روايات

رواية وتلاقت الأرواح الفصل الثاني 2 بقلم ندى ممدوح

رواية وتلاقت الأرواح الفصل الثاني 2 بقلم ندى ممدوح

رواية وتلاقت الأرواح الجزء الثاني

رواية وتلاقت الأرواح البارت الثاني

وتلاقت الأرواح
وتلاقت الأرواح

رواية وتلاقت الأرواح الحلقة الثانية

2_وعدنا نلتقي
🌹اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌹
لم يخامر الخوف فؤاد (منى)، وهي تقف شامقة كـ أسدٍ هصور أمام الشباب الذين فقدوا نخوتهم، ومرؤتهم، ورجولتهم؛ ليتهجموا على مرأتين بمفردهما.
عملها كمهندسة تشرف على الأبنية بين الرِجال، أهَلّهَا لتقف كالسد في وجه أعتى أعصار يعصف بها مهما كان ذا ريحٍ صرٍ عاتية.
وعندما هَمَّ شابٌ من الشَّباب أن يهوى على رأسها بالعصىٰ؛ أمسكتها قبل أن تصل إليها بعينين يتطاير منها الشرر حتى يكاد يحرقهم حرقًا.
وإن كانت فتاة اخرى غيرها لأستقبلت الضربة مستسلمة، لكن (منى) تعلمت أن تدافع عن نفسها بكل بسالة ما دام إنها على حق.
دوَّى صوت إطلاق النار فجمد الأجساد، كتمثال من الشمع أخذ يذوب مرتجفًا، وأرتقت والدة (منى) الدرج بثقل؛ وهي ترغي وتزبد، وتهتف بوجهٍ غاضب يقطر بالتعصب:
_أيها الأوغاد كيف تتجرؤون على ابنتي؟ كيف تدخلون بيتنا وتتهجموا علينا بهذه البساطة.
كخرقة بالية، أو ورقة شجرة سقطتت عن جزعها لتصبح وحيدة على أرضٍ غريبة، بعد إن كانت في عِلو تقهقر الثلاث شباب للخلف وهم يبصرون السلاح الذي بيد المرأة، وسرت في أوصالهم رعدة الخوف، خيفة من الموت المحتم بالنسبة لهم، فصاحت والدة (منى) وهي تقف بجوار ابنتها:
_أسرعي يا ابنتي وأربطي هؤلاء الأوغاد، يجب أن ينالوا عقابهم.
تبسَّمت (منى) لأمها، بسمة راضية، وهزت رأسها إيجابًا وهي تيمم وجهها شَطَر المخزن لتجيءُ بحبلٍ غليظ، قيدت به الشباب، ومن ثُم ألتقطت العصى التي جاؤوا بها، وأنهالت عليهم ضربًا، وهم يتأوهون من الألم، وهي تهتف بنبرة ساخرة:
_لم تتربوا جيدًا، فلا ريب أن ترسلكم أمكم إليَّ حتى أعلمكم الأدب أيها البلهاء! كيف سوِّلت لكم أنفسكم على فِعل ذلك؟ ماذا ظننتم إننا لن نقدر عليكم؟! ألم تتعلموا إن المرأة عندما تعيش في عالمٍ ماتت به الرجال يجب أن تتحل بالشجاعة لتدافع عن نفسها.
كانت (منى) تجلس في مركز الشرطة، تتحدث في الهاتف مع رفيقتها وقد أقسمت عليها ألا تأتي لتراها، وأغلقت معها وعلى شفتيها تراقصت بسمة منتشية عمَّا فعلته في الشباب الذين تهجموا عليها، وأسترجعت بذاكرتها صوت الرصاصة التي أنطلقت من مسدس والدتها المرخص، فأنقذتها من بطش الشباب، وجمدت أجسامهم وجعلتهم يتقهقرن للخلف في وجل أطل من أعينهم في رهبة، فعلى عجل جلبت حبلٍ غليظ وقيدت أيديهم به، وأتصلت بالشرطة الذين جاؤوا فور بلاغها، وها هي ذا تجلس في المركز لتدلي بإفادتها.
وبينما هي على تلك الحالة، والملل بلغ منها الذروة، فأخذت تتلفت لتشغل عينيها، وفجأة رأت طيفًا لم ترآه منذُ سنون..
فإذا بجسدها ينهض رويدًا رويدًا، ودمعتان ترقرقتان في مقلةٍ بدم، ثم أخذتا بالأنهمار العبرة إثر العبرة، وعلى ثغرها أشرقت بسمة هَلت من ركام الظلام بداخلها، وأسبلت جفنيها وفتحتهما كأنما لا تصدق البصر إنه أمامها، وطفقت عيونها تتأمل ملامحه بتلهف؛ كأرضٍ يابسة متلهفة للسقيا، وتعلقت عيونها به، وحف به فؤادها، وتسمَّرت قدميه هو الآخر وأطرف بعينيه غير مصدق، ثم تبسَّم في رزانة وهو يستعيد شتات نفسه، وأقبل نحوها بذات النظرة الساحرة المفعمة بالحنان، وحين بلغها، تمتم بصوتٍ رخيم، وبعينين تشعان بالعاطفة:
_منى!
همست (منى) دامعة العينين:
_يحيىٰ!
اتسعت ابتسامة (يحيى)، وأطرف لحظة أرتد فيها إلى صمته، ثم رفع عينيه إليها، وقال بصوتٍ يقطر بالحنين:
_كيف حالك؟
فتحت (منى) شفتيها لتجيبه، لكنها عادت تطبقهما، وهي تتفحصه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ببذلة الطيران، وقد عاد الأمل ينبض في قلبها، فمذ فارقها لم تفارقها ملامحه والغائب قد عاد؟ لكن سيرحل من جديد؟ أم سيبقى؟
شحب وجهها بغتة، وانسحبت الحياة منه، وتجمدت الدموع داخل مقلتيها، أخذت تذرفها مآقي الفؤاد، وشُخص بصرها على الدبلة التي لمعت في إصبعه.
هال يحيى شرودها وهيئتها، فتطلع إلى ما تنظر، وألمه قلبه وهو يتلمس الدبلة، ويقول ببسمة حزينة:
_أنا.. لقد تزوجت!
تأبَّد قلب (منى) وأطرقت لهنيهة، أستعادت خلالها جُل شجاعتها وسجيتها، ثم رفعت نظرها إليه وقد فلحت في وأد صدمتها ووجعها داخل الأعماق، وانبلج ثغرها عن بسمة زائفة، وقالت بصوتٍ خافت:
_حقًا، مُبارك لك، سعيدة إنك تزوجت جدًا!
بادلها يحيى بسمة متوترة وقد زاغ بصره، وخفق قلبه في ثُقل، قائلًا:
_وأنتِ هل تزوجتِ؟
ودت (منى) أن تكذب! أن تخبره إنها قد تزوجت ونزعته من قلبها انتزاعًا، ولم يبقَّ منه سوا ذكرى اندثرت في ثنايا القلب، لكنها لم تستطع! لم تقدر أن تخالف سجيتها لأي شيءٍ كان، فهزت رأسها، وغمغمت:
_ليس بعد..
وتعلقت أبصارهما ببعض، حتى أطرقت منى رأسها، فهز يحيى رأسه مدحرًا التفكير فيها، ونوى الرحيل عن ذكرى عادت تتأجج في صدره، وهو يقول:
_قلبي سعد لرؤيتك جدًا..
قاطعة استرساله منى، قائلة:
_استطردنا في الحديث ولم تخبرني، ماذا تفعل هنا؟
هز يحيى كتفيه، وقال بصوتٍ أجش:
_أتيت للقاء صديق ليّ هنا لأمرٍ هام، بل أنتِ ماذا تفعلين هنا؟
لم تشأ (منى) أن تخبره اي شيء يخص حياتها، لذا فقد حركت رأسها وقالت وهي تلتقط حقيبة يدها:
_لا شيء مهم، دعني لا أأخرك على لقاءك، لا ريب إن صديقك ينتظرك، لا تجعله ينتظر طويلًا.
أنهت عبارتها وهمَّت بالرحيل، لكنها ما كادت تلتفت حتى نادها، قائلًا:
_منى!
فأطبقت جفنيها وهي تزفر بحنق من كل شيء يحدث، ثم ألتفتت إليه بوجهٍ هاديء الملامح، وقالت بصوتٍ خافتٍ:
_نعم يا يحيىٰ!
بادرها يحيى قائلًا وهو يدنو منها:
_لماذا لم تتزوجي للآن، هل بسبب…
بتر عبارته، حين قاطعته منى في صرامة، قائلة:
_أنت ماضي ذرته الرياح وعصفت به في ركام الحياة في وادي سحيق.
وهزت كتفيها وهي تقول ببساطة:
_كل الأمر إنني ارفض فكرة الزواج لإني اهتم بأمي حاليًا وقد فاتني القطر على ما يبدو.. والآن هلا سمحت ليّ بالذهاب؟
أسبل يحيى جفنيه وهو يهز رأسه إيجابًا، وأشار لها بكفه، وتمتم:
_بالطبع، تفضلي إلى اللقاء.
أستدارت منى وهي تجيبه بهمس:
_بل قُل وداعًا أبدًا.
ظل يحيى واقفًا، شاخص البصر في إثرها، يشيعها بقلبٍ خفق كطيرٍ أخذ حريته من أسره، فإذا بالصياد يصطاده ويعيده إلى سجنه مجددًا.
بخطواتٍ غاضبة، كأسدٍ خسر فريسته، التي كان سيقتات عليها، ذهبت سعاد إلى منزل سالم، ووقفت إزاءه، وهي تصيح:
_بالله أخبرني هل أنت إنسان حقًا ياسالم؟
تفاجئ سالم من هجومها، وردد في حيرة:
_ما الذي ترمين إليه يا حجة سعاد؟ لا أفقه شيئًا، هل حدث شيء؟!
ندت عن سعاد ضحكة متهكمة، وقالت قي سخرية:
_تقتلون القتيل وتمشون في جنازته.
ثم صرخت بصوتٍ عال:
_ابنك الحقير ذاك كيف يُرسل مجموعة من الأوغاد إلى منزل صديقتي؟ كيف تتهجمون عليها؟!
وأدرك سالم إن ولده قد فعل مصيبة مجددًا، فأرتد لصمته لوهلة، ثم قال في هدوء:
_صديقتك هي من أخطأت حينما رفعت يدها عليه! هل ظننتي إنه سيمرر ذاك الكف هكذا بكل بساطة دون أن يرده أضعاف!
توهجت مقلتاي سعاد بغضبٍ عَظيم هائل، ونما فوق ملامحها التي استحالت إلى سواد نمرة شرسة، وغمغمت في فحيح:
_إذن أنت تعتقد إن ابنك قد فعل الصح ولم يخطأ؟
أومأ سالم بعينيه، وهو يقول:
_تمامًا.
أومأت سعاد برأسها في هدوء مبهم، وقالت:
_فليكن..
وأسطردت وهي تتهيأ للرحيل:
_أنت من اخترت، إن لم أسجن ولدك في غياهب السجون فلا يكون اسمي سعاد.
بنبرات قوية مفعمة بالغيظ، هتف سالم:
_على رِسلك يا سعاد.
توقفت سعاد، ودنا منها سالم بتؤدة، ثم همس بجوار أذنها:
_لا تفتحي على نفسك وابنتيك أبواب الجحيم، ولا تنسي إننا لم نأخذ ثائرنا للآن.
ألتفتت إليه سعاد في إنفعال حاد، فتراجع وهو يضحك في برود، مسترسلًا:
_نحن لم ننس يا سعاد الثأر القديم، لكن لأني لدي شهامة لم أخذه من النساء.
ولوح بسبابته متابعًا كشيطانٍ رجيم يرمي حممٌ من جوفه:
_لكن متى أردت أن أقتص حقي منكن أخذته.
وتنهد في هدوء وقال متبسمًا:
_حسنٌ حسنٌ، يمكننا حل الأمر بأن توافقي على ابني أن يتقدم لابنتك اسماء، وأعدك أن ينتهي كل التشاحن الذي بيننا.
ترقرق الدمع في آماقي سعاد من التهديد المباشر الذي ألقت له السمع، لكنها لم تلبث إن أخمدت كل بركانها المشتعل قبل ان يقصف حممه، وغمغمت في شراسة:
_احلم بذلك كيفما تشاء، لكن محال أن أوافق على ولدك السخيف ذاك.
وحدجته بنظراتٍ ملتهبة، قبل أن تغادر بخطوات قوية.
القريب حين يصبح غريبًا تصبح الحياة ليل قر دائمًا لا نور شمس يبددها ويدفء بردها، رجعت منى إلى منزلها وهي في غاية الحزن والألم، كانت بالفعل تعتقد إنه قد تزوج، فمحال أن يظل كل هذه السنون أعزبًا!
بالطبع لن ينتظرها!
أغلقت باب حجرتها، واسندت ظهرها إليه، وانزلقت جالسة، وهي تضم نفسها بذراعيها..
كانت تشعر ببرد ينخر عِظامها..
كانت تبتغي بعد الدفء..
يا له من حزنٍ مميت ذاك الذي لا نستطع أن نعبر عنه، أو نبوح به، يظل يأكل من شغاف القلب دون هوادة
او شفقة
أو رحمة
وألم الفراق كخنجرٍ مسموم خرج نصله ولم يخرج سمه
فظل يسرى في الأوصال والوجدان حتى مهجة القلب.
يا له من ألم
ويا له من وجع
ويا له من عذاب لا ينتهي
يظل كندبة تنغص حياة المرء بغسقها..
والوجع شبحٍ مبهم لا يتراءى للناظر فيداويه.
وأسترجعت ذكرياتها، اول ذكرى
واول لقاء
واول حب طرق الفؤاد
ذات يومٍ قبل أن ينتقلا من شقتهم القديمة، كانت في البناية صديقة لها، تشاطرها كل اوقاتها وحياتها، وكانا يجلسان أغلب الوقت في الشرفة أعلى السطح، وهناك رأته، بحُلة الطيران..
بائِن الطول، عريض المنكبين، بهي الطلة، حنطي البشرة، وحُفرت ملامحه في فؤادها كما كلماته، فما إن رأته همَّت بالتراجع، والهرب، لكنه نداها باسمها، فتوقفت دون أن تلتفت، فدنا منها يحيى، وسألها وهو يخلع الكاب من فوق رأسه:
_أنتِ منى، أليس كذلك؟
فهزت رأسها، وهي تفرك أناملها في توتر، وهمست في ارتباك لذيد:
_بلى، ومن أنت؟
فتبسَّم بسمة كانت بعد ذلك بسمة فؤادها، وردد:
_وانا يحيى، شقيق دينا صديقتك.
وسَكت برهة، تأملها خلالها بنظراتٍ متفحصة، وغمغم:
_لقد حدثتني دينا عنكِ كثيرًا، حتى كنت اتمنى رؤيتك ذات يوم، وها هي ذي الأمنية تتحقق، وتمثلت أمامي.
لم تدرك منى بما تجيب، فلاذت بالصمت، وأطرقت رأسها خجلى، حتى جاءت دينا، ومن تلك اللحظة تغير كل شيء..
فبدأ يحيى يأتي كثيرًا لزيارة شقيقته دينا، ويجلسان معًا، وتنتظره إن أتى، وتودعه إذ رحل، وتقدم لخطبتها ورُفض من والدتها التي لم توافق عليه بسبب عمله كطيار، لكنها لم تلبث وأن وافقت عندما لم ييأس يحيى، ومن ثم فرقت بينهما بإهانتها ليحيى دائمًا كلما آتى لزيارة ابنتها، وشجارها معه لأتفه الأسباب، وجلوسها معهم إذ أراد الجلوس مع منى، لقد كانت لبالمرصاد حتى فلحت فيما طمحت، وأنهى يحيى الخطبة، ولم ترآه بعد آخر لقاء وداع، كان وداع حافل بالبكاء..
مرضت على إثره لليال طوال..
أمرضها رحيله وحبه..
تركها قبل ليلة زفافهما بأيامٍ قلائل، بل بالأحرى طلقها، وأصبحت مطلقة، تعاني من نظرات الناس التي تحيقُ بها، وهمزاتهم ولمزاتهم..
وأعياها ذلك كثيرًا، حتى تركا المنطقة السكنية وأنتقلا لأخرى..
ورفضت منى الزواج عِنادًا مع أمها التي فرقتها عن من أحبت.
تنبهت منى من شرودها، على طرقٍ على الباب ورائها، وصوت سعاد التي تقول في لهفة:
_منى أفتحي الباب حبيبتي هذه أنا سعاد.
فكفكفت منى أدمعها وهي تهب واقفة، وارتمت في حضنها وهي تنغمر في بكاء حاد مزق أوتار سعاد، التي هتفت في جزع:
_منى لماذا تبكين يا حبيبتي، ما الذي حدث معكِ أوصلكِ لتلك الحالة.
كانت والدة منى قد أتصلت عليها، ترجوها المجيء لرؤية ابنتها التي خرجت آنفًا قوية وعادت منهارة، رددت منى بصوتٍ متهدج من إثر البكاء:
_لقد رأيته يا سعاد، رأيته وتكلمنا، ولقد تزوج..
وأيقنت سعاد ما أصاب صديقتها، ورفيقة الروح، فطوقتها بذراعيها أكثر، وهي تهمس:
_هذا شيئًا أكيد يا منى، فهو لن يبقى طول العمر بلى زواج.
أبتعدت منى وهي تمحو عبارتها قدر استطاعتها، وقالت بصوتٍ خافت:
_أنا اعلم ذلك، بل ادركه تمامًا، ولكن لا ادري ما اصابني، لم أكد أرى الدبلة في إصبعة حتى وأحسست بخنجرٍ ينغرس في السويداء من القلب في ذاك المكان الذي كان يستقر فيه.
تبسمت لها سعاد مشفقة، وأزالت بإبهاميها دموعها، وهي تقول:
_هذا الألم سينتهي يا منى، يجب أن ينتهي.
عادت دموع منى تنساب على وجنتيها في غزارة، وهي تسألها بصوتٍ منفطر:
_هل ينتهي حقًا يا سعاد، هل يوجد ألم ينتهي؟ وإن أنتهى يا سعاد كيف أنساه؟
تلألأت العبرات في مقلةَ منى، ثم جذبتها إلى حضنها.
“ألا زلتي حزينة يا ابنتي على ابتعادك عن صديقتك أسماء”
ألقى والد ندى العبارة وهو يتسأل في لهفة، عمَّا إذا كانت ابنته لا تزل حزينة؛ مخافةً أن تحمل في قلبها مشاعر سيئة تجاهه.
فتبسمت ندى وهي تهز رأسها نفيًا وضمت ذراع أبيها وهي تميل برأسها عليه، وهمست:
_لست حزينة يا أبي إننا نتواصل يوميًا صباحًا ومساءً، كما إني سأذهب إليها في الأجازة، أنا معك في أي مكان يا حامد لن أتركك.
ضحك حامد وهو يداعب خصلاتها، قائلًا:
_لقد نولنا الصلح.
همست ندى في ثقة:
_بالطبع.
ثم وثبت واقفة في رشاقة، وغمغمت:
_لقد مللت يا أبي، هلا اخرجتني أنا وهدهد قليلًا؟
أومأ والده، وأشار إليها في بساطة قائلًا:
_فليكن، تجهزي أنتِ ووالدتك ولنخرج…
لم يكد ينهي عبارته، حتى أرتفع رنين الهاتف، وأسرعت ندى تجيب أسماء على مكالمة الفيديو، وهي تقول:
_عليكِ سلام الله يا أسماء، كيف حالك، أوحشتني كثيرًا جدًا.
وردت أسماء بلهفة:
_وعليكِ السلام يا نودي، أوحشتي قلبي كثيرًا.. ها أخبريني كيف حالك؟
استوت ندى جالسة فوق فراشها، وجذبت وسادة وضعتها فوق ساقيها، وأرتكزت عليها بمرفقها، وهي تقول:
_حالي على ما يرام يا بنيتي، أعاني من فراغ تام، ووحشة هائلة، وبعد قليل سأخرج لأتمشى قليلًا برفقة والديّ.
أسندت أسماء رأسها إلى ظهر المقعد، وقالت:
_لم أكن أعتقد إن رحيلك سيجعل الحياة تكتم على صدري ويضيق هكذا.
تنهدت ندى في عمق، وزفرت في حنق وهي تقول:
_كم أودُ لو آتي يا ابنتي…
ثم استدركت، قائلة:
_أخبريني كيف حال والدتك؟
اومأت أسماء برأسها، وهي تقول:
_الحمد لله إنها بخير، ستقضي الليلة في بيت طنط منى لأنها مريضة قليلًا و…
وبترت عبارتها، صوت صراخ دنيا الذي يأتي عاليًا، وهي تصيح بارتياع:
_صرصور، صرصـــــــــــــــــــــور، أسماء أين أنتِ أنجديني.
هرعت أسماء بهلعٍ شَطرها، وهي تقول برعدة سَرَت في أوصالها:
_ ما لكِ لِمَا تصرخين يا ابنتي ماذا هناك؟ أوه يا إلهِ..
أرتعدت فرائصها بدورها وهي تنظر إلى شكل البرص الذي ظل واقفًا في مكانه وهما تصيحان مشخصتان البصر عليه كأنهما قد رأتا شبحًا مرعب الشكل، بينما قهقت ندى ضاحكة بملء فمها، وهي تُردد بدهش يخامره المرح:
_إنه برص هل تخفان منه؟
وعَلت ضحكاتها أكثر، قبل أن تكبحها قسرًا، وهي تصيح في أسماء التي نظرت إليها عَبر الكاميرا غاضبة، وهي تصيح:
_هل تضحكين علينا؟
فغمغمت ندى بجدية:
_أتركك الآن من هذا الأمر، وأضربي هذا البرص بأي نعل لديكِ.. أو اي شيء؟
تقهقرت أسماء مبتعدة عن مرمى البصر، وهي تسحب دنيا التي انكمشت خشية منه، وهي تُردد في ذهول:
_أيُ هُراء هذا يا ندى؟ هل تهذئين بيّ يا ابنتي ام ماذا، أنَّى ليَّ أن أقتل كائن صغير الحجم، وفي اي قانون سأحاسب؟!
زمَّت ندى شفتيها وتجهمت الوجه، وقالت في عبوس:
_قانون ماذا يا غبية؟ لات الأن وقت مزاح…
واستطردت قائلة:
_لقد امر الرسول بقتل الوزغ…
بترت ندى حديثها، عندما صاحت أسماء تساءلها في دهشة:
_قتل الـ… ماذا يا روحي؟
ضربت ندى جبهتها بكفها، وهي تغمغم:
_رباه، الوزغ هو البرص، فقد دخلت إحدى الموالي على السيدة عائشة رضي الله عنها فوجدت لديها رمحًا فسائلتها ماذا تصنع به، فأخبرتها السيدة عائشة أنها تقتل به الوزغ فإن النبي صل الله عليه وسلم أخبرها أن إبراهيم لما ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه فأمر الرسول بقتله.
ولقاتله مائة حسنة، وتمحو عنه سبع خطايا.
لم تنبس أسماء ببنتِ شفة لوهلة، ثم قالت بما بدا بتفكير:
_أكل هذا الأجر إذا قتلت هل الكائن؟ أنا سأذهب لأبحث عن أبراص العالم وأقتلها.
وضحكت في فكاهة، بينما ودعت ندى وأغلقت معها.
توقفت ندى برفقة أبيها حامد أمام عتبة الباب في انتظار خروج أمها، وهي تصيح بضخر:
_هيا يا أمي، يا سيدة هويداء.
فخرجت أمها وهي تتميز غيظًا، وحدقت فيها بعينين مشتعلتين، وهي تتمتم:
_كفاكِ ثرثرة ألا تملكين ذرة صبر!
زمت ندى شفتيها، وتطلعت في أمها بنظراتٍ مغتاظة، ثم تأبطت ذراع والدها، وهي تهمس له:
_أظن إنه كان يجب علينا أن نذهب أنا وأنت ونتركها هنا.
حذرها حامد بعينيه، بينما لكزتها امها في خفة وهي تقول:
_آهٍ منكِ أنتِ…ما هذا الصوت؟
تساءلت هويداء في جزع مع صوت ارتطام حاد صمّ أذنيهم، فخيم عليهم سكونِ رهيب، مبهم جثم على أفئدتهم، ثم شق عباءة الصمت صوت ندى، وهي تغمغم:
_لقد جاء الصوت من هذه الشقة!
تبادلت مع أبيها نظرة حذرة، عندما هتف:
_هل نذهب ونسألهم أن كانوا يحتاجون شيئًا؟ هذا الصوت القوي يدل على شيءٍ بشعٍ قد وقع لديهم.
وهَم أن يتجه جهة الشقة التي تقبع إزاء شقتهم، لولا إن تمسكت هويداء بذراعه ووقفت حائلًا بينه وبين المرور للشقة المقابلة، وهي تقول في حيرة:
_ولماذا تذهب؟ أولاء الناس لا نعرفهم ولا يعرفونا!
صاحت ندى تساند والدها:
_لقد اوصانا الرسول بالجار يا أمي، لن نخسر شيئًا أن سألنا إذ كانوا بحاجة لمساعدة.
تمتم والدها واثقًا:
_ندى معها حق، أنتظراني هُنا إلى أن آتي.
طرق الباب لكنه لم يتلق اي رد، حتى سمع صوت خطوات لم تلبث أن تعثرت وعاد الحفيف يتناهى إليه حتى فُتح الباب، فـ أول ما وقع نظره عليه كانت سيدة تفترش الأرض مغشيًا عليها، فرفع صوته مناديًا ابنته وزوجته، فهرعا فورًا للداخل، وبينما تحاول ندى معرفة ما أصاب المرأة الراقدة أرضًا في غياهب الظلمات، وحين كانت تتلفت رأته..
ذاك الشاب المستفز الذي أغلق النافذة في وجهها، يقف ثابتًا أمام إحدى الغرف، فهبت واقفة، وهي تجأر:
_أنت، أهذه والدتك؟
فرد الشاب دون أن يلتفت إليها:
_بلى، وهي مريضة سكر؛ لا ريب إنها قد دخلت في غيبوبة.
كان يتحدث في برود راع قلب ندى، التي أوغلت النظر في عينيه، التي ما زالت متسمرة بعيدًا، فلم تملك أن هاجت وصرخت في وجهه:
_ألا تملك ذرة من أحساس يا رجل، أليس لديك قلب؟ تلك الملقية أرضًا هي والدتك، آراك واقفًا هكذا في برود دون أن تهرع لنجدتها، تبًا لك ولأمثالك…
بترت عبارتها، حينما أستدار بكل بساطة وصفق الباب في وجهها، فأنتفض جسدها، وتزلزل قلبها، واضطربت نفسها، وتهدج صوتها وهي تقول بصوتٍ شاحب:
_قليل الادب والحياء، للمرة الثانية يغلق في وجهي؟!
أرتفع صوت والدها وهو يقول:
_ليس الآن يا ندى اتركي هذا الشاب وشأنه واسرعي لتساعدينا..
في مكتب النائب جلس نوح أمام والده طه وهو يضع رأسه بين كفيه، همٌ ثقيل جاثمٌ على جوانحه سقط بغتة عليه، وعلى غرة سحقته، بل دمرته تدميرًا..
وصبَّت عليه العذاب صبًا صبًا..
وها هو ذا يجلس في إعياء، كليل الروح وعليل القلب؛ يصيخُ السَّمع إلى والده، وهو يهتف في سورة من الغضب:
_لقد حذرتك يا نوح، أخبرتك إن هؤلاء الرجال لن يمرروا الأمر مرور الكرام، وإنك لن تفلت من بين أيديهم، وقد لفقوا لك تهمتين ولست واحدة، مخدرات وجدوها في سيارتك، والفتاة قد قُتلت وأنت آخر من كان معك.
لمن يأوى؟ ومن قد يؤويه؟ وكيف ينجو؟ لم يدرك نوح ما عليه فعله، لقد وجد نفسه فجأة غارقًا في الوحل، الذي أخذ يسحبه بداخله رويدًا رويدًا ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه مستغيثًا.
ومرةً أخرى تنبه على صوت والده، الذي لا يزل يأنبه:
_لماذا لم تخبرني يا بُني إنك ذاهب لزيارة لفتاة؟ هاا لِمَا!
زفر نوح بضيق، وأجاب أبيه، قائلًا بصوتٍ يقطر بالأسى:
_منذُ متى وأنا أُعلمك بتحركات عملي يا أبَتِ!؟ الفتاة اتصلت قالت إنها تريدني لشيءٍ هام يخص قضية شقيقها قد يفيده وذهبت، أنَّى ليّ أن أعرف إنها تنوي شرًا! الغبية لقد تخلصوا عليها وضربوا عصفورين بحجرٍ واحد.
ثم سكت وهو يتراجع لظهر المقعد، ومسد ما بين عينيه في إرهاق، وقال ببأس:
_كيف كنت سأعرف إنهم أيضًا سيقتلوها وأنا من سيلتف حبل المشنقة حول عنقه؟!
هب طه مذعورًا ومال ممسكًا بمنكبيه، صائحًا:
_صَه ويحك ما الذي تقول يا بُني انا لا أتخلى عنك أبدًا، سأفعل كل شيء وأخرجك من هنا.
رفع نوح بصره إليه، وأوغل النظر في عينيه، وأمسك بكفين والده، وهو يسأل في لهفة:
_أيُّ شيء؟ حقًا؟
جذبه طه لينهض، فأنصاع نوح، بينما يقول:
_أتسأل يا بني، أنا افديك بروحي، سأفعل كل ما بوسعي؟
وسَكَت لهنيهة، وازدرد لعابه، قائلًا:
_كما إنني لدي خِطة!
وأشار إليه بالجلوس، وهو يتابع:
_أجلس أولًا.
جلسا إزاء بعضهما، ومالا بوجهيهما حتى كانا قاب قوسين أو أدنى من التقارب، وهمس طه بصوتٍ خافت:
_رب العالمين سينصرك يا بُني يجب ان تعلم ذلك، وأن تتوكل عليه وتستعين به كي يعينك، والمظلوم سيُنصر، والظالم سيسحق بنارِ جهنم، وأمرك ليس ببئيسٍ على الله، فأصغي السمع جيدًا ونفذ ما سأقوله حرفًا حرفًا..
أصغى نوح السمع، وهو يؤمأ برأسه لأبيه، هامسًا بصوتٍ خفيض:
_كلي أذانٌ مصغية.
ومال والده أكثر عليه، وأسرَّ إليه ببعض الكلمات.
فُتحت باب الزنزانة ودخل نوح وهو يرتدي ملابس السجناء، وتوقف وسط الأسرة، وأخذ يدير مقلتيه على السجناء الذين تعلقت جُل أنظارهم عليه، وقفز إحدهما من فوق فراشه وأتجه نحوه، وأخذَ يتفحصه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ثم حك وجنته، وتصنع التفكير، وهو يقول:
_إذن أنت هو المحامي، الذي سيشرفنا حتى أن يلتف حبل المشنقة حول عنقه!
بَثَّ نبأ نوح في السجن، كما تأكل النار في الهشيم، وثمة أعداء له في السجن سيحتفون به أشد احتفال.
وهو لا يزل على حافة أتون النار، والفرصة قد سنحت لمن يود القصاص، لكنه لن يسمح لهم؛ لذا فقد تقدم خطوة إلى الرجل الوقف إزاءه بقامته المديدة، ورمقه بازدراء وقال وهو يهز رأسه:
_يؤسفني أن أخيب أمآلك، فحبل المشنقة لن يلتف سوا على..
وتلكأ بنظراته على عنق الشاب، متابعًا عبارته:
_عنقك وحدك.
زم الشاب شفتيه وهو يصفق بكفيه، ودار ببصره على باقي السجناء، وهو يقول:
_أنظروا إليه لم يتبقَّ من عمره سوا أيام قلائل ولا يزل يتبجح.
وأعاد بصره إلى نوح، وهو يتمم:
_أنت هايل يا رجل.. ألا تخاف..
سار نوح مجتازًا إياه، وغرة توقف، ثم ألتهم الخطوات التي قاطعهم بلمح البصر، وسحب الشاب من تلابيب ملابسه، ثم دفع رأسه للخلف ليهوى بها على جبينه، وهو يجأر قائلًا:
_مقدار عمري المتبقي لا يعلم به إلا الله وحده يا رجل، لعل عمرك قبل عمري من يدري؟
ثم أبتعد وسار جهة فراشه ولكن وقبل أن يصل، كان خلفه ينهض الشاب في غضبٍ تشتعل به حدقتيه، وهرع ملتقطًا خنجرًا حاد من أسفل وسادته، وأشهره عاليًا وهو يبتسم في ظفر، ثم هرول يعدو جهة نوح، الذي سمع صياح السجناء، فأستدار ليتلقى طعنة حادة أنغرست في جنبه من النصل الحاد، فأومأ بعينيه بطريقة مبهمة، وسقط على إحدى ركبتيه، بينما أمسك الشاب كتفه ونزع النصل ثم غرسه فيه مجددًا..
وسقط نوح وهو يمسك بجنبه…
وما بين الموت والحياة..
لا أحد يدري بمن يتعلق.
ومن سينال أخذه؟
وكيف يعود للحياة ميت ظنناه إن لن يحور؟!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وتلاقت الأرواح)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى