روايات

رواية غوثهم الفصل الحادي والستون 61 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والستون 61 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والستون

رواية غوثهم البارت الحادي والستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الحادية والستون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والستون”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
ربي إني قد وقفتُ على بابك ذليلًا
وفي شفائي بدون مجاورتك كُنتُ عليلًا..
أتيتُ والدمع مني يفيضُ وكأني
وسط كل الحشود لم يكن لي خليلًا..
جِيئتُكَ طمعًا في رضاك فأرجوك
أن ترأف بحالي وقلبي قد رجاكَ…
فالفيض منكَ يا واسع العطاء
فأرجوك بكل أملي ولا أملك سوى الرجاء..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
قد يُكتب علينا من جديد الفراق
ورُبما يُحرم علينا الالتقاء… ويَستحيل بيننا اللقاء
أو نبقى في خطة الإنتظار حتى نمل من كثرة البقاء..
لكنني سأظل مُحتفظًا بكل الأمل في قلبي أنكِ أنتِ دومًا كنتِ ولازِلتي سببًا لوجود النقاء، فكما حُيِّزَ لنا من قبل اللقاء..
حتمًا سَيُكتَب لنا من جديد لنبقى سويًا لكن هذه المرة بدونِ فراق…
فدربي أنا أعلمه جيدًا وله من بين سائر الدروب استهديت، وأظنها هذه المرة ستتكرر وتُلقين سؤالك عليِّ لتسأليني كيف لسُبلكِ من بين شتى المسالك استهديت؟، وكما سَبق وقولتُ سأقولها من جديد وهذه المرة بكل أملٍ يحيا به قلب المرء:
“لا تسأليني كيف استهديت كان قلبي لعندي دليلي”..
فقلبي كما طريقي كلاهما أصدقائي، والصديق قد يحتاج لشبيهٍ، والشبيه لشبيههِ يطمئن.
<“نآسف لإخفاء الحقيقة، لم نَرد قتلك”>
وقف “نَـعيم” في هذا المخزن الذي اختاره “مُـنذر” لكي يقابله به بعيدًا عن أنظار “ماكسيم” الذي يقوم بعملية إخراج الآثار اليوم من أرضها، رفع “مُـنذر” عينيه نحوه فوجده يسأله بلهفةٍ أقرب في صدى صوتها للوعةِ:
_طمني يابني، عرفت حاجة عن ابني ؟؟.
لمعت العبرات في عينيهِ وحرك رأسه موافقًا ثم هتف بثباتٍ قاتمٍ نتج عن روحٍ سبق وتم قتلها:
_عرفت عن أخوك اللي محدش كان يعرفه، والعيل بقوا اتنين يا حج، ابنك وابن أخوك “شـوقي” الله يسامحه بقى.
رفرف بأهدابهِ مستنكرًا وقع الكلمات على سمعهِ وكأنه يجرب إحساس السمع للمرةِ الأولى حتى باتت الكلمات مجهولة بأكملها وكأنه لم يعرفها ولا يعرف حتى مقصد مخارج هذه الحروف، ألم يكن واحدًا ؟ كيف أصبحا اثنين؟ الصدمات تتوالىٰ عليه بدون أي شفقة أو حتى رأفةً بحال قلبه الموجوع، ظهر عليه التيه وكأنهُ سُرِقَ من نفسهِ، أما الآخر فكما هو أقسم لنفسه أن يبقى مخفيًا عنه حتى يعود له بكامل حقوقه وأولهم حق ابنه المفقود، وحينما قرأ اللوعة في نظراته يسأله بكل أملٍ أضاف بنفس الثبات:
_أخوك “شـوقي” كان عنده ابن من واحدة اسمها “هدية” دي كانت تقريبًا جارتكم صح يا حج ؟.
زُهِلَ “نَـعيم” مما وصله وتذكر صورة هذه الفتاة أمامه، هي لم تكن غيرها نفس الفتاة التي سبق وحذر أخيه منها، نفسها التي أنذره إذا استمر في مضايقتها والتعرض لها وتوالت عليه الشكوات من أبيها حينها سيقوم بطردهِ من البيت، أقترب منه “مُـنذر” ينطق بآسفٍ له أو لربما لنفسه:
_أنا آسف أني بقولك حاجة زي دي، بس أخوك اتجوزها في السر ولما هي حملت أخوك أتخلى عنها، وهي من خوفها راحت لـ “ماكسيم” علشان عارفة إنه هيقدر عليه، بس ساعتها جوزوها لواحد تاني من رجالة “ماكسيم” وفهموا أخوك إنها نزلت الواد، وبعدما الواد كبر شوية راحوا واخدينه من اللي رباه، زي اللي حصل معايا بالظبط.
أراد أن يُبعد عنه الشكوك التي ربما تساوره لذا أضاف من جديد مُكملًا على حديثهِ:
فمتزعلش من أخوك علشان ضحى بابنك، دا واحد أصلًا رامي لحمه وطلب موته، هيصعب عليه ابن أخوه؟.
اهتز جسد “نَـعيم” وكاد أن يسقط محله وكأن الأرض تميد بهِ، لازال مدهوشًا ومذهولًا مما حدث، من أي طينة خُلِقَ شقيقه؟ أي سمومٍ هذه التي تسري بجسدهِ؟ هل رئته كانت تعمل على استنشاق السموم والشر بدلًا عن الهواء؟ ألم يرث أي خصلة وحيدة تُميزه وتجعله من سائر الرجال المعروف من صفاتهم المروءة؟ حينما كاد يسقط التقطته يد “مُـنذر” الذي خشى عليه كثيرًا، أرتجف قلبه خوفًا من فقدانه وهذا يعني أنه فقد أخر الآمال في حياتهِ.
سأله “نَـعيم” بنبرةٍ مبحوحة بالكاد خرجت من موضعها لتصل لسمع الأخر الذي لم يقوْ على تكذيب هذه النظرة:
_ابن أخويا دلوقتي دا فين ؟ عايش؟.
نزلت عبرة هاربة من إحدى مُقلتيهِ وهز رأسه مومئًا وهتف بنبرةٍ مُحشرجة هو الأخر:
_عايش، ووعد مني هرجعلك ابنك وابن أخوك في ليلة واحدة، هخليك تحضن الاتنين مع بعض وتضم معاهم “مُـحي” كمان، واعتبره رد جميل لحمايتك لولاد عمي.
تنهد “نَـعيم” بغلبٍ على أمرهِ ثم طلب منه بنبرةٍ أقرب للتوسلِ:
_عاوزك تحكيلي كل حاجة، وتقولي لو هما خدوا فعلًا العيال دي بيعملوا بيهم إيه ؟ إيه اللي يخليهم ياخدوا عيال مش من دينهم ولا أرضهم ولا دمهم يرموهم في الجحيم هناك؟..
_أديك قولت بيرموهم في الجحيم هناك.
كان هذا قول “مُـنذر” الذي خرج منه بسخريةٍ لاذعة آلمته هو قبل الأخر الذي عصفت الخيالات برأسهِ من مجرد التخيل فقط، وسأله بعينيهِ عن مقصده وكأنه يريد التوضيح حتى سحب الأخر مقعدًا أجلسه عليهِ ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما على جلس على عاقبيهِ:
_علشان أطمنك أول حاجة متخافش على ابن أخوك هو بخير ومعاهم هناك، تاني حاجة دي حاجة اسمها اتجار بالبشر بتبقى من دولة لدولة زي تهريب كدا، بيبعوا ويشتروا الناس بالعمالة القسرية يعني غصب عنهم، أكتر الناس اللي بتتخطف بتكون ستات أو الأطفال، الستات بيكون موضوعهم أصعب، يعني يجوزوهم بالغصب أو يتاجروا فيهم دعارة دولية، أو ياخدوا أعضائهم، زي نقل بويضات، وسحب أنسجة الجسم ويحطوها في بنوك تحفظهم، أو حمل بالإنابة، يعني واحد شيك وحلوة نفسها في طفل بس مش عاوزة جسمها يبوظ، بتروح للدكتور تعمل عملية وياخد الجنين منها ومن جوزها يحقنه في بطن البت المخطوفة، أيًا كان الدولة اللي جاية منها هي ملهاش حق اعتراض، لأن دا بيعتبر أسلم حل ليهم، دا غير طبعًا الاعضاء والأطراف اللي بتتاخد بتعمل بيها عمليات مهولة وكل دا مستمر لحد النهاردة لدرجة أنه بقى عادي.
انتفض قلب “نَـعيم” بلوعةٍ وسأله بنبرةٍ أقرب للبكاءِ:
_وعيالي فين ؟؟ معاهم هناك ؟؟.
الكلمة التي تفوه بها يخص الإثنين معًا جعلت الأخر يبتسم له بعينيهِ ثم هتف بنبرةٍ مُحشرجة أقرب للبكاء هو الأخر:
_عيالك بخير، أو ابن أخوك بخير وقريب هجيبه ليك بس لما أوصل لابنك الأول، ابن أخوك على فكرة مش وحش زيهم، لسه متمسك بأصله رغم أنه مكانش يعرفه أصلًا، شكله خد جيناتك يا حج.
ابتسم له الأخر ورفع كفيه يضعهما فوق رأسهِ بقلة حيلة وهتف بنبرةٍ ملتاعة وموجوعة من ألم الفقد:
_أجيب الحبايب منين بس يا رب !! دلني عليهم.
أراد الأخر أن يُطمئن نفسه وكأن السؤال إذا لم يَخرج من فمهِ سيموت كمدًا من كثرة التفكير لذا اندفع يستفسر منه بقولهِ:
_هو لو ابن أخوك جه، أنتَ هتقبله؟ ولا هتكرهه علشان أبوه؟.
حرك رأسه له بسرعةٍ حتى أن حركته بدت عنيفة بعض الشيء وهو يجاوبه بلهفةٍ بها الإصرار كان واضحًا:
_اللي زي “شـوقي” أخويا دا راجل ميستاهلش حتى أني أفكر فيه، ميستاهلش غير أني أفضل أدعي عليه واتحسبن لحد ما ربنا يجمعني بيه قدامه علشان أقول إني مش مسامحه، لكن ابنه !! ملوش ذنب، ملهوش ذنب إنه يكون ابن لواحد زي دا، أنا هعوضه، حتى لو ابني طلع ميت زي ما قالولي، أنا راضي بيه يرجعلي.
سكنته الراحة وهدأ القلب بين الضلوع وكأنه احتمى بها كما تحمي الدروع، أراد أن ينطقها ويخبره لكنه توقف عن ذلك، خشى أن يفعلها ويخبره أنه ابن شقيقه تنقلب الأمور عليه قبل أن يعلم مكان ابن عمه، لذا ربت على كفه وهتف بصدقٍ:
_وأنا عند وعدي، هرجعلك الاتنين.
أراد الأخر أن يعلم المزيد عن القصة بأكملها لذا سأله بنبرةٍ مضطربة تتراوح بين الخوف وبين الإصرار في المعرفة وكأنه لا يملك السلطة في السيطرة عليها:
_طب معلش يابني، أنتَ قولت لما بياخدوا الستات بيعملوا اللي قولت عليه دا، طب والرجالة ؟ والعيال الصغيرة بيعملوا بيهم إيه ؟ دول مش منهم.
سحب “مُـنذر” نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ هادئة منكسرة:
_عبد، بيكون هناك عبد ليهم، يشتغل زي ما هما عاوزين، يعمل أي حاجة من غير ما يقول لأ، وملهوش حتى حق أنه يموت، لأنهم كمان بيحددوا ميعاد موته، فاكرين إنهم بيتحدوا الدنيا، ميعرفوش أنهم بيتحدوا الموت نفسه اللي محاوطهم بس ربنا لسه مأذنش، من وسط الاتجار بالبشر فيه عملية تهريب البشر بطرق غير شرعية بيتم من خلالها احتجاز المخطوفين بالإكراه ويتشحنوا زي البضايع على برة، هتقولي إيه السبب هقولك العبودية اللي بتجري في دمهم، القانون الدولي من ٢٠١٤ قال إن الاتجار بالبشر بس لوحده مدخل ١٥٠ مليار دولار سنويًا، وفي ٢٠١٠ جابوا ٢١ مليون نسمة مخطوفين من جميع أنحاء الدولة شرقها وغربها، بيتم استخدامهم بكافة الصور، استغلال جنسي، وعبودية، لدرجة إن فيهم ناس بتشتريهم يلعبوا بيهم ويتسلوا، إحنا في سواد ومحدش حاسس يا حج، الناس مُغيبة خلاص.
رفع “نَـعيم” رأسه يتحدث مع خالقه بعينين فاضتا بكل وجعٍ ظهر على شكل عبرات مُنسابة وهو يقول بقلبٍ مكلومٍ:
_يا رب !! أنتَ أحن مني على نفسي، دلني على حكمتك وأنا راضي والله، راضي بس قلبي يرتاح، ريحني على الغاليين وأعرف هما فين، أنا والله ماليش غير بابك أقف عنده، متردنيش خايب الرجا، أنتَ أكرم من رد عبد ضعيف زيي ملهوش حول ولا قوة غير بيك…يا رب.
نزلت دموعه كاملةً بضعفٍ حقيقي، لم يفهم أي شيءٍ مما يصير حوله، تبدو حياته مثل مسلسلٍ نسبة الإثارة بداخلهِ عالية رغم أنه يتسبب في ألمه وهو فقط كل ما عليه أن يستمر في المُشاهدة لحين نهاية الأمر، ربت “مُـنذر” على ظهره وهو يقول بأسىٰ:
_أديك قولت يا رب ملناش غيرك، أدعي يا حج.
اخفض الأخر رأسه له ثم ضمه وربت على ظهره هو الأخر، للحظةٍ جال بخاطره أنه ربما يكون لاقى نفس المصير، عاش نفس العذاب تجرع نفس القسوة فمن المؤكد أن الألم كان حليفًا له، لذا مثله يحتاج الأمان وعند إنتهاء الأمور سيعيده إليه وسط البقية محفوظًا في كنفه مثلهم، أما الآخر فوضع رأسه على كتف الأخر يشعر بالأمانِ المفقود، يشعر بالطمانينة المسلوبة منه، حياته دومًا على خيطٍ فاصلٍ من الموت، قاب قوسين أو أدنى منه، لكن الأمل ظهر من جديد مثل خيط الشمس اللامع في صباحٍ جديدٍ تخفي من خلاله أثر عتمة الأمس.
__________________________________
<“لم نعلم كيف نفشل، وكأن كل فشل هو بدايتنا الجديدة”>
في صبيحة اليوم الموالي لسابقه،
جلس في مقر العمل الخاص بشركة “الراوي”
كان يُتابع العمل الذي تجدد بعد إتمامه على كل العمل المتراكم عليهِ، شرد لوهلةٍ حينما تذكرها وكأن طيفها عاد يُعانده من جديد، وجد نفسه يفتح الدفتر الخاص به ثم فتح إحدى الصفحات الفارغة وأمسك قلمًا يقوم برسم الخطوط المُتشابكة التي يرسمها كما اعتاد لكن هذه المرة بصورةٍ مُنسقة نتج عنها في نهاية الأمر صورتها هي !! ومن غيرها “عـهد” صاحبة السحرِ الأسود المُلقى على أعتاب قلبه لتظل أبوابه مفتوحة لها وكأنها لم توصد من قبلٍ.
ابتسم للصورة ثم رفع دفتره يطالع وجهها وهو يتذكر أول لقاءٍ جمعهما سويًا، اللقاء نفسه الذي وضعت خلاله السكين على عُنقهِ، لقاء بدأ بمذاق الموت ليصبح بعد ذلك بنكهة الحياة، أحيت القلب من جديد، ولأجلها خضع العنيد، وعاد من وحدته الشريد، لأجلها هي فقط دون غيرها؟ أخرج هاتفه يلتقط صورتها التي كانت غالبًا في لقائهما الأول حينما التفتت برأسها للخلفِ لتتصل نظراتهما ببعضها للمرةِ الأولىٰ، ثم كتب أسفلها الجملة نفسها التي أخبرها بها في ساحة الخيول:
_صحيح ربنا حرم على عباده السِحر بس أنتِ عيونِك سحرهم حلال.
تنهد مُطولًا ثم التقط الصورة من هاتفه لهذا الدفتر ثم وضعه بداخل درج مكتبه وعاد ينكب على عملهِ من جديد، تُرى كيف للرجل أن يصبح طفلًا هكذا حينما يُحب؟ كيف يجلس بهذا الملل دون رؤية ذويه، يجلس مثل الطفل الصغير المُعاقب بالذهاب إلى مدرستهِ يوميًا، لما لم تكن حياته أسهل يعود إلى أمه ينام بين ذراعيها ثم يشاجر “قـمر” التي أصبحت عادة في يومه أن يرافقها حتى في ثرثرتها، ثم يعود إلى “عـهد” يقضي معها ليلهِ ثم ينعم بالسلامِ من جديد، ألم يستحق هو هذه الحياة البسيطة ؟.
فُتِح باب مكتبه فجأة لتطل منه “رهـف” التي ابتسمت له بشفتين مشدودتين وكأنها تتصنع ذلك حتى رفع أحد حاجبيه ينتظر منها التحدث لكنها جلست على المقعد بصمتٍ تدفع نظارتها الطبية الكبيرة حتى استشعر هو أن الأمر به خطبٌ ما لذا سألها بنبرةٍ مُقررة أكثر من كونها مستفسرة:
_فيه مُصيبة صح ؟.
حركت رأسها موافقةً ثم نفت هذا ثم وافقت مومئةً بحركةٍ عشوائية جعلته ينطق اسمها بنبرةٍ جامدة:
_”رهـــف” !!.
سحبت نفسًا عميقًا ثم اندفعت في حديثها تسأله بكلماتٍ تهرول خلف بعضها:
_”عُــدي” مقالكش صح ؟.
بدا حائرًا أمامها واستنكر قولها بملامحهِ وهو يسأل بعينيهِ حتى وجدها تقول بنبرةٍ أهدأ من هرولة حديثها السابق خلف بعضه:
_بص أنا والله قبل أي حاجة رميت الكلمة عادي زي أي حد بتعامل معاه، مكانش قصدي إهانة ليه هو ومعرفش هو زعل ليه، بس والله ما قصدي تقليل ليه أو حتى افكره باللي حصل لما ترجم أول مرة.
زفر “يـوسف” بقوةٍ ثم هتف بيأسٍ منها:
_ولما أقولك كلام فالت بترجعي تزعلي، يابنت الحلال مش فاهم من أمك حاجة وكلمة كمان منك هتصل بأمك نفسها، عاوزة إيه وفهميني بالراحة، واحدة واحدة علشان مقلش أدبي.
قامت هي بسرد الموقف الذي حدث بالأمسِ مع أخيه وأوضحت له براءة نيتها، وعدم قصد الإهانة له وأضافت من جديد بقلة حيلة:
_والله العظيم أنا قولت زيه زي أحد بيشتغل بياخد مقابل شغله، يعني دا من وقته وجهده نسيت خالص حوار الاعتبارات اللي بينكم دا، كلامي كان رسمي.
تنهد “يـوسف” مُطولًا وهتف بنبرةٍ هادئة يفسر لها طبيعة الموقف من وجهة نظر الأخر:
_أنا ممكن أكون فاهمك، لأن دي طريقة اتعودنا عليها، بس “عُـدي” مش كدا علشان هو لما عمل حاجة عملها من باب الإخوة اللي بينا، وكان فرحان أني وثقت فيه هو وطلبت منه حاجة من باب أني بعتمد عليه، فطبيعي لما يلاقي الفلوس دخلت في الموضوع يتضايق، متزعليش نفسك أنتِ.
أومأت له موافقةً ثم اقترحت عليه بحماسٍ:
_طب بقولك إيه ؟ ما ييجي يشتغل معانا هنا، طالما هو شاطر أوي كدا يمسك تدريب الطلاب هنا، ويكون المترجم الأساسي بدل ما كل شوية نعطله ويقولك دي إهانة ليا، إيه رأيك؟.
حرك عينيه نحوها وسألها بتهكمٍ ثم أكمل بعدها:
_لأ شكلي هشتم بجد !! يا متخلفة لما هو ييجي واسمه يتعرف هنا إيه العمل ؟ تفتكري هيسموا عليا ؟ أكيد هيخافوا مني وساعتها هيحاولوا بمليون طريقة يوقعوني في مصايب سودا، وأنا معنديش أي ضمان دلوقتي يأمنلي أهلي ولا حتى مراتي، فيه حاجات أهم دلوقتي زي أني أحاول أرجع حقوقي منهم على الأقل لو مُت يبقى اللي مني فيه حاجة تحفظهم.
فهمت هي مقصده لكنها عادت تهتف من جديد بحماسٍ تجدد لها:
_اسمع مني بس، دلوقتي لو هو جه هنا الشركة معانا محدش هيركز، الموظفين دول مسئولية “مادلين” و للأسف يعني “شـهد” وأكيد هي متعرفش اسم خالك، يعني مفيش أي تعاملات ممكن تجمعه بيهم وياعم اعتبره مثلًا تشابه أسماء، قولي شهرة عيلة مامتك إيه ؟.
جاوبها بتيهٍ أُسدِلَت فوقه ستائر التعجب مما تحدثت عنه:
_اسمها “غالية محمد عبدالفضيل عبده الزُغبي” والشهرة بتاعة العيلة كانت “الزُغبي” بس بتسألي ليه؟.
ابتسمت بانتصارٍ وهتفت بنبرةٍ حماسية وقد توسعت ضحكتها عن السابق بكثيرٍ:
_أهو أنتَ قولت، يعني هو اسمه إيه ؟ “عُـدي فضل محمد عبد الفضيل” أكيد الاسم مش مُلفت ومحدش هيفتكروا، أتطمن بس وخليك واثق فيا والله هظبط كل حاجة ومستحيل يحصل ضرر، وموضوع الاسم دا آخر حاجة ممكن تشغل “عاصم” و “سامي”، لأن هما بياكلوا ورثك حاليًا.
هتفت جملتها الأخيرة بسخريةٍ جعلته يضحك رغمًا عنه وضحكت هي الأخرى ثم وقفت تُهندم سترتها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_عن إذنك هروح أكمل شغلي، وهكلم “عُـدي” بس هقوله على الترجمة بس، إنما الشغل دا هسيبه ليك أنتَ أحسن يقولك دي فكراني محتاج شغل، مش ناقصة، بس لو جه الشركة هنا والله لا يشوف وش تاني خالص.
ابتسم بزاوية فمه وهتف بسخريةٍ ردًا على جملتها الأخيرة:
_أنتِ عندك وش تاني؟ خليهولك.
اغتاظت منه كثيرًا وخرجت من المكتب تضرب الأرض بقدميها من سخريته بينما هو نظر على الورق الموجود أمامه الذي يحوي اسمه واسم عمه ومعهما الأخر، زفر بقوةٍ قرأ الورق ليفهم أنها عملية استثمار جديد لصالح الشركة مع واحدة من كُبرى الشركات للتي ستقوم بالتعامل معهم في استيراد خامات المصنع الخاص بهم.
قام بكتابة الموافقة ثم خرج من مكتبه يتوجه إلى مكتب
“عاصم” الذي لم يفارقه “سامي”، قام بإعطاء موافقته ثم دلف لهم بقوةٍ ورأسٍ خُلقَ ليكون شامخًا، توجه إلى مكتب عمه ثم وضع الأوراق عليه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا مضيت على الورق دا، شوفوا الاجتماع هيكون إمتى.
هتف “سـامي” بسخريةٍ ردًا عليهِ:
_هو البيه بقى فاضي لينا خلاص ؟ طب والله كتر خير يا سيدي إنك مضيت ومراعي إن ديه شركة مفتوحة وفيها ناس حالها هيقف، مقضيها في شهر العسل !! ياترى بقى لما تعمل الفرح هتعزمنا ؟؟!.
علم “يوسف” أنه يشير إلى زوجته وإلى نزهتهما سويًا وبالطبع قامت الحرباء هي وزوجها باخباره كل شيء وحينها ابتسم له وهو يقول بثباتٍ:
_طبعًا هعزمك أنتَ وأمك كمان، أومال مين يحييلي الليلة؟.
بَهُتَ وجه “سـامي” وهتف بنفس الجملة التي ترفع غضب الأخر حينما يُذكره بماضيه:
_هقولك إيه؟ ما أنتَ متربيتش، ولا أنتَ عارف اتربيت فين؟.
سأله بخبثٍ جعل “عـاصم” يوزع نظراته بينهما يرى خصمين في ساحة المعركة أحدهما يتتصر على الأخر في مشادات كلامية والآخر تعمد سرقة الربح لصالحهِ حينما هتف ببرودٍ:
_والله أي مكان اتربيت فيه هيكون أنضف من المكان اللي أتربى فيه ابن الرقاصة، أقولك تحديدًا اتربيت فين؟ في البيت اللي فوق الغُرزة اللي أمك كانت بترقص فيها يا أنكل، مش ماما كانت “Dancer” برضه ؟ قولت أذوقهالك يمكن تكون مش فاهمها بالعربي.
ترك هذا الذي بالكاد قُتِلَ محله ثم طالع عمه وهو يقول بنبرةٍ جامدة وكأنه يأمره بحديثهِ:
_الورق عندك أهو، لما تحدد خليهم يبعتولي التفاصيل كلها.
خرج من الغرفة ثم دلف مكتبه من جديد يتنفس الصعداء وهو يفكر لما سيظل “سـامي” عقبة في طريقهِ؟ لو اقتصر الأمر على عمهِ لكان استطاع أن يوقفه عند حده لكن تدخل هذا الأرعن الفج يُدمر كل شيءٍ وكأنه صورة أخرى من شياطين الإنس يعيش وسط الناس لدس الوساوس.
__________________________________
<“القلب يُصدقها لكن العقل أقسم بخوفهِ منها”>
لقد اعتاد خلال يومين أن يُغلق هاتفه تمامًا حتى لا تخونه يداه وتقوم بالبحث عنها ليشاركها يومياتها كما تفعل هي، تدون كل لحظاتها حتى ركوب المواصلات تلتقطه صباحًا لتشجيع نفسها على الاستمرار، حينما يلج لصفحتها الشخصية يشعر كأنه محاوط بالألفة من كل مكانٍ، كأنها تأخذه معها عبر رحلاتها وطرقاتها العشوائية وهي تسير ليلًا إلى حافلة المواصلات.
دلف “إيـهاب” مكتبه في الكافيه فوجده يجلس وهو يدون حساب الفواتير الأخيرة في الدفتر الخاص بهِ، فجلس مقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا جيت أتكلم معاك شوية في حاجة مهمة.
انتبه له “إسـماعيل” وأغلق دفتره ليحثه على التحدث فيما نطق الأخر بثباتٍ بعدما سبق وبرمج الحديث على طرف لسانهِ حتى لا تخونه العبارات:
_أنا بصراحة مش عاجبني حالك لوحدك، وقولت لـ “سمارة” تشوفلك واحدة بنت حلال كدا وطيبة نخطبهالك، أهو أتطمن عليك بدل ما أنتَ شارد في الملكوت لوحدك كدا.
تبدلت ملامح “إسـماعيل” وكأنه أوشك على تلقي الصدمة، لم يحب هذه المواضيع ولم يفضل التطرق إليها، أما الآخر فأضاف بقوةٍ يقطع عليه التحدث الذي سبق وعلمه هو:
_طالما أنتَ مش راضي تريح نفسك، سيبني أنا أريحهالك، يمكن لما تلاقي واحدة طيبة وحنينة تشاركها يومك كدا تقدر تفرح، مش سهل عليا أني أكون مرتاح من غيرك.
ترك “إسماعيل” محله وتوجه إلى شقيقه يجلس مُقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما فهم طريقة تفكير شقيقه:
_وأنا مش سهل عليا أني أتوجع، أنا مش هقدر أكون مع واحدة وأعيش حياة طبيعية زي باقي الناس، مش هقدر أسلم حياتي كلها لحد وأنا عارف إن علاقتي بيه على المَحك، عاوزني أقولها هي أو غيرها إيه ؟ معلش يا بنت الناس أنا معجب بيكي وعاوز اتجوزك بس خدي بالك أنا واحد مكشوف عني الحجاب يعني لو عدينا في مكان فيه آثار أو مرشوش على عتبته حاجة أنا هتبدل في لحظتها، هتشوفي واحد جديد خالص أعصابه بتفلت وبتبوظ منه وصعب يسيطروا عليه، قدرك بقى، حتى لو الحمد لله الحالة بطلت تيجي زي الأول، بس مخلصتش، أنا لسه ملبوس زي ما أنا.
تنهد “إيـهاب” بعمقٍ ثم سحب المقعد يقترب منه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يُذكره بحديث الشيخ حينما قال له في السابق:
_متنساش إن الشيخ قال إن الحالة دي كانت زمان، يعني لما قربت من ربنا قلت كتير عن الأول، وصدقني أنتَ بقيت أحسن من الأول، طول ما أنتَ في أمان فأنتَ طبيعي ومحدش هيقدر ييجي جنبك، شغل المقابر والآثار دا بعيد عنك دلوقتي خلاص، اسمع مني يا “إسـماعيل” أنا راجل أهو وصوتي من دماغي وعمري ما هيبت حد بعد الحج “نَـعيم” بس أنا وأنتَ مشوفناش حنية، أمك فلسعت بدري.
لمعت العبرات في عينيهِ بحنينٍ لأمهِ التي كانت ولازالت أول من سكنت قلبه ثم أكمل من جديد يتابع سابق حديثه:
_وسابتنا عيلين في حضن أب دراعاته زي الشوك، يوم ما يطبطب عليك يبقى علشان ينهش عشاك، لما جت اللي قدرت تديني الحنية أنا مقدرتش أصدها، لقيت نفسي ماشي وراها مسحور عقله تاه منه، درويش وسط خلق الله ممكلش وعي بس مش واعي لحد غيرها هي، بقيت بخرج طول اليوم أبهدل الدنيا وأعكها وأرجع آخر اليوم ليها هي أقولها على كل حاجة، وهي بتسمع وتراضي وتهادي، تيجي تفكر كدا من غيرها أنتَ إيه تلاقي نفسك حتى مش عندك جواب، يا مرمي في حضن القهاوي يا مع اللامؤاخذة في الحرام زي الكلب بتسد جوعك، اسمع من أخوك وقرر علشان يوم ما تقول أمين، أنا يومها هنيمك فرحان، زي ما عمري ما عملتها وخليت بيك.
لم ينكر أن حديث شقيقه انتشله من وجع تفكيره، نصيحته أتت في محلها، أراد حقًا أن يُشاركها هذه الحياة، أن يشاهد بعينيهِ الراحة حينما يكون مع رفيقة دربهِ، وقد قفز في عقلهِ حديث “أيـوب” في عقد قران شقيقه “أيـهم” هذا الحديث الذي حفظه عن ظهر قلبٍ ولم ينفك عن عقلهِ، ابتسم بإطمئنانٍ وتذكر الجملة ذاتها حينما قال “أيـوب”:
_”الغرض الأقوى من علاقة الجواز هو إن فيه طرف من الاتنين طير عاجز وبوجود الطرف التاني بقى ليه جناحين”
رفع عينيه لشقيقه ثم حرك رأسه موافقًا وقال بنبرةٍ هادئة بعدما زاحمت البسمة ملامحه العابسة:
_سيبها على الله، يمكن يحصل أحسن من اللي نفسنا فيه.
هذا الكاذب يكذب حتى على نفسهِ قبل شقيقهِ، ينطق بعكس ما يوده قلبه، أراد أن تشيء قدرة الله إلى ما يشاءه هو، أراد أن يحدث مُراده، لقد أصبح آمنًا بجوار شقيقه ومع والده الروحي “نَـعيم” و “سـراج” عاد لصفوفهم من جديد فما اللذي يخشاه؟ أيخشاها هي؟ هل يُعقل أنه يخشى ممن خشى الحياة بدونِها وأصبح يرسم خياله في قُربها؟ حسنًا يا “إسـماعيل” لن يدم ليلكَ ستظهر ضُحاك لا محالة.
__________________________________
<“نحصد زراعة الأغبياء، لكننا نُجني الثمار”>
جلس في بيتهِ يدون كافة الملعومات، هو شخصٌ بمفرده يعمل نفس عمل الجيش بأكملهِ، يقوم بجمع المعلومات عن تجارة البشر وعن مقابر الآثار وعن الخطط التي تقوم هذه العصابة بالتخطيط لها، والأهم من ذلك ربط الخيوط لاستعادة حق عائلته، سينتصر، المؤكد أنه سينتصر، فعادةً الحق لا يضيع مادام هناك من يطالب بهِ، لذا استمر هو في البحث عن حقه وحق بلده الأصلي بأكمله.
جلس “مُـنذر” يطالع نسخة الأوراق التي تَحصل عليها من غرفة “ماكسيم” حينما قام بتسليط إحدى الفتيات الساقطات عليه لتتسنى له فرصة دخول غرفته، ابتسم بسخريةٍ حينما تذكر أنه رغم قوته إلا أنه لازال يُفتن عند رؤية النساء، خاصةً الشرقيات منهن، لم يقوْ على ترك حبهن، وحينها قام “مُنذر” باستغلال صديقته العربية التي تم خطفها أيضًا من أرضها.
أصدر الجهاز الذي يقوم برصد المكالمات إضاءة باللون الأزرق جعلته يتحرك من محلهِ ثم وضع الجهاز في هاتفهِ ليكون متصلًا بهما، حينما دارت المكالمة بين “سامي” و “ماكسيم” معًا، تحدث الأول بنبرةٍ جامدة يخبر الأخر بقوله الحاد:
_بقولك إيه ؟ أنا مش هقدر أتعامل مع الناس دي تاني، وجودي قصادهم غلط، هروح أقولهم إيه ؟ أنا واحد تاجر آثار جاي أشتري بيوتكم ؟ ما تشوف الصيع بتوعك فين، فين الواد “سـراج” عيل صايع بتاع ٣ ورقات بيعرف يقنع الناس.
هتف “ماكسيم” بانفعالٍ بعدما فلتت أعصابه من غباء الأخر:
_هو أنتَ ليه مصمم تكون غبي؟ بقولك خلاص مبقاش ليا سُلطة عليهم، مبقوش يسمعوا الكلام، لو هما بس قدروا كل واحد فيهم يقعد مع صاحب بيت إحنا كل البيوت دي هتكون بتاعتنا، واللي فيها هيكون لينا، و “إسـماعيل” دا خريطة كاملة بتتحرك على الأرض، علشان كدا بقولك أنتَ تعرض إنك مشتري عادي جدًا والسعر اللي يطلبوه وافق عليه.
زفر “سـامي” مُطولًا بصوتٍ مسموعٍ جعل الأخر يقول ببسمةٍ خبيثة اتضحت من أثر كلماته:
_خلي بالك !! “نَـعيم” لسه ميعرفش حاجة، وأنا علشان الصداقة اللي بيننا ساكت، بس لما أتأكد أني فشلت في دوري ههد المعبد على أصحابه، وخلي بالك “يوسف” لسه ميعرفش إنك حاولت تسرق أبوه وهو عايش وكان هيتسجن كمان، يعني لو كل واحد في دول قولتله بس على مصيبة من مصايبك أنتَ هتموت، مش ناوي تقولي بقى ابن “نَـعيم” فين ؟.
هتف الأخر بثباتٍ وكأن الحديث لم يؤثر فيه من الأساس:
_ياعم ما خلاص هي غنوة، أنتَ عندك عيل وأنا عارف طريق عيل، يوم ما “نَـعيم” يفكر يقل بأصله معانا هنروح واخدين آخر كارت يخليه هو بنفسك يقولك فين باب المعبد اللي أنتَ هتموت وتكتشفه، مش بعيد تلاقي مخبي المفتاح ماهو عاملي فيها عمدة السمان، أما الواد متخافش عليه، في الحفظ والصون جنب قبر أمي.
كان “مُـنذر” يستمع لكل حديثهما معًا، قام بتسجيل كل شيءٍ بينهما، التكنولوجيا في بعض الأحيانِ تقدمها يُفيد بشكلٍ كبيرٍ في مثل هذه الأشياء، وقد أخذ الجملة الأخيرة بمحمل الجد، ودونها في دفتره، دراسته في علم النفس أنذرته أن الكلمة لم تكن عادية بل سيحتاجها حتمًا، لذا أغلق الجهاز قبلهما ثم جلس على المقعد يُطالع الملف الذي حمل كافة الاشياء باسم “سامي السيد” هذا الذي حين يحين موعده بالتاكيد سيكون عِبرة لكل الأنامِ، الآن هم يقومون بالزرع وبكل تأكيد سيحصد هو.
__________________________________
<“أتت إليه الأحلام على طبقٍ من ذهبٍ”>
الساعة شارفت للواحدة ظُهرًا وجلست هي في غرفة المُعلمين تقوم بتصحيح كراسات الطُلاب، شردت في وجه صغيرها، هذا الذي أتى من وسط زحام الآلام ليكون لها طبيبًا يداوي جراحها، تذكرت حديثها معه صباحًا حينما اسيقظت مُبكرًا تقوم بمعاونتهِ في الذهاب إلى مدرستهِ وتوفير وجبة الإفطار له بدلًا عن “آيـات” التي كانت تعاون شقيقها في هذه المُهمة، أما هي فقررت أن تباشر دورها كأمٍ له، لا يهمها لما تركته الأولى ولا يهمها كيف يكرهها هو ما يهمها حقًا أن تعطيه حقه فيها كطفلٍ أصبحت هي أمًا له.
دار في خُلدها حديثه معها صباحًا حينما وقفت تُمشط خصلاته بعنايةٍ وهو يضحك لها بسعادةٍ في انعكاس المرآة لتقوم بامساك وجهه بين راحتيها ثم لثمت جبينه وهي تقول بمزاحٍ من بين أسنانها كدليلٍ على حماسها:
_إيه الحلاوة دي، تتاكل أكل كدا.
ضحك لها “إيـاد” ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة ردًا عليها:
_أنتِ أحلى يا ماما.
تلك الكلمة التي أصابت قلبها برجفةٍ قوية، تلك الكلمة التي عانت بسبب الحرمان منها يلقيها عليها هو بكل عفويةٍ غير مقصودة جعلتها ترفع عينيها الباكيتين له وهي تبتسم بعدة مشاعر مختلطة حتى سألها هو بقلقٍ من صمتها ودموعها التي ظهرت في مُقلتيها:
_هو أنتِ زعلتي علشان بقولك يا ماما؟.
حركت رأسها نفيًا بسرعةٍ كُبرى وهتفت بنبرةٍ باكية وهي تنفي ظنونه بحديثٍ أخر جعله يشعر نفس شعور الزهور في فصل الربيع عند تَفتُحها:
_لأ بالعكس، دي حلوة أوي، ومنك أنتَ أحلىٰ، ممكن تقولها تاني طيب ؟ عاوزة أسمعها منك تاني..ينفع..؟.
سألته بقلقٍ حتى وجدتها يقف على المقعد الخاص بالجلوس أمام المرآة ثم احتضنها بذراعيهِ وهو يقول بحزنٍ لأجلها ولأجل دموعها التي ظهرت:
_ينفع طبعًا بس تبطلي عياط، وأنا هقولك يا ماما علطول، أصلًا مش هينفع أقولك “نِـهال” قدام حد علشان محدش يعرف اسمك ويقوله ليكِ، يبقى نتفق إني أقولك ماما، أنا أصلًا كنت مش بحب الكلمة دي، بس هقولها.
ضمته بذراعيها تمسح على ظهره ورأسه ثم مسحت دموعها بظهر كفها وقالت بنبرةٍ مُحشرجة بعدما أبعدت عنها البكاء:
_بص خلاص نبطل عياط إحنا الاتنين علشان شكلي نكدت عليك، عاوزاك لو نفسك في حاجة قولي عليها، متتكسفش خالص، وأنا أوعدك لو فيه حاجة هقولك عليها، قولي أنتَ عاوز إيه بقى وأنا هعمله ليك، ها نفسك في إيه؟.
قلب عينيه بتفكيرٍ يبحث عن طلبه ثم هتف بتحدٍ لها كأنها سترفض مطلبه:
_تيجي في يوم تاخديني من المدرسة، وإحنا راجعين تجيبيلي حاجة حلوة، ولما نيجي البيت هنا نطلع في يوم السطح ونخلي “أيـوب” و بابا يشووا لينا فوق، قولتي إيه؟
لثمت جبينه وهي تقول بحماسٍ عاد لها من جديد على طلباته البسيطة:
_بس كدا !! أنا موافقة ومعنديش أي مانع، بتخرج أنتَ الساعة اتنين صح؟ أوعدك أول يوم هخرج فيه بدري هاجي ليك مفاجأة عند مدرستك، وهحاول أظبط مواعيدي مع مواعيدك.
حينها كان “أيـهم” متسطحًا فوق فراش صغيره يتصنع النوم وقد فضل ترك الغرفة لها حتى لا يزعجها تواجده، وما إن استمع لحوارهما معًا وجد البسمة تُزين وجهه، يبدو أنها تملك الأثر على كليهما ببراعةٍ وتُجيد التعامل معهما، وقد استمر في نومه _الكاذب من الأساس_ حتى تجهز صغيره ثم استيقظ هو.
خرجت من شرودها على صوت زميلتها التي دلفت الغرفة لتوها وهي تتأوه أمامها بسبب بطنها المُنتفخ نتيجةً لحملها في ابنها الثاني حتى تحدثت إحدى الجالسات في الغرفة تعاتبها بقولها:
_ما قولتلك يا “هبة” قدمي على إجازة وضع، يخربيت دماغك قربتي تعمليها وهتبقى كسفة لو ولدتي في المدرسة هنا، ارتاحي شوية بدل ما المناهدة كل يوم مع العيال كدا.
هتفت “هـبة” بتهكمٍ بعدما جاورتها وهي تقول:
_اسكتي يا أبلة “مـنال” أنتِ متعرفيش حاجة، هو الزمن دا سامح لحد ياخد نفسه حتى؟ اديني بجمع مصاريف الولادة معاه هنعمل إيه يعني؟ بعدين لما أخد أجازة مين يشرح للعيال؟ هيضيعوا في الإنجليزي أكتر ماهما ضايعين دا العربي عندهم بعافية.
هتفت أخرى تلقى بكلمتها التي أتضح فيها الغِل حينما وجدت “نِـهال” بينهن تستمع للأحاديث الخاصة بهن بوجهٍ مُبتسمٍ:
_ميس “نِـهال” موجودة أهيه، شاطرة أوي وكل أولياء الأمور عاوزين العيال تاخد درس معاها قال إيه تأسسهم، الغريب إنها قالت مبديش دروس أصلًا.
توجهت الأبصار نحو الأخرى التي ردت عليها بقولها توضح وجهة النظر المُشارة إليـها:
_طب وإيـه المشكلة يا ميس “سُـعاد” ؟ أنا قولت فعلًا أني مش بدي دروس خالص علشان متسببش لحد في إحراج، أنا اللي بقدر عليه بعمله مع الطلاب وقولت لو فيه طالب عنده مشكلة ييجي يقولي وأنا هساعده، حضرتك متضايقة ليه كدا ؟؟
هتفت الأخرى بلامبالاةٍ ظاهرية تتتافىٰ مع الذي بداخل قلبها:
_لأ عادي يعني أنا ولا فارق معايا، ربنا يزيدك كمان وكمان، صحيح مبروك نسيت أباركلك على الجواز معزمتيناش ليه طيب؟.
سحبت الأخرى نفسًا عميقًا وهتفت بنبرةٍ جامدة بعض الشيء وهي تعلم إلى ما تشير إليه هذه المرأة:
_معلش كل حاجة كانت على القد، وعزمنا القريبين بس لأننا معملناش فرح يفرح الناس، فجيبنا الفرحانين من غير حاجة.
نظرت في ساعة معصمها وقالت بنفس الجمود:
_ عن إذنكم أنا مضطرة أمشي ورايا مشوار مهم.
كانت وصلت لمرحلة الغضب، هذه المرأة التي تغتاظ منها منذ قدومها إلى هنا، تغار وبشدة في كل كلمة تقال في حقها، لقد استطاعت خلال فترة قصيرة أن تحصل على قلوب الصغار قبل الكبار الذين أشادوا باتقانها لعملها، وقد لاذت بالفرار حقًا من هذه الجلسة التي تملؤها النميمة والغيبة في أسرار البيوت والناس بدون أي وجه حق.
خرجت من عملها وقررت أن تتوجه إلى مدرستهِ، ستخرج الطاقة السلبية التي بداخلها عند رؤيتهِ، فهو الوحيد الذي بضحكةٍ من ملامحهِ البشوشة التي جمعت بين البراءة والشقاوة معًا يستطيع أن يبدل حالها، يكفيها أنه يعطيها مالم تملكه هي، وقفت أمام مدرسته بعد مرور ربع ساعة تقريبًا من انتقالها ووقفت في تنتظره حتى فتح الباب وبدأ ظهور الصبية بالانتشار وسط شمس ما بعد الظهيرة الحارقة رغم برودة الجو وقد ظهر هو من وسطهم وركض نحوها حتى ضحكت هي بسعادةٍ بالغة الأثر حينما أخفضت جسدها له تضمه وقالت بمرحٍ:
_إيه رأيك في المفاجأة دي؟ أسرع من “علاء الدين”.
التفت ينظر خلفه على الصغار الذين يقفون بجوار أمهاتهم وكان يود هو أن يصبح مثلهم، أراد أن يرى مشاعرهم ليجد نفسه بعدما كان أبئسهم أصبح أكثرهم سعادةً، بالأحرى أصبحت كل أمانية مُجابة فور قدومها هي على حياتهِ، أعاد رأسه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حلوة أوي زيك كدا.
أمسكت كفه لكي تستعد للرحيل لكنها تفاجئت بزوجها أمامها يقول بسخريةٍ عند رؤيته لهما معًا:
_الطرف التالت وصل أهو، معلش هزعجكم بقى.
قفز “إيـاد” من فرحته بتواجد والده أيضًا وابتسمت هي له وكأنما الدنيا كلها حُيزت له، لا يصدق أنه يقف معهما وسيعود إلى البيت معهما، بينما “أيـهم” حمله على ذراعيهِ ثم أشار لها أن تسبقهما نحو السيارة وقد توجهت هي إليهِا تلج بداخلها وبجوارها ركب الصغير وتولى هو القيادة.
__________________________________
<“نستعين بالخالق في كل خطانا، لا بأس علينا”>
جلس “أيـوب” في محل عملهِ يفكر بشرودٍ في هوية مُهدده، إذا كان هو “ماكسيم” بالفعلِ فلما يحتاج إليه؟ هل سيقوم باستغلال علمه بأمور الدين؟ هو لم ولن يتاجر بعلمهِ، لقد مَنَّ الله عليه بهذه الهِبة فلما يسعى هو إلى تحويلها بكل غباءٍ إلى نِقمةٍ؟ طلب من ربه المعونة في طريقهِ، الأمور بأكملها تستصعب عليه، لكنه لم ولن ييأس سيلجأ إلى ربهِ كما أعتاد أن يفعل دومًا.
دلف الجزء الخاص بتخزين البضائع في محلهِ ثم قام بفرد سجادة الصلاة وتذكر أنه لن يجد الملجأ من دونِ الله، جلس على سجادة الصلاة بعدما قام بالسجود وقام بتأدية ركعتي لله يحتمي به من نفسهِ وتفكيرها المقلق، كلما ضاقت في رحبهِ الأرض أخرج قلبه من سجنه لمالك السماء بكل ما فيها وفوقها وتحتها، طلب منه العون في كل أمور حياته، لقد عُرِفَ أنه من أسباب الغوث، والآن يطلب وهو في أشد الحاجة للغوثِ.
خرج من المخزن لخارج المحل فوجدها هي أمامه، أتت له بوجهها المُبتسم البشوش وسرعان ما اتسعت بسمتها أكثر عند رؤيتها له يخرج من المخزن وقد أقترب هو منها يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم بسعادةٍ كُبرىٰ:
_استغفرك ربي وأتوب إليك.
تلاشت بسمتها وظهر الضيق على وجهها فيما ضحك هو لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة يمازحها بقولهِ:
_والله بهزر معاكِ، أنا فرحت أوي إنك جيتي رغم إني بتضايق لما تنزلي لوحدك كل شوية كدا، خير فيه حاجة؟.
حركت رأسها موافقةً ثم رفعت ذراعها بحقيبة مربعة الشكل وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له:
_دي علشانك أنتَ، فيها فطير بالسكر عمايل أيديا أنا وماما، ومعاها كمان عصير لمون بالنعناع اللي أنتَ بتحبه، بس مش زي اللي أنتَ بتعمله، وبصراحة قولت أنزلك أتطمن عليك واتأكد إنك هتاكل، أنتَ بقيت كويس صح؟.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_كويس علشان الحمد لله من بعد ربنا أنتِ معايا، وبرضه بقى ليا مكان وسط الناس بعدما كانت زاهد وسطهم،
فأسأل الله الزُهد في الدُنيا والحُب مِنكِ وفيكِ.
ارتفعت ضربات قلبها بشكلٍ ملحوظٍ ثم وضعت الحقيبة وقالت بنبرةٍ مُتلعثمة بعدما اطمئنت عليه أمام عينيها أنه بخيرٍ عن الأمسِ وقد رأت وجهه المُشرق من جديد:
_طب…طب هطلع أنا عن إذنك يا “أيـوب”.
كادت أن تتركه لكنه نطق بما ثبتها محلها وجعلها تقف دون حراكٍ بعدما عبر عن حبهِ لها بكل صراحةٍ:
_أنا بقيت مش عاوز حاجة من الدنيا غير إنك تكوني معايا وكل يوم يخلص تكون راسي فيه على كتفك زي إمبارح كدا، آسف لو حملي هيتقل عليكِ بس أنا كنت مرتاح إمبارح راحة مشوفتهاش من بعد المرحومة أمي ربنا يغفرلها ويديم وجودك ليا، كتفك كان مكان عرف يطمني.
التفتت له بعينين ترقرق بهما الدمعِ وقالت بنبرةٍ هادئة لكنها مُحشرجة من البكاء الذي توسط حلقها:
_وأنا كتفي موجودك علشانك، وزي ما سبق قولتلك يا بخت ناسك بيك، ويا بختي لو أنا بقيت مكان ليك في الدنيا، ويا بختي لو بقى ليا مكان معاك في الجنة، عن إذنك يا “مطروف العين”.
جعلته يبتسم لها من بين تأثره ثم رحلت بخفةٍ كما أتت إلى هُنا، تشبه دومًا الطيور في خفتها، جميلة للحد الذي يجعله دومًا يفكر هل البراءة لازالت موجودة في آخرين غيرها، أم أن هي فقط من طمعت في البراءة بأكملها لحالها؟ جمعت حنان أمه وطيبة شقيقته ومرح والده، لتكون له بكل الأفراد حين يكون هو بمفردهِ، بعد رحيلها لم يكن أمامه سوى أن ينطق بملامح مبستمة وهائمة:
_”يا صـبـر “أيــوب”.
__________________________________
<“لا يقدرون قيمة الجمال، لكن نحن نعلمها جيدًا”>
جلست بجوار شقيقتها تسرد عليها تفاصيل العريس الذي أتى لخطبة ابنتها، مع احتفاظها بالتفاصيل الأخرى التي تحمي ابنتها من شر الحسدِ، وقامت بإخراج صورته وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_بصي الواد مـز إزاي يا “نجلاء”؟ راحت ياختي الجيم دا ولا أبصر اسمه إيه وهو أخو المدربة أُعجب بيها وطلب ييجي يتقدم قولت وماله أهو الجيم كله بتاعهم.
هتفت “نـجلاء” بنبرةٍ هادئة ردًا عليها بعدما ابتسمت لشقيقتها:
_ألف مبروك يا حبيبتي ربنا يتمم بخير ويبخته ليها، بس برضه من غير استعجال الشكل مش هينفعها بحاجة لما يطلع وحش لا سمح الله ولا فيه حاجة غلط في شخصيته، أهم حاجة يكون راجل محترم.
لوت الأخرى فمها وهي تهتف بتهكمٍ تعلق به على حديث أختها:
_ياختي هو فيه دلوقتي رجالة محترمة ؟ بس إحنا نقدر نجهز ونجوز الأول، هو شكله جاهز علشان كان خاطب بس فشكل الخطوبة، المهم هتيجي تقعدي معايا يومين علشان لما ييجي يتقدم، لازم ييجي يلاقي أهلها، وهاتي المحروس اللي قطع مع العيله كلها دا.
عند ذكرها له حضر في الحال ودلف الشقة يمسك في يديه حقائب الطلبات المنزلية وما إن رآها استغفر ربه بنبرةٍ خافتة وطلب من ربه أن يعطيه الصبر وقد وضع الحقائب على الطاولة ثم هتف بنبرةٍ هادئة يقول مُرحبًا بها:
_إيه النور دا يا خالتو؟ حمدًا لله على سلامتك.
هتفت فيه بضجرٍ توبخه كعادتها:
_لسه فاكر!! طب رد عليا وعبرني، ربنا مرزقناش بولاد وقولنا أنتَ الحيلة لينا، ولا السنيورة بتاعتك خلاص عملتلك غسيل مخ ؟؟ مخلياك ناقص تقطع مع أمك كمان؟.
جلس “تَـيام” مقابلًا لها وهتف مؤكدًا صدق حديثها بكلماته حين هتف:
_آه يا خالتو، منسياني كل حاجة حواليا ماعدا هي علشان أنا عاوز ربنا يكرمني بيها، أنا عمري ما طلبت حاجة في حياتي غيرها هي إنها تكون معايا، وبعدين أنا قطعت لما عرفت إن هزاري مع بناتك غلط، وكنا بنتخطى حدودنا جامد في الهزار ونمد أيدينا على بعض خلاص بقى كبرنا، وخطيبتي ملهاش دعوة على فكرة، أنا أصلًا مش بتكلم معاها غير كل فترة.
هتفت هي بسخريةٍ لاذعة تسخر منه ومنها:
_والنبي يا أخويا أنتَ هتاخد على قفاك في الأخر، هتفضل كدا مستحمل الضغط منها وأخرتها هتسيبك مع أول مشكلة ومش بعيد تطلب الطلاق لما تفك عن نفسك وتشغلها أغنية، الراجل من دول يدور على واحدة حلوة كدا نغشة تدلع عليه وتكون بتاخد وتدي معاه مش يروح يجيب واحدة ناقص تخله يخزق عينيه، اسكت والنبي اسكت، أنا ساكتة بس لحد ما نشوف أخرتها في الخطوبة دي.
ضرب وجهه بكفيهِ معًا ثم هتف بنبرةٍ مُضجرة كأنه ينطق مكروهًا على ذلك أمامها بقولهِ:
_عجباني والله عجباني، والخطوبة اللي مش عجباكِ دي خطوبة الناس المحترمة، وبالمناسبة حرام تحلفي بحد غير ربنا، دا ذنب لأن الحلفان دا عبودية لله ومينفعش حد يشرك العبودية مع ربنا، وبالمناسبة خطيبتي هي اللي علمتني الكلام دا.
تركها ودلف غرفته يتركها برفقة والدته التي تابعت الحوار بينهما بضيقٍ بينما هو قام بفتح محفظته على صورتها معه في صغرهما سويًا في حفلة عيد ميلاده التي نظمتها لأجله والدته، هذه الصورة التي لازال محتفظًا بها منذ صغره وهو ينتظر الأخرى حينما تكون زوجته، لا بأس هو فقط يتحمل لأجلها حتى تكون برفقتهِ سائر الأيام وعليه أن يثبت أنه يستحقها.
كان “بيشوي” جالسًا في محلهِ حتى وصله طلب الكتب الذي طلبه عبر صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي المختصة ببيع الكُتب، أرادها لها هي وفقط، أراد أن يُفاجئها بها لذا أخذه من الشاب، مجموعة الكتب القديمة العتيقة التي يعلم أنها تحبها قام بشرائها لأجل حبيبته “مهرائيل” أتى الطلب مُغلفًا بالورق البُني وقام بإضافة أحد أفرع الزهور البنية الصغيرة فوق الطلب وأخرج ورقة بنية تشبه المرسال القديم الذي تفنن هو بصناعتهم يكتب بداخلها فوق الكُتب:
_”شِئنا أم أبينا مِن جديدٍ تقابلت السُبل وتلاقينا..”
أخذ الكتب وتوجه بها إلى شقتها وقد ظنها هي من ستفتح الباب له لكنه تفاجأ حينما وجد “جـابر” هو الذي يقوم بفتح الباب له وحينها تلاشت بسمتهُ وهتف بسخريةٍ:
_هي خطيبتي فين؟ بلعتها؟.
رد عليه الأخر بتهكمٍ يسخر منه بعد سؤاله:
_ليه إن شاء الله أحول مبشوفش؟.
هتف بما رفع مقدار الضغط حينما هتف بوقاحةٍ مستلذًا باحتقان وجه الأخر:
_أو يمكن هي اللي حلويات زيادة عن اللزوم فاتلغبطت.
كاد “جـابر” أن يصرخ في وجههِ لكنها خرجت من الداخل تسأل بتعجبٍ عن هوية الطارق وما إن رآته ابتسمت له وهي تقول بنبرةٍ هادئة ترحب به:
_بيشوي” ؟ اتفضل واقف على الباب ليه؟.
مد يده لها بالكُتَبِ ثم هتف بنبرةٍ هادئة رغم قوتها:
_دي علشانك، يا رب يعجبوكِ كلهم، نقيتهم على ذوقي، وأكيد يعني ذوقي حلو طالما مختارك أنتِ، بالنسبة لعم “جابر” الحقيه بكوباية حاجة ساقعة علشان غالبًا بيموت من السخونة.
كتمت ضحكتها حينما رفع والدها شفته وهو يراقب انسحابه من أمامهما بعدما ظهر له من العدم وقبل أن يستخدم المصعد هتف بنبرةٍ جامدة أتضح فيها الإصرار حينما قال:
_الأسبوع الجاي خالك راجع من سفره طبعًا عارف أني متفق معاه على كل حاجة، فرحنا قرب فجهز نفسك يا أبو العروسة، علشان قريب هنيجي نتفق على كل حاجة، عن إذنك يا حمايا، أبقى وصلها الأمانة بقى.
رحل كما جاء فجأةً لتشدد “مهرائيل” مسكتها على الكتب ثم ضحكت بصوتٍ مسموعٍ من فرحتها حتى سألها والدها بحسرةٍ وهو يراها ترجح كفة الأخر على كفته:
_لو أنا قولتلك أني مش موافق على الجوازة دي وإني مش بحبه وحاسس أنه بس بيعاندني بيكِ هتقولي إيه يا “مهرائيل”؟ هتكملي برضه في العلاقة دي؟.
اتضح الحزن على ملامحها ثم هتفت بنبرةٍ مُحشرجة في مراعاةٍ منها لمشاعر والدها حتى لا تجرحه بحديثها وهي من الأساس بدأت في إلمام جروحها السابقة:
_عن إذنك يا بابا، أقفل الباب ويلا علشان ماما حضرت الغدا.
دلفت غرفتها بعدما هربت منه تطالع الكتب بأسىٰ، تفكر بكل جدية هل والدها يكره لها الفرحة؟ هل يراه كثيرًا عليها أم أنها هي الكثيرة عليه؟ في الحقيقة هي لا ترى غيره من الأساس، لم تتخيل إنها تشارك حياتها مع رجلٍ غيره، فقط هو، مالك القلب هو، ومن أحبته العين كان هو، لم تُحب غيره ولم ترْ غيره، لذا عادت من جديد تحتضن الكتب التي احتفظت برائحتهِ فيها لتكون هدية مُضافة فوق الكتب.
__________________________________
<“الحُب هُنا والأمل هُنا والشبيه هُنا والأمان هُنا”>
عاد من عملهِ إلى بيتهِ أولًا وقد اجتمع مع أفراد عائلته في شقة خاله يتناولون الطعام سويًا بعد عودة الجميع من عملهم، لاحظ هو نظرات “عُـدي” الذي أراد أن في عدة مرات أن ينطق لكنه في كل مرّةٍ يوقف الحديث من جديد حتى ابتسم “يوسف” وسأله بثباتٍ لفت أنظار الجميع له:
_قول عاوز تقول إيه ؟ أنا سامعك.
هتف “عُـدي” مُفسرًا بتوترٍ بسبب حديثه مع الفتاة بهذه الطريقة:
_كنت عاوز أقولك يعني إني لما اتعصبت عليها مكانش قصدي، أنا بس من عشمي فيك إنك أخويا متوقعتش علاقتنا تكون مربوطة بفلوس بيننا وبين بعضينا كدا، بس أنا عاوزك تقولها أني مقصدش.
عقدت “ضُـحى” مابين حاجبيها ونظرت لـ “قـمر” التي قلبت شفتيها بحيرةٍ ليضيف “يـوسف” ما يزيل حيرتهم بقولهِ الهاديء نسبيًا:
_ودا اللي أنا فهمته ليها، مش عاوزك تقلق ولا تزعل نفسك، هي برضه قالت من روتين شغلها اللي اتعودت على طريقته، بس على العموم عاوزك تحضر ورقك وتجيبه ليا علشان هعملك “CV” محترم علشان هتروح تمسك مكاني هناك في شركة “الـراوي”.
وقع الحديث عليهم كوقع الصدمة وخاصةً “فـضل” الذي احتقن وجهه وهو يسأله بنبرةٍ جامدة يعاتبه بقولهِ:
_عند عيلتك اللي أنتَ مش راضي تقولي على مكانهم؟ عند الناس اللي حرمونا منك وحرموك مننا ؟؟ أنا ساكت وأنتَ لاغيني خالص من حياتك بقول هيحس بيا وأنا النار بتاكل فيا علشان حق أختي اللي ضاع وحقنا فيك، بس أنتَ مش راضي تعبرني، محسسني أني ماليش لازمة رغم إني شايفك كل الدنيا في عيني.
رفع “يـوسف” عينيه نحوه يهتف بسرعةٍ يدافع عن نفسه أمام خاله الذي حظى بمكانةٍ كبرى في قلبهِ:
_وأنا مقدرش أبدًا أقلل من دورك في حياتي، أنا لو عملت كدا هبقى ماليش أصل، أنا لو كنت بحبك قيراط بعدما رجعت وشوفتك وشوفت حبك ليا أنا بقيت بحبك أكتر بكتير، أنا هنا عايش فارد نفسي علشان حاسس أني ليا أب وأنا طول عمري بحس نفسي يتيم.
ترك “فَضل” محله ثم اقترب من “يـوسف” يقف بحوار مقعده ثم هتف بنبرةٍ ظهر بها الحزن حينما تذكر ما مر عليهم:
_وأنا طول عمري فرحتي ناقصة بسبب غيابك، بس لما جيت كل حاجة أحلوت، أبوس إيدك متتهورش وزي ما قولت أنا في ضهرك يا إما بقى لو هتتهور سيبني أنا أقتلهم وأخلص وكدا كدا أنتَ بقيت مكاني، بس متضيعش نفسك.
ابتسم له “يوسف” ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنه بقولهِ:
_متقلقش، أنا ممكن اتهور في أي حاجة إلا أخد الحقوق دي عاوزة معلمة، واللي زي دول عارف إيه اللي يوجعهم، أصلك هتضرب فيهم ؟؟ دول حلاليف مبيحسوش، هتعمل ليهم مشاكل ؟؟ عندهم معارف بعدد طوب الأرض، هتموتهم تبقى بتريحهم، دول الحل إنهم يجوعوا، يشوفوا الحاجة اللي خلت قلبهم يتجاحد تضيع منهم، أتطمن أنا بعدما لاقيت حياتي هنا مش هقدر أفرط فيكم.
صدح هاتفه في جيبه برسالةٍ منها مفداها:
_أنا فوق السطح بقطف الوردة الحمرا.
ابتسم بعينيهِ ثم ترك مقعده وهو يقول بنبرةٍ حاول جعلها ثابتة لكي يخفي منها أثر رسالتها عليه:
_طب أنا هطلع أشرب سيجارة فوق السطح عن إذنكم.
كاد أن يتحرك بسرعةٍ كُبرى لكن صوت “ضُـحى” أوقفه حينما هتفت بخبثٍ وقد أدركت سبب لهفته بكل براعةٍ:
_وهي السجاير دي مبتتشربش غير فوق السطح؟ عندنا بدل البلكونة أربع بلكونات، روح شقتكم أشرب فيها السحابر.
ضغط على شفته بتحذيرٍ ثم هتف بسخريةٍ يُجاريها في الحديث وكأنه يود حقًا الهرب منها:
_بحب أشربها في البراح، ربنا يوعدك بيه يا رب.
رفعت حاجبيها بخبثٍ جعله يخطف المزهرية الموضوعة فوق الطاولة المجاورة لباب الشقة يهددها بها حتى هتف “عُـدي” يحثه على تكملة فعله بقولهِ:
_أيوة أديها ياعم نبقى نجيب غيرها.
سألته “قـمر” بتعجبٍ من جملته:
_هي مين اللي هتجيب غيرها؟ “ضُـحى” ولا الفازة؟.
هتف “عُـدي” يجاوبها بنبرةٍ ضاحكة يثير استفزاز شقيقته التي أمسكت الملعقة تحذره من استكمال سخريته:
_الفازة طبعًا، الشحطة دي هنجيب غيرها منين؟ دا خالك قرب يبقى جد خلاص.
فتح “يوسف” باب الشقة وهتف بمراوغةٍ وقحة يمازحهم قبل تحركه:
_طب خلي بالك أحسن يجيبلك عيل يرميك في الجيش.
ضحكوا على جملتهِ فيما أغلق هو الباب ثم توجه إليها بخطى سريعة دون أن يستخدم المصعد، أراد أن يراها اليوم خاصةً أنها ذهبت لعملها صباحًا وأتت في وسط النهار دون أن يكون هو معها، رآها تجلس على الأريكة تتصفح هاتفها ووضعت شالًا من خامة الصوف على كتفيها وأرخت حجاب رأسها فوق خصلاتها، ابتسم ودلف يهتف بثباتٍ:
_مساء الخير ؟.
رفعت عينيها له تكافئه عن طريق النظر منهما وهي تقول بنبرةٍ هادئة ردًا على تحييته بعدما ابتسمت له:
_مساء النور، ياترى جيت علشاني ولا علشان الوردة الحمرا ؟.
أقترب يجلس بجوارها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم هو الأخر وكأنه يفكر في الجواب:
_جيت علشان الوردة الحمرا أكيد، مش محتاجة سؤال.
رفعت حاجبيها تستفسر منه بسخريةٍ ثم هتفت تعانده بقولها:
_طب تصدق أنا هقطفها بجد ؟.
حرك عينيه يستقر بهما على ملامحها وهو يرد عليها بقوله مُحذرًا:
_طب أعمليها كدا علشان أمد أيدي.
شهقت هي بتلقائيةٍ شديدة خوفًا مما تفوه بهِ وسألته باستنكارٍ أشد:
_هو أنتَ ممكن تعملها وتمد إيدك بجد؟.
حرك كتفيه دون أن يجاوبها تاركًا الجواب لخيالها هي، ثم تحرك نحو ركن المشروبات لتتحرك هي خلفه ثم سألته من جديد باهتمامٍ:
_مش بكلمك؟ رد عليا علشان أنا بخاف من الضرب.
التفت لها يسألها بنبرةٍ رخيمة تتنافى مع أصل حديثها:
_تشربي شاي معايا؟.
حركت رأسها موافقةً بإذعانٍ صريحٍ له ثم تحركت تجلس على طرف الطاولة وهي تطالعه أثناء عمله للشاي حتى أنهاه هو ثم يده بالكوب لها وسألها من جديد بهدوءٍ بالغ الأثر أو ربما برودٍ لم تحدد هي:
_ها بتقولي إيه بقى ؟.
أخذت منه الكوب وهي تقول بتوترٍ:
_بسألك ممكن تضرب ؟ بصراحة أنا بكره الراجل اللي يمد أيده على واحد ست، بستحقره، علشان كدا بسألك.
أبتسم لها ثم مال عليها يهمس أمامها بنبرةٍ هادئة ودافئة تتنافى مع برودة الجو من حولهما:
_طب أنا هسألك لو أنتِ مكاني وقدامك حاجة عسولة زيك كدا هيجيلك قلب تمد إيدك عليها؟ ممكن أمد أيدي بس بطريقة تانية خالص.
سألته بنظراتها حتى وجدتها يقوم بقطع وردة من الزهور البيضاء المصنوعة يدويًا ثم قام بانزال حجابها من فوق رأسها ووضع الزهرة بين خصلاتها، ثم رفع الشال يتلمس منتصف الخصلات لتكون كما اللوحة المرسومة تمامًا، مثل ما تخيلها أول صعوده إلى هُنا، ضوء القمر يضيء لهما، عيناها مثل النجوم أو ربما هي النجوم بذاتها، ابتسامتها مثل الأمل في كل جديدٍ، عاد للخلف خطوتين ثم هتف بنبرةٍ هادئة يخبرها الجملة التي لم تنفك عن عقلهِ، يُكررها عليها من جديد ليؤكد لها أن السحر الأسود في عينيها لم يُقارن بأي سحرٍ من بعده:
_صحيح ربنا حرم على عباده السِحر بس أنتِ عيونِك سحرهم حلال.
تلك المرة هي أحبتها أكثر، لأنها تعلم مشاعره تجاهها، تتيقن أن هذا الواقف أمامها يحبها بكل جوارحه، تراها في عينيه وفي نظراتهِ وفي أفعالهِ لها، أما هو فأضاف من جديد بعدما اقترب منها يشير بحديثه إلى تفسير ما سبق وسألت عنه هي:
_مقدرش أمد أيدي عليكِ، ولا أقدر أكون سبب إنك تحسي نفسك مكسورة قصادي، يوم ما همد أيدي هيبقى علشان أزرع حقل الورد اللي قدامي دا، أنا يعز عليا كسرك حتى بينك وبين نفسك يا “عـهد”.
يا الله !! هل سيبقى لطيفًا لهذا الحد؟ من هذا ؟ أين الوقح صاحب اللسان السليط المُدعى “الغريب” الذي دلف أرضها؟ الذي يقف أمامها هذا أقرب من الروحِ للروحِ، شبيه القلب، أما هو فاستغل سكونها أمامه ثم أقترب منها يُلثم وجنتها اليُسرىٰ حتى ظنها ستعنفه وتوبخه لكنها ابتسمت بخجلٍ له مما جعله يُكررها على كلتا الوجنتينِ وهذه المسكينة لم تجد حتى صوتها، بل استمعت لضربات قلبها المتسارعة خلف بعضها، أما هو فابتسم حينما تلاقت نظراته بنظراتها التائهة وهي تسأله بتعجبٍ:
_أنتَ مين ؟.
أخفض جسده للأمام وقبل أن يجاوبها قطع التواصل بينهما صوتٌ تبغضه هي وتكرهه وتكره حتى ذرات الهواء التي تحمله فيما اندهش “يوسف” من دخول “سـعد” مكانهما في هذا التوقيت وهو يهتف بكل برودٍ:
_سوري شكلي جيت في وقت مش مناسب، بس أنا أجرت الشقة اللي في الدور التاني علشان هتجوز فيها، مش أنا قولتلك يا “عـهد” لما اتكلمنا مع بعض؟ على العموم طلعت أتطمن على السطح معرفش إنكم مقضيينها هنا.
تلاشت بسمة “عـهد” وبكل تلقائية قبضت على ذراع “يـوسف” تتلمس منه الأمان، بينما الأخر وقف يوزع نظراته بين نظراتها الخائفة وبين ذلك المُحتل الذي أحتل أرضهم يُعكر صفوها لكن حديثه لم ينفك عن عقله ويغادره وخاصةً والآخر يبتسم له بكل وقاحةً، هل سيتصدى للمحتل أم سيتسلم له؟.
______________________
دُمتم بخير يا رب علطول وربنا يوفق كل الطُلاب ويبارك في أولاد حضراتكم للي معاه أولاد في فترة امتحانات، أنا بعتذر لحضراتكم عن فصل يوم الاتنين مُسبقًا لأني عندي امتحان بعدها بيومين إن شاء الله لقائنا الجديد يوم الأربع.
ومتنسوش الدعاء لإخواننا وتذكروا أن الدعاء هو السلاح الوحيد والكلمة جهاد، ولا تنسوا إننا مقاطعين، أدعوا لأهل فلسطين وسوريا والسودان ربنا ينصرهم ويقويهم.
_________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى