روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثالث والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثالث والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثالثة والعشرون

دعواتكم لأهلنا في المغرب، ربنا يرحم موتاهم وينجيهم من أي كرب ألمّ بهم …
صلوا على نبي الرحمة ..
خطى للغرفة يحمل بين أصابعه بقايا خيبة صلاح _كما سماها صالح _ يتحرك صوب الفراش يربط في أطرافه الأربعة بالونات حمراء اللون، وهو يراقب تسبيح ما تزال تنام بعمق شديد ..
ابتسم بسمة جانبية، مقتربًا منها يجلس على ركبتيه جوار الفراش :
” ايه يا مدام، نومة أهل الكهف دي ولا ايه ؟؟ أنتِ بقتلك سنين منمتيش ؟؟”
صمت، ثم مد أنامله ببطء شديد وحذر جعله يجذب يده بخوف كل ثانية أن يزعجها في نومها أو يوقظها، ابتسم أكثر حينما وجدها تتقلب صوبه ليصبح وجهها أمام أنامله بالضبط، تحدث مازحًا :
” شكلك صاحية يا سوسة، وعاملة نفسك هبلة صح ؟؟”
شرد يراقب ملامحها عن قرب، يقترب من وجهها أكثر هامسًا وهو يضع رأسه أعلى يديه جوار رأسها :
” اقولك على حاجة سر ؟؟”
صمت، ثم قال بصوت خافت أكثر وكأنه يخشى متلصصًا بالجوار :
” أنا لما …لما عرضت عليكِ نتجوز كنت بعمل كده عشان استقر وعشان اعرف اهتم بيكِ براحتي لأني كنت حاسس بمسؤولية مجهولة ناحيتك، مش هكدب عليكِ واقولك كنت ميت في دباديبك ”
تقلبت تسبيح وهي تزفر بصوت منخفض جعله يطلق ضحكة صغيرة وهو يتحرك صوب الجهة الأخرى التي انقلبت لها وجلس نفسه جلسته السابقة وأكمل :
” اصبري بس متتقمصيش كده، أنا مش قصدي اللي فهمتيه، بصي أنا زي أي شاب عايز يستقر يعني أنا ٢٨ سنة وكلها شهور قليلة واقفل ٢٩ سنة، يعني من حقي الاقي ليا سكن وبيت وعيلة وأشيل مسؤولية والحوارات اللي أنتِ عارفاها، لكن….”
صمت يتلاعب في خصلات شعرها بحنان ورقة شديد :
” لكن يا توتا اول ما عرضت عليكِ الجواز وحسيت أن الموضوع بيقرب فعلا، حسيت بمشاعر غريبة عليا، اساسا أنا كنت معجب بيكِ من قبل كل حاجة، على الاقل كنت مرتاح ليكِ عشان افكر فيكِ زوجة ليا، لكن لما وافقتي وبدأت احط في دماغي أن كلها مسألة وقت وتكوني ليا، حسيت بفرحة غريبة، ولما المأذون نطق أنك بقيتي زوجتي رسميا، أنا قلبي اتنفض من السعادة، تفتكري ممكن يكون حصل وحبيتك عادي ولا دي اعراض لحاجة تانية ؟!”
في تلك اللحظة فتحت تسبيح عيونها بنعاس شديد لا تفقه شيء، تحدق في وجه بعدم وعي، وهو ينظر لها ببسمة :
” ها تفتكري الموضوع حب ولا ايه ؟؟”
نظرت له تسبيح بعدم فهم :
” حب ايه ؟!”
” أنتِ كنتِ نايمة بجد بقى، طب نعيد من الاول ”
صعد ليجلس على الفراش جوارها وهي تحدق فيما يفعل بجهل وعيونها تتحرك مع جسده بعدم فهم، بينما رائد استند بذراعه على الفراش وقال :
” كنت يا ستي بكلمك على الوقت اللي عرضت عليكِ فيه الجواز ”
رمشت هي بقلة استيعاب وهو اقترب منها أكثر :
” أنتِ واعية باللي بقوله صح ؟؟”
خفضت تسبيح نظرها له ثواني تحاول فهم ما ينطق به من بين اجفانها التي كادت تنغلق، قبل أن تنتفض فجأة بشكل جعلها تصطدم في رأس رائد الذي تراجع للخلف متأوهًا..
بينما هي تراجعت للخلف بفزع وهي تتحسس رأسها:
” أنت …أنت ازاي …بتعمل ايه هنا ؟؟ دخلت ازاي ؟؟”
فرك رائد رأسه بحنق :
” دخلت لما كنت شايلك ”
اتسعت عين تسبيح بصدمة :
” شايلني ؟؟”
ابتسم لها يرى أنها كانت في ميتتها الصغرى بدون مبالغة :
” أيوة لما نمتي اول ما حضنتك ”
ابتلعت ريقها تحاول أن ترتب تلك الكلمات وتتذكر أي شيء منها :
” حضنتني ؟؟”
اقترب منها يقول بخبث :
” أيوة لما اتجوزنا ”
” أتـ…اتجوزنا ؟؟ احنا اتجوزنا ؟؟”
اقترب منها رائد اكثر على حين غفلة منها يشتم فمها بجدية في حركة معتادة منه مع المجرمين والسكارى، ثم ابتعد عنها حتى لا يخفيها :
” هو حد شربك حاجة ولا ايه ؟؟ أنا شاكك من اول الليلة على فكرة ”
نفت رأسها بسرعة كبيرة، ليقول بحاجب مرفوع :
” امال ايه ؟؟ مش فاكرة إن من كام ساعة كتبنا الكتاب ؟؟ أنا وأنتِ اتجوزنا وعملنا الاشهار والبلد كلها عرفت وخلاص بقيتي مراتي يا توتا ”
اشارت تسبيح لنفسها بجهل :
” توتا ؟؟ أنا توتا ؟؟”
ابتسم يهز رأسه بنعم، لتبتسم هي دون وعي، ثم اعتدلت في جلستها تحاول أن تلملم خصلات شعرها الهائجة جراء نومتها والخجل ملء وجهها وكيانها بأكمله :
” أنا…أنا فاكرة أننا اتجوزنا و…بعدين مش فاكرة حاجة ”
أطلق رائد قهقهات عالية :
” اكيد مش هتفتكري يا قلبي، أنتِ اول ما دخلتلك بعد كتب الكتاب، وحضنتك سافرتي العالم التاني ”
وضعت تسبيح يديها على وجهها تحاول أن تخفي احمرار وجنتيها، لكن فجأة انتفض جسدها بقوة وهي تبحث بعينيها حولها وكأنها تستوعب الآن ما حدث ورائد يبحث معها عما يجهله :
” ايه فيه ايه؟؟”
” النقاب بتاعي، أنا قلعته ازاي ؟”
استنكر رائد حديثها ليلتوي فمه متهكمًا :
” بالنسبة لشعرك اللي عمالة تليسي فيه من وقت ما صحيتي ؟؟ ولا عادي نبين الشعر بس النقاب لا ؟!”
توترت تسبيح تستوعب مدى غبائها، لكن هي في الأساس لا تفقه أو تدرك شيئًا مما يحدث حولها، للتو استيقظت ومازالت لم تفق بشكل كامل..
نظرت له نظرات التائه ليضحك رائد عليها بصوت مرتفع مقتربًا منها دون إنذار يضمها لصدره مربتًا عليها بحنان وحب :
” يا تسبيح يا حبيبتي أنتِ مراتي والله فعادي اشوف شعرك ووشك، لكن أنا بس ماشي ؟!”
وإن ظن أنه بهذه الطريقة يخفف من وطأة توترها فقد أخطأ، فهي توترت بشكل مضاعف وصمتت دون القدرة على الحديث ..
” ايه يا تسبيح ساكتة ليه ؟؟ اوعى تكوني نمتي تاني ”
ضربته تسبيح على كتفه بغيظ شديد وهو شرع يضحك بصوت مرتفع.
أما عنها هي فقد خجلت أن تخبره أنها بالفعل ترغب بالنوم مرة أخرى فهي لم تنل كفايتها ..
وفجأة انتفض الاثنان على صوت رنين هاتف رائد ليشير لها بالهدوء وهو يجيب الهاتف ليصل له صوت صالح الذي كان يتحدث بسرعة كبيرة جعلت رائد ينهض مبتعدًا عن تسبيح وصمت يستمع لصالح الذي ردد على مسامعه بعض الكلمات، ثم اغلق الهاتف .
احتدت عين رائد بقوة شديدة ينظر صوب تسبيح التي شعرت بوجود خطبٍ ما، فتحت فمها للسؤال، لكنه سبقها بالقول :
” تسبيح أنا هرجع القاهرة، مش هتأخر وهاجي تاني عشان اخدك ماشي ؟!”
_______________________
قبل ذلك بساعتين …
الجميع توتر فجأة بدخول سعيد المفاجئ ووجوده الغير متوقع في هذا المكان، وسعيد شعر بوجود شيء مريب، فملامح الغضب والخوف التي علت وجه ميمو كانت نادرة، لا يراها كثيرًا .
اقترب بشك يتساءل للمرة الثانية :
” فيه ايه يا ميمو ؟؟ حصل ايه ؟؟”
كانت ميمو تنظر في كل مكان بغضب مخيف قبل أن تقترب منه ودون أي مقدمات دفعته بقوة، ثم انقضت عليه تكيل له الضربات وسعيد لم يستوعب شيء، أو يدافع عن نفسه حتى ..
لولا تدخل صلاح الذي جذبها للخلف بسرعة وهي تصرخ بجنون في وجه سعيد باكية :
” فيه أن اختك طالتها لعبتك الزبالة يا سعيد، نيرمينا اتخطفت بسببك وبسبب قذارتك، وخمن مين اللي خطفها ؟؟ ”
صمتت ثم صرخت بصوت اعلى :
” الكلاب بتوعك، وسيم ورجب ”
كان جسد سعيد متيبس بشكل مخيف وهو ينظر لها بأعين جاحظة، هو من كاد يصرخ في وجهها ويجن عليها لأجل تهديده، لكن ذِكرها لنيرمينا جمده مكانه وهو يردد بعدم فهم :
” نيـ ..نيرمينا ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة ساخرة موجوعة :
” أيوة يا سعيد نيرمينا، نيرمينا اللي الله اعلم الكلاب دول خطفوها ليه ؟؟ أنا شوفت عربيتهم هي اللي بتاخدها من قدام البيت”
قال سعيد كطفل صغير يحاول تبرير أو اختلاق كذبة لينفي واقع مرير أمامه يحرك يديه يحاول أن يشرح لها استحالة تدخل رجاله في الأمر :
” بس …بس هو وسيم ورجب مش موجودين …هما …هما دلوقتي”
صمت فجأة وهو يضع يده أمام فمه يشهق بصوت مرتفع وقد بدأ جسده يرتجف بشكل مخيف، سمع في تلك اللحظة صوت تهشم قلبه وهو يردد بارتعاش :
” وسيم ورجب في …في العملية، هما مش …هما ”
صمت وهو يرتجف بقوة، ثم نظر صوب ميمو وكأنه يطلب منها أن تساعده في أمر يجهله وقال بأعين مرتعبة وحدقتيه بدأتا ترتعشان يتساءل وكأنها هي من تعرف الإجابة :
” هما في العملية ؟؟”
أطلقت ميمو صرخة عالية وهي تزيح صلاح بقوة وتنقض على سعيد تجذبه من ثيابه :
” أنت بتقول ايه ؟! أنت موقفتش القذارة بتاعتك دي ؟؟؟ أنت لسه بتعمل القرف ده ؟؟؟ بعد كل اللي حصلك ؟؟؟ يا اخي حرام عليكو حرام عليك يا سعيد، حرام عليك ”
نظر لها سعيد يحاول أن يتحدث، لولا تدخل مختار الذي جذبها بقوة بعيدًا عنه وأشار لها في حركات سريعة جعلتها تلقي بسعيد وتنفضه بتقزز وكره شديد وهي تصرخ :
” هما فين ؟؟ وسيم ورجب فين ؟؟”
نظر لها سعيد بعدم استيعاب يحاول أن يجد في رأسه اسباب أو يجد مبررات قد يجعل وسيم ورجب يأخذان شقيقته عدا ذلك الأمر الذي خطر لرأسه، ربما ..ربما أرادوا أموال إضافية فقط واختطفوها للتهديد !!
افاق على صوت صرخة ميمو التي خرجت باكية :
” انطق يا سعيد فين الاتنين دول ؟!”
نظر لها سعيد ثواني قبل أن تدق اجراس الانذار في رأسه ويركض خارج المنزل كالمجنون وخلفه الجميع، صعد سعيد للسيارة الخاصة به قبل أن تلقي ميمو نفسها بها دون أي تفكير، ومختار قاد سيارته ومعه صلاح الذي رفض ترك ميمو في تلك اللحظة .
كانت يد سعيد ترتجف وهو يقود واضعًا الهاتف أعلى أذنه يحاول الاتصال بوسيم ورجب لكن لم يجبه أحدهم، الأمر ليس كما يفكر، هو فقط لأنه خائف يظن هذا الظن، لكن صغيرته بخير نعم ..
كانت ميمو تبكي جواره برعب وهي تقول من بين شهقاتها :
” مش هسامحك يا سعيد لو حصلها حاجة، مش هسامحك، والله ما هسامحك”
علت شهقات سعيد دون أن يشعر وهو يضرب المقود بقوة وكأنه يخبرها بموافقته لحديثها وأنه هو نفسه لن يسامح نفسه ..
فجأة ارتفع رنين هاتفه ليمسكه بلهفة وهو يتحدث بصوت مرتجف :
” الو وسيم …”
وصلت له ضحكات صاخبة جعلت يتعجب مبعدًا الهاتف عن أذنه ليرى رقم محجوب، وقبل أن يغلق الهاتف ويلقيه سمع صوت رخيمًا يردد :
” زمان كانوا بيقولوا طباخ السم بيدوقوا يا سعيد، دوق بقى كده وقولي طعم السم اللي بايدك أنت صنعته ”
شعر سعيد بموجة رعب تضرب أوصاله وهو يحاول التعرف على الصوت وقدمه تضغط على المكابح أسفلها بقوة :
” أنت …أنت عملت ايه في اختي ؟؟”
” خمن كده ؟؟”
وقبل أن يتحدث بكلمة وجد ميمو تجذب الهاتف من يده وهي تصرخ بجنون :
” قسمًا بربي ما هسيبك يا وسيم، هقتلك بايدي لو حصلها حاجة أنت والكلب التاني ”
وصلت لها تنهيدة مرتفعة وصوت غريب يردد بنبرة اغرب :
” ميمو الجميلة، تصدقي بقالي سنين مسمعتش صوتك ؟؟ وحشتيني اوي ”
وقبل أن تقول ميمو كلمة تستفسر بها عن هويته، فهو بالطبع ليس وسيم أو رجب.
جذب منها سعيد الهاتف واغلقه بقوة دون أن يهتم بشيء وهي تنظر له بعدم فهم :
” ده مين ؟؟ مين ده يا سعيد ؟؟”
أجابها سعيد دون أن يحيد بعيونه عن الطريق :
” غانم …”
رددت الاسم بجهل، هي لم تسمع ذلك الاسم قبلًا، رغم معرفتها لدائرة علاقات سعيد بأكملها :
” غانم ؟؟”
قال سعيد بشرود دون أن يشعر بأي شيء حوله :
” نفس الشاب اللي حاول يعتدي عليكِ قبل كده في البيت”
صمت ولم يكمل وقد علم أنها بدأت تتذكره وتعلم من هو.
بدأت تتذكر ذلك اليوم حينما كانت في المنزل تجلس رفقة زينب تقرأ لها بعض الجرائد وسمعت الخادمة تناديها لترى أحد الضيوف ..
هبطت ميمو الدرج لترى رجل ضخم الجثة حتى أنها لثواني ظنته أحد رجال الحراسة الخاصين بجاد، نظرت له بعدم اهتمام :
” أيوة اتفضل؟! ”
ابتسم لها غانم بسمة جعلتها ترتاب، ليس فقط بسمتها من جعلتها تشعر ذلك الشعور، بل أيضًا نظراته التي كانت كما لو أنه يجردها من ثيابها .
اقترب منها يمسك يديها على حين غرة وهو يضع بها زجاجة هامسًا بنبرة جعلتها ترتجف :
” حطي دي في التلاجة لغاية ما جاد باشا يوصل ”
نظرت ميمو لما بيدها لتتسع عيونها بقوة هامسة :
” خمرة ؟؟”
ضحك غانم بصخب وهو ما يزال ينظر لها ببسمة واسعة :
” اممم أنا عن نفسي بحب اسميها شامبانيا، خمرة دي مش ماشية اوي مع الازازة الشيك دي، جاد باشا جاي ورايا عشان عندنا سهرة ”
أنهى حديثه بغمزة لتتراجع هي للخلف بقوة ملقية الزجاجة ارضًا تنفض يديها بتقزز ورفعت رأسها له وما كادت تصرخ في وجهه وجدته ينقض عليها وهو يدفعها لأحد الأركان في المنزل يضع يديه على رقبتها حتى اوشك على قتلها، وهي المسكينة كانت كالعصفور بين انياب نسر، تحاول الفكاك منه وهو يهمس لها يتلامس معها بشكل جعلها تشعر بالتقزز :
” محظوظ جاد ده، بياخد كل اللي عايزة، تعرفي إني من يوم ما حضرت كتب كتابكم وانا هتجنن؟! فكرت اعرض على جاد يرجع ايام الخوالي ويعمل زي ما كان بيعمل، لكن الظاهر أنك مجنناه وهو مش هيقبل ”
ولم تفهم منه ميمو ما يقول وهو فقط يضغط على رقبتها أكثر حتى شعرت بالدماء لا تصل لرأسها والهواء لا يصل لرئتيها وقبل أن تفقد آخر ذرة تمسك، شعرت بذلك الجسد يبتعد عنها بقوة، ومن ثم رأت سعيد ينقض عليه وهو يسبه ويصرخ في وجهه كالمجنون…
انتفضت ميمو فجأة من ذكراها على صوت توقف السيارة بقوة، تحركت عيونها في المكان لتبصر مشفى قديم مهجور، وقبل أن تستفسر عن شيء وجدت سعيد يهبط وهو يتحرك داخله كالمجنون.
وهبطت هي لتلحق به في نفس وقت توقف سيارة مختار الذي ركض داخل المبنى بارجل ترتجف رعبًا، وصلاح شعر برغبة ملحة في الحديث مع صالح وأن القادم لن يسره لذلك اسرع الاتصال به :
” الو يا صالح، هات رائد وتعالى على العنوان اللي هبعته ليك ”
_____________________
استدار يلقي النظرة الأخيرة على تلك البلاد التي عاش بين حواريها أما متشردًا أو هاربًا، رمقها بعدم اهتمام، بل وسعادة طاغية لحصوله أخيرًا على ما يريد ويرغب في تلك الحياة البائسة وكل ذلك مقابل ثمنٍ زهيد …حياة إنسان برئ.
وهل هناك ارخص من الإنسان في الوقت الحالي ؟؟
ابتسم جلال يتقدم للمطار، يحمل على ظهره حقيبة مليئة بأدوات شخصية ابتاعها منذ حدّثه غانم عن تلك المهمة، فعل كل ما حلم به يومًا، فعل كل ما رأى الرجال الأثرياء يفعلونه استعدادًا لمغادرة البلاد في رحلة عمل، لكن هو سيغادر في رحلة حياة، ذهاب بلا عودة .
استلم من الشرطي جواز السفر الخاص به وهو ينظر له بسخرية لاذعة، آه يا جلال أي مصباح وجدت لتتغير حياتك، منذ أيام فقط كنت تحمل اوراق للف سجائر الحشيش والسفر للعالم الموازي، واليوم تحمل اوراق سفرك لمغادرة عالم الفقر بأكمله .
خطى الأرضية يسير براحة شديدة يفرد ظهره، الآن فقط يستطيع القول أنه أصبح انسانًا، أصبح شخصًا يعيش كما الباقيين .
صعد درجات الطائرة وهناك بسمة واسعة ترتسم أعلى فمه، وقبل أن يخطو داخل الطائرة توقف يلقي النظرة الأخيرة وقال بهدوء شديد :
” مع السلامة وبدون رجعة يا …بلادي العزيزة ”
وهكذا حقق جلال رغبته، حقق حلمه على حساب رقبة شخص آخر، لكن وهل يهتم؟! هو سابقًا كان يجني الأموال على حساب عائلات بالكامل حينما يدس السم بين ايادي ابنائهم.
وفي النهاية هو من نجى من تلك السفينة _ التي ثقبها بيده_ وغرق الباقيين …
ومن هنا عزيزي جاءت مقولة ….
” الحياة ليست عادلة ”
_______________
انتفض من نومته على صوت صراخ يعلو في منزله، نظر حوله يحاول معرفة أين هو؟؟ ليجد أنه في غرفته، وهو من ظن أن هناك من جاء يصرخ في المشفى من أهالي بعض الضحايا .
ومجددًا ارتفع الصراخ أكثر ليزفر محمود بحنق وقد تعرف على ذلك الصوت، يبدو أن والده كان سريعًا بايصال الرسالة لعمه .
هبط محمود صوب البهو وقبل أن يخطو له سمع صوت رأفت يرن في المكان بأكمله :
” متحاولش تبرر لابنك يا ماجد، هو مش فاهم يا اخي مصلحته فين، وعيه أنت، انصحه متبقاش اناني وتغرقه زي ما غرقت أنت زمان واتجوزت واحدة اقل منك نزلتك بدل ما تطلعك، البنت دي ابوها مستشار كبير و…”
قاطعه ماجد بهدوء شديد لكن خلفه كمنت تلال غضبه :
” لا معلش أنا وابني بنحب قعدة القاع، اصل الطرواة هنا احسن، وأنت خد بالك لاحسن ممكن وأنت بتطلع لفوق اكتر الشمس تحرقك يا رأفت ”
نظر له رأفت بسخرية:
” هو ده اللي ناصح فيه يا ماجد، كلام وشعارات بتحاول تصبر نفسك ”
ضم ماجد يديه لصدره باردًا في الحديث :
” والله يا رأفت أنا شاطر في حاجات كتير اوي، بس أنت اللي عامي نفسك عنها، تحب تنزل المعمل بتاعي تتفرج عليه ؟؟”
” انزل اشوف ايه ؟! زارع ملوخية ولا بامية؟؟ ”
اجابه ماجد دون تفكير، مباشرة :
” سم، تحب تجرب ؟؟”
اتسعت عين رأفت ليهز ماجد رأسه مبتسمًا :
” لا صح؟ اكيد مش هتحب تجرب، مين هيحب يجرب سم ؟! تخيل بقى أنا وابني بنطفح سِمْك بقالنا قد ايه ؟! بس خلاص بقى احنا ملينا من السم يا اخي وعايزين نشرب شربات ”
ولم يفهم رأفت مقصده وملامح أخيه قد كانت مخيفة بحق :
” قصدك ايه يعني ؟؟”
ابتسم له ماجد وهو يعلن بسعادة كبيرة نطقت بها ملامحه بعدما كان ينظر له بشر يصفق بكفيه في الهواء :
” يعني ابني هيخطب عقبال عيالك، ابقى تعالى نورنا”
توقف ثم لوح بكفيه :
” أو متجيش لو هتعمل الشويتين بتوعك دول ولا تجيب حد من عيلتك اللي انا خلاص مبقتش حابب اشوفهم، ولولا اسمكم اللي لازق في اسمي أنا وهو كنت اتبريت من معرفتكم، أنا وابني هنفرح لوحدنا وهنكتفي ببعض، اللي عايز يفرح معانا ينور واللي مش عايز ميجيش، واتفضل عشان عطلتني كتير ”
اتسعت عين رأفت وشعر بالوجع يضرب صدره، فجأة شعر بشعور قوي يصيبه، هل تبرأ منه شقيقه الأصغر ؟؟
” ماجد أنت… أنت بتتبرى مننا ؟؟”
أجابه ماجد وقد ملّ كل ذلك وسأم تلك الحياة التي لم تجلب له ولصغيره سوى المتاعب والأحزان والشعور طوال الوقت بالنقص :
” أنت اللي أجبرتني يا رأفت، أنا هبعتلكم دعوة لخطوبة ابني، هتيجوا تفرحوا معانا تنوروا، مش هتيجوا ده يرجع ليكم ”
هبط محمود الدرج واقترب منهم بصدمة من كلمات والده، بينما صدمة رأفت كانت واضحة بشكل كبير أعلى ملامحه، ابتلع ريقه ينظر لمحمود الذي وقف جوار والده، ورأفت في تلك اللحظة شعر أنه خسر …خسر أحد أفراد عائلته، ولأن كرامته أبت أن يبقى بعد حديث شقيقه، خطى للخارج بخطوات بطيئة مرهقة وكأنه زاد فجأة في العمر، لم يتوقع، لم يتوقع أن تلك المرة كانت قاسمة لظهر شقيقه ..
بينما محمود شعر بوجع والده الذي كان يراقب ظهر رأفت بدموع مكبوتة، اقترب منه وهو يربت على كتفه بمؤازرة وصوته خرج مختنقًا :
” بابا أنت كويس ؟؟”
مسح ماجد دمعة سقطت منه وهو يقول بوجع :
” هكون كويس يا محمود، خلاص متخافش محدش هيوجعك بكلمة تاني ولا حد هيزعلك ”
اقترب منه محمود وضمه من ظهره بقوة يقبل كتفه بحب :
” والله عندي استعداد اعيش واسمع كل اللي يقولوه ولا أنك تزعل لثانية واحدة ”
ابتسم ماجد بسمة موجوعة وهو يستدير له يضمه لصدره بحنان يكتفي به عالمًا وعائلة :
” بس انا مش عندي استعداد اغامر باستقرارك عشان ناس مقدروش أننا عيلة، أنا خلاص يا محمود هكتفي بيك وبزهرة وعيالك عيلة ليا لغاية ما اروح لامك ”
شهيق محمود باكيًا وهو يتمسك بماجد بعنف شديد :
” لا بالله عليك ما تقول كده، اوعى تسيبني يابابا، أنا ممكن اموت فيها، إلا أنت”
ابتسم ماجد بسمة واسعة وقد شعر بالسعادة وهو يربت على ظهر ولده يقول بمزاح :
” متخافش مش همشي دلوقتي، همشي واسيبلك المعمل تدخل تبلبع في النباتات وتعمل دماغ بيها وتطلع عيال هبل زيك، أنا اللي هربيهم اساسا ”
ابتعد عنه محمود ينظر له بصدمة كبير، ويتساءل كيف علم بشأن تناوله لتلك النباتات، والرد من ماجد كان ضربة قوية وصوت مستنكر :
” المعمل مليان كاميرات يا متخلف، ابقى اتنيل خبي وشك على الأقل مش داخل تقف في وشها وتبصلها زي الاهبل ولا كأنك بتتصور صورة أربعة في ستة ”
ضحك محمود بصوت مرتفع يحاول أن يفلت من أسفل يد والده :
” والله توبت وبطلت من زمان ”
” عارف يا حبيبي، الحمدلله أنك رجعت لعقلك ”
نفى محمود يقول ببساطة وبسمة واسعة بلهاء :
” لا دي جوجو اللي رجعتني لعقلي ”
صمت ثواني ثم تساءل بجدية كبيرة وشك :
” طب هو أنت طالما عرفت من الاول محاولتش تنصحني ليه ؟؟ ولا كان عادي بالنسبة ليك أن ابنك يبقى مدمن نباتات مخدرات ”
ضحك ماجد يضرب جبهة محمود ساخرًا:
” نباتات مخدرات ايه يا اهبل انت، دي نباتات طبية اساسا”
لم يفهم محمود شيئًا، لكن ماجد لم يهتم بالتوضيح وهو يتمطأ متحركًا صوب معمله ليكمل العمل الذي قطعه مجئ أخيه ..
ومحمود ركض خلفه بصدمة :
” لا لحظة كده، يعني ايه نباتات طبية كده؟؟ يعني دي مش زي المخدرات ؟!”
قهقه عليه ماجد بصخب وهو يقول :
” دي نباتات مخدر موضعي، زي البنج كده، كانت بتُستخدم زمان في عمليات خلع الاسنان المريض بيمضغها عشان تخدر حواسه دقايق وبعدين عادي ”
كان محمود يقف مكانه لا يبدي ردة فعل يحاول أن يستوعب ما حدث ..
” يعني أنا كنت بشم بنج موضعي ؟؟؟”
_________________________
دفع الجميع من أمامه صارخًا في وجوههم بجنون، يكاد يخرج سلاحه ليفرغه في جميع الرؤوس، وصوته يهز اركان المشفى قاذفًا الرعب في قلوب الجميع …
” هما فين ؟؟ وسيم ورجب فين انطقوا ؟؟ ”
تحدث أحد الرجال بخوف من نظرات سعيد الزائغة فقد بدا في تلك اللحظة كمختل على استعداد لقتلهم اجمعين :
” يا باشا والله ما حد يعرف هما فين، مفيش حد هنا غيرنا احنا والدكتور وهو دلوقتي شغال مع الرجالة بتوعه على الحالة اللي حضرتك وصيت عليها ”
توقف سعيد عن الضرب والشد وقد شعر بأن أحدهم ألقى بفأسٍ فوق رأسه وهو يستدير لذلك الرجل كالرصاصة في نفس اللحظة التي وصل بها صلاح ومختار ..
” حالة ..حالة ايه دي ؟؟ أنا موصتش على أي حاجة”
نظر الجميع لبعضهم البعض ليصرخ سعيد في وجههم بجنون :
” انطقوا حالة ايه ومين ؟؟”
” ياباشا هما وسيم ورجب جابوا و..”
وقبل أن يتحدث أي شخص فيهم بكلمة إضافية، دفعتهم ميمو جانبًا دون أن تعطي أحدهم فرصة الدفاع أو الاعتراض ولحق بها سعيد بسرعة كبيرة وكذلك مختار ..
وبمجرد أن دفعت الباب واقتحمت الغرفة التي يقام بها كل تلك العمليات الغير قانونية سمعت صوت أحدهم يهتف بغضب :
” أنتم يا شوية حيوانات ما قولت محدش يقاطع اللي …”
وقبل أن يكمل جملته تحرك له سعيد يدفعه بقوة بعيدًا عن الفراش ليراقب بنفسه نتيجة ما جنت يداه، ذاق السم كما أخبره غانم، استشعر مرارته .
وضع يده أعلى فمه وهو لا يستوعب ذلك المشهد أمامه شقيقته متسطحة أعلى فراش بلا حول ولا قوة وهي مفتوحة البطن ودماؤها تسيل بقوة على الطاولة .
انهار ارضًا وهو يصرخ بصوت عالٍ يمسك بيد نيرمينا التي امتلئت دماءًا وهو يبكي وينوح، يصرخ ويعتذر ويقبل يدها ..
بينما ميمو خلفه كادت تسقط ارضًا من الصدمة لولا الجدار خلفها ..
ومختار بمجرد أن وطأت قدمه المكان، فتح فمه بقوة يرتعش بلا صوت، هبطت دموعه بقوة وهو يتحرك صوب نيرمينا يراقب ما فعلوه بتلك الصغيرة البريئة، كان يتنفس بقوة كبيرة وكأنه في مكان خالي من الهواء، صدره يتحرك بعنف شديد واقدامه بدأت ترتجف حتى سقط ارضًا منهارًا يبكي .
وصلاح يراقب ما يحدث دون أن يقدر على التحرك، لأول مرة يشهد ما يحدث أمامه، كل ذلك والطبيب وجميع مساعديه استبد بهم الخوف وتحركوا بسرعة حينما أدركوا من هلوسات سعيد ما تعنيه تلك الفتاة له .
كان سعيد يتمسك بيد نيرمينا باكيًا :
” أنا آسف والله العظيم أنا آسف، فكرت اني ممكن اعمل اللي عايزة ومحدش هيحاسبني، حقك عليا، نيرمينا حقك عليا، أنا آسف، أنا آسف ”
كان الجميع في حالة انهيار كبيرة، ميمو تضم نفسها في أحد الأركان تراقب شبح الموت يحوم حولها للمرة التي لا تدري عددها، أهذا قدرها أن تراقب الجميع يرحلون أمام أعينها؟!
فجأة خرج صلاح من الغرفة مندفعًا وهو يضع الهاتف أعلى أذنه يتحدث بكلمات مقتضبة :
” ادخل يا صالح، ادخل بسرعة ارجوك ”
كان يركض في ممرات تلك المشفى وصوت صالح يصل له جاهلًا بما يحدث :
” ايه يا صلاح اللي بيحصل ؟؟ وليه أنت في المكان المهجور ده؟”
توقف صلاح أمام الدرج يشير لصالح أن يصعد ومع رائد الذي رفض أخذ تسبيح معه وقد شعر أن الأمر غير مطمئن، لذلك تركها مع وعد بالعودة واحضارها..
صرخ صلاح بارتجاف :
” صالح بسرعة ارجوك، فيه …فيه واحدة فوق بطنها مفتوحة ومش عملوا ايه فيها ”
هرول له صالح بسرعة كبيرة وهو لا يفهم من أخيه شيئًا، لكن صلاح لم ينتظر أن يفسر له وهو يجذب يده صوب الغرفة التي كان بها منذ ثواني ..
دخل الغرفة يجذب خلفه صالح الذي صُدم من كل ذلك ولم يكد يفتح فمه للتحدث حتى اتسعت أعينه بصدمة يجد جثة ممدة أعلى طاولة بمعدة مفتوحة ..
اقترب منها دون كلمة يدفع سعيد بعيدًا عنها، لينتفض سعيد بقوة وهو يركض له ليبعده عن شقيقته، لكن صلاح كتفه من الخلف وهو يتحدث بلهفة :
” سيبه ده صالح، هو هيساعدها، سيبه يساعدها ”
توقف سعيد عن المقاومة وهو يراقب ما يفعل صالح الذي بمجرد رؤيته للمظهر أمامه حتى صاح بصوت مرتفع :
” حد يتصل بالاسعاف بسرعة”
سقطت دموع سعيد وهو يقول برجاء كبير :
” هي لسه عايشة صح ؟؟ هي عايشة ؟!”
لم يجبه صالح بكلمة وهو يلتقط ذلك المشرط الذي لم يعرف هل كان معقمًا أو لا، لذلك سارع وقام بتنظيفه في سائل الكحول الموضوع على طاولة الادوات وسريعًا اكمل ما كان يفعل الطبيب السابق، لكن بشكل أكثر احترافية …
راقب سعيد ما يحدث بأعين متسعة وهو يراقبه يخرج جزء من جسد شقيقته ليصرخ بجنون وهياج يحاول الافلات من صلاح الذي ابعد عيونه عما يفعل شقيقه :
” أنت بتعمل ايه ؟؟ أنت…أنت بتشيل ده ليه، بتعمل ايه ؟؟ ابعد عنها متاخدش منها حاجة”
تحدث صالح دون النظر له بجدية كبيرة لا يصدق أنه يتعامل مع جسد حي وأمام مرأى العديد من الأشخاص، وفي مكان ردئ كهذا :
” الظاهر أنه كان ناوي يستأصل الكلية، وبالفعل قطع كل الأنسجة وبقت الكلية شبه منفصلة عن الجسم وملهاش أي وظيفة أو لازمة حاليا، انا شيلتها لكن للاسف وبسبب الظروف و المكان مظنش أن الموضوع هيعدي بالبساطة دي ”
توقف عن الحديث دون توضيح اكثر لشكوكه التي يتمنى أن تظل شكوكًا فقط ..
وسعيد كان في عالم آخر لا يعي بشيء حوله.
لا أحد تحرك وتصرف عدا رائد الذي تحرك سريعًا وطلب الإسعاف، معرفًا عن هويته لربما يزيد ذلك من سرعة حضورهم ..
لتمر عشر دقائق فقط ويسمع الجميع صوت صافرة الإسعاف التي أخرجت الجميع من صدمته وهم يرون رائد يدخل أمامهم ويأمرهم بحمل نيرمينا التي كان صالح قد ساعد كثيرًا في احتواء حالتها.
وخرجت نيرمينا مُحملة على الفراش أمام أعين الجميع الذين لم يستوعبوا شيئًا مما يحدث بعد، أن تعيش مشهد كذلك في الحقيقة لهو أمر كان مستبعد على الجميع، أن ترى جسد حي يُنتزع أحد اجزاءه، كان يمثل لهم رعبًا خالصًا
ترك صلاح سعيد ببطء، ليسير الآخر كالمُخدر خلف الفراش الخاص بشقيقته، يرفض ترك يدها وهو ما يزال يهلوس بكلمات عديدة .
نهضت ميمو تحاول أن تتبعهم، تستند على الجدار بوهن شديد، لكن ما كادت تخطو حتى انهارت ارضًا ..
انهارت بعد كل تلك السنين من الصمود، أعطت لنفسها إشارة الانهيار والراحة اللحظية على أمل ألا تستيقظ مجددًا ..
انهارت وقد سأمت كل ما تعيشه واستسلمت بعد حربٍ طويلة مع أحزانها، وآخر ما سمعته هي صرخة صلاح باسمها….
_________________________
صباح اليوم التالي ..
تحرك بين الطرقات يحاول أن يعدّل من وضعية ثيابه، سأم من كثرة اتصاله بصالح دون رد من الاخير، تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يهدأ، حسنًا هو ليس بالطفل ليخشى هكذا لقاء، هو يستطيع أن يتحدث مع ياسين بكل هدوء وتعقل وحده .
كانت تلك آخر كلمات محمود لنفسه حين توقفه أمام بناية عالية يقع بها مكتب ياسين، بوابته للحصول على بسكوتته الهشة .
ابتلع ريقه يحاول أن يتخذ تلك الخطوة ويطأ البناية، وكذلك فعل بعد تفكير دام لدقائق ليست بالقليلة، تحرك صوب المصعد لكن وقبل أن يضغط على الزر توقف يرى ورقة صغيرة مكتوب عليها بأحرف عرجاء ( الاسانسير في التصليح ) ..
مرحى يا محمود ها هي بداية يومك تفسد، والآن أمامك تحدي اكبر من ياسين للوصول إلى هاجر، وهو صعود عشرة طوابق دون استخدام المصعد، حسنًا تحدي شبه مستحيل خاصة لشخصٍ مثله، إلا أنه سيفعله، فقط لأنه حينما يقسم لهاجر أنه فعل المستحيل لأجلها يكون صادقًا ..
بدأ محمود رحلة الألف درجة بخطوة وهو يذكر نفسه أن كل ذلك لأجل هاجر، لكن وأثناء رحلته وتقريبًا حينما مر بالطابق الثالث سمع صوت رنين هاتفه ..
أخرج الهاتف من ثيابه وقد بدى صوته مرهقًا وانفاسه تخرج بصعوبة :
” الو يا خاين يا واطي يا غشاش ”
وصلت كلمات محمود لصالح على الطرف الآخر بشكل عجيب، فقد خرجت من بين لهاث محمود وصوت أنفاسه العالي، ليرسم في رأس صالح فورًا صورة لمحمود يحمل زجاجة كحول وجسده يترنح بلا هدى ووجهه متعرق…
” محمود أنت سكران ولا ايه ؟؟ مالك كده ؟!”
توقف محمود عن السير ينظر للمتبقى من الدرج :
” سكران …ايه ؟؟ أنا …أنا ..”
فجأة انتفض جسد صالح وهو يتحرك بعيدًا عن الجميع في المشفى :
” فيه ايه يا محمود أنت تعبان ولا ايه ؟؟ بتتكلم كده ليه متقلقنيش ”
ابتسم محمود ساخرًا يكمل الدرجات :
” وهو انا اهمك اوي كده يا صاحبي ؟؟”
شعر صالح بالرعب يتملك منه وهو يبحث بعيونه عن صلاح ليستأذن منه ويذهب ليرى صديقه، لكن لم يبصره في أي مكان، لذلك قرر أن يركض هو لمحمود وبعدها يتحدث لصلاح :
” أنت بتقول ايه يا محمود !! اكيد تهمني، أنت فين دلوقتي ؟! في مستشفى ايه وانا اجيلك ”
اجابه محمود بعدم فهم :
” مستشفى ايه ؟! أنا رايح لياسين عشان اتقدم لهاجر ”
توقفت اقدام صالح عن الهرولة حينما أصبح على بعد خطوة واحدة من مغادرة المشفى :
” عند ياسين ؟! وهو ياسين حابسك في ازازة عشان مش عارف تجيب النفس كده ؟؟”
” لا، مكتبه في الدور العاشر والاسانسير عطلان ”
وصلت لمحمود سبات عالية من صالح الذي تحرك عائدًا صوب المشفى وهو يصيح في استنكار وغيظ :
” محمود أنا فيا اللي مكفيني مش ناقصه غباء على الصبح”
توقف محمود عن الصعود متسائلًا بخيبة أمل:
” وهو ايه اللي فيك يا حبيبي ويخليك تنسى وعدك ليا أنك تيجي معايا عشان اطلب هاجر، كده يا صاحبي، ده انا يا اخي كنت أول واحد يرقصلك لما اتقدمت لرانيا ..”
تنهد صالح بتعب شديد يلقي بجسده على المقعد يراقب جسد سعيد الذي أبى التزحزح من أمام غرفة شقيقته، ومختار الذي كان يقف في أحد الأركان صامتًا بشكل مريب ..
” حصل حوار طويل اوي امبارح لما اشوفك هبقى احكيلك عليه، بس شكل كده لا فيها خطوبتي ولا خطوبتك ”
تنفس محمود بصوت مرتفع حينما وصل الطابق التاسع :
” ليه ايه اللي حصل وهيوقف خطوبتك ؟؟”
” المشكلة اللي حصلت كانت مع ميمو، وأنت عارف صلاح متعلق بيها ازاي، فلو الموضوع مخلصش أنا هضطر اأجل الخطوبة عشان صلاح ”
” طب ده اخوك ومرات اخوك أنا مال امي ايه دخل خطوبتي بيكم ”
خرج صوتٌ مستنكر من فم صالح وقد صدم من كلمات محمود :
” أنت بتقول ايه يا محمود، بقولك صلاح مش هيكون في مزاج يسمحله يحضر ”
” يا اخي وهو انا واخوك يعني كنا حبايب اوي، ده مش بيطيقني، ده حتى لو في مزاج مكانش هيحضر خطوبتي اخوك وانا عارفه ”
مسح صالح وجهه بغيظ :
” محمود صلاح لو مش كويس أنا كمان مش هبقى كويس ومش هحضر ”
كان يتحدث بغضب شديد وهو يعلم جيدًا أن ذلك هو الشيء الوحيد الذي قد يردع محمود، رغم أنه لن يفعل ذلك، فهو من المستحيل أن يدع محمود وحده إن قرر إقامة خطبته :
” يا خويا بركة، عنك ما جيت، أنا هعمل الخطوبة على الضيق ”
” كده يا محمود !! ومين يلبسك البدلة لو أنا مش موجود ”
” ابويا هيلبسها ليا عادي ”
اغتاظ منه صالح وصرخ بصوت مستهجن :
” اقسم بالله يا محمود لو عملت خطوبتك قبلي لأكون منكد عليك، مبقاش أنا خاطب الاول وأنت تيجي تعمل الخطوبة قبلي ”
ضحك محمود :
” أيوة قول كده، طب إيه رأيك اني هحدد الخطوبة بعد صلاة العصر ”
أنهى حديثه مغلقًا الهاتف، ثم توقف أمام مكتب عليه لافتة مزينة باسم ياسين المحامي ..
تنفس بصوت مرتفع، ثم خطى بكل ثقة صوب الداخل، توقف أمام المساعد الذي يجلس أعلى مكتب خشبي في منتصف الشقة، املاه اسمه ومن ثم انتظر دقائق قبل أن يدعوه للدخول ومقابلة ياسين ..
وبالفعل طرق الباب ودخل بخطوات هادئة كي يعطي لياسين انطباع مسالم وجيد عنه، وبمجرد أن خطى ابتسم متحركًا صوب ياسين الذي قال :
” صباح الخير يا استاذ محمود ”
في تلك اللحظة رفع محمود رأسه لياسين مبتسمًا :
” صباح النور يا ….”
صمت فجأة لتتلاشى بسمته وتتسع اعينه، صُدم مما يرى أمامه وشعر بالحياة تعطيه ظهرها مرة أخرى :
” نقيت فيها يا صالح، اهي شكلها مش فيها خطوبة غير لما مزاج اخوك يتحسن ويشوف أحفاده قدامه …. ”
____________________
يتابعها بكل هدوء، يخشى أن يزعجها في راحتها التي اختارت الدخول لها بعد سنوات من العناد، ابتلع ريقه يراقب ملامحها بحب شديد، وداخل قلبه غصة كبيرة تستحكمه، كلما ظنت أن الحياة ابتسمت له، اكتشفت أنها فقط تكشر عن أنيابها وهي ظنتها بكل حماقة ابتسامة .
مال صلاح على الفراش الخاص بميمو، وهو يسترجع اللحظات التي سمع اصطدام جسدها بالأرض ..
صدمته بما حدث لها لم توازي شيئًا مقابل صدمته بما فعل مختار في تلك اللحظة ..
اتسعت أعين صلاح بقوة وهو يراقب استقرار جسد ميمو على الأرض الرخامية أسفلها، ليركض لها برعب هيستيري، يتحرك صوبها وهو ينادي باسمها في رعب شديد، لكن سبقه نحوها جسد آخر، جسد انتشلها بقوة عن الأرض يضمها بين أحضانه..
كان مختار يشدد من ضم ميمو له وهو يحاول الحديث برعب شديد فخرجت كلماته على هيئة تمتمات كما لو كان طفلًا يتعلم الحديث، قلبه يكاد يتوقف من الرعب، ويله نيرمينا و ويله شقيقته..
ضم له ميمو وهو يبكي بقوة ويهتز بجسده وذكرى رحيل العائلة بأكملها يُعاد أمام عيونه، يضمها وهو يميل على أذنها يحاول أن يتحدث بكلمة تخرجها من ذلك الظلام، لكن كل ما خرج معه كان بعض الأحرف المتقطعة ليشعر بالعجز يقتله …
ازدادت دموعه وهو يرفع عيونه لها يقبل رأسها، كل ذلك تحت أنظار صلاح الذي كان لا يفهم شيئًا، فقط شعر بموجة شلل تصيب جسده، ابتلع ريقه يحاول أن يخرج من صدمته يرى مختار يتمسك بيدها واضعًا إياها على صدره.
ولم ينقذه من دوامته تلك سوى ارتفاع صوت صالح في المسعفين أن يحملوها، وتشبث مختار بميمو جعله يتعجب أكثر وأكثر عما يجمع بينهما ….
افاق صلاح من تلك الذكريات التي سحبته بلا رحمة، تنهد بصوت مرتفع وهو يحدق في ميمو يحاول معرفة صلة القرابة بينها وبين مختار، بالطبع هما ليسا على علاقة، ميمو لن تفعل به هذا، وهي أيضًا ليست من ذلك النوع، صمت لتطرأ في رأسه فكرة جعلته ينتفض فجأة وهو يركض صوب الخارج بحثًا عن مختار ليتأكد من شكه…
وفي الخارج حيث الجميع كان سعيد يجلس في الأرض دون أي ردة فعل، لا يتحرك ولا يتحدث مع أحد ولا يبكي حتى، فقط يجلس ويفكر، يفكر في كل شيء ولا شيء، ماذا فعل في حياته ؟؟ هل ظن أنه سيخرج من كل ذلك دون أي ضرر ؟؟
والإجابة كانت نعم، هو اعتقد أنه سينجو دون أي شيء قد يصيبه، أولم يحدث هذا لجميع الفاسدين حوله ؟؟ جميعهم يعيشون حياة مرفهة سعيدة على حساب أرواح الآخرين ولم يحدث لهم أي شيء، إذن ماذا عنه ؟؟ هل اخطأ ؟؟
(اين اخطأ ؟!)
ارتسمت بسمة غريبة على فمه وهو يفكر أن السؤال هو (أين أصاب؟)، حياته كلها خطأ، هو ما كان له أن يعيش من بعد العشرين، كان يجب عليه الموت وقتها، ربما حينما كان ليرحل انسانًا طاهرًا، لكن هل ودّ ذلك؟؟ هل اراد حقًا أن يكون طاهرًا، أم أنه عشق القذارة وغاص بها كالخنزير مستمتعًا ؟؟
كان عقل سعيد في تلك اللحظة يفكر في اشياء عديدة، وشيطانه يستغل لحظات ضعفه بشكل متمرس، وهو كان من الضعف الذي جعله يدفن برأسه بين قدميه يهمس بصوت مرتجف وجسد مرتعش :
” أنا فعلا وحش، وحش اوي ومكنش ينفع اكون غير كده، مكنش ينفع حد يكون شرير القصة غيري، بس …بس ”
صمت فجأة وقد ارتفعت ضحكاته فجأة يعود برأسه مستندًا على الجدار خلفه تحت أعين مختار الدامعة والباردة في نفس الوقت، يراقبه بحقد وكره تمكن منه حتى أنه وفجأة وبدون أي مقدمات ركض صوبه يجذب جسد سعيد وضربه في الجدار بقوة وهو يخرج اصوات مكتومة من فمه، كان يضربه بقوة حتى تفجرت الدماء من رأس سعيد، وصلاح الذي صُدم بما حصل ركض صوبهما هو وصالح يحاول أن يبعد مختار عنه قبل أن يقتله …
وسعيد لا يبدي أي ردة فعل، لا يدافع عن نفسه ولا يتحرك ولا يتحدث بكلمة، ولم يوقف مختار عما يفعل سوى صرخة ميمو التي كانت تدعي النوم وانتفضت على صوت صرخات الجميع .
” نــــــــادر ”
توقفت يد نادر عما يفعل واستدار بعيونه صوب ميمو التي اقتربت منه بسرعة كبيرة تبعد يده عن سعيد صارخة وهي تدفعه للخلف :
” أنت بتعمل ايه ؟؟ هتبقى مجرم على آخر العمر ؟؟”
نظر لها نادر بلا أي ردة فعل، سوى أن دموعه ازدادت ..
ولم يبصر أحد صدمة صلاح الذي تأكد من شكوكه، إذن مختار هو نفسه نادر، لكن …لكن هي أخبرته أن جميع أفراد عائلتها قد …
توقف عن التفكير وهو ينظر ببسمة لميمو قبل أن يتحرك خارج المكان بهدوء وصمت شديد، وميمو لم تشعر برحيله في وسط كل تلك الفوضى .
وصالح لم يجد سوى أن يتبع صلاح ويترك الثلاثة معًا .
في تلك اللحظة خرج الطبيب الذي يناوب على رعاية نيرمينا وتحدث بأسف :
” شكوكنا كانت صحيحة، حصل عدوى التهاب مكان الجرح، وكمان الظاهر اللي عمل استئصال للكلية قطع الأنسجة بشكل مريع فأدى لضرر كبير في الجنب اليمين ليها، عامة احنا حاولنا نعالجها على قد ما نقدر وباذن الله خير، الكلية التانية كويس ومفيش خوف باذن الله ”
أنهى حديثه ثم تحرك تاركًا الجميع، والثلاثة استمروا في صمتهم الذي لم يقطعه سوى اصوات احتكاك عجلات فراش طبي بالارضية النظيفة أسفله، وبمجرد أن أبصر مختار الفراش يتحرك أمامه حتى ركض صوب نيرمينا، يمسك بالفراش بأعين دامعة يتحسس يدها وهو يبكي دون القدرة على الحديث بكلمة ..
وكل ما استطاع فعله هو الامساك بيدها وتحريك أصابعه على أصابعها في حركات معينة وهو يخبرها بكلمات عجز فمه على النطق بها :
” متسبنيش مليش صحاب غيرك ”
وفي ذلك الممر الفارغ إلا من غرفة العمليات وسعيد الذي انهار ارضًا دون ردة فعل وجسده يرتجف بقوة، والخوق قد أنهى المتبقي من تعقله، اقتربت منه ميمو بغضب كبير وهي تلومه بقوة صارخة بجنون :
” شايف نتيجة أفعالك ؟؟ شوفت عملت ايه في اختك ؟؟ حاولت اساعدك كتير لكن انت شيطان، شيطان يا سعيد، كام مرة أحذرك وبرضو تتجاهلني”
بدأت تضربه بيديها وهي تصرخ في وجهه بجنون :
” كام مرة احبسك واطلعك تاني واقول يمكن يتعلم، وأنت لسه القذارة متأصلة فيك ”
نظر لها سعيد بعدم فهم لتقول ببكاء :
” كل مرة دخلت فيها السجن كنت انا السبب، وكل مرة خرجت من السجن كنت انا برضو السبب، حاولت أحذرك حاولت اساعدك، حاولت انفذ وعدي لامك بس فشلت يا سعيد، فشلت ”
قالت آخر كلماتها تنهار جوار سعيد تخفي وجهها بين يديها وهي تبكي بقوة وكلمات زينب تتردد في أذنها .
” انتِ بتكرهي سعيد يا ميمو ؟؟”
توقفت ميمو عن تقطيع الفاكهة وهي تحدق في وجه زينب بتعجب :
” اكره سعيد ؟؟ أكرهه ليه؟ أنا مشوفتش منه حاجة وحشة من وقت ما دخلت البيت ”
ابتسمت لها زينب وهي تقول بخوف ودموعها تهبط ببطء :
” هو …هو …سعيد يابنتي شيطانه قوي، وانا عارفة اني مش هعيش ليه …وخايفة، خايفة شيطان جاد يتمكن منه، هو والله العظيم ما وحش بس …بس بعيد عن ربنا، بعيد عن ربنا ومعندوش ايمان بشيء وده اللي مبهدلة ”
اشفقت ميمو على تلك السيدة من الحزن :
” اهدي بس يا ماما، هو ماله بس سعيد، هو كويس اهو، يمكن طايش ومتسرع شوية بس مش وحش للدرجة دي ”
انفجرت زينب في البكاء أمامها وهي تقص عليها كل أفعال ولدها غير الشرعية والتي غاص بها دون أن يشعر، وجاء إليها في إحدى الليالي ظنًا أنها نائمة بسبب ادويتها وأخذ يبكي لها ويعترف بكل شيء ..
اتسعت عيون ميمو بصدمة وهي تستمع لكل تلك الكلمات من فم زينب والتي ختمت حديثها باكية :
” خايفة يا بنتي، خايفة اموت واسيبه لشيطانه، هيضيع نفسه ويضيع الكل معاه، ابني وانا عارفاه، اوعديني، اوعديني يا ميمو تقفي ليه، اقفي ليه يا ميمو، اوعك تسيبيه لشيطانه ”
بكت ميمو لا تدرك ما يجب فعله في تلك اللحظة، هل تعدها بما لا تستطيع فعله ؟! مالها وشخص كسعيد؟! أين هي بحالتها تلك من سعيد بكل جبروته وغضبه؟؟
لكن وأمام نظرات زينب لم تجد حلًا سوى أن تعدها بدموع وبسمة حنونة :
” متقلقيش يا ماما، صدقيني والله هعمل اللي اقدر عليه ومش هسيب سعيد يدمر نفسه، هحاول اساعده والله، أنا وعدتك وانا متعودتش اخلف وعدي ”
صمتت ثم أكملت بمزاح :
” سعيد ده انا هربيه، هبقى مرات أبوه قولا وفعلا ”
أفاقت ميمو من ذكرياتها على صوت بكاء مرتفع جوارها، صوت نحيب قوي، نظرت لسعيد الذي كان يتحدث كلمات غير مفهومة وهو يبكي بشكل هيستيري وجسده يرتجف بقوة، سقطت دموعها لأجله شفقة على ما اوصل نفسه له .
اقتربت منه ميمو ببطء ودون مقدمات جذبت جسده لها وهي تربت على ظهره بحنان.
سعيد كان درعها الوحيد في حربها مع جاد، ورغم أن ذلك الدرع كان صدئًا، إلا أنه حماها من بطشه مئات المرات حتى وإن رمقها بكره بعد كل مرة يساعدها فيها، كانت في تلك اللحظات لا تراه سوى مازن شقيقها، يحميها ويوبخها ثم يرحل، ورغم أنه شتان بينه وبين مازن الحنون المحب، إلا أنها لا تنكر أنه لولا وجود سعيد في تلك السنوات مع جاد، لكان الاخير قتلها مئات المرات.
حاولت في البداية أن تتبع طريقة التقرب منه لتجذبه بعيدًا عن طريقه ذلك، لكنها نالت منه صدًا وتجبرًا وكرهًا جعلها تسلك طرق اقسى في محاولة لتربيته وإعادته للطريق الصحيح .
شعر سعيد بتربيتات ميمو على ظهره ليمد يديه ويضمها بقوة منفجرًا في بكاء حار يتحدث بكلمات غير مفهومة لها ..
” هتكرهني …نيرمينا …مش عايزها تكرهني يا ميمو، أنا هعمل اي حاجة عشانها والله ”
ربتت ميمو على ظهره وهي ترى أمام عيونها فشلها في الشيء الوحيد الذي طلبته منها زينب، سامحك الله يا سعيد على ما فعلته بالجميع .
” متقلقش كل شيء هيتحل، كل شيء هيكون بخير يا سعيد، أنا هكون معاك متقلقش، هربيك ونعدي من كل ده سوا ”
ضحكت ضحكة خافتة مع نهاية كلماتها وهي تراه بدأ يهزي مجددًا بكلمات غريبة، لتعلو عيونها نظرة غامضة ..
____________________
يسير بخطوات بطيئة ميتة صوب الخارج، وما كاد يعبر حديقة المشفى حتى سمع صوت خلفه يناديه بقوة، ولولا معرفته أن صاحب الصوت هو أكثر من يحتاج في تلك اللحظة، لكان تجاهل صلاح الأمر .
لكنه توقف وهو يستدير صوب صالح الذي اقترب منه بحنان وبسمة يقول بمزاح رغبة في محو ذلك الحزن الذي يعلو وجه شقيقه :
” هو كده الخطوبة هتتأجل ولا الدنيا بقت تمام ؟؟”
نظر له صلاح دون رد وصالح يقترب منه، لكن فجأة توقفت أقدامه عن السير حينما أبصر صلاح يتحرك صوبه بسرعة كبيرة وهناك بسمة غريبة ترتسم على فمه وهو يقول بصوت مبحوح يفتح ذراعيه لصالح :
” مش انت قولت لما احتاج اعيط اجيلك ؟؟”
لم يفهم صالح شيء ولم يستوعب أي شيء سوى أن صلاح ألقى بنفسه بين أحضانه فجأة وهو ينفجر في بكاء عنيف لم يشهده يومًا، حتى حينما توفت والدته كان صلاح يبكي وحيدًا خوفًا أن يزيد من حزنه .
شعر صالح بالوجع وهو يجذب شقيقه بعيدًا عن الأنظار يضمه له بقوة وخوف شديد عليه :
” مالك ؟؟ مالك يا صلاح، بتعيط ليه ؟! متخوفنيش ارجوك ”
كان صالح يتحدث برعب شديد على صلاح الذي ازدادت شهقاته وكأنه كان ينتظر تلك القشة التي قسمت ظهره لينفجر بكل أحزانه مرة واحدة، مرت جميع احزان صلاح أمامه في تلك اللحظة، لا يدري لماذا يبكي بالتحديد، أيبكي ميمو وما حدث لها، ام يبكي وجعه لتخيل أن هناك من انتهكها دون رحمة، أم يبكي خيبته من عدم ثقتها به واخفاء حقيقة شقيقها عنه ؟؟ أم يبكي والدته التي رحلت دون أن يمنح نفسه وقتها حق الانهيار لئلا يتسبب في إيذاء شقيقه أكثر؟!
وصالح فقط يضمه وهو يشعر بالوجع لأجله، يقتله أن يتصدع جدار الامان في حياته، هل ضغط على صلاح ذلك الوقت وحمله الكثير دون أن يمنحه مرة واحدة فرصة التعبير عن حزنه ؟؟
استمر صالح لدقائق طويلة يردد على صلاح نفس الكلمات التي كان هو سابقًا يرددها عليه، يخبره أن كل شيء سيكون بخير، ويتلو عليه نفس الآيات القرآنية التي كان يتلوها صلاح، انقلبت الأدوار وأجاد صالح لعب دور صلاح بامتياز ومهارة شديدة .
بعد مرور عشر دقائق تقريبًا وتوقف صلاح عن البكاء إلا من شهقات صغيرة، سقطت دموع صالح ليشعر بمدى ضعفه الشديد، حتى في لحظات احتياج شقيقه له، بدأ هو بالضعف والبكاء معه، لم يتحمل رؤيته بتلك الحالة لينفجر هو الآخر بالبكاء :
” أنا آسف…أنا آسف يا صلاح، حقك عليا والله العظيم عمري ما كنت اقصد احمل عليك، بس …بس انا مكنش ليا غيرك اروح ليه، مكنتش اعرف إني بحملك فوق طاقتك ”
خرجت ضحكات من بين بكاء صلاح وهو يضرب صالح على ظهره بخفة يتحدث بصوت مختنق بالضحكات والشهقات :
” يا اخي بقى سيبني اكمل عياط في هدوء، حتى في عياطي بتعيط معايا؟؟ اراضيك دلوقتي ولا اركز في ذكرياتي المحزنة ؟؟”
نظر له صالح وهو يمسح دموعه بسرعة لا يدرك المزاح خلف كلمات صلاح، يجذبه لصدره مجددًا :
” لا خلاص اهو والله، عيط تاني ”
انطلقت ضحكات صلاح بقوة عليه وهو يجذب رأس صالح له يضمه بحب شديد مقبلًا خصلاته وقد انقلبت الأدوار في ثانية، وعادوا كما كانوا، صلاح هو الذي يحتوي وصالح هو الذي يستكين .
” عمرك ما حمّلت عليا يا صالح، عمرك ما زودت عليا وجع، أنت لو مكنتش بتيجي ليا وتشتكي أو تبكي في حضني أنا وقتها فعلا حملي بيزيد، لكن لما اضمك واراضيك أنا بحس اني في اللحظة دي بخير، فاوعى في يوم تفتكر أنك بتتقل عليا، يا صالح أنا لو اقدر مش بس هشاركك الحمل، لا ده انا هاخد حملك اشيله لوحدي ”
ابتعد عنه صالح يقول بحب :
” وانا للاسف الشديد مليش غيرك حاليا اشتكي ليه، استحمل بس لغاية ما رانيا تيجي وانا كل يوم هروح اشتكي ليها ”
ضحك صلاح بقوة وهو يبعثر خصلات شقيقه، ثم قال بحنان :
” حتى لما تيجي رانيا هتفضل غصب عنك تيجي ليا وتشتكي سامع ؟؟”
غمز له صالح يقول مشاكسًا :
” وهو أنت هتكون فاضيلي وقتها يا عم، ربنا يباركلك في ام سعيد هتاخدك مننا ”
تلاشت بسمة صلاح فجأة ليستشعر صالح بوجود خطب ما، امسك كتف شقيقه يهمس بجدية شديدة :
” صلاح انت كويس ؟؟ مالك كده؟ أنت اتخانقت مع ام سعيد ولا ايه ؟؟”
” والله ولا اتخانقت معاه ولا شوفت وشه من وقت ما صحيت، وانا اللي قولت هفوق الاقيه منهار جنبي ”
استدار صالح بقوة خلفه ليجد ميمو تقف وهي تضم يديها لصدرها وحاجبها مرفوع بحنق شديد ويبدو عليها التحفز لقتال احدهم، وهذا الاحدهم كان أخوه الذي بدا كما لو أن وجهه نُحت من صخر ..
مال صالح على صلاح يهمس بصوت منخفض :
” هي العقربة دي عملتلك ايه يا خويا ؟؟”
اقتربت ميمو منهما تقول دون أن تحيد بعيونها عن صلاح، ترسم بسمة جانبية أعلى فمها :
” لاحظ أنك بتقل ادبك كتير وانا محترماك عشان فرق السن بينا ”
رفع صالح فمه ساخرًا ولم يكد يتحدث كلمة واحدة ليزجر تلك ” العقربة القادرة ” ويوقفها عند حدها، حتى أبصر اسم محمود ينير شاشته ليحرك إصبعه محذرًا إياها :
” يا ويلك لو زعلتي اخويا، هحسرك على سعيد اللي جوا دي وهفرغه من كل اعضائه ”
ابتسمت له ميمو بسمة واسعة :
” تكون عملتلي معروف والله، وياريت ترمي مخه في أي سلة زبالة، يلا توكل على الله ”
فتح المكالمة يتحدث بحنق وهو يضع الهاتف أعلى أذنه متحركًا من أمامهم :
” عقربة ”
وصل له صوت محمود في الهاتف يقول بصوت مرتفع وحنق وصراخ وكأنه يرثي معبده الذي تهدم فوق رأسه:
” يا عم سيبك من العقربة وتعالى شوف الحمار اللي أنت مصاحبه ”
” عايز ايه يا حمار أنت كمان؟؟ حد قالكم اني دكتور بيطري ”
جلس محمود في سيارته وهو يضرب رأسه بالمقود :
” اخو هاجر ”
تعجب صالح نبرته المستاءة واردف :
” ماله ؟؟ طلع زي اخوات رانيا؟! طب والله انا قولت أن العيلة دي كلها ولاد …”
ولم يكد ينتهي من سبته حتى وصل له صوت محمود يقول ملقيًا قنبلته :
” ياريته كان مترباش زي اخوات خطيبتك، كان آخره معايا الجذمة وخلصنا، لكن ده …ده طلع ياسين اللي انا سبق واتخانقت معاه في الشغل ”
لم يفهم منه صالح شيئًا :
” ياسين مين اللي اتخانقت معاه في الشغل ده!؟ مش فاكر، فكرني كده براحة ”
أخذ محمود يندب حظه العثر الذي اوقعه من بين كل الناس في حب شقيقه الشخص الوحيد الذي تشاجر معه في حياته شجار كاد يصل للشرطة لولا تدخل صالح ..
هبط محمود من السيارة وهو يدور حول نفسه يقول بصوت أوشك على البكاء :
” أنا برضو عمال اقول ايه العلاقة اللي ماشية بدون مشاكل دي، مش طبيعي كل العلاقات حواليا زي الزفت زيك كده انت واخوك، واجي أنا الاقيها متيسرة وأخوها ذوق، اهو لقيت المصيبة ”
” يا بني ادم اتكلم ياسين مين ده اللي اخوها واتخانقت معاه؟؟ ”
صمت محمود وكأن هناك من يتلصص عليهما وقال :
” فاكر ياسين المحامي اللي كان جاي ياخد نتيجة تشريح جثة عشان قضيته ودخل عليا المكتب لقاني بشد بنج ؟؟”
” بتشد بنج ايه ؟؟ ”
ضحك محمود بحسرة :
” اه ما أنا نسيت اقولك مش انا طلعت بشد بنج مش ملوخية ”
وعلامات الاستفهام اخذت تدور فوق رأس صالح الذي قال بغيظ :
” لا هو أنت فعلا شارب ومش واعي بتقول ايه او أنا اللي بقيت متخلف ”
” يا عم سيبك من ام الملوخية، قصدي على ياسين اللي دخل عليا المكتب ولقاني مش واعي وقعدت اخرف قدامه وهو وقتها كان حالف يبلغ عني لولا أنك اتدخلت وكدبت عليه ”
صمت صالح ثواني بفم مفتوح قبل أن ينفجر فجأة بالضحك وقد شعر بأن هناك من يفوقه نحسًا في هذا العالم :
” طب ايه كده خلاص بح ؟؟”
” خلاص ايه خلصت روحك، هو اساسا مفتكرنيش، بس الخوف لما اروح اتقدم رسمي يفتكرني وتبقى مصيبة ”
توقف صالح عن الضحك بصعوبة :
” لا ده انا اجي معاك بقى، وهجيب صلاح برضو يضحك شوية لاحسن موده مش قد كده الفترة دي ”
وفجأة سمع صوت صافرة تعلن اغلاق المكالمة ليغرق في موجة ضحك أخرى وعيونه ترصد تحركات ميمو حول أخيه وهي تحاول مراضاته ليبتسم وهو يتحرك بعيدًا عنهم :
” اهو بنحاول نخرج من عنق الزجاجة …”
رفع هاتفه أمام عينيه وهو يبحث عن اسم رانيا ليتحدث إليها بعد ليلة طويلة من التعب …
وعلى بعد صغير منه اقترب ميمو من صلاح تتحدث بهدوء شديد تدرك سبب غضبه، لكنها لن تدع له فرصة الانزواء بعيدًا وخلق افكار قد تزيد من الهوة بينهما :
” ايه يا لذوذ مكنتش فاكرة أنك بتغير اوي كده ؟! على فكرة مختار هو نادر اخويا ”
ارتسمت بسمة ساخرة على جانب فم صلاح وهو يتحرك للجلوس على أحد المقاعد :
” أيوة ما أنا اخدت بالي جوا”
جلست ميمو جواره تقول بصدق شديد :
” أنا ….أنا كنت هقولك والله يا صلاح، امبارح بالتحديد لما عرضت عليا الجواز كنت هقولك عشان تطلبني من نادر ”
نظر له بطرف عينه لتسارع هي وتقول بجدية كبيرة :
” والله ما خبيت عنك بقصد، وكنت هقولك يا صلاح، لأن لو فيه حد في الدنيا دي ممكن اسلمه نفسي وانا مطمنة أنه مش هيغدر بيا فهو أنت ونادر، وانا على فكرة كلمت نادر عنك وقولتله على طلبك وهو موافق ”
ولم يتحدث صلاح بكلمة فقط ظل شاردًا بعيدًا حتى بادرت هي وقالت :
” صلاح، أنا بجد في وقت مش هينفع فيه ابدا أنك تتخلى عني أو تسيبني لوحدي، اسمعني ارجوك وأنا هحكيلك كل حاجة”
استدار لها صلاح ببطء يولي لها كامل انتباهه لتبتسم هي وتقول بحب وقد شعرت بالأمل يتجدد في صدرها، تثق في نضج صلاح وأنه سيعطيها فرصة للحديث، لكنها تخاف بل ترتعب فكرة ابتعاده عنها ثانية :
” نادر مكانش في الحريق اللي حصل لعيلتي، ولما شاف اللي حصل اغمى عليه واتنقل للمستشفى وهناك عمي كدب عليه وقاله أن كل العيلة بما فيهم أنا ماتوا ”
نظر لها صلاح باهتمام شديد لتبتسم هي بحزن :
” كان خايف نادر يقف في وشه ويرفض اللي هو عايزه، لكن اللي حصل أن نادر فعلا صدقه وانهار وبعد عن الكل وفضل يلف في الشوارع لغاية ما لقى شغل في ورشه وبقى ينام فيها ومبقاش يتكلم، لغاية ما الكل فكره اخرس وبقوا ينادوه مختار وخلاص، لكن في مرة شاف واحد من جيرانا هناك في الورشة كان رايح يوصي على تصليح دولاب ”
صمتت قليلًا تسترجع كل ما أخبرها به نادر حينما عاد إليها تلك الليلة قضاها نادر يكتب لها كل ما مر به ويقص عليها كل معاناته بانامله …
” وقتها شاف نادر وقاله على اللي حصل وأن فرحي كان من يومين وعمي جوزني لراجل كبير في السن وغني ”
ومن هذه النقطة بدأت ملامح ميمو تسود بشكل مخيف وهي تتذكر ما حدث مع نادر ذلك اليوم الذي ذهب لعمها كي يطالبه بها ..
كان نادر يركض في الطرقات كالمجنون وهو يمسك بين يديه سكين صغير، لا يدري من أين أحضره، لا يعلم كيف أمسك به وركض في الشوارع به دون خوف أو قلق، كل ما يراه أمام هو دماء عمه الذي خدعه .
مسح دموعه بقوة وهو يصرخ بحقد مقتحمًا حارته دون أن يعبأ بأحد من المارة، ومتى عبأ به أحدهم أو اهتم لشأنه .
وقف أمام باب منزل عمه وطرق الباب بقوة ليطل عليه وجه وفاء التي بكت بمجرد رؤيته :
” نادر، كنت فين يا بني، حاولت الاقيك و …”
لكن لم تكمل جملتها بسبب دفع نادر لها جانبًا يقتحم المنزل، يبحث بعيونه عن عمه حتى ابصره يخرج من غرفته فاشتعل الغضب بين أوردته بقوة ….
أفاقت ميمو من شرودها على صوت صلاح الذي قال بهدوء شديد وتخمين لما حدث بعمها :
” وقتله ؟؟”
ابتسمت ميمو ساخرة :
” لا، معتز كان زي القطة بسبع ارواح، لسه ميت من اسبوع اساسا ”
نفخت بعدم اهتمام وهي تحاول الخروج من تلك الحالة، ثم نظرت له وهي تقول بجدية:
” فاكر يا صلاح لما سألتني ايه هدفي من ورا اللي بعمله لسعيد ؟؟”
اومأ بايجاب لتتسع بسمته وهي تقول بأعين غامضة :
” هقولك، بس بعدها هنغير قوانين اللعبة ”
” يعني ؟؟؟”
صمتت وقد بدأت تنظر له بشكل مخيف انبأه أن العقربة قد تلبست ميمو اللطيفة :
” استعد يا لذوذ عشان هديك اكبر سبق صحفي ممكن تعمله في تاريخك كله، وصاحبك اللي عايز يترقى ده هنرقيه …”
___________________
توقف أمام الشقة يحدق بتلك اللائحة التي تعلو الباب، لائحة بها العديد من الأحرف، لكن فقط أحرف اسمها هي ما خطفت دقات قلبه، ابتسم بسمة صغيرة وهو يخطو الداخل ليجد أن الممرضة تتحدث دون أن ترفع رأسها له :
” انهاردة مواعيد العمل خلصت و…”
توقفت عندما تجاوزها سعيد بلا اهتمام يتحرك صوب المكتب وضربات قلبه تعلو وبشدة، يحتاجها، هو في أمس الحاجة للتحدث مع احدهم، وهي الوحيدة التي يمكنه أن يفعل ذلك معها .
فتح سعيد الباب ليراها تجمع اشياءها تقول ببسمة :
” أنا خلاص خلصت لو عايزة تـ …”
توقفت عن الحديث فجأة حينما أبصرت سعيد، حسنًا رؤيتها لسعيد على باب مكتبها لم يكن بالشيء الغريب، لكن الغريب هي هيئة سعيد التي كانت رثة، واهنة .
” سعيد ؟؟ فيه ايه ؟؟”
ابتسم سعيد وهو يتحرك كالجثة الهامدة صوب الأريكة الخاصة بالمرضى وألقى بجسده عليها يغمض عينيه براحة لثواني قليلة منذ ليلة أمس وقال :
” عايز اتكلم ”
رمقته بعدم فهم :
” سعيد أنا …أنا مينفعش اااا”
سقطت دموع سعيد وهو يقول بصوت موجوع :
” ارجوك لاخر مرة اسمعيني، مش شرط تسمعيني كدكتورة، اسمعيني كزهرة البنت اللي حبيتها من أول نظرة في ساحة تجارة ”
كان يتحدث ببسمة تخللت وجهه من بين دموعه .
سمعت زهرة صوت الممرضة خلفها تقول بشك :
” تحبي اعمل حاجة يا دكتورة ؟!”
أشارت لها زهرة بيدها :
” لا شكرا تقدري تتفضلي تروحي لو حابة وانا هخلص واقفل العيادة ..”
رحلت الممرضة بهدوء تاركة زهرة مازالت تحدق في وجه سعيد الذي شرد في السقف يقول دون تفكير :
” فاكرة لما كنت بقولك اني بأذي ناس ؟؟ واني مش كويس؟؟”
اومأت له زهرة لتسقط دموع سعيد أكثر يتساءل :
” تفتكري أنا وصلت لفين بالاذى بتاعي ؟؟”
هزت رأسها بعدم معرفة، هي بالفعل لا تستطيع التخمين، لا تنكر أنها لمرات عديدة فكرت في الامر، هل يضرب البعض أو يدخل في شجارات عنيفة، أو حتى يضايق البعض، الأمر أثار حيرتها العديد من المرات وكذلك …رعبها لما يمكن أن يصل له سعيد ….
ابتسم سعيد بسمة صغيرة وهو يقول دون مقدمات :
” الأذى اللي عملته كفيل يخليني اقضي الباقي من حياتي في السجن يا زهرة، ”
اتسعت عين زهرة بعدم فهم ليكمل هو بهدوء :
” أنا كنت بتاجر في أي حاجة تيجي في راسك دلوقتي، وقصدي بأي حاجة …أي حاجة …..”
___________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!