأختي تكون عندك هنا في بيتك وفرحكم يتم، وصدقني أنا دي هتبقى تاني مرة أغير رأيي في حاجة وأرجع في كلمتي والمرتين بسببك.
هتف كلمته وهو يُشير برأسهِ عليه فيما ذُهِلَّ “أيـوب” وشكك في أمر الحديث وقد بدا كل ذلك واضحًا على ملامحهِ وهو يسأله بلمحة تعجبٍ:
_أنتَ بتتكلم جد؟ مش قولت في نص السنة بعدها آجلتها وقولت لما نفوق لنفسنا شوية؟ إيـه الحكاية؟ بعدين مش غيران على أختك ولا خايف عليها خلاص مني؟.
في الأغلب كان يذكره بحديثه السابق وقد أبتسم له “يـوسف” وهتف بصدقٍ وحبٍ له تلك تقريبًا هي المرة الأولى التي يتحدث فيها معه بتلك النبرة الأخوية:
_كنت!! مابقيتش خلاص أنا لما جيت هنا كان السبب إني ألحق أعوض أي حاجة من اللي فاتتني من غيرهم، ألحق أتمتع بحضن أمي وأنتَ حاسس بكلامي يعني إيه واحد يتحرم من أمـه، بس وعهد الله لما جيت هنا وعيشت معاهم أنا نسيت أصلًا حصلي إيـه، وأختي مش هكدب عليك هي كل حاجة عندي، بس خلينا واقعيين أنا لو خايف عليها فعلًا، يبقى هخاف عليها من غيرك، ولو هي أختي فأنتَ أخويا ومتقلش غلاوة عنها عندي، ولا أنتَ بترجع في كلامك بقى؟.
ضحك له “أيـوب” وقد تأثر من حديث الآخر له فيما أقترب منه “يـوسف” بالمقعد ثم هتف بصدقٍ أكبر من سالفه:
_أنا لما مشيت ورجعت تاني “قَـمر” قالتلي كل حاجة حصلت في غيابي وقالتلي كمان إنك مسيبتهاش ولا سيبت أمي في غيابي وفضلت تدور لحد ما عرفت مكاني، كل دا يخليني متأكد إنـك لازم تكون معاهم، وتستاهل تفرح علشان للأسف أنا مبهدلك من ساعة ما ظهرت، أتمنى تكون مبسوط.
عانقه “أيـوب” بذراعه الحُر وهتف بحبٍ وامتنانٍ له:
_مبسوط، مبسوط وفرحان بيك وإن ليا صاحب قلبه عليا وعاوز يفرحني زيك كدا، وفرحان إنك رغم كل حاجة بتفكر في غيرك لسه، ربنا يسعدك ويزيد إحساس فرحي دا في قلبك.
ربت “يـوسف” على ظهرهِ في لحظة الصفاء التي قلما تتواجد بين الاثنين بكل تلك المشاعر وقد مسح الآخر فوق رأسهِ وهو يبتسم بسعادة سجينٍ أنفك عنه الأسر ونال الحرية بهواها وشمسها والسماء بقمرها، وآهٍ من هذا القمر، قَـمرٌ فتن الزاهد، وسرق عنه لُبه، وسكن وتخلل في جُبه، واليوم وغدًا وحتى نهاية العُمر سيحكي العالم عن رجلٍ زهُدَّ العالم وتاب عن الهوىٰ، ويوم أن أحب عشق القمر ولقىٰ مصرعه أمامها
وكأنها تقتل زُهده وكل ما عنه أنتوىٰ.
__________________________________
<“لقد ضاع العُمر مني ومعه ضيعني، فمن أنا؟”>
في مشفى الأمراض العقلية..
جلس “مُـنذر” بغرفة “محمود” يُتابع معه تطور الحالة حيث تحول من إنعدام الحديث إلى التغمغم بكلماتٍ مُبهمة من أحاديثٍ متفرقة غير مترابطةٍ جعلت الآخر يسحب مقعده ثم جلس بجوار فراشه وهتف بثباتٍ بعض الشيء:
_أنا مبسوط إنك على الأقل بقيت تتكلم، بس صدقني لازم تقولي أنا فيك إيـه، “محمود” أنتَ عاقل وواعي وكل المؤشرات بتقول إنك سليم، يعني أنتَ بتمثل أو مستسلم وفي كلتا الحالتين هتضيع، هما لو آذوك فعلًا مرة، أنتَ بتأذي نفسك مليون مرة، مش عاوز تخرج من هنا؟.
ازدرد الآخر لُعابه وهتف بصوتٍ متعب وثقيل كأنه يتحدث بالإجبار:
_عاوز إيـه؟ أنا يا سيدي مجنون وابن مجانين، وعيل زبالة، وراجل *** علشان حبيتها ووثقت في أخويا، هخرج ماشي وأنا دلوقتي عاقل علشان واخد العلاج، خلي العلاج يطير كدا وأديني حريتي، هيحصل إيـه؟ ولا أي حاجة، بلاش، خليني خلاص وافقتك وخرجت من هنا، أنا مش قدهم برة، مش قد نظرة إني مجنون في عينهم، لو أنا هنا بموت مرة واحدة في اليوم، برة هموت ألف مرة لما عيني تقابل عيونهم، أنا ماليش حاجة أخرج علشانها، أنا هنا مبسوط، أخرج بقى قبل ما الحالة تشتغل.
أولاه ظهره بعد جملته الأخيرة فيما شعر “مُـنذر” بالإحباط تلك المرة، بعد مرور ما يقرب ثلاث أسابيع معه في جلسات نفسية وعصبية وعلاج سلوكي، وصل الأمر لهنا والأخير يعود لنفسها نقطة البداية وقد خرج “مُـنذر” من الغرفة فوجد أمامه “فُـلة” تتحدث منفعلة مع أحد الأطباء بالمشفى:
_يا دكتور أهم الحاجة الرأفة بالحالة، مش مهم إنك توصل للنتيجة الحتمية قد ما مهم إنك توصل معاه إنـه يرتاح ويتطمن، حضرتك مصمم معاه على أسلوب القسوة وهو مازال بينتهج الأسلوب الهمجي لأنه فاكره دفاع عن النفس، دول حالات نفسية قبل ما تكون مَرضية، يعني المهم وجود الرحمة تجاههم، لآخر مرة هفكر حضرتك إن الأسلوب دا مش هينفع مع المرضى، أتفضل حضرتك.
أشارت له بالإنصراف فيما ركزت هي بعينيها على الطريق أمامها فوجدت “مُـنذر” يقف في مواجهتها فابتسمت له بإقتضابٍ وهي تتذكر طريقته معها صباحًا وقد أقترب هو منها يسألها بثباتٍ:
_بعد إذنك يا دكتور، “محمود الألفي” ليه مين غير أخوه وخالته وطليقته اللي أتجوزت أخوه؟ أو مين فيهم يخصه حالته أكتر من بينهم؟.
أنتبهت له وهي تقول بحيرةٍ تجاوبه على سؤالهِ:
_مش عارفة الحقيقة لأن “جـواد” هو اللي عارف الحالة بكل ملابساتها، ممكن حضرتك تيجي المكتب وتسأله هو هيفيدك، لو حضرتك فاضي دلوقتي يعني، حاليًا وقت استراحة.
حرك رأسه موافقًا لها ثم تبعها نحو مكتب أخيها وقد طرقت هي الباب ثم فتحته ليظهر له المنظر الذي جعله يبتسم بعينيهِ بحنينٍ فاض وقلبٍ بكى حيثُ وجد “جـواد” يحمل صغيرته على أحد ذراعيه ويُطعمها بكفهِ الآخر الشطيرة التي يمسكها وهي تتدلل عليه فيما يُلح هو حتى أنتبه لهما فأنزلها تقف بجوارهِ يُرحب بضيفه الذي عاد أدراجه منتبهًا إليه وقد هتف الأول يخبر شقيقته بقولهِ:
_معلش يا “فُـلة” خليها تكمل أكلها وأنا هقعد مع دكتور “مُـنذر” شوية نتكلم مع بعض، أتفضل يا دكتور.
جلس “مُـنذر” على مقعد المكتب وجلس الآخر بقربه فيما تولت هي مهمة التعامل مع الصغيرة، وقد بدأ الطبيب حديثه قائلًا:
_أؤمر يا دكتور، أتمنى مايكونش فيه حاجة هنا مزعلاك أو متضايق، أنا المهم عندي راحة الشخص اللي قدامي حتى في المعاملة الشخصية، أنا سامعك.
ابتسم الآخر له بثباتٍ وهتف برزانةٍ بعض الشيء:
_إطلاقًا، أنا هنا مرتاح جدًا في كل حاجة وفي المكان وشايف إني بتعامل كويس والمكان كمان بيعاملني كويس أوي، أنا بس بسأل عن “محمود الألفي” المفروض إنه ليه مين يتولى أمره غير أخوه وخالته؟ مفيش حد تاني؟.
_هو للآسف فقد كل عيلته، يعني والدته وهو في ثانوي بعدها والده بعدما أتخرج من الجامعة وخالته هي اللي جابته هنا بس لأنها خافت عليه بعدما أخوه خد كل حاجة منه وخافت يترمي في الشارع، وكانت بنتها باين بتتردد على هنا وتطمن على حالته، بس لما يأست من تغيير الحالة أو تقريبًا كانت بتضايق من وضعه بطلت تيجي.
أومأ متفهمًا ثم تنهد بعمقٍ وحرك رأسه نحو الجالستين فوجدها تحمل الصغيرة على أحد فخذيها ويبدو أنها تسرد لها قصة أو ما شابه ذلك وهي تُطعمها فيما ضحكت الأخرىٰ وهي تتناول طعامها وحينها أبتسم هو لهذا المظهر الممتليء بالحنين وقد تلاقت نظراته بنظرات “فُـلة” التي رفعت رأسها بغير قصدٍ لتجده مُمعن النظر معهما وحينها أبعد هو عينيه ثم استأذن وترك المقر، الآن يضحك على نفسه ساخرًا حيث كُلما وجد طفلًا بجوار عائلته يتخيل نفسه موضعه، وتلك المرة تحديدًا يصعب عليه التخيل.
__________________________________
<“ركضت الخيول في الساحة لكن الحرب بداخلنا”>
أنا المهزوم في حربٍ خسرتها طوال عمري،
وهذا لم يُحزنني، بل ما يُحزنني حقًا أن الهزيمة في كل مرةٍ سببها هو أنا، أنا المهزوم وأنا الحرب،
أنا الحرب القائمة بيني وبيني، بل أنا ساحة القتال بذاتها، والقاتل هو أنا، والمقتول أيضًا كان أنا.
نصف اليوم تقريبًا أنقضى عليه في تلك الساحة لكن الأمر الغريب أنه أمر بإطلاق سراح كافة الخيول وبالأخص الجامح منهم، القرار المتهور الذي أخذه غفلةً وقرر أن يُحاربهم عن طريق إخراج النيران من جـوفه في أكثر الأشياء التي يُحبها لكنه الآن يستخدمها كعقابٍ لنفسه وهو يحاول مرارًا ومرارًا الركض بينهم حتى رغم إختلاف القوىٰ بينهم، لكنه لازال يحاول، يحاول وهو يرى ومضات الماضي تقترب منه، وهدم المستقبل نصب عينيه،والمخاوف تمد كفيها فوق عنقه وتُضيق عليه الخِناق، ظل هكذا حتى ظهر له “إسماعيل” على الطرف الآخر من الساحة وأقترب منه بخطى متعرجة جعلت “إيـهاب” يسبُ ويلعن نفسه حتى تلاشت المسافة بينهما وهتف شقيقه في وجههِ بصوتٍ عالٍ:
_هتموت نفسك!! كل ما تغضب تيجي تجري وسطهم كأنك في حرب معاهم؟؟؟! وآخرتها إيـه؟ بتهرب مني ليه يا “إيـهاب” وأنا مش فارق معايا غيرك أنتَ في الدنيا دي، هتموت نفسك وهتعيش العمر كله بحزنك وتعبك دا، ولو دا حصل بجد يبقى أنا اللي المفروض أكره نفسي.
تنفس “إيـهاب” بصوتٍ عالٍ وظل صدره يعلو ويهبط وحتى الآن لم يجد ما يتفوه بـه فيما رفع “إسماعيل” وجهه بكفه ثم سأله بصوتٍ متألم:
_أنتَ قتلته بجد؟ عملت كدا يا “إيـهاب”؟.
لم يعلم أنه بذلك يضغط عليه ويحمله فوق طاقته وقد صرخ “إيـهاب” في وجهه بإندفاعٍ عنيفٍ يُفجر البُركان الثائر في جـوفهِ:
_أتــنيلت على عيني أيـوة، قتلته ومش زعلان ولا ندمان وحتى لو حصل إيـه كنت هقتله تاني وتالت ورابع، قتلته ولو الزمن أتكرر تاني برضه كنت هقتله والمرة دي هكون قاصدها، ولو فيه حاجة واحدة بس عملتها عدلة في حياتي هتبقى قتلي ليه هو، قتلته ومعاه قتلت نفسي، طلعت غبي وأهطل، علشان هو مات مرة بس أنا بموت كل ١٠٠ مرة، هو مشي وسابلي الذنب في رقبتي، وأهو بكرة هبقى أب وكل يوم هنام وأنا خايف برضه، عرفت أنا بخاف ليه من العيال الصغيرة؟ علشان كلهم بيفكروني إني ولا يوم كنت
عيل زيهم.
تألم وهو يخرج ما في جبعته أمام شقيقه وقد ضمه “إسماعيل” يضمه بكلا ذراعيهِ وقلبه ينتفض بين أضلعه خوفًا وحزنًا لأجل شقيقه، وقد بادل “إيـهاب” العناق يتشبث به هاتفًا بضياعٍ:
_اليوم دا خطفك وكان منيمك في البيت اللي هنا في النزلة، كنت بلف عليك زي المجنون لحد ما عرفت وجريت عليك، ساعتها خدتك منه وأنا شايلك زي كل مرة بس ماكنتش عارف هروح فين، عارضني ووقف في وشي وساعتها زقيته بعزم ما فيا ووقع على قالب حجر ونزف ومات في ساعتها، ومحدش لحقني غير الحج اللي كتم على السر وساعتها قطع عهد قدامي وقدام ربنا إني دراعه اليمين وروحي كلها معاه هو أمين عليها، وإنه مستحيل يسيبني أدخل الأحداث أو سيرتي تيجي، وساعتها بكرم ربنا البيت وقع على كل اللي فيه وبقوا تحت الرُكام، وقلبي مات معاهم هناك، محياهوش غيرك أنتَ.
نزلت عبرات “إسماعيل” على وجههِ يشاركه الوجع فيما تنفس “إيـهاب” بعمقٍ جاهد لكي يكون بكل هذا القدر ثم هتف بصوتٍ مُحشرجٍ:
_مش عاوزك تخاف مني، ولا عاوزك حتى تفكر في حاجة ولا تحسبها وتبعد عني، أنا هنا في الدنيا دي معرفش حد فيها، أعمي ماشي يخبط في الكل وأطرش مش سامع حد، وأنتَ عيني اللي بشوف بيها، أنا دلوقتي بس أرتاحت لما أنتَ عرفت، بس واللي خلق الخلق كلهم، أنا مش بالجحود دا، أنا كنت عيل ساعتها ومغلول منه بس واللـ..
قبل أن يكمل حديثه أبتعد عنه شقيقه وهتف بنبرةٍ مُتعبة:
_سيبك من كل حاجة واللي فات أرميه، أنا وأنتَ تعبنا في الدنيا دي أوي، شوفنا الذل والهم، بس قصاد كل دا كسبانين بعض ومفيش حاجة ممكن تخليني أخسرك غير إن الموت يدخل ويفرق بينَّا، علشان كدا ورب الكعبة أنا مش زعلان ولا متضايق ولا خايف، أنا قدامك صغير أوي وأنتَ كاتم في قلبك وساكت، وعلشان كدا دخلت السجن ورضيت بيه ولما جيتلك قولتلي يمكن تكون بتتعاقب على حاجة غلط عملتها ومدفعتش تمنها، سجنك كان تمن الغلطة دي؟.
في نفس التوقيت بداخل البيت كان “نَـعيم” جالسًا مع “سـمارة” يقص عليها ما حدث وقتها وكيف قاوم هذا الصغير طغيان والده الفاسد، وأخبرها عن قسوة الليلة التي قُتِلَ هو فيها على يد والده، وليس العكس هو ما صار، وقد أنهى الحديث ثم أضاف بصوتٍ متعبٍ لأجل أبنه الرَوحي:
_شوفي يا بنتي، دا ماضي وفات خلاص، بس أقسملك بالله جوزك أرجل واحد تشوفيه في حياتك، جوزك راجل نزيه وحُـر، خيل وفي عمره ما نخ لحد ولا قبل شُفعة ولا إكرامية، فحت في الصخر ونجىٰ بأخوه من الطوفان، عمره ما قبل الحرام ولا رضي بالمعووج، ويوم ما حس بيكِ خد الطريق العدل بحلال ربنا، شوفي ناوية على إيه وأنا معاكِ، ومحدش هيقدر يجبرك على حاجة.
تلاقت النظرات ببعضها منه ومنه وفي ساحة الركض أيضًا تلاقت النظرات وقد نكس “إيـهاب” رأسه وهو يوميء بها مؤكدًا وفي هذه اللحظة أتت “سـمارة” نحوهما بوجهٍ شاحبٍ وملامح ذابلة وكأنها زهرة توقف راعيها عن سقيها، وقد لمحها “إسماعيل” آتيةً فأشار برأسهِ نحوها ليفهم الآخر ذلك وقد أنسحب “إسماعيل” من المحيط تزامنًا مع إقترابها من الآخر الذي أزدرد لُعابه بخوفٍ من إقترابها منه وهي تقف نصب عينيه ترفع رأسها شامخةً على خَيالها وقد فاجئته حينما فرقت ما بين ذراعيها وهتفت بنبرةٍ باكية:
_تعالى، تعالى يا سي “إيـهاب”..
تهدج صوتها وهي تُناديه وتشير له بالإقتراب وقد أرتميٰ عليها يُعانقها بين ذراعيه وكأنه شريدٌ تغرب في شتى البُلدان عن موطنهِ الحبيب وأضحى أمر العودة شبه مُستحيلٍ، يُشبه النازح من أرضهِ هاربًا بجسدهِ فيما ظل الفؤاد محله، أمانه الآن بجوارها يُشبه الأمان ذاته عند فتح المعابر بين الحدود ليعود الشريد لموطنهِ الحبيب، والأمر ليس في أمر الفراق بل في الأمان، وأي أمانٍ يناله المرء بعيدًا عن الموطن الحبيب؟.
__________________________________
<“أغريبٌ أنتَ عني؟ ألم تدرْ أنكَ مني”>
الوقت دومًا يمر كلمح البصر برفقة من نُحب، فتمر السنون ثوانٍ، وتمر الساعات طرفة عينٍ، وتمر اللحظات المؤنسة مثل مرور المياه بين الأنامل، وهكذا هي حركة عقارب الساعة في هذا التوقيت المار عليهما سويًا…
قضى “مُـحي” يومه كاملًا برفقة شقيقه في وكالة “العطار” ولم يذهب لمحاضراتهِ الجامعية حتى أنه لم يكترث بأمر هاتفه الذي أخذ يصدح برقم الفتيات العديدات، لكنه قام بتقديس لحظاته بجوار شقيقه حتى سأله شقيقه بتعجب:
_ولا!! أنت‌َ غفلتني ومروحتش الجامعة صح؟؟.
كان مُقررًا قبل أن يسأل وقد أنتبه له شقيقه الذي حك فروة رأسه وهتف بسخريةٍ:
_عاوزني أروح علشان محاضرتين لو بعت لواحدة صباح الخير هتيجي لحد عندي تشرحهم؟ بعدين أنا بحب أقعد معاك، ولا أروح الجامعة بقى وأشوف البنت هناك؟ مش كدا أحسن برضه؟.
ضحك “تَـيام” مُرغمًا على ذلك ثم تنهد مُطولًا وهتف بحزنٍ حينما تذكر موقف الأمس المار عليه مع “مُـنذر” حينما ذهب إلـيه بعد الإقتحام الذي صدر في الحارة:
_أنا إمبارح روحت أشوف “مُـنذر” بعد اللي حصل وأنتَ عرفته دا، بس للأسف مرضاش يخليني أهتم بيه، وقالي إني مش متعود حد يقرب منه، والغريب كمان إنه قالي أخليني بعيد عنه لو عاوز أكون في أمان، أنا مش فاهمه ومش فاهم ماله بس والله أنا عاوز أساعده، مش عاوزه يقفل على نفسه ويفضل لوحده، الواد مُحصن يخربيته.
ضحك له “مُـحي” ثم أقترب منه يسأله هامسًا بخبثٍ:
_تحب أبعتله واحدة تروق عليه؟.
لطم “تَـيام” جبهته بكفه يائسًا فيما كتم “مُـحي” ضحكته وهتف من جديد بنفس الهمس وكأنه يُفشي أسرارًا دولية:
_أسمع مني الواد دا محتاج حضن حنين، محتاج إيد تطبطب عليه وكتف يسند راسه، أنا بموع من الحاجات دي مش سكتي، وأنتَ حلو بس مش هتجيب سكة، الواد دا عاوز حد يحتويه، وأنا عندي مكان قديم هو اللي يحتويه بالجامد أوي.
أنتبه له “تَـيام” وهو يسأله بلهفةٍ:
_شقة دي يعني؟
_مفروشة، شقة مفروشة.
هكذا عدل “مُـحي” الحديث الصادر من شقيقه حتى أغمض “تَـيام” عينيه وأطبق شفتيه فوق بعضهما وهتف بغيظٍ منه ومن وقاحته أو بالأحرىٰ إنعدام أخلاقه:
_أنا تعبتلك، ياض مش قولت بطلت السكك الهباب دي، شكلك عاوز تتروق من “إيـهاب” بجد، آه لو عرف.
أبتسم “مُـحي” بتهكمٍ وجاوبه متشدقًا بنزقٍ:
_ آه لو عرف؟ عارف كل حاجة عني يا حبيبي حتى قعدتي معاك هنا عارف بيها، بس أنا بطلت أروح مش علشان “إيـهاب” مانعني، أنا بطلت علشان أبوك كل ما يبصلي عينه بتقولها إني مش طايقني، بيشوف أخوه فيا، عمره ما قالها بس عينه كانت بتقولها وأهو يمكن بكرة أعقل وأبطل.
مد “تَـيام” كفه يمسح على كتف شقيقه ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُشدد من أزرهِ ويمسك بكفهِ:
_وأنا معاك أهو، والله أنا فرحان بيك إنك واحدة واحدة بطلت السِكة دي، ولسه هتبطل كل دا، بص أنا درست في الجريمة والعقاب في كلية الحقوق إن كل إنسان فينا عنده وازع الإجرام، وعنده محركات الخطورة بدليل جرايم القتل اللي بتحصل فجأة من غير حساب، المُحرك لكل دول الظروف، وأنا واثق إنك كنت تايه ومش لاقي الإهتمام اللي يخليك شخص حاسس بأهمية نفسه، بس دا كان قبل ظهوري، لأني كنت هموت ويطلع ليا أخ، وحظي إنك أخويا، والله أعلم فيه كام حد أحتواك.
غمز له “مُـحي” بمشاكسةٍ وهتف يمازحه:
_بتعرف تعد لحد كام؟.
قبل أن يجاوبه قطع صوتٌ ما حوارهما سويًا وهو يُلقي التحية عليهما ولم يكن سوى “مُـنذر” الذي أتى لابن عمه ووقق أمامه يهتف بآسفٍ طفيفٍ رغم محاولته لإخفاء ذلك:
_أنا جيت أقولك متزعلش يعني من موقفي إمبارح، بس أنا كنت مخضوض ومشدود، بعدين أنا مش متعود إني أكون محور إهتمام حد، أعتبرني فقري بقى.
أقترب منه الآخر يقف في مقابلته وهتف بثباتٍ وشموخٍ وكأنه يتحدى الآخر:
_وأنا مش فارق معايا أنتَ حاسبها إزاي بس اللي عليا هعمله حتى لو أنتَ رافض دا، أنتَ مش أحسن مني ولا أنتَ غريب، زي ما سعيت ودورت ترجع الحق لأصحابه يبقى رجعه كامل، والحق هيرجع كامل برجوعك لمكانك أنتَ كمان، وعلى فكرة أنا هنا علشان أنتَ هنا، مش همشي غير ورجلك على رجلي، وبراحتك، أنا نفسي طويل أوي.
رغم أن الحديث كونه وديًا إلا أن التحدي السافر ظهر بينهما وكأن كلاهما يعلن على الآخر قوته، رغم عدم التقارب بينهما وإختلاف طباعهما إلا أن كل الترابط يكمن بينهما، وقد تدخل “مُـحي” بينهما يسأل الآخر بضجرٍ منه:
_هو أنتَ ليه بتتعمد تعمل نفسك مش شايفني؟ المفروض إني ابن عـمك أنا كمان، وبعدين إحنا شايلين همك وأنتَ مش سائل فينا !! بلاش اللون دا معانا يا عمنا.
حرك “مُـنذر” عينيه نحوه وهتف بثباتٍ تهكمي على ابن عمه العابث المُشاغب:
_طب والله كويس إنك شوفتني، أنا قولت عينك مبتلقطش غير الحريم وبس، دا تطور حلو لحالتك فيه أمل تخف.
توسعت عينا “مُـحي” بقوةٍ فيما ضحك “تَـيام” بملء شدقيه وقبل أن يحدث أي تصادم بينهما تدخل يهتف بلهفةٍ:
_طب بما إننا هنا مع بعض، يبقى نتغدى سوا وقبل ما تقفشوا في بعض، وأهو يبقى عيش وملح يمكن تصونوه لبعض، آمين؟.
لاقى الصمت منهما فعلم أنها بوادر الموافقة لذا تنهد أخيرًا بعمقٍ ثم أخرج الهاتف يطلب الطعام آملًا في تكليل خطواته بالنجاح في الجمع بينهما وخاصةً ابن عمه الذي يحسب نفسه عنهم غريبًا.
__________________________________
<“عُرفتُ بين الجميع بالقوةِ، لذا أكره الضعف”>
تولي المُهمات الصعبة هي ما تجعل المرء دومًا في حالة شتاتٍ كمن وضع بين المطرقةِ والسندان، حيث تصبح المخاوف من أكثر إحاطةٍ به، والمخاطر أكبر، وعليه أن يتوخى الحذر كمن يسير في حقل الألغام، وقد وقف “أيـهم” برفقة “بـيشوي” يقوما بإسناد “نـادر” ويضعاه فوق الفراش بعد العودة من جلسة العلاج الطبيعي فيما أقترب الممرض منهما يحصل على التعليمات منهما وحينها حذره “أيـهم” بقولهِ:
_أهم حاجة يا عم “عاشور” الحركة وخلي بالك منه، الكُرسي أهو يتحرك بيه أفضل علشان ميحصلش أي ضرر، ولو محتاج حاجة كلمني أو كلم “بـيشوي”، محتاج حاجة يا سيادة القبطان؟.
سأله بلمحة سخرية جعلت الآخر يسأله بضجرٍ:
_هي أمي هتيجي النهاردة؟.
تدخل “بـيشوي” يجاوبه بتهكمٍ ونفاذ صبرٍ:
_جاية، هتطمن إن العرة أبوك غار من البيت وهتيجي علشان للآسف ممكن يكون مراقبها، بعدين هي الأول بتروح حارة العطار ومن هناك بتيجي على هنا يعني بتاخد وقت شوية، عارف؟؟ أنا كنت ناوي أخليك برة الليلة دي، بس للآسف “سـامي” مش مخلي وراه ورىٰ، حرام تتداس أنتَ بسببه.
أغمض “نـادر” عينيهِ ثم فتحهما بتروٍ وهتف بمللٍ من كثرة التراهات التي يهذون بها في نفس الحديث:
_لو معاك سلاح طلعوا وخلصني، صدقني أنا معنديش أي حاجة أبكي عليها، الصحة وراحت، الشغل اللي كنت بموت فيه وضاع، صحاب ومعنديش، مراتي وغالبًا أرتاحت من مسئوليتي وأبويا ومش فاضي غير للفلوس وبس، وأمي بدأت تفوق متأخر، تفتكر بقى دي حياة أحزن عليها؟ صدقني لو ناوي تقتلني أعملها وأخلص علشان كدا هتكون رحمتني من اللي أنا فيه.
تبادلا الرفيقان النظرات سويًا وقد تنهد “نـادر” بثقلٍ يخرج الهموم الجاثمة فوق صدرهِ والآن فقط يتمنى لو يزوره الموت ويأخذه من بين الجميع، ليس ندمًا على شيءٍ لكن كرهًا في كل شيءٍ.
في منطقةٍ من المناطق الراقية الخاصة بعلية القوم..
كانت “شـهد” في شقتها تجلس فوق الفراش ووالدتها بجوارها تمسح على رأسها وهي تقول بنبرةٍ ناعمة مخملية:
_كدا برضه تقلقيني عليكِ؟ دا أنا لما عرفت كنت هروح فيها يا روح مامي، عارفة إنك زعلانة بس بكرة تحملي تاني وتجيبي غيره، بعدين مش قولتي إن الدكتورة قالت إنه كان خارج الرحم ولازم ينزل خلاص متزعليش كأنه محصلش أصلًا، و ياريت “نـادر” ميعرفش علشان ميزعلش أكتر، يارب بس يظهر ويقول هو فين.
أومأت لها بشرودٍ فضمتها والدتها تمسح على خصلاتها السوداء المُسترسلة بينما الأخرى فكان كل شاغلها وتفكيرها ينصب على ما فعلت وماهي هي مُقدمة عليه، وعليه يتوجب أن تحسب حساب أقل خطوة صغيرة تصدر عنها لعل الأمور تُكلل بالنجاح وتنقلب لصالحها، وقد أختارت الكذب على الجميع حتى ترى ما هو قادم عليها لكن الخطر الأكبر حاليًا هي “نـور” تلك التي تعلم مصدر نيران الحقيقة ومن المؤكد ستحرقها تلك النيران.
__________________________________
<“لدي معك ثأرٌ قديمٌ، لا تنساه حتى أنساك”>
في مقر شركة “الـراوي”..
بدأ العمل يأخذ محمل الجد بشكلٍ أكبر حيث الإعداد والتجهز للمعرض المُقام بمدينة “شرم الشيخ” وقد كان “عُـدي” كما الإنسان الآلي يعمل بكل كدٍ وجهدٍ حتى يُحقق النتيجة المطلوبة فيما غرقت “رهـف” في شرودها وحيرة أمرها، الخاص به هو، حيث كانت تفتش طوال اليوم بداخلها عن ذكرياتها مع “حمزة” رحمه الله، وقد زالت جميع الذكريات عن رأسها وكأنه أراد حتى أن يمحي الذكريات من خُلدها..
جلست أمام النيل ليلًا تستنشق الهواء البارد وقد لاح في أفق عقلها ذكرى قديمة جمعتها بفقيدها، وقد أنتفض قلبها مثل جسدٍ مسته الكهرباء، حيث كانت تجلس على شاطيء النيل وهو بجوارها وبجوارهما الدراجتين الهوائتين في منطقة الزمالك وقد طلب لها ذاك المشروب المصري الخاص بالأيام الشتوية “حمص الشام” وحينها هتفت هي بضجرٍ له:
_أنا مش بحب حمص الشام، بتحبه على إيه بقى؟ ما تيجي نشرب قهوة يا “حـمزة” البتاع دا طعمه مش حلو مش عارفة ليه، بعدين أنا غلطانة إني قولتلك ننزل نتمشى؟ بعد كدا هنزل لوحدي رغم إني مبعرفش.
حينها طالعها هو ضاحكًا ثم هتف بصوتٍ هاديءٍ:
_ياستي حبيه وخلاص، بعدين لازم فعلًا تتعودي تكوني لوحدك، لأن الإنسان مؤكد إن هييجي وقت عليه يكون في لوحده ويمر بتجارب خاصة بيه، يمكن وجودي معاكِ مخليكِ مش حاسة بحاجة من دي، بس غيابي هيعرفك، المهم يعني لو حصل ومش مكتوبلي أكون جبنك لنهاية الطريق، متكمليهوش لوحدك، لأن جايز تقبلي وحدته دي في الأول إنما في نصه أو آخره هيبقى صعب تكمليه، يمكن أسافر برة وآخد فرصة جديدة علشانك، وساعتها أو في أي وقت بلاش تكوني لوحدك، وأنتِ بالذات خسارة تكوني لوحدك، لازملك حد معاكِ وساعتها هو الكسبان.
خرجت “رهـف” من شرودها على صوت “عُـدي” يزاحم ذكرياتها كما أمسى يُزاحم على حاضرها ومستقبلها وقد هتف هو بنبرةٍ مُنهكة:
_خلصت الحمدلله أخيرًا، الشغل المرة دي كان كتير متعب ومراجعات كتير أوي بس عدت، شكرًا لتشجيعك وكلامك، مهون تعب الرحلة الفردية، وحكمتك دايمًا في محلها.
حركت رأسها مومئةً له وقد تلاقت نظراتها بنظراتهِ فابتسم هو بعينيه ولحقتهما شفتاه فيما أرتدت هي نظارتها الطبية وقد أتى صوت “عـاصم” من قربهما وهو يقول بثباتٍ يوجه حديثه للآخر:
_واضح جهدك أوي ومجهودك، وأنا دايمًا بحترم المُكافح زيك كدا، بس برضه متنساش إن ليك دور محدود هنا رغم إني شايفك بتتخطاه بس مش مهم، طالما في مصلحة المكان والشركة خلاص، أتمنى تاخد بالك.
هتف حديثه وقبل أن يخطو خطوة واحدة أوقفه “عُـدي” بقوله الذي أنبثق منه الشر والغل الدفين الذي يحمله في قلبه:
_براحتك أنا مش مهتم برأيك لأني واثق في شغلي ومجهودي ومش كل الناس عندها سلام نفسي تتقبل نتيجة جهد غيرها، بعدين أنا صاحب مكان ودي شركة أخويا ويحق ليا إني أكون هنا وأعمل اللي أنا عاوزه، بعدين متنساش إني ليا تار عندك مش هسيبه، حق أبويا وعمتي واللي حصل مش هسكت عليه، بس الفرق إني بدرس صح علشان لما أمد أيدي وآخد الحق آخده كامل.
ابتسم “عـاصم” له ثم أقترب منه ومسح على كتفهِ حينما تشدق بنزقٍ مُريب من نظراته القاتمة:
_إن شاء الله، وماله.
أنهى جملته وألتفت يوليه ظهره ليتصادم بالغريم الأصعب في وجهه وقد هتف “يـوسف” بثباتٍ كعادته أمام عدوه الخبيث:
_هيشاء، ربنا هيشاء والحق يرجع لأصحابه، إن شاء الله حتى بعد ١٠٠ سنة هيرجع، وأنتَ بقى كوش وعبي براحتك بس متنساش إني هنا وهفضل هنا، “يـوسف الراوي” وبالمسمى الصحيح أنا اللي هسيقكم المر، بس أفوقلكم شوية، رَيـح بقى، ولا أقولك؟ أصحىٰ وفوق قبل ما تاخد على عينيك.
في قديم الزمان صدق من قال واثق الخُطىٰ يمشي ملكًا، وهو يشبه الملوك في قوتهم، والفُرسان في عزتهم، يبدو كما الوحوش في حدتهم ورغم ذلك لازال كما الأطفال في برائتهم، واليوم تُضاف صفة جديدة لقاموسه وهي صفة التخطيط، حيث العقل المُدبر والذراع القوي، والجاذبية الفارضة فوق أرضٍ يملؤها الجُبناء.
__________________________________
<“بيتنا بيت خير، لا نعلم أين الشر فيه”>
لقد سمع دومًا عن رجلٍ صعد للقمر،
لكنه لم يعلم أنه يومًا سيحب القمر، ليغدو مجنونًا في الأعين وهو يسهر طوال الليل يبتغي السهر، ولكن ما رفع من مقدار الجنون وتخطى حد التعقل لديه هو أن القمر ترك موضعه ونزل لأجلهِ…
جلس “أيـوب” في غرفته يتحدث مع زوجته التي هتفت بحنقٍ ناقمةً على فعل شقيقها:
_سابني نايمة وجالك؟ أنتوا إيه حكايتكم، أكونش أنا الطرف التالت في العلاقة دي؟ عرفني بس لا أكون متقلة عليكم، بعدين هو جاي من عندك رايق ليه ومبسوط؟ بتشربه إيه أنتَ يا شيخنا؟.
ضحك على طريقتها في التحدث ثم وقف وهو يغلق سحاب سترته السوداء الرياضية “سويت شيرت” وجاوبها ساخرًا وهو يستعد للخروج من غرفته:
_والله بشربه لمون بالنعناع، بعدين هو قالي هيعرفك مبسوط ليه يرضيكي أخون الأمانة يا “قـمر”؟ دا أنا راجل محيلتيش غير السمعة الطيبة، فاكرة يا أخت السمعة الطيبة لما جيت أتقدملك؟ عيطتي ونكدتي علينا، بدأتي بدري أوي.
رفعت حاجبيها ثم هتفت بسخريةٍ كونه لم يُفصح لها عن حديث شقيقها ولازال يخفي السر عنها:
_ولسه هنكد تاني يا مطروف العين، علشان تخبي عليا كويس وتسمع كلامه ومخليني الفضول بياكل فيا، عن إذنك هروح أصلي، أبقى زود لمون بالنعناع بقى وأكتم كويس على السر، سلام.
أغلقت الهاتف فيما ضحك هو يائسًا ثم ترك غرفته ونزل منها للأسفل حيث التجمع العائلي فوجدهم يلتفون حول المائدة وجلس هو بجوار والده الذي أبتسم له وقد قام “أيـهم” بالإقتراب من زوجته يهمس لها بقولهِ:
_ما تفكي وشك شوية كدا؟؟ كل دا علشان هزرت وقولت متجوز عليكِ؟؟ أومال لما أقولك معايا منها “هناء” و “شيرين” هتعملي إيـه؟.
كتمت ضحكتها وطالعته بحاجبٍ مرفوعٍ فيما غمز هو لها وقبل أن يستمر في المشاكسات هتفت “آيـات” بنبرةٍ ضاحكة تشاكس بها الصغير:
_بس بجد الناس دي ربنا نجدهم من إيد “إيـاد” تخيلوا كان هيشوح ليهم بأيديه الأتنين ويقول جماعة كدا عيب ميصحش؟ شوفت إفترا إبنك يا “أيـهم”؟؟.
أرتسمت الضحكة على الوجوه وقد جاوبها والد الصغير بسخريةٍ مرحة قائلًا:
_يا ستار يا رب!! وليه العنف دا؟ أكيد هيموتوا فيها دي، من الضحك طبعًا، يلا يا أهطل جتك خيبة.
تدخل”أيـوب” يهتف بنبرةٍ ضاحكة هو الآخر:
_بس الشهادة لله الواد عامل مجهود والصرف باين، دا هيشوح بأيديه الاتنين، يعني مش باقي على الدنيا خلاص.
من جديد يرتفع صوت الضحكات حتى رمقهم “إيـاد” بسخريةٍ وهو يقلد طريقتهم حتى تدخل “عبدالقادر” يهتف بنبرةٍ جامدة يحذرهم من التمادي قائلًا:
_بس منك ليها!! قولتلكم مهما يعمل محدش يتريق عليه، هو حر وبراحته ويعمل اللي عاوزه إن شاء الله يكسر البيت دا، وعلى الله حد فيكم يتريق عليه تاني.
أنهى حديثه لهم ثم ألتفت لحفيده يهتف له بنفس الجدية:
_وأنتَ، قولتلك ١٠٠ مرة لما تلاقيهم بيحلووا عليك كدا، متسكتش ليهم علشان التلاتة يموتوا في التريقة وأولهم أبوك الكبير بتاعهم دا، خد حقك منهم.
لاحظ الصغير جديته فسأله بحنقٍ مُضجرًا:
_آخد حقي إزاي بس يا جدو؟.
جاوبه بنبرةٍ زاحمتها الضحكة المكتومة حين هتف يجاوبه:
_شوح ليهم بإيديك الاتنين وعرفهم أنتَ مين.
شهق “إيـاد” مدهوشًا فيما صدح صوت ضحكاتهم للمرة الرابعة تقريبًا يتشاركون المزاح على أصغر أفراد العائلة، وقد صدح صوت جرس الباب فتحركت “وداد” مُدبرة البيت تقوم بفتحه فوجدت رجال الشرطة أمامها ورئيسهم يتحدث بوقارٍ:
_الحج “عبدالقادر بكر العطار” موجود؟؟.
حركت رأسها موافقةً وقد تلاشى الحديث عن طرفها وأتى المذكور وخلفه أبنائه يهتف بثباتٍ:
_أيوة يا فندم خير؟ فيه حاجة؟
رفع الآخر رأسه يطالعه وألقى القنبلة الجديدة عليه هاتفًا:
_متقدم في حضرتك بلاغ بخطف “نـادر سامي السيد” من والده المدعو “سامي السيد” وآسف يا حج حضرتك مطلوب للتحقيق.
المصائب في قاموسهم لا تأتِ فُرادة، بل تنهال عليهم كما الجسد كله واحد، إذا تأذى منه عضو تألمت بقية الأعضاء، لكن ماذا إذا كان العضو المتأذي هو العضو الرئيسي في الجسد؟ بالطبع ستتوقف بقية الأعضاء، وقبل ذلك تذكر أن ثمن العودة دومًا يُكلف أكثر من ثمن التحكرك..
_______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى