روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثامن 8 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثامن 8 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثامن

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثامن

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثامنة

طبعا مفيش تفاعل لذلك مش هطلب منكم تفاعل، وهترك الأمر ليكم ولتقديركم …
“حُسْنُ الكَـلَامِ كَمِثْلِ العِطْر فَـوَّاحُ
‏ إِنَّ القُلُـوْبَ بِطِيْبَ القَـوْلِ تَرْتَـاحُ”…
صلوا على نبي الرحمة .
___________________
كان صلاح يقف في منتصف مكتب أخيه وهو مازال ينظر لذلك الرجل امامه، يحاول عصر رأسه لمعرفة متى رآه واين ؟! لكن لا شيء، ربما لكثرة ما رأى من الأشخاص .
تحركت عينه على الملف الموضوع أمامه على المكتب، ثم رفع نظره لذلك الرجل ليمسك به يرمقه بخبث جعله يرسم بسمة صغيرة وهو يقول بهدوء يدعي أنه صالح :
” شغل ؟! شغل ايه ده ؟! حضرتك محتاجني يعني في مستشفى يعني؟!”
هز الرجل رأسه يجاريه في حديثه وهو يتململ في وقفته :
” يعني حاجة شبه كده، لو مهتم تغير حياتك و …”
نظر حوله للمكتب بازدراء ثم أضاف :
” وتودع المكتب ده ويبقى عندك مكتب اكبر، فأعتقد أن العرض بتاعي هيعجبك ”
وصلاح الذي يعلم ما يكنه كل شخص من مجرد نظرة صغيرة، علم جيدًا أن ذلك الشخص الذي يقف أمامه لا ينتوي خيرًا لأخيه .

 

لذلك تحرك بخطوات بطيئة بعض الشيء صوب باب المكتب يغلقه بالقفل في هدوء شديد مانحًا نفسه الفرصة ليبتسم بسمته المميزة، ثم استدار صوب الرجل وهو يقول مشيرًا صوب المقعد الذي يقابل مكتب أخيه أو محمود لا يعلم :
” اتفضل استريح ”
جلس الرجل يفتح زر بدلته وقد هيأ له عقله أن صالح قد يفكر في عرضه بجدية فهو اغلق الباب ليختلي به دون إزعاج .
لكن صلاح والذي كان ينظر لظهره الذي يقابله ابتسم بخبث وهو يتأكد أنه اغلق الباب تحسبًا لعودة أخيه، ثم تحرك صوب مقدمة المكتب وتوسط المقعد خلفه، يحاول النظر في ورق اخيه يدعى أنه هو، لكن عقله لم يستوعب كل تلك الكلمات الطبية والكلمات المرصوصة أمامه وفجأة شعر بشيء غير مريح أسفله، نهض ببطء ليجد أنه جلس على بقايا لفافات طعام، تنفس بصوت مرتفع يلعن أخيه وطريقة حياته القذرة وهو يلقي اللفافة في السلة جواره :
” يعني السلة لازقة في المكتب، تروح فين تاني عشان يرمي الزبالة فيها ؟! نحطها على حجره المعفن ؟!”
افاق من همسه لذاته على صوت الرجل :
” أنا بعطلك عن شغلك يا دكتور ؟؟”
عاد صلاح بظهره يتكأ على المقعد بهدوء شديد :
” فعلًا حضرتك معطلني كتير، فأتمنى يكون كلامك هيعوضني على العطلة دي ”
وأعطاه نظرة جعلت الرجل يستبشر خيرًا منه وهو يدفع بالملف صوبه يردد :
” خليني ادخل في الموضوع على طول، الشغل بتاعنا هو عبارة عن عمليات نقل أعضاء، ومتقلقش كل شيء قانوني ومعانا موافقات من جميع الأشخاص يعني مش هتعمل حاجة مخالفة ”
رفع صلاح حاجبه وهو يمسك الملف ينظر له ثواني وهو لا يفهم معظم الكلام به، لكنه إن كان يفهم شيئًا واحدًا فهو أن ذلك العمل لا يمت للقانون بصلة، وهذا الرجل أمامه كان قادمًا على أمل أن يغري أخيه والذي كان يعلم أن رده الوحيد عليه هو أنه سيلقى الملف في وجهه ويخبره أن يغرب من أمامه فهو لا يهتم بهكذا أمور، لكن ولحسن حظ ذلك الرجل، أو لسوء حظه…هو ليس اخاه .

 

” اممممم فعلا شكله قانوني، لكن ممكن سؤال ؟؟ اشمعنا أنا يعني ؟؟ اصل أنت عارف اني مش قديم اوي في الشغلانة دي، قصدي يعني فيه دكاترة كتير اوي اكبر مني وعندهم خبرة اكتر مني ”
اعتدل الرجل في جلسته يحك بأصابعه جانب وجهه يبتلع ريقه وهو يعدل من وضعية رابطة العنق وكل ذلك تحت أعين صلاح الذي لم يفوت حركة واحدة منه، وقد ارتسمت بسمة جانبية على فمه وهو يتفحصه باستمتاع يحاول إخفاء علامات التوتر الواضحة له، وقد بدأ صلاح يلعب على اوتاره …
” هو يعني الباشا هو اللي بيختار اللي بيتشغل معاهم، وهو غالبًا بيحب يختار الشباب لأنهم بيكونوا افضل للحاجات دي، وهو كمان بيساعدهم يحققوا طموحهم وأحلامهم ”
في تلك اللحظة ارتفع رنين هاتف صلاح لينظر له بطرف عينه ويلمح اسم ميمو يتوسط شاشته، ودون أن ينظر للهاتف فتح المكالمة وقام بخفض الصوت لآخر مرحلة وهو يقول :
” كويس والله إن لسه في حد ابن حلال في البلد بيهتم بشبابها، وبيحاول يساعدهم أنهم يكبروا، حاسس ان الموضوع بدأ يعجبني، بس سؤال صغير …”
نظر له الرجل بترقب وهو يبتسم بسمة واسعة بعدما كان يائسًا من الموافقة ليثير شفقة في قلب صلاح على مقدار حمقه :
” مين الباشا بتاعك ده ؟؟ اصل متزعلش مني أنا مش بحب اشتغل مع حد مش عارفه، افرض كان شخص شغله مش قانوني أو عليه قضايا ؟! البس أنا ؟!”
هز الرجل رأسه بسرعة كبيرة وهو يقول بلهفة شديدة جعلت صلاح يدرك أي غبي هو، فهذا الرجل أما أنه لا يستطيع الحديث مع أحد في أمور كتلك أو أنه هو الذي ارهقه بهذا الشكل .

 

” لا لا طبعًا الباشا سمعته معلهاش كلام، وبعدين هو ليه اسمه في السوق، فمتقلقش ”
راوغ صلاح أكثر وهو يعلم أن الرجل أمامه تبقى له ضغطه واحدة وقد يعترف أنه هو من خطط لاغتيال السادات :
” أيوة مين هو برضو؟! الباشا بتاعك ده ملوش اسم ؟! ولا خايف تقول اسمه ؟! لأنه لو خايف تقول اسمه فأكيد خوفك ده وراه سبب، أما إن الشغل ده مش قانوني زي ما قولت في الأول، أو أن الباشا بتاعك ده مش مضمون، وفي الحالتين أنا out ”
ابتلع الرجل ريقه يلعن نفسه لقدومه، فحتى اللحظة الأخيرة كان آخر هو من سيأتي وهو الافضل منه في تلك الأمور، لكنه لم يستطع وأرسله هو، هو ليس غرًا أو احمقًا، لطالما أجرى مثل الأمور مع غيره من الأشخاص لكن ذلك الشاب….هو فقط يُشعره أنه تحت المجهر، يشعره أنه مراقب، وهذا ما لم يتوقعه فهو لم يعلم أي شيء عنه قبل مجيئه .
” لا هو الشغل قانوني زي ما قولت، وكمان الباشا هو …هو مش زي ما أنت فاكر هو بس حابب يتأكد أنك معانا قبل ما تقابله ”
هز صلاح رأسه ببرود شديد وهو يستند بذراعيه على المكتب :
” كلامك ده معناه أن الشغلانة دي خطر أو رئيسك هو اللي خطر وإلا ليه عايزين تضمنوا دخولي قبل ما تكشفوا عنه، شغل عصابات قديم ده ”
حرك الرجل رأسه يحاول البحث عن شيء مقنع في رأسه لكن صلاح قال بهدوء وهو يقلب في الملفات أمامه :
” للاسف أنا مقدرش اسيب شغلي في الطب الشرعي وبشكل قانوني عشان اعمل عمليات تحت بير سلم ”
” لا لا مش كده خالص، احنا عاملين التدابير اللازمة و الباشا ضامن كل شيء ومظبط كل شيء ”
وها هو يعود لنفس النقطة :
” أيوة مين الباشا ده اللي واصل اوي لدرجة يأمن عمليات زي دي المفروض انها محرمة إلا لحالات نادرة ؟! متقولش رئيس وزراء بريطانيا؟! “

 

ابتلع الرجل ريقه وهو يرى نظرات صلاح تجبره على التحدث :
” هو …سعيد الاشموني، اكيد تعرفه ”
نعم هذا ما كان يريد، أن يستمع لاسم سعيد الذي يجعل ضربات قلبه تتراقص سعادة، ليس حبًا ولكن تحفزًا للقادم، ادخل سعيد نفسه لجحيمه بوضعه لأخيه على قائمته …
عاد بظهره للخلف وهو يقول بكل هدوء :
“لا للاسف معرفهوش، بيبيع ايه سعيد الاشموني ده ؟!”
صمت الرجل وهو يحدق به في صدمة كبيرة ليس من جهله بهوية سعيد الذي كان كالنار على العلم، لكن لادراكه أي مصيبة أسقط فيها نفسه بنطق اسم سعيد قبل التأكد من انضمام ذلك الشاب لهم، ويلته إن علم سعيد بالامر، يقسم أن يجعله هو أول حالة أسفل مشرط ذلك الطبيب الشاب .
” ممكن بكل بساطة تبحث وتعرف، ها انت معانا ولا لا ؟!”
نظر له صلاح في عينه بشكل جعل الرجل يبعد عينه وهو يستمع لجملته :
” والله ده مصير ومستقبل مقدرش اديك كلمة كده من قعدة واحدة محتاج افكر وابحث عن سعيد الاشموني بتاعك وأشوف هعمل ايه ”
” مش محتاج اقولك إن اللقاء ده محدش يعرف عنه حاجة، ده لمصلحتنا سوا وانا عشان كلمتك أنك هتفكر فأنا متفاؤل خير، امتى تقدر تديني قرارك ؟؟”
عاد صلاح بظهره للخلف يبتسم وقبل أن يتحدث أبصر أسفل مكتب أخيه قمامة كثيرة وجوارب متسخة جعلته يغلق عينه بتقزز، ثم فتحها وهو يقول :
” قراري هيوصلك لما اخده، تقدر تسيب رقم حضرتك وقريب هيوصلك مكالمة مني ….”
____________________

 

ممر طويل بعض الشيء، اضاؤته خفيفة بشكل يوحي لك أنك في أحد الأزقة الخطرة في شوارع نيويورك، هذا كل ما فكرت به رانيا وهي تخطو في ذلك الممر البارد الملئ بالادراج بشكل مثير للريبة، سمعت جوارها صوت هاجر والتي تساءلت بتعجب :
” ايه كل الإدراج دي ؟؟ ده الارشيف ولا ايه ؟؟”
” مش عارفة بس الجو هنا برد اوي، مش فاهمة مشغلين التكييف على العالي ليه كده ؟! سارقين كهرباء ؟!”
أشارت هاجر لنهاية الممر حيث إضاءة اقوى ومكان يبدو كما لو كان حجرة :
” اكيد هما في المكان ده، بصي اللمبة فيه شغالة ”
شحنت رانيا ملامحها مرة أخرى بالغضب ومن ثم نظرت لخالتها وهي تردد :
” لما تلاقيني بتخانق جامد وبزعق بصوت عالي، تيجي بسرعة تمسكيني كأنك بتمنعيني ماشي، عشان أنا مش ناقصة، ده واحد بلطجي وانا مش عايزة إبان جبانة قدامه”
هزت هاجر رأسها بجدية وهي ترفع قبضتها في الهواء لها :
” ثقي فيا، وراكِ رجالة ”
تمتمت رانيا وهي تتقدم بتهكم :
” يا خوفي يا خالتو ”
وبمجرد انتهاء الممر الذي كان يعتبر جزء من المشرحة لحفظ الجثث، وصلت الاثنتان واخيرًا صوب المكان الخاص بالتشريح، كان هنا باب مفتوح جزء منه فدفعته رانيا بغضب كبير وهي تصرخ بجنون :
” لو فاكر أنك هتخلص مني يا بلطجي أنت يبقى …..”
وصمتت فجأة وهي تشعر بهاجر تمسكها بسرعة، نظرت لها دون أن ترى ما يحدث أمامها تردد بصدمة :
” بتعملي ايه يا خالتو ؟!”

 

” مش أنتِ قولتي اول ما تزعقي امسكك ؟؟”
أشارت رانيا بكفيها صوب الداخل وهي تقول بغيظ :
” اديني فرصتي حتى اكمل جملة، مش دلوقتي يا حبيبتي لما اتخانق معاه مش كل ما صوتي يعلى هتكلبشي فيا كده ”
هزت هاجر رأسها وهي تبتعد عنها، لتتنفس رانيا بحنق وهي ترفع رأسها مجددًا بغضب صارخة :
” اوعاك تكون فاكرني…..”
وهذه المرة توقفت أيضًا، لكن ليس بسبب هاجر، بل بسبب ذلك المشهد الذي رأته أمام اعينها، صالح ورفيقه يلتفان حول طاولة وفي المنتصف يقبع رجل وقد أُفرغت احشاؤه بالكامل والاثنان يمسكان بمشارط وبين يدي صالح يقبع أحد الاعضاء الذي لم تتبين ماهيته بسبب كثرة الدماء حوله ونظرات التعجب تعلو وجه صالح ومحمود .
وفجأة أفاق الجميع من التحديق بصدمة بسبب صوت سقوط هاجر العنيفة التي ارتمت ارضًا بعد ذلك المشهد الذي رأته ورانيا شعرت برغبة في التقيأ وهي تكتم فمها بيدها .
نظر صالح ومحمود لبعضهما البعض بجهل لما يحدث، لكن بمجرد أن سقطت هاجر ارضًا ابتسم محمود وهو يشير لها برأسه مستندًا بذراعه على تلك الجثة مرددًا وهو يفرك اصبعيه في بعضهما :
” بسكوتة نواعم يا خواتي”
أشار للجثة التي يشرحها :
” شوف يا رأفت متحملتش ازاي تشوف الدم ؟! “

 

نظر بعدها لرانيا والتي شحب وجهها بصدمة لما ترى واشمئزت ملامحها، لكن صوت محمود اخترق تلك الغمامة التي أحاطت بها :
” وأنتِ الجو ده مش واكل معاكِ؟! أنتِ شغالة في محل جزارة ولا ايه ؟!”
ترك صالح العضو من يده ثم أمسك مشرطه يمسحه في محرمة جواره وهناك بسمة مستفزة ترتسم أعلى فمه وهو يحرك المشرط بحركات بطيئة يحدق في رانيا بنظرات ذات دلالة وكأنه يخبرها أنها يومًا ما ستكون مكان ذلك الرجل ..
استمر التحديق بين الاثنين قبل أن يقطعه تراجع رانيا للخلف وهي تطلق صرخة رنّ صداها في المكان فافزعت الجميع حتى صالح نفسه الذي انتفض للخلف وهي تدور في المكان وكأنها نست المخرج :
” قتالين ….قتالين قتلة ”
كانت تدور في المكان وهي تصرخ بجنون وصالح ينظر لها بريبة يبتعد عن مرمى سيرها كلما مرت من أمامه وكأنها تحمل مرضًا، بينما محمود تحرك حتى جلس جوار هاجر بعدما خلع قفازه ليقول وبدأ يتحدث معها وهي لا تعي شيء :
” تعرفي طول عمري كنت بحب البسكوت النواعم، ماما كانت تجيبلي وانا صغير بسكوت شمعدان وانا اعيط ليها واقولها عايز نواعم، ياااه ايام، من وقتها مبقتش احب اجيب نواعم لغاية ما شوفتك ”
كان محمود يتحدث بكل هدوء مع هاجر التي ما تزال مسطحة ارضًا .

 

بينما رانيا تبكي بهستيرية وهي تدور في المكان تبحث عن الباب الذي دخلت منه لتلك المتاهة قبل أن تصطدم بالخطأ في صالح والذي لم يبادر بمسكها أو حمايتها من السقوط بل تركها تضربه ثم ابتعدت وهي تصرخ به :
” أنت كنت قاصد، أنت كنت قاصد صح، أنت جايبني القاهرة مخصوص عشان كده، أنا والله العظيم قولت أنك عايز تاخد اعضائي ”
كانت تتحدث وهي تبكي وعقلها لا يعي ما تنطق به، ولا تعي هي أنها في مشرحة وهذا الذي أمامها ليس تاجر أعضاء بل طبيب تشريح .
بكت وهي تعود للخلف تضم نفسها بخوف :
” هتاخد اعضائي أنا وخالتي ”
أشار لها صالح بقفازه والذي كان غارقًا في الدماء :
” حيلك حيلك يا ماما، من قلة الاعضاء هجيب أعضاء فاسدة، وهجيبك من اسكندرية مخصوص للقاهرة عشان اخد اعضائك انتِ ؟! ليه اعضائك بالفسدق ؟!”
بكت رانيا وهي تبتعد عنه :
” أيوة، أنتم سرقتوا تليفوني عشان تعمل كل ده أنا عارفة”
” لا صدقيني الموضوع ابسط من كده خالص، أنا لو كنت عايز اعضائك كنت شقيتك نصين من اول ما خبطيني بالكتاب عشان أوقع عليه، وبعدين مسكتك فرغتك من اعضائك، ومن ثم اكسر البطيخة اللي فوق كتفك دي أخرج الجذمة اللي بتفكري بيها وبعدين ارميهم في أي مقلب زبالة لأن صدقيني محدش بيقبل أعضاء فاسدة “

 

أنهى حديثه وهو يلوح بالمشرط في الهواء بحركات تصف حديثه وكأنه بالفعل ينفذ ما يقول، ثم اقترب منها بترهيب لتتراجع هي للخلف تطلق صرخات مرتعبة :
” لالا خلاص والله مش عايزة تليفوني، أنا ممكن اديك ورقة بكل ارقام السر بتاعته، والله مش عايزة حاجة، يا بابا …يابــــابــــا ”
وحينما رأت يد صالح تُرفع في الهواء أطلقت صرخة رنّ صداها في المكان بأكمله، ليرمقها صالح بتشنج دافعًا إياها وهو يقول :
” اوعي يا متخلفة من وشي عايز اجيب الادوات ”
كان يتحدث بعدما دفعها بعيدًا عن أحد الإدراج التي فتحها ليخرج منها حقن غريبة الشكل يتم سحب بها عينات لفحصها، ومن ثم عاد للطاولة التي تحمل الجثة ورانيا ما تزال ساقطة ارضًا تحدق في ثيابها التي امتلئت بالدماء جراء دفعه لها …
وأمام الباب الداخلي للغرفة كان محمود ما يزال يتحدث مع هاجر :
” وبعدين في الدور التاني هتلاقي اوضتي، هي مش صغيرة بس لو عايز جناح مثلا، ممكن ناخد اوضة بابا ونفتحها على اوضتي، كده كده هو بينام في المكتب أو المعمل ”
فجأة انتفض من مكانه وانتفض جسد هاجر بفزع على صوت صرخة رانيا، نظر صوبها محمود بحنق ثم تحدث لهاجر التي بدأت تفيق :
” بس بنت اختك دي متجيش عندنا عشان صالح مش بيحبها وبيتعفرت لما يشوفها وانا اكيد مش هخسر صاحبي عشان واحدة تبقى بنت اختك ”
أفاقت هاجر مما كانت به وهي تنظر حولها تحاول معرفة اين هي :
” أنا فين ؟!”

 

أجابها محمود وهو ينهض ليكمل عمله والذي كان مستمرًا منذ ساعات طويلة تقريبًا من قبيل الفجر في بداية اليوم :
” أنتِ في المشرحة يا نواعم، يا ريت تاخدي بنت اختك الهبلة دي وتروحوا المكتب بتاعنا تستنينا هناك، هخلص واجي نتفق على السجاجيد والستاير”
نظرت له هاجر ولم تكد تتحدث بكلمة حتى أبصرت رانيا تركض صوبها تجذبها بسرعة لخارج ذلك المكان وهي تنتفض بخوف وصالح يلاحقها بنظرات ساخرة قبل أن يعود لعمله مع محمود لأخذ العينات المطلوب فحصها لتبين كل شيء يتعلق بذلك الجسد ….
خرجت كلٌ من هاجر ورانيا من المشرحة وهن يركضن وكأن الاشباح في اعقابهن، لكن فجأة اصطدمت رانيا في جسد جعلها تتراجع وهي تعتذر بسرعة وارتجاف، لكن بمجرد أن أبصرت ذلك الجسد أطلقت صرخة أخرى تتراجع للخلف، ومن ثم تعرقلت في سلة مهملات لتسقط ارضًا ولم تنهض مجددًا حيث جاء دورها لتصبح هي المغشي عليها …
كان صلاح يفتح عينه بصدمة وهو يرى ما يحدث، ثم حرّك عينه لهاجر التي كانت ما تزال تفتح فمها ببلاهة وهي تحدق بها، تحدث صلاح بهدوء وخوف على تلك الفتاة الغريبة :
” أنا آسف ما اخدتش بالي، هي دي قريبتك ؟!”
هزت هاجر رأسها ببطء وهي ما تزال تفتح عينها لا تدري هل ذلك قرين صالح ام صلاح شقيقه، هو لا يرتدي بدلة، إذن ربما هو أخيهم الثالث ؟؟
خرجت من أفكارها على صوت صلاح الذي انحنى على ركبتيه جوار جسد رانيا يردد بهدوء :
” يا آنسة…يا آنسة أنتِ بخير ؟! ”
لكن لم يصل له رد، لذاك انحنى بجسده بالكامل يحملها بين ذراعيه، ثم تحرك بخطوات حثيثة يعود صوب مكتب صالح مرددًا :
” لو سمحتِ اسبقيني وافتحي باب المكتب التاني على اليمين ”
______________________

 

أغلقت ميمو المكالمة التي سمعت بها بعض الجمل الغير مفهومة من صلاح، ورجل آخر، كل ما فهمته أن سعيد يود إشراك صالح شقيق صلاح في شيءٍ، وهذا الشيء بالطبع لن يكون جمعية خيرية، بل سيكون شيئًا قذر مثله .
ابتسمت وهي تحتفظ بتسجيل المكالمة على هاتفها فهي حينما تحدثت ولم يجبها صلاح كادت تغلق المكالمة لكن حينما تناهى لها بعض الجمل الغامضة بدأت تسجيل المكالمة لربما يحتاجونها فيما بعد …
رأت ميمو عامل الاسطبل في النادي يقترب منها مرددًا باحترام :
” الخيل جاهز والتراك جاهز يا هانم ”
ابتسمت له بسمة صغيرة وهي تخرج عدة ورقيات مالية من جيب بنطالها فئة المائة جنيهًا :
” تسلم يا سيد تعبتك معايا ”
” خيرك سابق يا هانم والله ”
ابتسمت له تهز رأسها:
” دي حاجة بسيطة، هات بيها حاجة حلوة لاولادك ”
أنهت حديثها وهي تتحرك صوب الاسطبل لكن فجأة توقفت اقدامها وهي تستمع لحديث الرجل العفوي :
” والله يا هانم كلهم بيدعولك حتى البت روضة المسخوطة بقت عارفاكِ وحبت اللعب اللي جبتيها ليها آخر مرة ”
رجفة مرت في جسد ميمو وهي تقاوم نظرة الضعف التي كادت تغشى عيناها، لذلك لم تستدر له وهي تردد بهدوء وجدية :
” بعد كده يا سيد متقولش ليها إني أنا اللي بعت الهدية، قولهم أنك أنت اللي اشتريتها ليهم، فرح عيالك وخليهم يحسوا أنك بتحبهم وحنين عليهم “

 

ابتسم سيد ليقول بملامح رجل رأى من الزمن ما هدّل أكتافه، لكنه رغم ذلك ما يزال يعافر ويعافر لأجل أولاده وزوجته، لأجل ألا يحرمهم شيئًا اشتهوه :
” هو أنا عندي اغلى منهم يا ست هانم؟! دول هما اللي مصبرني على الدنيا دي ”
واستطاعت الدموع أن تهزمها مجددًا ضاغطة على اوتار ضعفها وهي تستمتع لحديثه ذاك، تتحدث بصوت هامس لم يصل لسيد وهي تتحرك بعيدًا عنه وخرجت نبرتها مختنقة :
” ياريته كان زيك يا سيد، ياريتهم كلهم زيك مكانش حد تعب في الحياة دي ”
دخلت ميمو الاسطبل ولم تنتقي خيل بعناية كعادتها، بل صعدت على ظهر أول خيل مُجهز أمامها وهي تنطلق به في سرعة مخيفة والهواء يبعد الدموع عن عينيها وصوت سيد حينما يتحدث عن أولاده بحنان، تداخل مع صوت آخر، صوت تمنت لو أخذ من حنان سيد ذرة واحدة، تقسم أنها كانت لتكون راضية …
صرخات وتحطيم وسباب قذرة كل ذلك لم تستطع جدران غرفتها أن يمنعه، تجلس أسفل مفرش سريرها تحاول كتم تلك الأصوات عن أذنها وحولها يجلس إخوتها يدرسون ويبدو أنهم اعتادوا الدراسة على أصوات سباب والدهم ..
نفخ نادر وهو يصيح بحنق :
” هو الراجل ده مش هيرحمنا بقى ؟! من وقت ما قعد في البيت وبقى كل يوم زعيق ونكد، يا اخي ده الشغل ليه كان رحمة ”
ونظرة من أعين مازن أخبرته بالتحديد فيما اخطأ فصمت نادر وهو ما يزال يتمتم بكلمات غاضبة يغزيها الشيطان .
نظر مازن لرأس أخته التي تدفنها أسفل الوسادة وقال بصرامة :

 

” مش هتقومي تذاكري ؟! ولا هو خلاص اتعودنا على الكسل ؟؟”
قال نادر بغيظ من حديث أخيه القاسي :
” ما براحة عليها يا مازن أنت عارف اللي فيها ”
نهض مازن متجهًا صوب جسد شقيقته ينزع الغطاء عنها جاذبًا جسدها لتقف أمامه وهو يردد بأعين تطلق شرار وقد بانت القسوة في ملامحه :
” خلاص ميرفت وماتت، هنفضل طول عمرنا نبكي عليها؟! دي امها اللي هي امها رجعت لحياتها بعد اول شهر عدى عليها ”
بكت ميمو بحسرة ومازال صدرها يلتهب بالوجع لأجل ما عانته ميرفت والذي سمعت عنه القليل من الكلمات المترامية من نساء الحارة حول أن زوجها له يد في موتها، والبعض يردد أنها كانت تعاني امراض أدت بها للموت، لكن إن كانت كذلك بالفعل ؟؟ لماذا لم تظهر تلك الأمراض عليها؟! و لِمَ ذلك اليوم تحديدًا ؟؟
” يا مازن ارجوك سيبني أنا مش عايزة اعمل حاجة ”
نظر لها مازن وقد ارهقته نظرة اخته، لا يملك في حياته اغلى من اشقائه ووالدته، لكن هذا الضعف ليس هو ما اعتاد رؤيته في وجه اخته القوية :
” اسمعي عشان كلامي مش هيتعاد، تعليمك في الزمن ده هو سلاحك، ميرفت وخلاص راحت عند اللي احسن مني ومنك، لازم ترجعي تبقي قوية وتذاكري عشان تطلعي الاولى زي ما أنتِ متعودة، ده كان الشيء اللي بيهون على امك تعبها من شغلانة للتانية”
وبذكره والدتها جعل قلبها يرتجف حينما تتذكر عودتها كل يوم بعد الظهر لتنظف المنزل وتعد الطعام، بعد عملها لساعات وساعات كعاملة في روضة أطفال تبيع الحلوى وتنظف المراحيض والفصول بعد مغادرة الجميع .
هزت رأسها وهي تلقي بنفسها بين احضان مازن :
” حاضر والله يا مازن، هبقى احسن من الاول والله ”
قبل مازن رأسها برضى وهو ينظر بطرف عينه لنادر الذي كان يرمقهما ببسمة يتناول بعض الفاكهة التي حصل عليها من المعلم الذي يعمل تحت يده بعدما نبذ الدراسة وقرر العمل لمساعدة والدتهم ..

 

.
ثواني وانتفض الجميع على صوت صراخ وبكاء شقيقتهم الرضيعة في الخارج، كان هذا ليكون طبيعيًا لولا أن صرخات شقيقتهم تبعها صرخات والدتهم وهي تولول وتنتحب مستنجدة بالجميع .
ركض الثلاثة للخارج برعب شديد استوطن قلوبهم ليبصروا اول مشهد حطم براءتهم أشلاء، والدهم ينقض فوق والدتهم ضربًا حتى كادت تخرج أنفاسها بين يده، كان يبدو كمجنونًا هائجًا وهو يمسكها من شعرها يضرب رأسها في الجدار بقوة، ولم يخرج أحدهم من تلك الصدمة سوى مازن الذي انقض يبعد والده عن والدته بقوة تناسب جسده الشاب مقارنة بجسد والده الهزيل …
ونادر الذي ركض يساعده وهو يجذب والدته من الجانب الآخر، والصغيرة ذات الأشهر بينهما تبكي حتى كادت أنفاسها تزهق، وميمو تراقب ما يحدث بعدما شُلت أطرافها …
وتلك لم تكن المرة الأخيرة التي يفعل والدها كل هذا بوالدتهم لأجل الحصول على أموال، ليكتشفوا باسوء طريقة ممكنة أن والدهم الحبيب والذي كان في وقتٍ من الأوقات سندًا لهم، أصبح مدمنًا للمخدرات …..
فاقت ميمو من كل تلك الخيالات بأعين حمراء وبشدة ودموع أغرقت وجهها لدرجة أنها لم تبصر ذلك الحبل الذي التف حول قدم الحصان ليجعله يهيج ظنًا أنه ثعبان وهو يرفع جسده على قوائمه الخلفية وميمو تتمسك به بكل حرفية وهي تحاول تهدئته، لكن وبسبب ارتجاف جسدها لما مرت به منذ ثواني، افلتت اللجام لتسقط ارضًا وبقوة مطلقة صرخة عالية رنت في الأجواء، وآخر ما رأته سيد الذي هرع صوبها بهلع ….
____________________
كانت تسبح في بركة دماء وهي ترى حولها العديد من السكاكين تتحرك بشكل عشوائي وتطير صوبها، وكلما أرادت الهرب منهم انزلقت قدمها في الدماء، وفجأة ظهر هو امامها يحمل سكين وهو يلوح به أمام عينيها يقول بشر :
” قولتلك هشرحك لو شوفتك تاني ”
عادت رانيا للخلف وهي تهز رأسها بفزع وعندما أرادت أن تصرخ شعرت بصرختها تخرج ضعيفة.

 

فجأة انتفضت في نومتها لتجد أمامها هاجر تردد بخوف :
” أنتِ كويس يا رانيا ؟؟ اخدك المستشفى ؟؟”
اعتدلت رانيا في جلستها وهي تهز رأسها بلا وقد شعرت في تلك اللحظة بالحقد على ذلك الجزار الذي جعلها تحلم به، أمسكت كوب الماء من يد هاجر وارتشفته وهي تردد :
” والله العظيم لو شوفته تاني لا….”
وقبل أن تكمل كلمتها ابصرته يجلس على مقعد أمامها لتطلق صرخة مرتفعة وهي تقفز فوق الأريكة بشكل جعل صلاح ينظر لها بذهول :
” هو أنا وشي فيه حاجة غلط؟! كل ما تشوفيني تتنفضي كده ليه ؟”
أشارت عليه رانيا وهي تصرخ بجنون :
” اهو، جه تاني، اهو والله يا زبالة أنت لو قربت مني بايدك اللي كلها دم دي لأكون مصرخة ولامة الناس عليك ”
وسريعًا نظر صلاح ليده وكأنه يتأكد أنها نظيفة، ثم قال وهو يعدل من ضع نظارته التي ارتداها بعدما أنهى مقابلته مع ذلك الرجل :
” تقريبًا كده الآنسة أعصابها تعبانة شوية، بقترح تعرضوها على دكتور نفسي ”
كان يتحدث وهو ينهض يعدل من وضعية ثيابه ويمرر كفه على قميصه السماوي ليتأكد أنه خالي من أي انكماشات به، لكن وما كاد يتحرك حتى وجد تلك الفتاة تجذبة من القميص بقوة صارخة :
” وكمان هتقول عليا مجنونة ؟؟ طب والله لاوديك في داهية ”
فزع صلاح من فعلتها ورغم أنه في هذه اللحظة قد يخسر هدوءه ويخيفها إلا أنه وضع في عين الاعتبار مرضها العقلي مانحًا لها بسمة داعمة :
” اهدي يا آنسة لو سمحتي وسيبي القميص، وخلينا نتكلم بالعقل “

 

لوحت رانيا بيدها في الهواء وهي تصرخ :
” دلوقتي نتكلم بالعقل يا عديم العقل أنت، اجري يا خالتو بلغي البوليس ”
نظرت هاجر لهما تحاول معرفة ما يجب القيام به، إلا أن صلاح رفع كفه لها، ثم بكل سهولة نزع يد رانيا عنه وهو يقول بكل رقي وهدوء :
” اسمعي يا آنسة أنا أول مرة اشوفك في حياتي فأكيد لو عندك دلوقتي مشاكل مع حد فهي مش معايا، يا اما أنتِ عقلك مش سليم ومفكراني حد تاني، أو مفكراني صالح”
نظرت له رانيا بتعجب لتلك الكلمات الراقية التي ما كانت لتخرج من فم الوقح الذي تعرفه، أبعدت يدها عنه وهي تردد :
” صالح ؟! ”
” أيوة واحد شبهي بس لابس بنطلون جينز مقطع وشعره عامل زي الديوك كده، اكيد عارفاه ”
اشارت له رانيا وقد بدأ عقلها يستوعب ما يحدث :
” يعني …يعني أنت مش صالح ؟؟ أنت صلاح ؟؟”
ابتسم صلاح مطلقًا تنهيدة مرتاحة لتعرفها على هويته وقال :
” أيوة أنا مش صالح الحمدلله، أنا صلاح اخوه ”
” اللي بيكتب كتب ؟؟”
ضحك صلاح ضحكة لطيفة ثم أضاف :
” أيوة اللي بيكتب كتب، حضرتك بتقرأي ؟!”

 

هزت رانيا رأسها وهي لا تعي ما تقول، شاردة في الفرق الشاسع بينهما في الشخصية رغم تشابه الملامح بدرجة مخيفة :
” لا دي صاحبتي المتخلفة اللي بتحب تقرأ القرف اللي بتكتبه ”
تفاجئ ؟؟ نعم بل وصدمته تلك الفتاة من وقاحتها، وذكرته في الواقع بشخص يماثلها في نفس الوقاحة، وعلى ذكر ذلك الوقح انفتح باب مكتب صالح وهو يتحدث بصوت مرتفع :
” النتائج هتخرج خلاص ١٠ أو ١٥ يوم مش قبل كده و…”
وقبل أن يكمل حديثه انتبه لوجود صلاح في مكتبه ومعه رفقة لا تسره أبدًا .
وفي ثواني وكأن المكتب تحول لساحة حرب كانت تلك الفتاة تهجم على صالح بشراسة منقطة النظير جاذبة شعره بين يديها وهي تصرخ به :
” أنا يا زبالة تهددني بالمشرط، طب والله لأكون مفرجة عليك المستشفى كلها ”
صرخ صالح بألم لجذبها خصلات شعرها والجميع لم يستوعب بعض ما حدث، ففي ثواني كانت يد صالح تحاول دفع رانيا عنه وهو يتراشق معها الألفاظ :
” طب والله ما أنا سايبك المرة دي يا متشردة ”
اقترب محمود في تلك اللحظة من هاجر التي كانت تتحين لحظة ارتفاع صرخات رانيا لتتدخل وتجتذبها من الشجار كما أخبرتها من قبل، فكان جسدها يأخذ وضع الاستعداد كما لو أنها في حلبة ملاكمة تنتظر أن يستدعيها رفيقها…
” ايه هتنزلي تبديل بين الشوطين ولا ايه ؟!”

 

نظرت له هاجر بعدم فهم ليشير محمود لوضعية جسدها الاستعدادية لتقول هي موضحة :
” لا، مستنية اللحظة المناسبة عشان أتدخل ”
نظر محمود للشجار والذي طال صلاح الذي كان يحاول التفريق بينهما لينال بضع ضربات منها وهو يصرخ بهما أن يتوقفا .
تنحنح محمود وهو يقول :
” آنسة نواعم اتمنى اللي بيحصل ده ميأثرش على علاقتنا”
نظرت له هاجر ببلاهة عن أي علاقة يتحدث ذلك الرجل، لكن محمود لم يأبه وهو يقول :
” وانا من ناحيتي متقلقيش هعامل الآنسة المتشردة بنت اختك كأنها بنتي، مش هكون جوز خالتها وبس لا هكون اب ليها ”
تشنجت ملامح هاجر وهي تبدل نظراتها ما بينه وبين الشجار الذي ازدادت وتيرته وبشدة، لكن وحتى الآن لم تعطها رانيا الإشارة وهي الصراخ بصوت مرتفع .
” أنت بتقول ايه ؟؟ أنت شارب ولا ايه ؟؟”
فتح محمود عينه باتساع وقال :
” لا والله لسه ”
تعجبت هاجر وهي لا تعي جملته تلك، ماذا يقصد بـ ” لسه “؟؟
في تلك اللحظات كان صلاح قد فسدت ثيابه وكذلك شعره وملء الغضب وجهه وهو يلكم أخيه بشر مبعدًا إياه عن الفتاة :
” من امتى واحنا بنمد ايدنا على بنات يا حيوان ؟؟”
نظر له صالح بصدمة وهو يتنفس بسرعة كبيرة بسبب المجهود، ماذا يقصد هو، متى رفع يده عليها هو فقط كان يدفعها عنه، لكن وقبل أن يبرر لأخيه شيء، كانت رانيا قد نهضت من الأرض لتهجم مرة أخرى عليه، لكن تلك المرة كان هجومها على صلاح الذي يعطيها ظهره، وقد ظنته صالح بسبب خصلات شعره التي فسدت في الشجار ليصبح مثل اخيه .
صرخ صلاح بفزع وهو يحاول ابعاد تلك الفتاة عنه :

 

” أنتِ يا متخلفة بتعملي ايه ؟؟ ده انا بحوشه عنك، جاتكم القرف أنتم الاتنين ”
تحرك صالح صوب رانيا يجذبها من ثيابها دون أن يلمسها هي شخصيًا كي لا يتعدى على حرمات جسدها :
” يا بنتي أنتِ أي واحد تشبطي فيه؟! مش ده يا امي مش ده يا حبيبتي انا صالح ”
فجأة تركت رانيا شعر صلاح الذي كان في تلك اللحظة لا يبدي أي ردة فعل سوى أنه يتنفس بسرعة ويغلق عينه ويذكر نفسه أنها مسكينة ومريضة نفسية لا أكثر..
أبعدت رانيا يدها عن صلاح وهي تنظر لصالح تقول بذنب :
” بجد ؟؟ يعني ده اللي بيكتب ؟؟”
هز صالح رأسه وقبل أن يبادر بقول كلمة كانت رانيا تستدير له وهي تخلع حذائها تقسم أن تطعمه له وقد تجمعت الآن جميع أخطاءه أمام عينيها، سرقة هاتفها، جعلها تنتظر في الشمس طوال اليوم، ومن ثم تهديدها بعدم اعطائها الهاتف، ثم مقابلتها في مطعم والتخلف عن احضار الهاتف، ومن بعدها خطفها في السيارة وتهديدها بالدهس أسفل عجلاتها، وفي النهاية إثارة رغبها داخل مشرحة، هي ليست بذلك النوع من الفتيات الذي يفضل دائمًا اللجوء للعنف، هي لطالما واجهت مشاكلها من خلف إخوتها، حائط الصد الاول لها ومن ثم لسانها، وسيلة الدفاع الثانية لها، لكن ذلك الشاب أخرج من داخلها فتاة متوحشة .
كان صالح يحاول أن يتلاشى غضبها حتى لا يضطر للمسها أو يخرج عن طور هدوءه ويتسبب لها في ضرر، لكن ارتفاع صرخات رانيا أخرجه من كل ذلك وهي تقول ببكاء نتج عن غضبها الشديد :
” أنا كل اللي عايزاه كان تليفوني، لكن أنتم شوية حرامية كل شوية تماطلوا و…”
وقبل أن تتحدث بكلمة إضافية وجدت هاجر تقفز لتنفذ الخطة وتجذبها بعيدًا عنهم وهي تقول :
” خلاص يا رانيا اهدي تليفونك وهيرجع، بعدين هتموتي نفسك عشان تليفون ؟!”
نظرت لها رانيا بتعجب من بين دموعها :

 

” بتعملي ايه يا خالتو ؟؟”
” ايه مش دي الخطة ؟؟”
صرخ صالح في وجهها وقد سئم من كل ذلك الركض ولعبة القط والفأر :
” قولتلك التليفون مش معايا، مع محمود، عايزاه روحي خديه منه أو اتصرفي معاه، انما كل شوية الاقيكِ نطالي في حتة، هتلاقيني بقل ادبي عليكِ غضب عني لأن خُلقـ ”
وقبل أن يتحدث بكلمة اوقفهم صوت صلاح الذي أخرج هاتفه ينظر لشاشته ليرى رقم غريب :
” مسمعش صوت واحد ”
فتحت رانيا فمها بغية الحديث لكن نظرة واحدة من صلاح اخرستها هي واخاه ليفتح المكالمة :
” الو صلاح السقاري معاك ….مين بالضبط ؟؟”
فجأة انتفض جسد صلاح بشكل جعل الجميع يتراجع بخوف للخلف ورانيا تنظر لصالح بتسائل ليهز الاخير كتفه بجهل .
اغلق صلاح الهاتف وهو يتحرك صوب باب المكتب بسرعة يقول دون النظر لهم :
” صالح حل مشاكلك مع البنت باحترام عشان اقسم بالله كل اللي بيحصل هيوصل لابوك، وأنتِ متقطعيش جلسات الدكتور النفساني عشان مصلحتك ”
أنهى حديثه يخرج من المكان بخطوات مهرولة صوب سيارته تاركًا الأربعة في المكتب ينظرون له بعدم فهم قبل أن تتساءل رانيا بهدوء لا يليق عما كان يحدث سابقًا :
” هو قصده ايه باني مقطعش جلسات الدكتور النفساني ؟!”
نظر لها صالح ثواني قبل أن يبتسم بسخرية وهو يقول :
” أيوة بالضبط اللي فهمتيه يا قلبي، محمود ابقى ادي البنت تليفونها وشوفلها واحد من دكاترة الأمراض النفسية هنا يشوف حالتها والتكاليف عليا “

 

أنهى حديثه وهو يعيد خصلات شعره للخلف ثم منحها غمزة عابثة، وتحرك صوب المكتب يحمل هاتفه وبعض الاوراق وغادر لتسليم تقرير التشريح لقسم الفحوصات .
وظل محمود في المكتب ومعه هاجر ورانيا التي ما تزال تنظر لرحيل صالح بأعين متسعة غيظًا ووجه مشتعل غضبًا .
تجاهلها محمود وهو يقترب من هاجر وقال ببسمة :
” هو أنتِ قفلتي الفرنة انهاردة ؟! اصل جاي على بالي قرص بعجوة وشاي بلبن ؟؟”
______________________
توقف أمام باب المنزل الذي قام بتأجيره لأجلها ينظر تارة للحقائب في يده ومن ثم للباب متردد في الطرق عليها ..
لكن في النهاية قرر وطرق الباب في انتظار أن تطل عليه تسبيح، وهكذا فعلت بعد دقيقة تقريبًا، فتحت تسبيح الباب وهي تنظر له بتسائل ليبتسم بسمة صغيرة يرفع الحقائب في وجهها :
” اتفضلي دي شوية طلبات عشان لو حبيتي تعملي ااا”
قاطعته تسبيح بهدوء شديد وهي تضع في عقلها أن هذا الرجل أمامها قد أنقذها مرات عديدة وساعدها؛ لذلك يجب عليها أن تعامله بهدوء واضعة في الاعتبار أنه يفعل كل ذلك من مبدأ المساعدة :
” شكرا يا حضرة الظابط أنا تعبتك معايا الايام اللي فاتت بما فيه الكفاية، لكن حقيقي مينفعش اقبل أي حاجة زيادة لأن كده كتير و…”
ولم تكمل جملتها بسبب اندفاع الحقائب لصدرها بقوة جعلتها تشهق بعدم فهم، ورائد يرمقها بحنق مرددًا :
” خلصتي كلامك ؟! مكانوش شوية مكرونة ورز وبطاطس اللي تعملي عليهم الخطبة دي كلها، ده حتى البطاطس هتلاقي نصها معفنة عشان أنا مش بعرف انقي”

 

نظرت تسبيح للحقائب دقائق قبل أن ترفع عينها له مجددًا ومازال الاعتراض يسكن ملامحها :
” أيوة بس مينفعش على فكرة، أنا مش هقبل صدقات من حد، كفاية الشقة اللي انا فيها وتعبك عشان تـ ”
قاطعها رائد مجددًا وهو ينظر لساعة يده وقال ببسمة باردة :
” لا أنتِ شكلك فهمتي غلط، دي مش صدقة دي مساعدة خفيفة كده لغاية ما ربنا يكرمك وتقفي على رجلك وتبقي strong independent woman وبعدين يبقى تعاليلي اشوف حسابك ”
ردت ببلاهة وهي تفتح فمها من كلمته :
” حســ حسابي ؟! حساب ايه ؟!”
أخرج رائد من جيب سترته قلم ووضعه في فمه يخرج من جيب بنطاله الخلفي مدونة صغيرة، ثم فتحها يقلب صفحاتها وهو يقول :
” تسبيح …تسبيح …تسبيح …اها لقيتك، تسبيح ام نقاب حسابك لغاية دلوقتي يا ست الكل ٧٢٥٠ جنيه ونص ”
صرخت تسبيح بصدمة :
” نعم ؟؟”

 

” أنعم الله عليكِ يا عسل، تحبي اقولك كل جنيه صرفته في ايه ؟؟ اولًا العصير اللي جبته ليكِ لما اغمى عليكِ في المكتب كلفني ٦ جنيه، والتاكسي اللي اخدتك بيه للمستشفى ب ٣٠ جنيه وبعدين إيجار الشقة والتأمين مكلفني ….”
توقف حينما أبصر وجهها الشاحب من حديثه، يحاسبها على العصير الذي أحضره لها حينما اغشي عليها؟؟ وايضًا سيارة الأجرة التي أخذتهم للمشفى، وبلا وعي نطقت ساخرة :
” بالنسبة لحساب المستشفى ؟؟ ايه مش حاسبه ليه ؟!”
هز رأسه بهدوء وهو يحدق بالمدونة أمامه :
” لا دي كانت مستشفى حكومي مجانية عادي، بس بما أنك جبتي سيرة المستشفى فأحب اقولك إني اشتريت عدد اتنين برشام صداع ودوخة كلفوني ١٠ جنيه وخمسة وسبعين قرش ”
نفخت تسبيح صدرها وهي ترفع رأسها بإباء ترفض أن تظهر نظرات كسيرة، ترفض الشفقة من أعين أحدهم؛ لذلك قالت له :
” تمام يا حضرة الظابط أنا هقوم على خير وانزل ادور على شغل ووقتها يبقى اسدد حسابك كله ”
وضع رائد القلم في جيب قميصه، ثم دسّ مدونة الارقام الخاصة به في جيبه مجددًا :
” براحتك، بس مش اكتر من عشر سنين وإلا وقتها أنا عندي صحاب كتير في الشرطة وممكن ابلغ عليكِ، فاحذري مني ”
أنهى حديثه وهو يرحل ومازال وجهه مصوبًا ناحيتها وهو يشير باصبعيه على عينه، ثم يشير بهما عليها في حركة تخبرها أنه يراقبها وتسبيح ترمقه ببلاهة من تصرفاته .

 

خرج رائد من باب البناية وهو يطلق ضحكات صاخبة على تلك البلهاء، جلس في السيارة يخرج تلك المدونة والتي فقط تحتوي بعض ملاحظاته على القضايا أو اسماء مشبوه بهم، هل ظنته بالفعل قد يحاسبها على ما يفعل ؟! تلك الغبية …
تحرك بالسيارة وهو ينظر في ساعة يده وقد شعر أنه تأخر على العمل .
بينما تسبيح اغلق الباب تضع الحقائب على الطاولة وهي تتفحصها لتجده بها العديد من الأشياء التي غفل عن ذكرها إلى جانب الارز والمكرونة والبطاطس…
ابتسمت بسمة صغيرة وهي تتجاهل كل هذا متجهة صوب هاتفها والذي رنّ معلنًا وصول رسالة عليه، وبمجرد أن امسكت الهاتف اتسعت عينيها بصدمة وهي تردد بلهفة :
” عبدالعظيم ؟؟؟”
___________________________
كانت تجلس في عيادة النادي وهي ممدة أعلى الفراش تحاول التخلص من هؤلاء الرجال الذين يلتفون حولها، منهم من يكرر اعتذاره لها ومنهم من يحاول فحصها للمرة الثالثة منذ سقطت من فوق الخيل.
نفخت ميمو وهي تقول بنفاذ صبر :
” ما خلاص قولت اني زي الفل يا جماعة، الله يكرمكم فضوا المولد ده ”
وتلك النظرات التي صدرت من الجميع صوب ما نطقت به ذكرتها أنها لطالما تعاملت معهم تحديدًا بهدوء شديد مخفية كل ألفاظها السوقية أسفل تلال الرقي ..
” معلش اتفضلوا أنا بقيت كويسة و…”

 

وقبل أن تكمل جملتها أبصرت صلاح الذي اقتحم الحشود بوجه مفزوع يردد اسمها بلهفة :
” حصل ايه ؟؟ ”
نظرت ميمو لجميع الرجال حولها بشر ليتحجج الجميع بكلمات غير مفهومة ويخرجون من الغرفة واحدًا تلو الآخر ركضًا من أعين ميمو التي رفضت رفضًا قاطع _أثناء العناية بجرحها _ أن تتحدث مع أحد ليأتي لها، لكن يبدو أنهم تجاهلوا تحذريها وتحدثوا لآخر من حادثته والذي كان هو نفسه صلاح .
نهضت ميمو بصعوبة تستند على جذعها وهي تردد بكلمات مهددة خلفهم :
” عارفاكم وهجيبكم واحد واحد، سامع يا سيد أنت وعم جمال ؟! ”
جلس صلاح على مقعد جوار الفراش وهو يتحدث بصوت هادئ :
” أنتِ كويسة صح ؟!”
” زي الحصان يا ابني أنت بتقول ايه بس ؟؟”
تبع كلماتها تأوه عالي بسبب محاولتها الاعتدال في جلستها .
رفع صلاح حاجبه وهو يحرك عينه صوب ذراعها الذي كان مجروحًا وقدمها التي كانت مليئة بالضمادات لتقول هي بعند كبير :
” دي إصابة ملاعب عادي مش اول مرة اقع من على حصان، هو بس حصان غدار اخدني على خوانة، لولا أني عارفة إن سعيد مش بيجي النادي كنت قولت أن هو اللي دفع للحصان عشان يعمل فيا كده ”
ضحك صلاح بصخب وهو يتقدم بمقعده منها أكثر وقال ينحني صوبها قليلًا هامسًا بصوته الخبيث المحبب لمسامعها :
” وايه يخليكِ متفكريش أنه بعت شخص تاني تبعه يتفق مع الحصان واغراه بشوية سكر ؟؟”
ضيقت نظراتها وهي تردف بجدية كبيرة :

 

” تفتكر ؟! أنا برضو قولت الحصان ده مش طبيعي، كان متوتر كده اول ما شافني داخلة عليه ومرضيش يحط عينه في عيني…. المرتشي ”
ابتسم صلاح بسمة جانبية وهو ينظر لعينها مطولًا وهي شردت في نظراته، ليسحب نفسه بصعوبة من دوامة عينيها واعتدل في جلسته يقول بجدية :
” تحبي انقلك المستشفى ؟؟”
” مستشفى ايه أنت هتفول عليا ؟! إن شاء الله سعودي وانا لا ”
صمتت قليلًا ثم قالت بجدية :
” مين اللي كنت بتكلمه لما اتصلت بيك ؟؟”
” سجلتي المكالمة صح؟؟”
ابتسمت له بخبث فرغم أنه لم يخبرها سابقًا أو يعطيها إشارة أو غيره إلا أنها فعلت ذلك من نفسها :
” عيب عليك والله تظن فيا الظن الوحش ده، بقى أنا اسجلك مكالماتك يا لذوذ ؟؟”
رفع صلاح حاجبه تزامنًا مع التواء ساخر لطرف شفتيه، لتلقى ردة فعله مردودًا حسنًا على ملامحها وهي تطلق ضحكات مرتفعة جعلته يبتسم لها:

 

” عيبك أنك فاهمني، أيوة سجلتها، بس مين ده وعايز ايه ؟؟”
عاد صلاح بظهره للخلف وهو يقول ببساطة :
” واحد من كلاب سعودك بيشمشم حوالين اخويا، وده معناه أن سعودك بدأ يتخطى حدوده، فارجو متزعليش مني لو شديت عليه شوية ”
هزت ميمو رأسها وهي تتشدق بجدية :
” لا لا يا حبوب احنا متفقناش على كده، قولنا مش هنأذي سعيد اكتر من كام غرزة أو موتة، ده مهما كان فرد من عيلتي ”
نظر لها ثواني لتبتسم له بخبث وهي تقول ببراءة وكأنها تذكرت شيء تخرج علكة من حقيبتها تلوكها بكل استمتاع لتجعل صلاح يغلق عينه، يحاول أن ينتزع صورتها بشعر اصفر يخرج من حجاب قصير وعباءة سوداء ونعل ذو أصبع بلاستيكي، ما بك صلاح من المفترض أنك اعتدت كل شيء منها، نعم كل شيء عدا أمر تلك العلكة .
أخرجه صوتها من شروده ذلك وهي تتنهد تنهيدة جدة على فراش الموت تسترجع ذكريات أطفالها في أيامهم الأولى :
” هو أنا حكيت ليك قبل كده لما سعيد اتسجن في امريكا بعد ما اتقفش بمخدرات ؟!”
ارتسمت بسمة خبيثة على وجه صلاح لتقول هي بخبث أكثر منه :
” لا متقولش اني محكتش ليك، دي كانت ليلة نكد على دماغ جاد، الله يجحمه مطرح ما هو، اسمع يا سيدي في يوم واحنا قاعدين جه مكالمة لجاد وحد بيقوله الو يا جاد ابنك اتقفش في مطار امريكا بكمية مخدرات كبيرة …”
اتسعت بسمتها وهي تنحني صوب حقيبتها تخرج الهاتف منها، ثم أخذت تبحث فيه قليلًا قبل أن تعرضه أمام عين صلاح وهي تقول أثناء امتصاص شفتيها بتأثر :

 

” بص صورته وهو متكلبش كان زي القمر يا قلب امه، ودي صورته وهو في السجن هناك، ودي صورته وهو واقف جنب جاد ومعاهم المحامي، ياااه كانت ايام جميلة ”
كانت تتحدث وهي تمسك بمنديل تمسح دموع وهمية وكأنها تتذكر ايام الخوالي والذكريات السعيدة :
” الصور دي بالذات أنا طابعة منها البوم ومعلقاها في كل حتة في اوضتي، كل ما احس أن الدنيا قفلت في وشي ببص عليهم واحس بانشراح وانتعاش كده ”
رفع صلاح عينه لها وهو يقول بتسائل وقد شكلت تلك الفتاة سر كبير له :
” الصور دي شكلها كانت من سنين …”
” أيوة من سبع سنين تقريبا لما كان سعودي ٢٣ سنة، مش شايفه كان لسه مجرم صغير، دلوقتي ما شاء الله كبر وبقى حيوان كبير ”
” من سبع سنين كنتِ أنتِ ١٨ سنة بس، منين جبتي كل الحاجات دي ؟؟ وازاي وصلتي ليها؟؟ ”
أغلقت ميمو الهاتف وهي تنظر لعينه قليلًا قبل أن تتراجع بظهرها للخلف تردد بصوت مظلم :
” متستغربش، أنا بدأت اللعبة دي كلها بدري بدري، عمر ١٨ سنة ده كان في عز مجدي ”
لم يفهم صلاح حديثها، لكنه أدرك جيدًا من كلماتها أنها في هذه الحرب والمعركة منذ سنوات و…
ثواني …هل قالت أنها كانت تعلمهم منذ عمر ١٨ ؟! هل كانت في هذا العمر متزوجة من جاد ؟؟ هذه المعلومة التي لم يستطع الوصول لها، لم يعلم متى تزوج بها جاد فقد تكتم ذلك العجوز على هوية زوجته الثانية والتي لم تظهر للعلن إلى حين وفاته من سنوات قليلة، اه يا ميمو كم سر تخفين ؟؟؟؟؟
__________________

 

اقتحم ممرات شركة التعمير التي يمتلكها والده ويقوم هو وإخوته بإدارتها بيد من حديد خاصة الكبير منهم والذي يثير الرعب في قلوب أعتى الرجال هنا، حسنًا هو لا يهتم على أية حال فهو مهندس مدني وجميع أعماله هناك في المواقع.
لكن ومنذ أن وطئت حوريته أرضية الشركة أصبح شغله وكيانه وعقله وجميعه هنا بين ممرات الشركة، تحديدًا في مكاتب المحاسبين .
ابتسم يطرق الباب الخاص بمكتبها والذي اختاره لها خصيصًا بعيدًا عن أي ذكر في هذه الشركة :
” بعطلك ؟!”
انتفضت مروة بتوتر من صوت عبدالجواد الذي اقتحم مكتبها، سارعت لتخفي جميع الواح الشوكولاتة والعصائر التي كانت تتناولهم ظنًا أنه شخص آخر .
لكن صوت ضحكات عبدالجواد اوقفتها عما تفعل لتقوم بمضغ قطع الحلوى في فمها، ثم ارتشفت بعض رشفات من العصير تردد براحة :
” يا عبدالجواد وقفت قلبي، فكرت حد من أصحاب الشركة”
رفع عبدالجواد حاجبه وقال :
” على فكرة أنا من أصحاب الشركة برضو، ولا عشان مش لابس بدلة ؟؟ لا ميغركيش لبس المواقع ده انا عليا شوية بدل في الاجتماعات بتوقف صف الموظفين على رجل واحدة ”
جلس على المقعد أمامها وهو يفتح إحدى قطع الحلوى أمامها ومدها لها وكأنه يخبرها أن تأكل ولا تهتم :
” بس رأفة بقلبك الصغير وعشان مش هتستحملي شكلي وانا بالبدلة جتلك بلبس الشغل ”
نظرت له مروة وودت لو تخبره أنه حتى بهذه الهيئة لم يرأف بها، ابتلعت ريقها تمضغ قطعة الحلوى التي أعطاها لها وقالت لتخفف من حدّة الأجواء حولهما :

 

” معرفتش حاجة عن رانيا ؟؟ لحد دلوقتي كل ما ارن عليها تليفونها مغلق ومش عارفة اوصل ليها ”
ابتسم وهو يراقب جميع تحركاتها :
” هي عند خالتي في القاهرة وقالت إن تليفونها باظ وبتصلحه، لو حابة تكلميها ممكن تاخدي رقم هاجر وتكلميها منه ”
هزت رأسها بلهفة وهي تخرج هاتفها :
” تمام اديني رقمها ”
ابتسم لها عبدالجواد وهو يملي عليها بعض الارقام، لتتشدق هي بتركيز تسجل الرقم :
” هاجر مش كده ؟؟”
” لا عبدالجواد”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم وهو يقول :
” ده رقمي أنا، مش رقم هاجر، ابقي كلميني واتس ابعتلك رقم هاجر عشان مش حافظه ”
فغرت ثغرها وهي تراقبه ينهض من مقعده ثم تحرك صوب الخارج، لكنه توقف وقال :
” متنسيش ها ؟؟ “

 

رحل تاركًا خلفه هاجر تنظر لاثره ببلاهة، ثم حركت عينيها صوب الهاتف مجددًا :
” هو ايه اللي حصل ده ؟؟”
________________________
دلفت من باب القصر ببطء نظرًا لحالتها الجسدية بعد تلك السقطة العنيفة من على ظهر الحصان، كانت تحاول الإجابة على جميع الأسئلة التي تدافعت من أعين مختار :
” وقعت من على الحصان متقلقش، شوية كدمات وهبقى زي الفل ”
لاحقها مختار حتى الباب الداخلي وهي تقول بتسائل :
” تفتكر يا ميخو ده كله عشان قسيت على سعودي امبارح ورفعت أيدي عليه ؟؟ يكونش ظلمناه ؟؟”
نظر لها بجمود لتهز رأسها باقتناع :
” عندك حق ده عمره ما يكون مظلوم ده يظلم بلد بشعبها”
وبتلك الكلمات انتهى الحوار بين الاثنين حينما خطت ميمو داخل المنزل وهي تحاول ألا تستند على مختار أو شيء، لكن وأثناء طريقها للدرج سمعت صوت قادم من اتجاه أريكة البهو وصوت مستفز يعلو في المكان يراقبها تحاول الوصول للدرج :
” يا عيني على الحلو لما تبهدله الايام، كان مستخبيلك فين ده كله يا ميمو ؟! اه منه الزمن لما يدور ”
استدارت ميمو صوب سعيد الذي رمقها ببسمة واسعة يرتشف عصيره ببرود وهو يراقب نظراتها عليه تحاول الاعتدال في وقفتها وعدم اظهار الالم، ثم مرر نظراته عليها يرفع كوبه في الهواء :
” تحبي اصبلك كوباية اناناس ؟؟ “

 

رفعت ميمو حاجبها وهي تجاريه في ذلك الحوار :
” لا تسلم يا سعودي شاربة قبل ما اجي، مش ناقصة مرار على المسا ”
أنهت حديثها وهي تتحرك صوب الدرج ليرتشف سعيد المزيد من العصير وهو يضحك بصوت عالي :
” متخافيش مش هحطلك فيه سم ….”
صمت قليلًا يضع طرف إصبعه على شفتيه وكأنه يفكر :
” ولا احط ؟؟ والله مش عارف أنت رأيك ايه ؟؟ تحبي العصير باضافات ولا من غير ”
ابتسمت ميمو وهي تتحرك صوب الدرج تقاوم الوجع في قدمها :
” لو تقل دمك من ضمن الاضافات فلا شكرًا، عايزة انام خفيف خفيف ”
ارتشف سعيد بقايا عصيره ثم نهض يتمطأ في منتصف البهو وبعدها بدأ يحرك كتفيه وجسده في حركات رشيقة مرنة يحاول بها تقليد رقصات ميمو التي كانت تقوم بها كلما أرادت استفزازه حين حدوث كارثة له .
يرفع يديه في الهواء وهو يغني بسخرية يحاول تقليد صوتها من خلال ترقيق صوته بشكل مستفز :
” الدنيا حلوة واحلى سنين “

 

رمقته ميمو بحنق قبل أن تنظر لمختار الذي كان يراقب حركات سعيد بجمود، تحركت صوب ميمو التي قالت بسخرية لاذعة ردًا على استفزاز سعيد تدعي البكاء :
” الله يكرمك يا مختار تعالى سندني لفوق لاحسن هموت واعيط، مش قادرة بجد شوف بيضايقني ازاي، تعالى نعيط فوق ”
ساعدها مختار للصعود وعينه ما تزال ترسل رسالات تحذير لسعيد والذي لم ينس له ما فعله بميمو منذ يوم وهو سينتقم منه .
أطلق سعيد ضحكات عالية وهو يقول من بينها :
” طب خلاص متزعليش تعالي اغنيلك الأغنية اللي غنتيها ليا لما عملت حادثة، ولا اغنيلك الأغنية بتاعة الصفقة الأخيرة لما خسرتها ؟!”
قاطع حديثه صوت رنين هاتفه، ألقى بنظرة أخيرة على ميمو التي قالت قبل أن تختفي من أمامه :
” لا استنى لما اقوم وانا هاجي اغنيلك واطبلك وأنت تبقى ترقص ”
رمقها سعيد ببسمة مستفزة، يتحرك صوب هاتفه ليرى اسم جلال ينير شاشة هاتفه، ذلك الغبي الذي تم القاء القبض على عصابته باكلمها ليعطيهم سمًا في السجن ويتخلص منهم .
زفر وهو يجيب :

 

” الو يا جلال الزفت عايز ايه ؟؟”
صمت ثواني يستمع لكلمات محدثة قبل أن يصرخ بهياج وبشكل مخيف :
” ايه ؟؟ أنت بتتصرف من دماغك ليه يا متخلف ؟؟؟؟”
______________________
قبل ذلك بلحظات :
تقف على قارعة الطريق تنتظر حضور أخيها، لا تصدق أنه تواصل معها مجددًا يتوسل رؤيتها باكيًا أنه يشعر بالوحدة ويخاف .
نظرت تسبيح في الهاتف وهي تفكر في إقناع أخيها بالعدول عما يريده وتسليم نفسه للشرطة ومن بعدها ستساعده، نعم تقسم أنها ستحافظ عليه، فهو آخر من تبقى لها من عائلتها …
استدارت فجأة على قرع اقدام خلفها لتبصره، كان ينظر لها بأعين حمراء باكية وثياب رثة، نفسها الثياب التي قُبض عليه بها .
اشفقت تسبيح على أخيها لتتحرك صوبه وهي تدمع من رؤيته هيئته تلك .
وبمجرد أن وصلت له جذبته لاحضانها بقوة حتى كادت تدخله جوار قلبها وهي تبكي بصوت مرتفع :
” عبدالعظيم، ليه كده يا عبدالعظيم ؟! ليه تعمل فينا كده، ليه يا عبدالعظيم ؟؟”
بكى عبدالعظيم بندم شديد وهو يردد لها بصوت مبحوح :

 

” أنا آسف…أنا آسف يا تسبيح ”
بكت تسبيح بعنف وهي تبتعد عنه تحرك يديها على وجهه وجسده بلهفة :
” خلاص يا عبدالعظيم خلاص انا وانت هنرجع سوا، مش أنت ندمت يا حبيبي ؟؟ خلاص والله مش هبلغ عنك أنا آسفة، أنا هاخدك ونسافر من هنا، ايه رأيك نروح الدقهلية عند بنت عمتك ؟! أنا وأنت هنشتغل ونعيش على قدنا، وخلاص مش هنغلط تاني، ماشي يا عبدالعظيم ؟!”
دفن عظيم وجهه ارضًا وهو يبكي بصوت عالي يهز رأسه برفض جعل قلب تسبيح يتوقف لثواني وهي تجبره على النظر في عينيها :
” لا، بصلي يا عبدالعظيم، حبيبي أنا آسفة عارفة اني غلطت، بس والله انا عملت كده عشان تتعدل، بس خلاص هنبدأ من جديد ”
ابعد عبدالعظيم يدها عنه وهو يقول بشهقات عالية :
” مش هينفع يا تسبيح أنا آسف ”
كان يتحدث وهو يتراجع للخلف وهي تنظر له بصدمة واعين فاغرة :
” لا، عبدالعظيم، احنا هنبدأ سوا متقلقش والله ”
بكى عبدالعظيم وهو يهز رأسه متوجعًا :

 

” أنا اسف يا تسبيح بس انا عشان اعيش كان لازم ادفع مقابل ”
نظرت له تسبيح بعدم فهم، هذه نفس الكلمات التي ذكرها في رسالته الاولى، أخبرها أنه خرج من السجن حيًا بمقابل، وها هي الصدمة تأتيها عقب كلمات أخيها لها وهو يقول بشهقات عالية :
” أنتِ المقابل ده يا تسبيح ”
شهقت تسبيح وهي من تراجعت للخلف هذه المرة لا تفهم ما يقول، لكن اجراس الخطر بدأت تقرع في رأسها، لا عبدالعظيم صغيرها وربيب يديها لن يؤذيها، هو لم يصل لتلك الدرجة من الشر …
ابتسمت تحاول خداع قلبها الاحمق الذي جرها لهنا، لمكان غريب قليل السكان لملاقاة شخص ظنته هو نفسه عبدالعظيم الصغير الرقيق الباسم، ابتلعت ريقها :
” قصدك ايه يا عبدالعظيم ؟؟”
” قصده أنك هتكوني كبش فداء لاخوكِ عشان نسيبه يعيش يا قمر ”
وكان ذلك الصوت الذي تردد في كوابيسها هو ما تحتاج لسماعه حتى تدرك أنها سقطت في فخ خبيث، قخ قاده أخوها الصغير …
سقطت دموعها وبللت نقابها تنظر حولها في الظلام لتتبين وجه جلال الذي اقترب منها وهو يجذبها من نقابها نازعًا إياه بقوة جعلتها تطلق صرخة عالية وقد التف حولها رجال عدة وعينها معلقة بعبدالعظيم ترجو منه مساعدة، تناجيه بضعف :
” عبدالعظيم…”

 

نظر عبدالعظيم ارضًا بخزي ولم يتحدث ليسحبها جلال ملقيًا بها لأحد الرجال وهو يتحدث بقذارة :
” خد السنيورة للخن لغاية ما نشوف هنعمل فيها ايه، وأنت عبدالعظيم، مهتمك معانا خلصت كدة ”
نظر لهم عبدالعظيم ومن ثم نظر لأخته بنظرات اعتذار وهي تهز رأسها نفسيًا تطالبه بعدم الرحيل وتركها، تترجاه ألا يلقيها بهذا الشكل خلف ظهره وكأنها لم تكن، لكن نظرات عبدالعظيم أخبرتها أنها من تخلت عنه اولًا وها قد حان وقته ليفعل المثل بها .
عند هذه الفكرة ملئ الحقد والغل عين عبدالعظيم وصور له عقله أنه محق، هي تستحق، أوليست هي من دفعت بهم لكل هذا من البداية ؟؟ إذن لتتحمل خطأها…
بهذه الكلمات اقنع عبدالعظيم نفسه أنه ليس عليه الشعور بالذنب، ونسى كل ما قدمت تسبيح لأجل أن تساعده في حياته حتى هذا اليوم، حتى حينما أبلغت عنه كانت تأمل تأديبه فقط لأنها رأت بعينيها كيف يوزع السم على شباب الحارة دون ذرة ندم …
استدار عبدالعظيم ليركض بعيدًا عنهم ينجو بحياته التي دفع باخته ثمنًا لها، لكن فجأة سمع صوت مدوي تبعه الشعور بشيء يخترق ظهره ليسقط ارضًا في بركة دماء وصوت تسبيح يرنّ في الأجواء كالطير الذبيح صارخة بحرقة :
” عبــــــــــدالعظــــيــــم ”
______________________
ودع الاحزان يا ذوق، ونبدأ مرحلة جديدة في الرواية…
ها نحن نعود للمرح اعزائي ….
دمتم سالمين
رحمة نبيل .

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى