روايات

رواية غوثهم الفصل المائة وثلاثة 103 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل المائة وثلاثة 103 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء المائة وثلاثة

رواية غوثهم البارت المائة وثلاثة

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة المائة وثلاثة

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يَا أَيُّهَا الرَّاجِـي الشَّفاعةَ فِـي غَـد
ومُنَـاهُ جَنَّـاتُ النَّعِيـمِ السَّـرْمَــدِي
ويَـرِيـدُ مِــنْ حَوْضِ الكَرَامَةِ شَرْبَـةً
يَنْجُـو بِهَـا مِـنْ حَـرِّ يَــوْمِ المَوْعِــدِ
فَاسْمَعْ نَصِيْحَةَ مَنْ يُحِبُّك مُخْلِصَا
سَلِّــمْ وَصَــلِّ علـى النَّبِـيِّ مُحَمَّـدِ
صَلَّـى عَلَيْــكَ اللـهُ مَاهَـبَّ الصِّبَـا
أَوْمَا شَدَّا طَيْرٌ عَلَى الغُصْنِ النَّدَي
_”مقتبس”
__________________________________
سأترك الزُهـد وأكتب عنك أنتِ اليوم،
ليس عنكِ أنتِ مُباشرةً بل عن القمر، عن ذلك القمر الذي سطع في سماءٍ مُعتمة وأنار ليالٍ مُظلمة، وفتن زاهدًا وأنساه أيامه المؤلمة، فوالله ما عرفنا يومًا السهرِ إلا حينما أحببناكِ يا “قَـمر”، أحببناكِ أنا وقلبي وغدونا حديث العالمين وكأننا في الحُب آثمين..
فاليوم عرفونا العالم بعدما كُنا أنا وقلبي في دروب العشق مجهولين، ولم نفعلها إلا لأجل عينيك يا “قـمر”..
أتتذكرين ذلك اليوم حينما أخبرتُكِ أنني رجلٌ حاربته قبيلته، وتعذبت منه عشيرته، والآن أتيتُ لكِ من بعد دربٍ مجهولٍ، لطريقٍ أراه بكِ المعلوم؟…فجِئتُ إليكِ أحتمي من قسوة قبيلةٍ على غُلامٍ يتيمٍ لم يرْ الرأفة منهم، بل وجد القسوة وما أشد منها؟ لكن دعيني أكون مُنصفًا وأخبركِ أن العالم أخيرًا رأف بحالي، وبفراغ القلب الخالي، وبما يجول في رأسي ويشغل بالي، وكل ذلك فقط حينما حصلت عليكِ أنتِ يا
“قمر الليالي”، فاتركيني أخبرك أننا نِلنا الحُريةِ أنا وقلبي وغدونا أحرارًا بسعادةٍ تُشبه سعادة سجينٍ أنفك عنه الأسر ونال الحرية بهواها وشمسها والسماء بقمرها، وآهٍ من هذا القمر، قَـمرٌ فتن الزاهد، وسرق عنه لُبه، وسكن وتخلل في جُبه، واليوم وغدًا وحتى نهاية العُمر سيحكي العالم عن رجلٍ زهُدَّ العالم وتاب عن الهوىٰ، ويوم أن أحب عشق القمر ولقىٰ مصرعه أمامها وكأنها تقتل زُهده وكل ما عنه أنتوىٰ.
<“شُجاعٌ في أرضي، لن أقبل المُتخاذلين”>
إبان جلستهم الأسرية الدافئة حول مائدة الطعام يتمازحون ويضحكون صدح صوت جرس الباب فتحركت “وداد” مُدبرة البيت تقوم بفتحه فوجدت رجال الشرطة أمامها ورئيسهم يتحدث بوقارٍ:
_الحج “عبدالقادر بكر العطار” موجود؟؟.
حركت رأسها موافقةً وقد تلاشى الحديث عن طرفها وأتى المذكور وخلفه أبنائه يهتف بثباتٍ:
_أيوة يا فندم خير؟ فيه حاجة؟
رفع الآخر رأسه يطالعه وألقى القنبلة الجديدة عليه هاتفًا:
_متقدم في حضرتك بلاغ بخطف “نـادر سامي السيد” من والده المدعو “سامي السيد” وآسف يا حج حضرتك مطلوب للتحقيق.
المصائب في قاموسهم لا تأتِ فُرادة، بل تنهال عليهم كما الجسد كله واحد، إذا تأذى منه عضو تألمت بقية الأعضاء، لكن ماذا إذا كان العضو المتأذي هو العضو الرئيسي في الجسد؟ بالطبع ستتوقف بقية الأعضاء، وفي قاعدة الرجال الباسلين إذا دلفت ديارهم فأحسن مُعاملتهم حتى لا تُهان في منزلهم، وقد وقع الحديث كوقع صاعقةٍ رعدية على رب البيت وزاغ بصره في وجه ابنيه وقد تقدم أبنه البكري مستبسلًا في وجه الضابط يهتف بثباتٍ بعدما خفى جسد والده في الخلف:
_أؤمر حضرتك إيـه المطلوب؟.
رفع الضابط عينيه وهتف بوقارٍ وتقديرٍ لمكانتهم بين ساكني الحارة ولأنه لازال في أرضهم:
_أنا جاي بس عاوز الحج نتكلم مع بعض كلمتين بشكل ودي وبالمرة نعرف سبب إتهام المدعو ليه، فهي ساعة زمن مش أكتر هنتكلم في القسم وناخد أقواله.
من المؤكد أن الجاهل بالشيء لا يعلم كيفما يتحدث عنه، وهذا الذي يتحدث يجهل قيمة ومكانة الآخر؛ لكنه أخطأ أمام ابنه الذي ضيق جفونه متفرسًا وهتف بنبرةٍ مُحتدة بعض الشيء مُندفعًا خلف حِميته البدائية:
_تمام، وحضرتك تقدر تتفضل هنا تاخد الكلمتين اللي عاوزهم، أكتر من كدا مش هيحصل ولا هينفع يحصل.
أحتدت نبرته وعلا صوتهِ وقد رفع الضابط حاجبه متهكمًا وهتف بسخريةٍ لاذعة لم تكن في محلها أمام غضب الآخر:
_ودا في عُرف مين بقى؟ ثم إن حضرتك مين؟.
سأله بنبرةٍ لم تنل إعجاب الآخر ولم تروقه من الأساس وقد جاوبه الآخر بزهوٍ وشموخٍ في تحدٍ سافرٍ نُشِبَ بينهما دون قصدٍ:
_معاك “أيـهم العطار” ابن كبير حارة “العطار” وأظن حضرتك عارف يعني إيه كبير الحارة، يعني أي حاجة تمشي على الكل إلا هو، وأنا أبويا مبيدخلش أقسام، عاوز تحقق وتشوف شغلك على عيني وراسي، بس تدخل تاخد واجبك زي أي ضيف معزز مُكرم، أو أنا بنفسي هجيب والدي لحد عندك بس بمزاجه، إنما غير كدا لأ.
تدخل “عبدالقادر” يُسعف الموقف الذي تفاقم إلى وضع التأزم يلحق ما يُمكن إلحاقه بهتافه لابنه مُستجديًا:
_بس يا “أيـهم” مش هينفع، أنا هروح أشوف آخرتها إيه بعدين الباشا بيشوف شغله ودا مش عيب، أستناني بس.
كاد أن يتحرك لكن ابنه قام بردع حركته وكأن الوضع تبدل ليصبح هو محتلًا لمكان والده ويتولى الدفاع والحماية له بقوله الصارم الذي لم يقبل المُناقشة:
_وأنا قولت لأ، هو أصلًا معندوش دليل ضدك، مجرد إتهام وخلاص ملهوش أي تلاتين لازمة يبقى ليه بقى نحط نفسنا موضع الشُبهة؟ يتفضل هنا وياخد الكلام اللي هو عاوزه بالأدب والذوق، ولو مصمم ياخد حد ياخدني أنا ويحقق معايا ويعتبرني أنا الخاطف، لكن أبويا مش هيخرج من هنا بالطريقة دي ولا بأي طريقة، قولت إيـه؟؟.
هدر بها مُنفعلًا مما جعل “أيـوب” يتدخل بهدوءٍ رغم الإضطراب البادي عليه من الموقف خاصةً أن ذكرياته مع رجال الشرطة لم تكن حميدة، بل هي ذكريات تَعُجها المساويء:
_يا “أيـهم” بالراحة، كدا كدا مش هيحصل حاجة بلاش تنفعل وخلاص، وبعدين هو حد عمل حاجة؟ إحنا في حالنا وبُعاد عن الكل، أتفضل حضرتك خد الكلمتين اللي عاوزهم، بس مش هينفع أكتر من كدا، لأن مفيش حاجة تتقال، إحنا مالناش علاقة ولو حضرتك عندك دليل واحد ضد حد فينا هاته.
بدأ “أيـوب” يتحول تدريجيًا شيئًا فشيءٍ وكأنه يحذو حذو شقيقه في المعاملة وقد أتى “بـيشوي” مهرولًا بخطواتٍ شبه راكضة ما إن وصله الخبر وهتف يستفسر بقولهِ الملهوف بحشرجةٍ خشنة:
_خير؟؟ هو مفيش غير بيت “العطار” في أم الحارة دي؟ عمومًا كتر خيرك يا باشا الموضوع خلص، والقسم عارف إن مفيش حاجة هتحصل وروح بنفسك هتلاقي المأمور مستنيك هناك، نورتنا والله.
ظهر مُنهيًا لكل شيءٍ كعادته من وسط الجميع وكما المُعتاد يعد الابن الثالث لهذا البيت ولن يقبل بحدوث ما يُصيب كبيره وحاميه الثاني من بعد والده، وقد علم الضابط أنه أصبح في براثن الأسود لا شك في ذلك، خاصةً في تواجد شاكلة الخطر المسماة بـ “أيـهم” ومُطابقه “بـيشوي” وقد وزع نظراته يائسًا ثم رفع الراية البيضاء يعلن استسلامه لهم وقد أذعن للخضوع لا شك في ذلك.
فيما وقف “عبدالقادر” يرفع رأسه بزهوٍ وسط الثلاث حتى وقف ابنه البكري في مواجهته يهتف بثباتٍ وقوةٍ لم ينفكا عن طباعهِ:
_على جثتي إن حد يقلل من حد في البيت دا، لا عيشت ولا كنت قبل ما حد يفكر يقل بيك حتى لو كان القانون نفسه، ساعتها نكسر القانون واللي حط القانون كمان، أنا في ضهرك ووراك، وقدامك لو حد فكر يقرب منك.
أنهى الحديث ثم أمسك رأس والده يُلثم جبهته وقد لمعت عينا “عبدالقادر” بفخرٍ وحُبٍ لابنه وقد ابتسم له بصفاءٍ سرعان ما خالطه التعجب، فهو من المؤكد لازال حائرًا في تمثيل ابنه الممتاز بجدارةٍ، حتى أنه شارف على تصديق موقفه وأنهما لم يقوما بفعلها وقد نحى نظراته تجاه “أيـوب” الذي وقف يُطالع والده بضياعٍ وخوفٍ رغمًا عنه لتعود مخاوفه تتجسد أمامه لكن الآخر خطفه في عناقه يمسح على ظهرهِ لعله يطمئن بين ذراعي والده.
أما “أيـهم” فقد حرك رأسه نحو زوجته وابنه وشقيقته فوجد “نِـهال” تُطالعه بفخرٍ وإعجابٍ صريحيْن وقد أبتسمت له ما إن تلاقت الأعين ببعضها وكأنه لازال يملك صناديقٍ سوداء لم تعرفها هي ولا تعلم ما يحمله فيها، لكن لا شك أنه الرُجل الواحد الذي يستحق أن يُخالف القلب كل القواعد ويكسر لأجلهِ كافة القوانين، ومن غيره يستحق مليكة أرضٍ أجاد استصلاحها من بعد الخراب؟.
__________________________________
<“الغريب أنها أفعال تأتي من القريب”>
في مقر العمل بشركة “الـراوي”..
تولىٰ “يوسف” مهمة الإشراف على البرنامج المُعد لأجل معرض الصناعات اليدوية بمختلف أنواعها، وقد وقف مع الشباب الصغار ومنهم من يقوم بصناعة تلك النماذج اليدوية كتطبيقٍ عملي لاستخدام تلك الخامات، وفي هذه اللحظة وقف يطالع المكان مُبتسمًا بعينيهِ وكأنه أخذ كل الرضا لصالحه اليوم؛ حيث وقف يشهد بعينيهِ على نجاح والده وقد رفع عينيه للأعلى يطل على السماء يتابع نجومها ليتذكر حديث المُذهلة خاصته عن والدها الفقيد بقولها الذي تردد في سمعهِ حينما راسلته اليوم وسط عملها برسالةٍ صوتية:
_النهاردة أفتكرتك مع بابا وأنا بكلمه كل وبحكيله كل حاجة، بخليه شريك كل لحظات حياتي وكأنه مسابنيش أصلًا، بابا كان جميل أوي وكل الناس بتحبه وسابلي حب وحنان يخلوني أعيش العمر كله بذكرياتهم، عمري ما حسيت إن فيه راجل زيه في الدُنيا دي، حنين وشهم وطيب، كنت بشوفه وهو بيعامل ماما وأقعد في سري أدعي ربنا يكرمني بواحد زيه، واحد يشوفني كل حاجة عنده، بس لما لقيتك أنا حسيت إحساس تاني، محدش في الدنيا دي زيك، مش كل الناس بتدي اللي هي محتاجاه، بس أنتَ كدا، ومش كل الناس تقدر تحس بغيرها بس أنتَ كدا، أنتَ لو كل العالم دا وقف في وشك، هتلاقيني أنا في ضهرك ومعاك، علشان بابا علطول كان بيقول إن ممكن الإنسان يعيش طول عمره حزين وتعبان بس لو معاه إنسان واحد بس يخليه يتطمن، ساعتها هيقف في وش العالم كله، أنا هنا معاك.
أغمض عينيهِ بسلامٍ ثم أخرج هاتفه يطالع عينيها السوداوتين في حافظ الهاتف وقد تواصلت نظراته بنظراتها أخيرًا وتذكر كيف يأمن على روحه بجوارها، وكيف يطمئن حينما يحتمي في أسوارها، وطنٌ، هي حقًا وطن الغريب الذي وجد دواء السنوات المؤلمة بقربها، وقد حرك رأسه للخلف يُتابع “رهـف” وهي تجلس أمام النيل شاردةً، وقد لاحظ جلوس “عُـدي” على مقربةٍ منهما يُطالعها بشغفٍ يشبه شغف الطفل الشريد وهو يُطالع محل الحلوى الشهية المُحرمة على فقيرٍ مثله، لكن لا ذنب له كونه اشتهاها ولا يملك ثمن التكلفةِ وقد لاحظ “يوسف” نظراته نحوها فخطى له يقطع عليه سُبل الرؤيةِ ثم هتف بثباتٍ رخيمٍ:
_أنا ملاحظ ومكدب عيني، بس أنا فاهم نظرة الراجل لما يحب يا “عُـدي” بيبقى شبه العيل شبطان في الحاجة بعينيه، أنا كنت فاكر إن السكوت حلو بس طلعت أهبل، الكلام بيريح على الأقل تبقى خرجت اللي جواك، لو وافقت يبقى مبروك عليك الهنا، لو رفضت تبقى أرتاحت إنك مقصرتش في حق نفسك، قولها إنك بتبحها وعاوزها، عينك قالتها بس مش كفاية.
أنتبه له أخوه الذي واقف أمامه وهتف بقلة حيلة:
_مفيش في إيدي حاجة أعملها، الموضوع صعب أوي، أنا مش ناسي موضوع خطيبها القديم دا، عاوزني أروح أقولها وترفضني وأبقى خسرت كل حاجة حتى إني أشوفها هنا؟ الموضوع مش سهل، هي لسه بتحبه وأنا مش هقبل إني أكون طرف في العلاقة ولسه في حائل تاني بينا، صدقني أنا حاولت كتير بس مش هقدر أخليها تخاف مني.
كانت هي تتابع المكان بعدستيها بعيدًا عنهما وقد أرتسم اليأس في عيني أخيه الذي تنهد مُطولًا ثم ظل يتابعها هي حتى عادت لهما تهتف بنبرةٍ جدية عن اللازم وكأنها تتعمد عدم النظر إليه:
_أنا مُضطرة إني أتحرك علشان فيه آخر حاجات هسلمها لـ “مادلين” بكرة الصبح وهسهر عليها، أنا خلصت كل حاجة وكل الميلات اتبعتت، وكل التيم أتظبط خلاص، ناقص بس جدول المعرض هناك ومعاد الإينفينت بالظبط وكدا كل حاجة تكون أترتبت خلاص، عن إذنكم.
تحركت عدة خطوات تختفي من تحت أنظار الإثنين وقد تابعها “عُـدي” بحسرةٍ على حاله، لما تلك المُحصنة التي أختارها قلبه لكي يستوطنها ويأسرها بين الأضلع؟ لما تلك التي تشبه رُقعة موازية لكل البشر وكأنها مدينة يصعب عليه حتى التوصل لمداخلها؟ كل الأمور في غير صالحه خاصةً إذا كان هناك من سبق وقرر سبر أغوارها وإحتلالها، لكنه لم ينسْ أن مدينة “عـكا” مهما استعصت على كل الفاتحين، إلا أن هُناك من ظفر ونال شرف إختراق حصونها..
خرجت هي تجلس في سيارتها وقد أغمضت عينيها تحاول نسيان تلك الرجفة من قلبها وهي تنتفض كلما تذكرت أمـر تخطيها للسابق، وبكل آسفٍ هي لم تكن غبية في فهم ما تشعر به، هي تحبه وتخطت الإنجذاب والأمر معه يختلف تمامًا عن الغير حتى عن “حـمزة” نفسه، هذا يبدو كأنه أتى خصيصًا هنا لأجلها هي وليس لأجل العمل، يبدو أن كل الطُرقات أتت به لِهُنا حتى يضحى رفيقًا سرعان ما تبدلت مكانته بداخلها، وقد شرعت في قيادة السيارة أخيرًا لكي تختلي بنفسها في العمل لعلها تهرب من مشاعر قلبٍ خائنٍ وعقلانية رأسٍ حكيمة، وكلاهما يَشُن حربه عليها لكي تستمع له.
__________________________________
<“كل ما نتج عنك كان سيئًا، أين الجيد؟”>
في قديم الزمان أطلقوا العرب أول تشبيهٍ للرجال أنهم من فصائل الخيول أو الأسود، فكل من طرأت عليها صفات الشهامة وعزة النفس وصفوه الناس أنه من الخيول، وكل من ظهرت عليه طبائع القوة والهيبة من مجرد الذِكر حتى وصفوه أنه ضمن الأسود، وهذا الرجل حمل صفات الاثنين معًا حتى أضحى قويًا ومُهابًا من الجميع..
تحرك “بـيشوي” من بيت آل “عـطار” يخطو نحو مقر عمل حماه المُبجل وقد ولج يقف على أعتاب المكان بنفس القوة التي يُجيد رسمها بإمتيازٍ مُبهرٍ وقد رفع الآخر رأسه نحوه وما إن طالعه لوى فمه بسخطٍ ملحوظٍ جعل “بـيشوي” يزداد في بروده أكثر وهتف بتهكمٍ بعدما خطى لنصف المسافة وهتف يتشدق بنزقٍ:
_مساء الخير يا حمايا الغالي، طبعًا أنا جايلك هنا بصفة ودية وهسألك سؤال مش عاوز فيه لك كتير، اللي حصل من شوية والحكومة اللي راحت بيت “عبدالقادر العطار” دي أنتَ مالكش علاقة بيها صح؟ علشان من غير يمين لو دا حصل أنا هولعلك في المحل دا وأضيع شقا عمرك، أكيد مسلمتش لـ “سـامي” وبعتنا ليه صح؟.
زفر “جـابر” حانقًا بسخطٍ ثم هتف بضجرٍ يُبريء نفسه:
_هبيعك ليه وأنا دلوقتي محتاجك علشان لو قلب عليا؟ دا واد غلاوي مبيسيبش حقه ومش هينسى إني إديته على قفاه طول السنين دي، علشان كدا أنا سكتت خالص وأتصلت بيه ألهيه يومها لحد ما تاخدوا الواد ابنه، بس مش عبيط أنا علشان آمن لواحد أمـه رقاصة، بعدين هو أنتَ كل شوية هتشك فيا ولا إيـه؟.
تنهد “بـيشوي” بثقلٍ ثم هتف بتهكمٍ يطالعه بإزدراءٍ:
_وهو أنتَ كنت سبقت بالخير علشان ماظنش فيك الشر؟ أنتَ للآسف مواقفك كلها معايا زفت، على العموم مش هفكرك إنك دلوقتي محتاج حمايتي ووجودي معاك وأنا عند كلمتي بيتك كله في رقبتي وأنتَ كمان، بس طول ما أنتَ في صفي ومعايا، غير كدا أنا مش هقدر أعمل حاجة غير إني آخد منك كل حاجة، تمام يا حمايا؟ وعلى العموم الحكومة مقدرتش تاخد “عبدالقادر العطار” من بيته، علشان دي عدم المؤاخذة تطير فيها رقاب وبعدها نقعد جنب حريمنا نولول.
أنهى حديثه ثم رفع ساعة معصمه يطالع الوقت حتى وجد ضالته تدلف لهما المكان وهي تُلقي التحية بصوتٍ رقيقٍ جعله يلتفت لها يُطالعها بعينيه وهو يتجول في ملامحها وعينيها الخضراوتين اللاتي وقع فيهما أسيرًا وقد أبتسمت هي له حتى أنتبهت لوالدها الذي هتف بنبرةٍ جامدة يستفسر عن قدومها بقولهِ المُضجر:
_خير يا “مـهرائيل” جاية ليه دلوقتي؟.
عقدت هي مابين حاجبيها حائرةً بتعجبٍ فيما ألتفت خطيبها يسأله بتهكمٍ خالطته القوة ومعها الثبات كمن يدافع عن حقٍ مسلوبٍ:
_هو إيه اللي جاية ليه؟ مش أنا قولتلك إني هاخدها ونتمشى شوية نجيب حاجات من هنا وراجعين تاني؟.
ألقى السؤال المُفاجيء وقد توسعت عينا الآخر وهتف يتشدق بتهكمٍ أخرج صوته عاليًا كتعبيرٍ عن دهشتهِ:
_نَـعـم !!! لأ مقولتش يا أخويا.
أبتسم له ببرودٍ ثم أمسك كفها وهتف بنبرةٍ مرحة لم تفعل سوى إشعال النيران في جوف الآخر وهو يرى تملكه وسلطته تفترش في حياته وتمتد لأواصل بيتهِ:
_طب أديني قولتلك وعرفتك أهو، مع السلامة.
خرج بها من مقر العمل وهي تطالع والدها بذهولٍ وحينما حاولت سحب كفها من كف “بـيشوي” أزدادت قبضته قوةً على يدها وسحبها من المكان نحو الخارج وكأنه يقوم بتقليب كافة الظروف لصالحه هو، وقد تيقن “جـابر” أن حربه مع هذا الغريم ليست في وقتها أو محلها، بل عليه أن يصمت ويتقبل الأمر الواقع حتى لا يخسر عائلته..
وفي الخارج سارا جنبًا إلى جنبٍ بجوار بعضهما ولأول مرة يشعر أنه وسط الناس حقًا، لأول مرة يشعر بتلك الفرحة وهي بجوارهِ، بكل آسفٍ هو يفشل في التعبير عما بداخلهِ، لكن اليوم يرى نفسه كعاشقٍ للكتب يمتلك مكتبة عريقة بمختلف الأنواع وشاكلتها، يشعر وكأنه ليس وحيدًا بين الناس بل هو مُستأنسٌ بجوارهم وهي معه، وقد وصلا سويًا إلى أحد الكافيهات العامة على الطريق العام ودلف بها يجلسا سويًا وهي في مواجهته وقد هتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_مكانش ليه لزوم تكدب عليا وتقولي إن بابا عارف إننا نازلين مع بعض، شوفت شكله عمل إزاي؟ بس لو كلمني هرمي عليك، وأنتَ بقى تدافع عني، علشان دي ورطة منك أنتَ.
أنتبه لها وأبتسم أخيرًا تلك البمسة الساحرة ثم هتف بنبرةٍ رخيمة ودافئة يخبرها بكل صدقٍ لمرته الأولى يُفصح لها بمشاعره صراحةً:
_وأنا عندي استعداد عادى لكل حاجة، وماعنديش مانع أقوله إني السبب إنك تنزلي تقابليني، “مهرائيل” أنا استنيت كتير وماعنديش مانع استنى تاني، والله ما عندي لو العمر كله، بس أبقى عارف إنك معايا في الآخر، أنا الدنيا قستني وبقيت ناشف وجامد علشان أعرف أقف وأسِد في وش السوق قبل ما ياكلوني، زهدت كل حاجة ورميت الدنيا كلها ورا ضهري، بس أنتِ كنتِ قدام عيني علطول، كنت بصبر نفسي بلقاكِ في نص الطريق، كل مرة كنت بشوفك تهربي مني وتخافي كنت بخاف منك أنا كمان، بس لما بدأتي تاخدي موقف علشاني ودبلتي نورت إيدك أنا عرفت إني أختارت صح، مهرائيل أنا بحبك، ومصيبتي السودا بقى إني مش قابل بحُب حد غير حُبك.
توسعت عيناها وتورد وجهها الأبيض تلقائيًا وهي تطالعه إبان تحدثه عنها بتلك الطريقة وقد أرتدت للخلف تلقائيًا تُنكس رأسها أرضًا تهرب من أسر عينيه لعينيها وقد حرك رأسه نحوها يحاول استبيان رد الفعل من ملامحها وقد نجحت أخيرًا في رفع رأسها له وهي تقزل بنبرةٍ طغى عليها الخجل وهي تقوم بوضع خصلاتها خلف أذنها:
_بص، أنا عارفة إنك بتحبني ومن بدري أوي، ويمكن أكون ملاحظة دا من صغرنا بس الحكاية كلها إني ماكنتش بتضايق منك بالعكس أنا كنت بفرح أوي، بس.. بس أنا جبانة للآسف ومش هقدر أوضح حقيقة اللي جوايا، وفي نفس الوقت أنا شخص كل هدفه يعيش في سلام حتى لو لوحدي، علاقتي بـ بابا لما أتوترت كان السبب فيها إنه شاف في عيني قبولي ليك، وأنا كنت خايفة أخسره لأنه بابايا، وكنت خايفة أنتَ تمل مني وتزهق وماكنتش هلوم عليك، بس أنا متوترة شوية وعاوزة أقولك إني لسه بخاف، بخاف من بابا إنه يرجع يقلب تاني، أنا عايشة معاك حلم حلو أوي وهادي مش عاوزة أصحى منه، أنتَ فاهمني؟.
سألته بتوترٍ يصاحبه الخجل وقد تنهد هو بثقلٍ ثم هتف مُفسرًا بحنوٍ بعض الشيء:
_أنا ممكن أكون أكتر واحد في كل الدنيا دي فاهمك، وفاهم أنتِ بتمري بإيه، أبوكِ من الأول كان غلط وأفعاله غلط، مفيش أب يجبر بنت على الجواز من حد لمجرد إنه عاوز طاعة عامية وخلاص، خوفك ملهوش مُبرر غير إنك ضعيفة، وأنا مراتي متبقاش ضعيفة، عيب تكوني مرات واحد بمجرد ما يظهر الناس كلها بتسكت علشان كلمته مسموعة من قبل ما يقولها حتى، الجُبن مش حل لحاجة وأنا مش هقبل تكوني جبانة وضعيفة كدا.
توسعت عيناها وتثبتت حركة بؤبؤيها في محجريهما بسبب إندفاعه في وجهها بتلك الطريقة وكأنه تحول من بداية الحديث حتى نهايته وهتفت بسخطٍ تشير على نفسها بإصباعها:
_أنا!! أنا جبانة وضعيفة؟ دا أنتَ لسه قايل إنك شوفتني بحاول علشانك وفرحت، لو أنا جبانة بجد مكناش وصلنا لهنا وقعدنا مع بعض، أنا أقول على نفسي جبانة بس أنتَ لأ، مبحبش حد يتخطى حدوده معايا.
رفع أحد حاجبيه بذهولٍ منها ومن طريقتها وقد أبتسم باستخفافٍ وأقترب منها يميل نحوها وهو يقول ما أطاح بهدوئها:
_جبانة يا “هـيري” وضعيفة ولسه متقدريش تعملي أي حاجة من غير خوف بدليل إنك حتى الكلام بتكتميه وتهربي منه بس أنا فاهم وشايف عادي جدًا، وعامل نفسي مش شايف حاجة علشان عمرك ما هتتجرأي، والحل إنك تكوني معايا في بيت واحد علشان تتعلمي إزاي لسانك يطول.
فلتت شهقة خافتة من بين شفتيها ذاهلةً مما خاطبها به وقد شعرت بمدى استفزازه لها وهي تُطبق شفتيها بغيظٍ منه فأضاف هو مُكملًا بنفس الطريقة:
_دا آخرك خلاص، تسكتي ومتنطقيش، بس بكرة هخليكِ تقاوحي وتبجحي وترفعي صوتك، علشان أنا مبكرهش قد الناس المتربية، بيعصبوني، ومعاهم الساكتين اللي عمرهم ما بيعترفوا باللي جواهم، زيك كدا برضه.
ضربت الطاولة بكفيها وهي تميل نحوه تهتف بغيظٍ ألتهب بسببه وبسبب طريقته وقد قررت هي أن تثبت له كذب حديثه وأنه أخطأ حينما تحداها لتهتف بصوتٍ حاولت جعله هادئًا لكنه خانها وخرج مهزوزًا:
_ومين قالك إني جبانة وبخاف؟ وعادي ممكن أقول اللي جوايا من غير خوف أو كسوف لأني مش بخاف، أنا كمان بحبك وبحبك أوي كمان، ومتخيلتش حياتي مع حد غيرك، ومش هينفع أصلًا أكون مع حد تاني غيرك، علشان أنا مش شايفة في كل الدنيا دي غيرك للآسف، شوفت إني مش جبانة؟.
سألته بتوترٍ وصدرها يعلو ويهبط من إنفعال حديثها وقد نال هذا المُتلاعب مراده أخيرًا ليبتسم بسمة الظافر في حربٍ كلامية ربحها منذ الهجاء الأول لتدرك هي لتوها ما أوصلها إليه وقد رمقته بعينين مُتسعتين تطالعه بسهامٍ قاتلة من خضراوتيها حتى أرجع ظهره للخلف بشموخٍ وهتف ببرودٍ كأنه لم يكترث بها أو بما فعل:
_طب كويس، المهم الكلام خدنا ونسيت أسألك تشربي إيه؟.
تضرج وجهها بحمرة الخجل بعدما أيقنت الفخ الذي نصبه لها هذا الوقح المتحذلق لكي يحصل على ما يُريد دون أي مجهودٍ يُذكر منه، بينما هي فكأنها أقامت حربًا كاملة لكي تصل لهذه الحالة وهي تحاول التفكير في الركض من أمامه وقبل أن تفعلها وجدته يقبض على رسغها فجأةً رافعًا حاجبيه بتحذيرٍ جعلها ترضخ من جديد وقد أبتسمت بيأسٍ حتى أبتسم هو الآخر لها بصفاءٍ وحقًا صدق تلك العبارة التي سبق وكتبها في مرساله الذي لم يُرسل لها، صدق وآمن بكل كلمةٍ خطاها بيده والآن يراها بعينيهِ..
__________________________________
<“العدو الأول في قائمة الخصوم يرأس الحثالة بعدهِ”>
العجب للمرء الهاديء اللين حينما يجد طرقاته ممتلئة بالأعداء، حيثُ طرقه نقية ونظيفة في حين أن عدوه يشبه الحية في تحركاتها، العجب أيضًا حينما يكيدون لمرءٍ نجح فيما فشلوا هم في التحصل عليه، ثم يعاقبونه على ما لم تنتجه أيديهم ووصلوا إليه، هؤلاء هم من كُتِبَ فيهم في واحدة من المقولات التي شملت تعريفًا هامًا لهم حيث نص:
“والغريب أن أولاد الأفاعي يُعرفون أنفسهم على أنهم طيببن، لكن الطيبون حقًا لا يقولون شيئًا، إنهم يقضون حياتهم يغفرون للآخرين لكنهم لا يستطيعون أن يغفروا لأنفسهم” فأحذر يا عزيزي من أبناء الأفاعي وأختر مسلكك النقي بعيدًا عنهم وإلا كثرة إختلاطك بالفاسدين قد تجعلك مثلهم.
جلس “سـامي” في حديقة البيت يهز جسده بغضبٍ فوق الأريكة ويهز قدميه بإنفعالٍ وهو يُفكر في طريقةٍ توصله بابنه خاصةً بعد فشل مكيدته التي كَيلها لـ “عبدالقادر” وقد صدح صوت هاتفه برقم المحرك الأكبر له ليخطف هو الهاتف مُسرعًا يجاوب بقولهِ:
_أنا سمعت كلامك رغم إني عارف إن حاجة زي دي مش هتنفع بحاجة بس خليني معاك للآخر، أنا ابني فين؟ هعملك اللي أنتَ عاوزه كله إن شاء الله حتى أجيبلك السمان كلها تحت رجلك يا “ماكسيم” بس ابني فين؟ أوعى تكون أنتَ اللي عملت كدا.
سأله بصوتٍ قاتمٍ وكلماتٍ داكنة يتهمه بتخمينٍ ضائعٍ جعل الآخر يهتف بسخريةٍ باردة مثل طباع دمه البارد تمامًا:
_صدقني مش مصلحتي أخطفه ومش هستفاد حاجة، بس أكيد ابنك كدا ممكن يكون مشي من نفسه، المهم أسمعني كويس أنتَ كدا بلغت عن “عبدالقادر” وزي ما بتقولوا عندكم كدا في مصر العيار اللي ميصيبش يدوش، وهما هيبدأوا ياخدوا حذرهم، تاني حاجة عاوزك تركز عليها هي صندوق الدهب اللي هيخليك ترجع ابنك وتقهر “أيـوب” و “يـوسف” مع بعض، الحجر اللي يخليك تجيب عصفورين سوا، “قَـمر” دي هتخلي ابنك يظهر لو معاهم وهتخلي “يـوسف” يديك روحه حتى، بس هقولك تعمل إيـه بالظبط، تاني حاجة ودي الأهم بقى..
سكت هُنيهة يُرتب الكلمات على طرفه ويُبرمج الإشارات المرسلة ثم هتف مُتابعًا بعد أن هدأ عن السابق:
_فيه حفلة كبيرة هتم في السمان، الحفلة دي عبارة عن عيلة كبيرة هيجوزوا ولادهم لبعض وكل الناس هتبقى معزومة، وسط الحفلة دي في عربية من هناك هتخرج مشحونة على آخرها مساخيط، من وسطهم تمثال مهم أوي لازم ييجي زي ماهو، البيت هيتحاوط بشادر وساعتها العربية هتتشحن، أهم حاجة يا “سـامي” مش عاوز غباء منك الأيام دي، “ضـاحي” أتغابى وأهو مرمي في الشارع بعدما أتطرد من بيته، وموضوع إبنك دا أنا هتصرف فيه.
تنهد “سـامي” بثقلٍ وصمت عن الحديث وكأنه لم يعد يملك أي حديثٍ، لقد قبل ورضخ لوكرٍ من الأفاعي وعزف لهم وقبل أن يُراقصهم، ولم يعي أن المرء إذا قبل بالذُل مرةٍ واحدة سيكتب عند الناس ذليلًا، وهذا للآسف خضع للذل وقبل به فقط مقابل نقود مالية وهدايا عينية تجعل المرء يقدم حياته على طبقٍ من الفضة يريد الحياة اليوم؛ والموت غدًا.
في منطقة التجمع..
جلس “نـادر” شارد الذهن وحيدًا يشعر بآلامٍ متفرقة تغزو جسده وقد بحث بعينيهِ عن أحدٍ فوجد والدته تدلف له وهي تحمل صينية معدنية ممتلئة بالطعام ثم وضعتها بقربه على الفراش وهتفت بنبرةٍ هادئة استعدادًا لإطعامه:
_يلا سمي الله علشان تاكل، يلا.
قلب عينيه بمللٍ وهتف بنبرةٍ جامدة يخرج نيران الحيرة من جوفه يُلقيها أمامها:
_أنتِ حصلك إيـه؟ مرة واحدة كدا كل حاجة أتغيرت وأنتِ كمان؟!، بقيتي بتعملي خطط وتنفذي وتدوري وتشوفي حلول؟ إيـه اللي حصل خلاكِ تبقي كدا، وإيـه حكاية “شـهد” وجوازي منها؟ المفروض يعني إن على الكلام ساعتها إن والدها رافض “يـوسف” علشان كان حاول يعتدي عليها وساعتها بابا وخالو “عـاصم” قالولي إن هيفضحهم بأفعاله، ولما سألتها قالتلي إنه حاول فعلًا بس هي دافعت عن نفسها وعلشان بتحبه كانت موافقة تتجوزه وعلشان ميأذيهاش، ودا اللي خلاني أتجوزها، معنى كلامك دا إن هي كمان سمعت كلامهم؟ طب ليه؟ أستفادت إيـه طيب؟.
أبتسمت أمـه باستهزاءٍ ثم هتفت بسخريةٍ:
_قول مستفادتش إيـه، الحرباية دي لو أنتَ مش واخد بالك يعني بقى ليها في كل حاجة خلاص، في البيت والشركة وعربية جديدة وشقتك اللي بملايين في الكومباوند، وشبكة ألماظ، ومتجوزة قبطان، وفوق كل دا بيحبها وطلباتها مُجابة، هتطلع نفسها وحشة في عينيك؟ لازم تمثل إنها البريئة الطيبة و “يـوسف” الغدار الوحش، رغم إنه مهما عمل ومهما راح وجه مستحيل يستغل واحدة ست لحاجة، أما بقى أنا إيـه اللي حصلي، فأنا خدت الورق اللي مهددني بيه، كل ما هددتهم إني هتكلم كانت كلمتهم واحدة بس وهي إني مجنونة ومحدش هيسمعلي، وأبوك كان معاه الورق دا، خدته بطريقتي منه، ومش هسيبك تاني، وعلى فكرة هي مش هتخلص بسهولة، أبـوك حقود وغلاوي، والحقود دا نهايته حاضرة مهما طالت، أنا اللي يهمني هو أنتَ، كفاية اللي ضاع بقى وخليك معايا، و “يـوسف” خلاص مع “غالـية” وهي أحق بيه من الكل، أرتاحت كدا خلاص يعني؟.
سألته بقلة حيلة وكأنها نفذ صبرها من الموضوع ذاته فيما هتف هو بسخريةٍ تهكمية يرد على سؤالها:
_لأ مارتحتش، وطول ما أنا هنا مش هرتاح كدا، وإيه بقى اللي يريح يعني؟ ها؟ أب بيستغلني ولا مرة همه مشاعري، وأم سلبية سكتت للكل لحد ما وصلنا لهنا، ومراتي كدبت عليا والله أعلم باللي حصل وأنا بقيت عاجز ومش قادر حتى أحرك رجليا الاتنين، وكل حاجة راحت وضاعت، إيـه اللي يريح؟ بعدين أنتِ فاكرة إن أنا و “يـوسف” ممكن نرجع تاني مع بعض زي حياتنا قبل موت “مصطفى الراوي”؟ بأنهي وجـه حق أصلًا؟ بصي أنا مش مقتنع إني وحش أبدًا، لأني في النهاية نتاج أفعالكم، فأنا أول ما أقف على رجلي هامشي من البلد دي، وأسيبهالكم براحتكم، ولو مراتي عاجبها القُعاد هنا تقعد عادي، بس مش عاوز وجع دماغ بقى، خدي الأكل علشان نفسي أتسدت.
طالعته هي بيأسٍ ثم أبعدت الطعام عن الفراش فيما أغمض هو عينيه ناقمًا على الجميع وحاقدًا على نفسهِ وقد علم أن للآسف فشل في الإمساك بأي شيءٍ يُعيد له هويته القديمة بل أضحىٰ مجهولًا وسط الجميع حتى من نفسهِ، الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا معه مما سبق والآن هو يرخي كلا يديه من كل شيءٍ لعله ينجو بنفسهِ من هذا المستنقع الممتليء بالعديد من المشاعر السوداوية ويوم أن ينضح؛ ينضح بأقذر مافيه.
__________________________________
<“الليل أقبل، وأنا في الطريق مُقبل”>
” الليل أقبلَ والوجُودُ سُكُونُ
بالليلِ راحت تستريحُ جُفونُ
وهناكَ أحلامُ الخيال توافدت
تسرى فتسبحُ فى الخيالِ عيونُ”
قُبيل الفجر بلحظاتٍ عند مطلع الخيط الأبيض في السماء في الصمت والظلام والنسمات الباردة، تحديدًا في مدينةٍ نائية ومتطرفةٍ وبعيدة، يسكنها الظلام ويقل فيها السكان، صدح صوت الإبتهال السابق يشق الصمت المُخيف باعثًا في الأنفس أملًا ليس بطفيفٍ، وتحديدًا عند مقبرة أمواتٍ وصل “مُـنذر” بخطواتٍ خاوية من كل ما يدل على الروحِ، لقد صارع كثيرًا حتى أتى إلى هنا، الأمر في غاية الصعوبة عليه وهو يعلم مكان قبر التي خرج من رحمها ونالت لقب أمـه وقد أقترب يقف أمام اللوح الرخامي المنقوش عليه اسمها وحينها أزدرد لُعابه لتصله بقية الكلمات من الزاوية القريبة من المقابر:
_والروح تمضي فى مجالاتِ العلا
وهناكَ فى نهرِ الصفاءِ تكونُ
فضلٌ من اللهِ العظيمِ على الورىٰ
ليلٌ يجيء وسرهُ مكنونٌ
فى الليل يارب وفي الأسحارِ
أدعوك يا اللهُ وأنت الباري
أنت الذى أوجدتنا وخلقتنا
أنت العليمُ بدقةِ الأسرارِ
بيديكَ أنت الأمرُ ياربَ الورى
وإليك.. وإليك وإليك
يرجعُ محكمُ الأقدارِ
وقف يتنفس بحدةٍ كغريقٍ في منتصف البحر أمامه النيران وخلف الطوفان، والنجاة لا مجال لها إلا بالغرق محله، وقد وقف يقرأ الاسم مليًا بعينيهِ وهو يسخر متألمًا على حالهِ، فمن يصدق أن اللقاء الأول يتم بتلك الصعوبة؟ حيث طفل غُدِر به، حملته ثم وضعته ثم باعته وأولته ظهرها بغير عودةٍ، والآن يُلاقيها لمرتهِ الأولى وهي متوفاة يواري جسدها التُراب، نزلت دموعه باكيًا لمرته الأولى منذ زمنٍ وأعوامٍ كثيرة، بكى صامتًا، ثم منتحبًا ثم بصوتٍ متقطعٍ، ثم بصراخٍ مدوي يشق الصمت المُخيف ليعبر عن تصدع روحهِ، ظل يصرخ أنيًا لروحه المحترقة وهو يقف عند قبرها…
وقد تخامل جسده عن الصمود وتراخى عن الوقوف فنزل بركبتيهِ يستند بقرب المقبرةِ باكيًا بوجعٍ لم يعلم إن كان يُزيد من جروح روحه أم إنه يُطفيء نيرانه ولو قليلًا، وقد أدرك الحالة التي أصابته ونوبة البكاء التي أنخرط بها فعاد للخلف بسرعةٍ كُبرى بعدما أدرك ما فعله وحينها ظهر الجانب الآخر منه، ذلك الجانب المقتول المتألم وقد طالع القبر بتيهٍ يُحدثها بصراخٍ وقهرٍ وكأنها تستمع إليه:
_أنا معيطتش علشانك، أنا عيطت علشان نفسي، عيطت على اللي أنا شوفته وعيشته في حياتي بسببك، ليه أنا أدفع تمن غلطتك واستهتارك؟ ليه أنا اللي أكون كبش فدا لأم مستهترة وأب مواروش غير ملاذاته؟ ليه أنا اللي أعيش مذلول وأنتم تموتوا وترتاحوا من الدنيا دي؟ ليه مقتلتنيش؟ ليه منزلتنيش وخلصتي وخلصتيني وكنت أرتاحت أنا؟؟ ليه طيب سبتيني معاهم، ما كنتي خدتيني معاكِ أجرب حضنك، ليه خلتيني معاهم لوحدي وبقيت بكرهني؟ طب ليه أنتِ محبتينيش؟؟.
أنفجر باكيًا وهو يسألها وكأنه طفل تُرِكَ وسط القبيلة والطوفان يقترب منه فيما ظل هو يبحث عن أمـه؛ لكن ما آلمه أكثر من خوفه أن أمـه هي التي ألقته في الطوفان لتنجو بنفسها، والآن يقف الصغير أمام قبر أمـه يسألها صارخًا ومتألمًا، الآن لقائه الأول بها وهو يتمنى أن يكون محلها، لقاءٌ يقتل الروح الحية بصباها، ويُرهق الزهور بنداها ويُزيد الصرخات بصداها، يقف باكيًا يشكو لقبرٍ من الحجر لن يواسيه، ومهما بلغ مُـر الشكوى لوجعه لن يوفيه، ذلك الصغير الذي تمنى ولو لمرةٍ واحدة عناقًا وقف يصرخ متألمًا من الهَمِّ ومما فعلته الأم.
وقد تحكم في بكائهِ ثم هتف بصوتٍ مبحوحٍ بألمٍ شق حنجرته:
_أنا بسببك أتعلمت حاجات كتير، أهمها إني مبقاش عندي قلب بيحس أصلًا، مبروك عليكِ ابنك قتال قتلة من غير ما عينه تغمض حتى، وحرامي ياما سرق أوراق وفلوس، وخاطف مفيش أسرع منه، وقناص محترف، شوفتي أنا بقيت إيـه؟ نجيتي بنفسك ورمتيني في النار، وأنا بقى بكرة هكون سبب في دخولك أنتِ وهو النار، النار اللي عيشت فيها بتحرق وأنا ساكت محروم حتى من الصريخ..
نزلت دموعه من جديد وتهدج صوته ليهتف متألمًا بعبراتٍ ساخنة سالت على وجههِ:
_أنا مش عارف المفروض أعمل إيـه في موقفي دا، بس أنا للأسف أول مرة قلبي يدق كدا وأحس بيه وأنا واقف قدامك هنا، عمري ما كنت أتخيل إن أول مرة أشوف اللي المفروض تكون أمي أشوفها وهي جوة قبرها، صدقيني أنا مش وحش، ومش كويس، أنا غصب عني عيل ملهوش طفولة، وملهوش حاجة خالص، حتى ملهوش حب منكم، وأنا غصب عني مش قادر أكرهكم ولا قادر أحبكم، علشان محدش فيكم حبني ولا فكر فيا حتى، عارفة أنا كل يوم بسأل نفسي أنا ليه مش بطيقني، وبعدها بفكر نفسي وأقول مش يمكن لو أمي كانت بتحبني كان زماني عارف أحب نفسي، سلام يا… يا ماما.
هتف جملته الأخيرة بوجعٍ تهكمي ثم أولى المكان ظهره وأغمض عينيه يوقف عبراته الساخنة ويتحكم في نفسه وهو يشق الطريق من هنا قبل أن يتدمر كُليًا، لكن صوت الآذان الذي صدح فجأةً جعله يتوقف بجسدٍ أقشعر تلقائيًا، حيث المساجد بمسافاتها المبتعدة أرتفع منها صوت الآذان مثل النور يُزيح الظلام، نورٌ يشبه نور الفضل في تسبيحة “يـونس” الذي خرج من بطن الحوت بإرادة خالقه، نورٌ ينشقع في الأفئدةِ يُطمئنها وفي الروح يُطيبها، وحينها وقف يرهف سمعه للصوت حين صدح
_الله أكبر.. الله أكبر.
حينها وجد نفسه يتحرك صوب الزاوية الصغيرة بجسدٍ مُرهقٍ وقد وقف يبحث بعينيهِ عن أي أحدٍ في المسجد وقد أقترب منه الرجل الذي تولى مهمة رفع الآذان بعد النهاية ثم أشار على بابٍ صغيرٍ وهو يبتسم له وهتف بنبرةٍ تغلب عليها الودية:
_دي الميضة يابني، أدخل أتوضا يلا.
حرك رأسه موافقًا وسار بجسدٍ خالٍ كُليًا ونظراتٍ كذلك خاوية من أي شيءٍ ثم وقف حائرًا، كيف يتوضأ؟ لقد نسىٰ كيف يفعلها ويتوضأ حتى دلف الرجل يتجهز للصلاة وقد لاحظ جفافه فقرر أن يتوضأ أمامه والثاني يُكرر خلفه وقد حرس الأول أن يعلمه دون أن يتسبب له في أي حرجٍ وبعد مرور دقائق معدودة لاحظ الرجل خجله وخزيه من تواجده بهذا المكان الطاهر فأقترب منه يقف بقربهِ هاتفًا بنبرةٍ أقرب للعاطفة الأبوية:
_أوعى تتكسف تدخل بيت ربنا، أتكسف من نفسك يوم ما تكون بعيد عن بيت ربنا، إحنا يابني كلنا ضيوف الرحمن، غلابة ومساكين والله، كلنا هنا ناس، وهو العلي العظيم رب الناس، ربنا يحفظك ويحرسك ويرد طريقك من تاني ويرزقك الهداية، صلي وأدعي وأتوسله يرحمك، أتوسله يغفرلك، أتوسله إنك متوهش عن هدفك، أطلب منه النجاة من الدنيا، مالناش غيره، والله يابني ما لينا غيره.
ربت على كتفه وأومأ عدة مراتٍ ثم ترك له الحرية بمفردهِ وقد جلس “مُـنذر” على رُكبتيهِ صامتًا عن الحديث لأن وبكل آسفٍ أضحىٰ لسانه معقودًا وكأنه يخجل حتى رفع عينيهِ فنزلت العبرات الساخنة تعبر عن بكاء قلبه قبل لسانه، يرى نفسه وضيعًا وقاتلًا، وقبلها وحيدًا وضائعًا، سلعة، هو من الأساس مجرد سلعة ظلت الأيادي تُحركها يمينًا ويسارًا كما تشاء وكما تُصب في المصالح الشخصية للجميع وراحته هي آخر ما يُهم.
__________________________________
<“قام الخيل من جديد، كعادته خُلِقَ شامخًا”>
قُبيل الظُهر بلحظاتٍ..
يُحسب عمر المرء بعدد وقوفه من بعد التعثر، ويُقاس بمرات القوة من بعد ضعفٍ، ويُستشَف من الفرح بعد حزن، وقد قرر هذا الخيل أن يعود من جديد شامخًا يرفع رأسه في وجه الجميع ويُعلن صموده، وقد وقف “إيـهاب” أمام المرآةِ صباحًا يُهندم ثيابهِ ويُصفف خصلات شعره حالكة السواد وقد تابع نظراته وملامحه في المرآة ليجد عينيه مُنتفختين من كثرة نومه بالأمس، لقد نام لوقتٍ كبيرٍ تلك النومة المُسماة بنومة أهل الكهف، لقد نام منذ الأمس خائفًا بين ذراعي زوجته وهو يضع رأسه عن موضع نبضها وقد ظل مُمسكًا بها حتى استيقظ منذ قليل ووجد الفراش خاليًا منها..
فتح باب غرفته وبمجرد أن فعل ذلك تهادى إلى سمعهِ صوتٌ كُلمات عالية وهي تُدندن معها أثناء تحركها في المطبخ بخفةٍ تقوم بصنع الفطور لهما:
_آه يا أسمراني اللون،
حبيبي يا أسمراني..
يا عيوني نسيانا عيون حبيبي الأسمراني،
آه يا أسمراني اللون حبيبي يا أسمراني،
آه تحت الرمش عتاب وعذاب وعيون ما تنام،
دوقت معاك طعم الأيام والوقتي تغيب يا سلام..
أبتسم بعينيهِ وأرتسمت السخرية على ملامحه وشفتيهِ وهو يراقبها تتحرك بتلك الإنسيابية المُهلكة لمشاعره، حتى أن أعراض الحمل وما شابه ذلك لم تظهر عليها بعد، بل هي لازالت في خفة الفراشات أثناء تحركها وقد أقترب منها يقف مقابلًا لها ولازال يبتسم بعينيهِ فيما سألته هي بلهفةٍ:
_أنتَ صحيت ليه؟ دا أنا كنت بحضر الفطار ونفطر مع بعض جوة في الأوضة، أنتَ شكلك تعبان يا سي “إيـهاب”.
في الحقيقة هو ممتنٌ لها كثيرًا، منذ الأمس وهي تتولىٰ دور الأم بإمتيازٍ وقد برعت في إحتوائه وحمايته حتى من نفسه لذا أقترب منها وشبك كفيه خلف ظهرها يقربها منه ثم أخفض رأسه قليلًا يهتف بصوتٍ رخيمٍ وهو يأسرها بعينيهِ الدافئتين:
_سي “إيـهاب” مش عاوز منك حاجة خالص غير إنك تكوني بس موجودة قدام عيني، لا تعملي فطار ولا تتعبي نفسك، وأهدي شوية علشان اللي في بطنك، أنا بقيت كويس أوي، كفاية إنك طول الليل جنبي وفي حضني، “سـمارة” أنا عاوز أشكرك، أشكرك إنك ست الناس كلها، أنتِ عمي وعم قلبي وعم الناس كلها في عيني، وأحلى حاجة في حياة كلها مرار، أنا بحبك.
هتف كلمته الأخيرة ثم لثم جبهتها بقبلةٍ عميقة جعلتها تبتسم له وقد لمعت عيناها مثل أضواء القمر المنير فيما مسح هو على خصلاتها الغجرية السوداء ثم أنسحب من أمامها نحو الخارج ليتركها بمفردها تطالع أثره بعينين لامعتين، وقد نزل هو للأسفل يتوجه نحو الفناء الرملي فوجد شقيقه يجلس برفقة “ضُـحى” ومعهما “نـور” و “سـراج” و “نَـعيم” يترأس الطاولةِ وقد أقترب منهما يبتسم بنعومةٍ جعلت شقيقه يطالعه بحنينٍ حتى جاوره في جلسته وأطمئن على إصاباتهِ ثم أنتبه للأخرى وسألها بتهكمٍ:
_خير على الصبح؟ جاية ليه؟.
جاوبته “ضُـحى” بتهكمٍ هي الأخرىٰ:
_وأنتَ مالك يا عم؟ جاية أشوف خطيبي، خير هدفعلك كارتة إن شاء الله علشان أعدي كمان؟ ولا تكونش معارض مثلًا؟.
ضيق جفونه يرمقها بتحذيرٍ ثم أبتلع الردود داخل جوفهِ حتى لا تزداد الأمور بينهما وفي الحقيقة حالته لم تسمح بذلك، وقد مال “إسماعيل” عليه يهمس له مستفسرًا بقولهِ:
_أنتَ كويس؟ من إمبارح مشوفتكش.
أومأ له موافقًا ثم مسح على كتفهِ يجاوبه بما يُريحه:
_أنا بخير متقلقش، وكويس علشان شوفتك كويس، المهم خلي بالك من نفسك وحاول متتحركش كتير علشان رجلك لسه تعباك، هروح الشغل ساعتين كدا أتطمن على الدنيا وأجيلك تاني، عاوز حاجة مني؟.
نفىٰ ذلك حينما أماء برأسهِ سلبًا وقد أنتبهت لهما “ضُـحى” التي قررت أن تشاكسه هي الأخرى بقولها:
_طب وأنا مش هتسألني يمكن أعوز حاجة؟.
حرك رأسه لها ووقف وهو يجاوبها ساخرًا:
_أنتِ واخدة أخويا يعني تسكتي خالص علشان معنديش أغلى من كدا تاخديه، يلا علشان أوصلك في سكتنا.
ظلت تسخر منه وهي تعلم أنه فقط يُثير ضيقها وضجرها وقد أشار هو لـ “سـراج” الذي أشار لحبيبته حتى وقفت وودعت الجميع قبل أن تنتبه لهاتفها الذي صدح باسم “شـهد” وقد أغلقت هي الهاتف في وجهها ولاحظ ذلك “سـراج” الذي أقترب منها يهمس لها قائلًا:
_أعمليلها بلوك وخلصي نفسك، ولو فكرت تبعت رسايل تاني أنا هجيب خبرها، مش كفاية عاملتها كمان بتقل أدبها وتهددك، طب لو هي من ضهر راجل تفكر بس ترفع عينها في وشك، وربنا أنا ممكن أخليها تترمي في الشارع بس علشان وعدتك مش هعمل حاجة، لكن كدا مش هينفع.
سكتت هي بقلة حيلة وحركت رأسها موافقةً وقد لاحظ “إيـهاب” حديثهما سويًا فآثر عدم التدخل بينهما وقد نظر نحو شقيقه فوجده يضحك مع خطيبته وهي تضع الهاتف نصب عينيه يشاهدا شيئًا سويًا ويضحكان معًا، وحينها تنهد هو ثم تبع الثنائي نحو الخارج، بينما “نَـعيم” فظل جالسًا يشمل المكان حوله بنظراتهِ صامتًا وهو يُفكر في أمر “نـادر” ووالده وتخطيه لكل الحدود والهدف فقط حماية الشباب.
__________________________________
<“لا تظن فيه السوء، فهو دومًا أسوأ مما تظن”>
في بيت “عبدالقادر” وقف “أيـهم” يتجهز لذاك المشوار برفقة صديقه وقد راقبته “نِـهال” التي لم تذهب لعملها وحينها أقتربت تسأله بجمودٍ كونه يتمادى في صمته عليها:
_هو أنتَ ليه مش عاوز تعبرني كأني ماليش لازمة هنا؟ قولتلك أنا مبحبش الطريقة دي وأنتَ مصمم تتجاهلني، أنا حاسة إن فيه حاجة غلط، تصرفاتك كلها غلط، ومش هقولك الكلام الخايب بتاع شاكة فيك وبتلعب من ورايا، بس الوضع ميطمنش، الوضع صعب واللي بيحصل يوتر، ريحني طيب.
كانت كلمتها شبه متوسلةٍ له حتى هتف هو بثباتٍ يحاول طمئنتها بكلماته الهادئة:
_يا بنت الناس موترة نفسك ليه؟ أنا كويس قدامك أهو، وكلنا بخير وأنتِ بنفسك شايفة إننا تمام والبيت حاله كويس أهو، بعدين لو فيه حاجة مش هقولك عليها، علشان مش عاوزك تعيشي في شقاء المعرفة، أتدلعي في نعيم الجهل أحسن.
رفعت حاجبيها ساخرةً وقد هتفت بتهكمٍ وهي تنسحب من أمامه وقد أزعجها شعورها كونها أمامه بلهاء لم تفقه شيئًا:
_ماشي يا “أيـهم” ماشي وخليك فاكرها كويس، بس أنتَ كدا سايبني في شقاء الجهل وحاسة إن الموضوع كبير، عن إذنك بقى يا أبو معرفة أنتَ.
راقبها وهي تنسحب من المكان نحو الخارج وهو يفكر كيف يخبرها بما يفعله ويُحاكيه خاصةً إذا كانت مثلها مشاعرها تقودها، حقًا المرأة في بعض الأحيان تملك قرون الاستشعار وتستشعر بكل ما يفعله زوجها، يبدو أن المرةِ السابقة طليقته لم تمت لعالم النساء بصلةٍ واحدة..
في شقة “غَـالية” رحل “يـوسف” مع أخيه نحو مقر العمل بمنطقة الزمالك يُتممان على كل شيءٍ قبل استعدادهما لمغادرة القاهرة، وقد أخبر أمه وزوجته بأمر سفره ورحيله إلى مدينة شرم الشيخ، وأستمر الوضع هكذا حتى حلول المساء ليلًا وقد كانت “قـمر” تجلس في غرفتها فوصلتها مكالمةٌ صوتية جعلتها تجاوب على المكالمةِ بسرعةٍ كبرى ظنًا منها أنه زوجها لكنها تفاجئت بصوت إمرأةٍ تهتف بلهفةٍ:
_ألو، آنسة “قـمر” معايا؟ أنا يا بنتي مرات “فيصل” اللي بيشتغل في بيت “الراوي” الست عمتك تعبانة أوي ومفيش حد هنا معاها وهي أدتني رقمك على أساس أكلمك وتيجي تلحقيها، بسرعة يا بنتي الله يخليكِ شكلها حالتها صعبة أوي.
توسلتها المرأة أن تسرع بالقدوم وقد حركت “قـمر” رأسها نحو الساعة المُعلقة لتجدها قاربت على السابعةٍ مساءً حينها وقعت في صراعٍ حتى أنها حاولت أن تبحث عن أحدٍ يسعفها لكن الجميع في هذه اللحظة أسروا في مشاغلهم الخاصة وقد قررت أن تتجاهل الأمر برمتهِ، من الأساس عمتها لم تكترث بهم، لما هي تُشغل بالها بها؟ لكن صوت ضميرها آلمها وخاصةً أن الأمر يخص أخت والدها، وقد وقفت هي في غرفتها ثم بدأت تدور حائرةً فيما تفعل.
بعد مرور ما يقرب الساعة تقريبًا
نزلت “قـمر” من السيارة بلهفةٍ في منطقة الزمالك بعدما أخذت قرارها أخيرًا أن تذهب لعمتها وتنقذها بصفةٍ إنسانية وليس إلا، وقد سألت عن البيت لتذهب حيث موضع الإشارة وولجت من الباب الحديدي الصغير نحو عدة درجات أوصلتها للبوابة الكبيرة وقد وجدت الباب مفتوحًا وحينها دلفت بخوفٍ حتى وصلت لمنتصف البيت وهي تهتف بترددٍ:
_يا طنط، يـ.. يا طنط “فـاتن” يا عـ.. عمتو
ظلت تنادي بتلعثمٍ حتى ظهر من خلفها أكثر من تبغضه في حياتها وهو “سـامي” الذي أوصد عليها الباب بالمفتاح ثم سحبه ووضعه في جيبه وقد أزدردت لُعابها بخوفٍ من طلته المُرعبةِ وهي تلتفت له فيما هتف هو بضحكةٍ متشفية:
_والله كنت متأكد إنك هبلة زي أمك وقلبك طيب زيها، جيتي لحد هنا برجليكِ، وخروجك من هنا قصاد رجوع ابني، شوفتي أنا طيب وجدع إزاي؟ مش عاوزك تخافي.
استجمعت هي جزءًا من شجاعتها الهاربة بعيدًا عنها ثم قبضت على حقيبتها تهتف بتحدٍ سافرٍ له بعدما رفعت رأسها أمامه:
_وأنا مش خايفة منك أصلًا، وجاية علشان نيتي خير ولو عمتي فيها حاجة أنا هاخدها وأمشي من هنا ومش هتقدر تعمل حاجة علشان أنت‌َ جبان وضعيف، ومش أنتَ اللي تخليني أنا أخاف، تبقى بتحلم، علشان شكلك نسيت أنا أخت مين وقبله أنا بنت مين؟.
هتفتها بتحدٍ وكأنها تُناطحه في القوةِ وقد أقترب منها يحاول فرض هيمنته عليها حتى سقطت على المقعد خلفها تقبض على حقيبتها فيما هتف هو بنبرةٍ عالية أقرب للإنفعال:
_مش خايفة؟ طب هخوفك أنا وأقولك إن البيت فاضي ومفيش خروج منه غير برجوع أبني، ومش هسيبك غير لما يحصل اللي أنا عاوزه، لسه مش خايفة؟ أحب أقولك إني المرة الجاية هخلص عليهم لو أبني مرجعش، ها؟؟ قولتيلي بقى إنك مش خايفة صح؟ أنا هخليكِ تترعبي يا “قـمر”..
أنهى جملته وكاد أن يقترب منها لكنه تفاجأ بباب البيت يُفتح ويطل منه آخر من توقع تواجده هنا فيما زفرت هي براحةٍ لرؤية زوجها “أيـوب” يغلق الباب ثم أقترب يقف في مواجهة الآخر هاتفًا بتهكمٍ:
_تخليها تترعب!! دا على أساس إنها متجوزة “بكار” أبـو كف رقيق وصغير ولا إيـه مش فاهم؟.
ضحكت هي بإطمئنانٍ له فيما أقترب هو يبعده عنها ثم قام بإخفاء جسدها خلف جسدهِ ودفع غريمه في صدره يُرجعه للخلف ثم هتف بنفس التهكم الممزوج بنظرات خبثٍ لامعة:
_إيدك بس كدا عنها وخليك بعيد علشان مبحبش حد يقرب من حاجة تخصني، بعدين مش عيب كدا يا أنكل؟ تجيبنا على ملا وشنا كدا؟ ومفيش حتى كوباية عصير؟ أنتَ بخيل ولا إيـه؟ تحب أوريك واجب الضيافة إزاي؟.
في تلك الحالات يصبح شخصًا غير المعروف في العموم، نسخة جديدة منه تظهر في بعض الحالات الاستثنائية ليطيح بكل الظنون نحوه عرض الحائط، ثم يضرب المثالية في مقتلٍ، نظرات جديدة في عينيه، وملامح أخرى في وجهه، والآن سيلقي أول درسٍ في تعاليم كرم الضيافة.
_______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى