روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل العشرون 20 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل العشرون 20 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء العشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت العشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة العشرون

هزت رأسها بالنفي ومازالت تحت تأثير صدمها وقُربه الذي داعب صواميل قلبها ، ونبرته الخائفة التي لم تراها من قبل ، تفوهت بخفوت :
-أنا كويسة ..
رن صوت جرس الباب في تلك اللحظة ، تحمست هدير راكضة :
-ده اكيد الاوردر وصل !
أوقفها نداء مُراد الحازم وأشار لها بطرف عينه كي تنسحب ، وسيفتح هو الباب ، التوى ثغر هدير بمكر وهي تتوقد بدخان الحقد من رد فعل أخيها واهتمامه بها ، أحست أن الحرب التي أشعلتها عليهما غير مُربحة فلابد من استبدالها … ذهب مراد ناحية الباب بعد ما أحضر حافظة نقود ، وما أن فتح الباب اتسعت عيناه من هول ما يراه وهو يردد بدهشة :
-عاصي !!
رفع رأسه بشموخ وهو يسأله بنبرته الفظة :
-عالية فين يا مُراد !
ظهرت هدير من وراء أخيها ، فتبسم قلبها قبل ثغرها ظنًا منها بأنه جاء لأجلها ، برقت عينيها وقالت مُتأملة :
-عاصي ! كُنت متأكدة أني مش ههون عليك وو ..
نصب قامته القوية بتكبر مُتجاهلًا جُملة هدير الأخيرة مُشبكًا كفيه ببعضهما وراء ظهره وكرر سؤاله بنبرة أشد :
-عاليـه فين يا مُراد !
كذبت “عالية” مسامعها التي ميزت صوت أخيها ، ولكنها هرولت نحو الباب كي تتأكد من ظنونها حتى هلت شمسها أمامه بملامحها الهادئة التي تحمل ذبول الورد في خريف العُمر وتحركت شفتيها بهمس شديد بدون استيعاب :
-عاصي !
ختمت كلمتها بدموع الوجع الذي إنهال فوق ذاكرتها مُنتظرة رده ، تقدم عاصي خطوة قطع فيها عتبة المنزل ولم تتحمل رؤيته بهذا البُعد أكثر من ذلك ، تقدمت نحوه خطوتين وارتمت في حضنه مطوقة خصره بذراعيها الرفيعة وهي تجهش بالبكاء ، ذلك البكاء الذي لا تعلم مصدره ! أ بكاء الشوق أم الشوك الذي غُرس في روحها ! بكاء حيرتها أن كان وجوده أمامها حقيقة أم وهم ! احتضانها له كان عتبًا أم غفرانًا !
ظلت يديه متجدة على جانبيه ، فـ لم يتكرم بلمسة خفيفة على ظهرها ليهدأ من انتفاضة روحها بين يديه ، أحمر وجهه من كظم مشاعره حتى أغمض جفونه مكورًا قبضة يده بشدة حتى برزت عروقه وقال بحزم :
-يلا بينا يا عالية !
تدخل مُراد مندفعًا :
-أنتَ بتقول أيه !
فارقت عالية حُضن أخيها بصعوبة وهي تكفكف دموعها المُنهمرة وطالعته بوهن كان تأثيره على الخنجر في صدره وبصوتها الباكي :
-أنا معملتش أي حاجة ، ورحمة بابا صدقني !
أزاح بذراعه أخته من أمامه برفق ثم وقف أمام مُراد وكان اللقاء بينهم كالتقاء الجبابرة وقال :
-ارمي اليمين على أختي يا مراد .
ذهل الجميع من طلب عاصي المُفاجئ ، في تلك اللحظة خرجت جيهان من غُرفتها واقتربت منهم بعيونها الفضولية ، هنا تصلبت تعابير وجه مراد وهو يسخر منه :
-أنت واعي لكلامك ! وأنا المفروض اخاف واكش يعني واقول حاضر يا عاصي بيه ! ما تفوق لنفسك يااا ابن خالتي !
ظل مُحافظًا على هدوئه وأتبع بفظاظة :
-اسمعني يا مراد ، لازم تفهم أن جوازك من أختي كان غصب عنها ، وأنا اللي اجبرتها توافق وكُنت مفكر أني كده بعاقبها ولكن للأسف طلعت بعاقب نفسي ، و أنا جاي دلوقتِ عشان نفض السيرة دي كلها !
ثم مسك كف أخته المرتعش :
-وأنا جاي عشان اصلح غلطي !
اشتد الغضب بعيني مُراد وعارضه :
-وعاصي دويدار ساب كل المصايب اللي في حياته وجاي ضميره يصحى عندي ! للأسف وقعت مع الشخص الغلط .. لو مش واخد بالك أنت جاي تاخد مراتى من بيتي !
كان مُتبعًا لنصيحة “حياة” بقدر الإمكان محاولًا الاحتفاظ بهدوء وعدم انفعاله الجنوني ” ثمة أشياء لا يصلحها العنف والغضب بل تتطلب القليل من الهدوء ” تلك كانت نصيحتها الأخيرة إليه ، أغمض عينيه للحظة ثم أردف بصبرٍ نافذ :
-متعيش الدور يا مراد ، وبلاش نلف وندور على بعض عشان أنت اللي هتخسر !
رفع رأسه متحديًا :
-ويمكن اكسب ! مهما كان خصمك متحاولش تستهين بيه عشان ده ممكن يوديك ورا الشمس .
تدخلت جيهان في حوارهم بصوتها الجهوري :
-أنتَ عايز أيه ! مش كفاية اللي عملته ؟! أنت فاكر أن كل حاجة هتمشي زي ما أنت عايز وبس !
حدجها بعنف :
-آه يا خالتي ، زي ما قولتي كده كل حاجة بتمشي زي ما أنا عايز !
تشعب الغضب بجوف هدير التي فضت غضبها متعمدة أن تتراقص على أوتار إهانتهم :
-مش كفاية أننا لمينا فضيحة أختك اللي كانت على كُل لسان ! ده بدل ما تشكرنا جاي تهيننا !
تابعتها جيهان بمكرٍ:
-خيرًا تعمل ، شرًا تلقى !
تعمد تجاهل كل تلك الإهانات التي أن أهتم بها احرق كل ما يقابله وجهر بحزمٍ :
-عالية ، روحي البسي ويلا بينا ، واللي مش هيطلق بالأدب هنخلعه !
كاد مراد أن ينفعل عليه ويفرغ به كبت أعوام ولكن تدخلت عالية في اللحظة المناسبة لتفصل بينهم بجسدها المرتجف وتطالع أخيها بعوينات الحزن وقلة الحيلة متمسكة بكفه وقالت بصوتها الهدر :
-متتصورش مجيتك دي ردت لي روحي ازاي ، وكنت عارفة إني مش ههون عليك ، أحنا بردو دم واحد ..
انخرطت عيونها بدموع الحزن وأكملت بنبرتها المهتزة :
-لو كنت جاي هنا عشان تريح ضميرك ، ريحه يا حبيبي ، أنت اخويا ومهما عملت مش هقدر ازعل منك ، ومسامحاك والله ..
ثم دارت وألقت نظرة سريعة على مراد الذي أوشك على الانفجار وبعدها عادت إلى أخيها منكسرة وقررت :
-أنا مش هينفع ارجع معاك ، لانه بقى جوزي خلاص ، وهتحاسب عليه قدام ربنا ! وأنا مش أد إني اشيل ذنب زي ده .
كان قرارها مُفاجئًا للجميع ، لم يتوقعه مراد بل غاص في فضائل تلك الشخصية التي دومًا ما تأتي بأفعال غير متوقعة ، ملء الغضب قلب جيهان التي أحست بأن سحرها انقلب عليها وهي من أسهم في بناء قفص الحب الذي سيسرق ابنها منها لا محالة ! أما عن هدير التي تشعب شعور الخسارة في صدرها ، وأحست بأنها الوحيدة التي لا تنال كل ما تسعى إليه .
كانت نظرات عاصي لأخته مليئة باللوم والعتب ، ثم التوسل الذي كان مُبطن بـ رائحة الحماية والأمان معه ولا يجب أن تخشى شيئًا بقربه ، ظلت الحيرة تتوهج في رأسه حتى أذهلته اخته وهي تحتمي بكتف مراد وتغلغل أصابعها بين فراغ يديه وتطالع أخيها بنظرات من الهزيمة التي لا تحمل انتصارًا .. تصرفها جعله يتجنب المُناقشات التي لا جدوى منها ، استقبل ردها بصمت مُريب ثم هز رأسه مُتقبلًا لاختيارها والقى جُملته الأخيرة :
-لو احتاجتى حاجة ! أو حد زعلك كلميني .
انتظرت عالية حتى رحل أخيها ، فسحبت أصابعها المرتجفة من قبضة يديها و تركته عائدة إلى غُرفتها بعد ما تركت جمر الحيرة والتشتت في رأسه يتأكل منها ما يشاء ، تبادلت النظرات بين كل من جيهان وابنتها التى أسبلت عيونها بخبث ثم مالك على آذان أمها هامسة :
-قلبي بيقولي أن في حاجة غلط .
قفل مُراد الباب ولا زالت رأسه تتقلب كفقاقيع المياه المغلية حتى لاحظ تحرك هدير من جانبه فأوقفها بنبرته الحازمة :
-استنى يا هدير عايزك !
••••••••••
“لم أتجاوز أي شيء ، فقط كنت استيقظ وأنام ، وأستيقظ وأنام حتى تساقط مني الوقت والرغبة وقلبي وتجاوزتني جميع الأشياء كمن جاء الحياة مُتأخرًا ، ولكني لم استطع تجاوز أي شيء خدش روحي عند مروره ، مضى كل شيء وتبقى لي الوجع ”
-هتفضلي واقفة بعيد كده كتير !
أردف تمـيم جُملته الأخيرة عندما طال أمر وقوفها أمام الشُرفة دون الالتفات إلى وجوده ، كفكفت عبراتها المُتقطرة وعادت إليه بخطواتٍ مترددة وقالت معتذرة :
-أسفة بس سرحت شوية ! هنزل اجيب ميه وأكل قبل الأدوية ..
كادت أن تخطو خطوة فأوقفها ممسكًا بمعصمها برفق ، وقفت مشدوهة ، أخذت تتنهد كثيراً كأن شيء ما بـ داخِل صدرهِا يحاولُ الهُروب .. بللت حلقها الذي جف إثر لمسته المُباغتة وسألته بـ رعشةٍ :
-في حاجة !
هز رأسه بالموافقة ، تحرر ذراعها من قبضته التي رجت قلبها من مكانه و ادخل كفه بجيب سترته وأخرج منها عُلبة قطيفة وفتحها أمامها ، أذن بخاتم من الألماس ومعه محبس زواج ذهبي ، رفع عيونه إليها :
-شبكتك ، يا رب تعجبك .
كان تصرفه على قدر جماله إلا انه غريبًا ومرعبًا ، من أين يحمل قلبه الانتقام ومن أين لم يدع ثغرة لتسعدها ويمنحها حقها لم يفعلها ! كيف يكون المرء كل شيء وعكسه في آنٍ واحد !
وقفت ” شمس ” على شفا الصدمة تتسائل من أنت ! ولِم كل تلك الأفعال التي لا تليق إلا بالعشاق ؟ لا زالت تحت تأثير دهشتها حتى أمسك كفها وادخل به محبس الزواج كأنه أراد إعلان نسبها إليه بأدق التفاصيل ، كان كفها بين يديه كالحمامة الجريحة التي تتقلب في دموع التاعسة والفرح معًا ، شعور غريب اجتاح فؤادها وزاد من سرعة ضربات قلبها .
زين بنصر يدها اليسرى بطوق امتلاكه له ولم يتوقف عن ذلك ، بل تهفهف تقبيل يدها بـ رقة المُشتاق ، لم تمنحه الفرصة كي يقبل يدها بل جذبتها بعبث طفولي وتمتمت كمن تذكر شيء:
-نوران ، قصدي الميه ، انا هنزل ، اقصد اقولك شكرًا ..
غردت بكلمات ارتعابها وطارت في سُحب الخجل هاربة من عيونه الصقرية التي تُلاحقها فـ تبث بها رعبًا يتوغل إلى أصولها .. ارتسمت ضحكة إعجاب على ثغر تميم الذي تنهد مغمغمًا :
-شكلك كده هتغلبيني معاكِ !
ختم جُملته بنظرة طويلة إلى المرآة حتى تسائل متحيرًا :
-أنتَ عايز أيه يا تميم ؟!
•••••••••••
-طيب اسمعيني يا هدير ! دي أول وأخر مرة اسمعك تقولي الكلام ده ، ولو اتكرر هيبقى ليا تصرف تاني ! أنتِ فاهمة ؟!
أردفت مُراد جُملته الأخيرة بعد ما روت له هدير علاقة زوجته المُزيفة والصور وحقيقة طباعها التي أخذت أن تُحذره منها ومن خداعها ، و رغم كل هذا فهو يعلم أخته وألاعيبها ولم تكن مصدرًا صادقًا لمعرفة حقيقة بعينها ، قرأت هدير في عينيه استخفافه بروايتها الكاذبة وقالت ساخرة :
-اه واضح أن كلامي ملهوش لازمة ، وعملت لك غسيل مخ !
تدخلت جيهان لتُكمل تمثلية ابنتها وقالت :
-دم تعالب دويدار بيجري جواها ! آكيد عاشت في دور ملاك الرحمة عشان تصدقها !
رفع كفه كي يضع حدًا للحوار السخيف الدائر بينهم وقال :
-اللي عندي قولته ! واللي هيفكر يزعلها أنا اللي هتصدرله !!
ثم حدج هدير بنظرة متوعدة :
-كلامي مفهوم !
لم يرق الكلام لأمه المعجونة بداء المكر ، غيرت مجرى الحديث بينهم و قذفت سؤالها في حِجره قائلة :
-مراد ، أنت قربت لها ؟!
ثم تلونت كالحرباء وأكمل بخبث :
– يمكن تكون اتاكدت بنفسك انها مش تمام ؟!!
سؤال لم يزاول خاطره منذ اللحظة التي انتسبت له ، منذ أن رأها وتبدلت مشاعره الآدمية فلم يحمل إلا مشاعر بطهارة ونقاء روحها الملائكية ، سؤالها أحيا بداخله فطرته الذكوري وللحظة تلهف قلبه اشتهائها ولكنه بسمات الرجل الحكيم الذي لا يسوقه إلا عقله رد بثبات تام :
-أول وآخر مرة حد يدخل في حاجة تخصني !
اطلقت هدير ضحكة ساخرة هي تغمز لأمها وتقول :
-افرحي بابنك البكري يا مامي ، عشان طلع ……
انقض على مرفقها بنيران غاضبة صارخًا بوجهها وكأنه يفرغ شحناته المتكدسة بداخله في صورة زمجرة حيوان شرس نهرها :
-كلمة كمان وهنسى انك اختي ، وعشان تستريحوا أنت الاتنين وتبطلوا لت النسوان ده ، عايز أقولك أن الصور دي وصلتني من أول يوم ، وواضح للعيل الصغير انها متفبركة ، وانا كمان اتأكدت بنفسي لما عرضتها على حد متخصص !
حرر ذراع اخته الذي اعتصره بقبضته القوية وطالع أمه مُكملًا :
-فـ كلمة زيادة فـ الحوار ده مش هسمع بيها !
فارق مجلسهم عندما فجر كلماته الحارقة بوجههم وبمجرد ما اختفى من أمامهم طالعت جيهان ابنتها بغلٍ :
-ده شكل اللي خايفة منه حصل !
-ابنك وقع ومحدش سمى عليه يا جيهان هانم !
لو كان لدي القدرة على الصراخ لأيقظت المدينة بأكملها و العالم كله ولكنّ صوتي مات في داخلي .. ارتمت في منتصف مخدعه وهي ترتجف من شدة البكاء حتى فتح باب الغرفة وتسمر مكانه وهي يراقب هبوط وارتفاع جسدها ، ووصول نحيب الوجع إليه ، لأول مرة يملؤه شعور العجز ، لأول مرة يقف ضحية لقلبه وعقله ، الثنائي الذي اتفقا عليها .. اقترب من الخزانة بصمت مريب واخرج ملابسه ورماهم على الأريكة بجواره ..
شيء ما بداخله سحبها إليه بخطوات ضيقة وكأنها تحمل التردد حتى جلس بجوارها على طرف الفراش ومد ذراعه كي يمسح على شعرها رُبما تهدأ قليلًا عن انتفاضة روحها ولكن هناك ماس كهربي تمسك بكفه الذي اوشك أن يلامس شعرها بل ثُنيت أعصابه مطوية بلجام التذبذب وهو يرجع يده ببطء مُتراجعًا عما كان ينتويه ..
نهضت ” عالية ” بتثاقل وهي تشكو جبال الهم التي رسيت على ظهرها وكفكفت دموعها ثم طالعته بعينيها المُحمرة وقالت بصوت واهنٍ :
-ممكن احكي حاجة ! مش عارفة هتصدقني أنتَ كمان ولا لا ! بس أنا محتاجة احكي معرفش ليه !
كانت كلماتها مهزوزة ، مترددة تكسوها شهقات البكاء والخوف والفزع ، لانَ قلبه لضعفها وتحيرها الذي لا يجد مكانًا يحويها ، ضعفها الذي أعلن أن الخيبات تعصرها والآسى يغتالها ، ولا تعلم إلى أين ستذهب ، كل الأبواب انغلقت بوجهها ولم يبقى لها مأوى .
رست نظراته المُشفقة على حالها فوق ملامحها وقال بصوت رقيق :
-موافق اسمع بس بشرط !
••••••••••
“من الصعب أن تشعُـر بأنك مجرد كذبة مؤقتة ، لشخصٍ شعرت معه بأن كل شيء ولأول مرة ، يبدو حقيقاً .”
تلك العبارة التي تمتمت بها ” حياة ” وهي تقف أمام المرآة تعد ترتيب ضفيرتها التي راقت لها كثيرًا ، شردت بعيونه الساطعة أثناء تحاوره ، هربت بخيالها نحو لحظات قُرب الفقيرة ، أحست بفراغ وصقيع الغُرفة حولها لمجرد أنه لم يعد موجودًا ، سقطت الفرشاة من يدها إثر تلك الرعشة التي أصابت فؤادها عندما تذكرت عرضه السابق :
-كم سعرك لليلة ؟!
أغمضت جفونها محاولة نسيان ذلك العرض المُهين بكبريائها وفي نفس اللحظة هناك خفقان شديد بصدرها يُقلب أنواره باحثًا عنه ، ابتلعت مذاق الإهانة والهوى اللاذع الذي لا تعرف من أين تسرب إليها وكأن ذلك يعود إلى إطالة النظر بعيونه التي تحمل تعويذة سحرية أسقطتها في بحره .. زفرت بضيق وهي تهز رأسها لتشتيت تلك الأفكار السوداوية عنها ووبخت نفسها بحدة :
-اي الهبل ده ؟! ما تفوقي كده ! اوف لا في حاجة مش مظبوطة! مبقاش غير ده كمان افكر فيه ! واي الافكار دي كمان ؟! ارجعي لوعيك ده واحد بيستدرجك بس عشان يحقق الـ عايزه وبس ! انتِ بالنسبة له شوية فلوس بيدفعهم عشان ينبسط بيهم !
فتح باب الغُرفة بقوة وهي يتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه ، اقتربت منه متأملة وهي تسأله :
-رجعت عالية !
دفعها من أمامه بقوة عاصفة لا تُميز أكان الذي أمامها زهرة أم صبارًا وقال :
-ابعدي من قدامي !
اتبعت فضولها الذي تفاقم اثر تحوله المبالغ فيه ، هذا لم يكن الشخص الذي كان برفقتها منذ سويعات ، اقتربت منه معاتبة :
-أنت ازاي تمد أيدك عليا بالطريقة دي !
فَجر شحنات غضبه بوجهها وهي ينقض على ذراعيها بقوة غارسًا أنامله في لحمها ورجها بعنفوان :
-كله منك ! أنتِ السبب ! أنا أيه خلاني اسمع كلامك أصلًا! وأنتِ مين عشان تديني نصيحة !
ثم دفعها بقوة حتى ارتطم ظهرها بالخزانة وقال :
-أنا هنا اسمي عاصي دويدار ، اتعودت أدوس على اللي قدامي ومابصش عليه ! بلاش جو الحكم والمواعظ ده عليا عشان هزعلك !
تجمدت على أرصفة الهذيان وهي تراقب ذلك الثور الهائج أمامها بصدمة مريبة وتشدق بعدم تصديق :
-أنت مين !
التصق بها للحد الذي احرقت نيران انفاسه الغاضبة وجهها وقال بغرور من العظمة :
-أنا عاصي دويدار ، يعني لا أنت ولا عشرة زيك يقدروا يمشوا عليا كلمتهم ! أنتِ سامعة .
تلاقت الأعين وتعالت الأنفاس الحارقة بنيران الغضب المنبعث منه ، ودخان الندم الذي أعلن توبته عن التفكير به للحظات ، رسى على زُرقة عينيها الساحرة ، التي حولت نيرانه إلى بردًا وسلامًا و اشتهى الارتشاف من تلك البحيرة الزرقاء التي تذوب ملوحة انفعالها ، وقعت آسيرة تحت ظله ونواياه ولأول مرة يشتهى تقبيل عيني أثنى لهذا الحد ! خدرها بـ مخدر الصدمة حتى شل حركتها ومال مرتشفًا للنيل من عذوبة عينيها طمعًا .
انحنى مُقبلًا لعينيها بتأني كان اشبه بدلو من الثلج المنسكب على رأسها فجعلها تفقد الأحساس بكل ما يدور حولها ، كانت عينيها في البداية لُقمته حتى أصبحت شهيته لينال منها أكثر وأكثر ، رغم برودة جسدها هذا لا ينفى الحرائق المتقدة بجوفها و بأنفاسه التي داعب خصلات شعرها .. هدأ تدريجيًا عندما تجرع عنب كونكورد عينيها حتى عاد إلى وعيه مُدركًا ما فعله للتو فـ فجر به فيضان جارٍ من مشاعر لم يتذوقها من قبل ، غير مسار فاههِ إلى آذانها هامسة بنبرته الجياشة :
-اجهزي عشان هنسافر دلوقتِ !
شرد قلبها ع نواصي الجنون محاولة فك شفرة هذا الرجل غريب الأطوار ، وبدون وعيًا أردفت :
-مجنون ! شخص مش طبيعي !
حاولت لملمت ما بعثرته قبلته بداخلها ووقفت أمامه وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة :
-أنت مفكر بعد اللي عملته ده هوافق اروح معاك أي حتة ..
لوحت له بحزمٍ :
-أنا مش عايزة أعرفك تاني !
هز رأسه مُتقبلًا ثرثرتها بنفس راضية تمامًا فقد نال قسطًا كافيًا من سُكر عينيها لا يُريد إفساده بالجدال العبثي معها ، في لحظة منتظرة منه أن يجيبها على رفضها القاطع ، باغتها برد غير متوقعٍ وهو يحملها على كتفه ويغادر الغرفة مُتجاهلًا صراخها ورفضها الذي ثار فضول سُكان القصر الذين خرجوا يراقبوا مُداعبات سيدهم مع زوجته المتمردة وهو يغادر بها المكان قصرًا .
••••••••••
” في أحد المطاعم الفاخرة ”
دخلت ” عالية ” بصُحبة مُراد الذي دعاها على الغداء بالخارج وكان ذلك شرطه الوحيد ، اضطرت موافقة على طلبه لأنها أحست بحاجتها لاستنشاق هواءً نقيًا ، جلس الثنائي على الطاولة وجاء النادل ليأخذ طلبهم ، سألها مُراد بحنو :
-هتاكلي أيه !
قفلت لائحة الطعام بدون اهتمام وقالت بيأسٍ :
-عادي أي حاجة !
-طيب سيبيني اطلب لك أنا ؟!
أومأت بخفوت ثم ولت رأسها يسارًا كي تتفقد المكان بالخارج حتى ينتهي من حواره مع النادل حتى عاد إليها قائلًا :
-الأكل قدامه نص ساعة ، وقت كافي تحكي فيه !
هزت رأسها بهدوء ، لاحظ مداعبة أصابعها بتوتر حتى شرعت أن تتحدث :
-أنت مسألتش نفسك أنا اتجوزتك ليه !
رغم علمه بالإجابة إلا انه أراد أن يسمع منها باهتمام ، اغلق هاتفه الذي رن كأنه يود ألا يشاركه شيئًا في وقتها الخاص ثم قال متنهدًا :
-ليه !
شرعت عالية في سرد ما حدث لها منذ بداية الصور الزائفة والإشاعات التي أطلقت عليها و الإهانة الشديدة التي تعرضت لها والقسوة من أخيها وعائلتها ، فأرادت الهرب ولا تعلم إلي أين سيكون الملجأ ، لم تجد بابًا مفتوحًا أمامها ألا بابه ، غامرت بحياتها تلك المرة فلم يوجد ما تبكي عليه بعد الآن .
ساحت دموعها على وجنتيها وختمت حديثها برعشات الظلم :
-حقك تطلقني بعد الكلام ده كله ، بس والله أنا ما أعرف حاجة ، ولا الولد ده اعرفه ولا ليا علاقة بيه ، انا مبقتش مستحملة تلقيح هدير وخالتي وانا معملتش حاجة ، أول مرة أحس إني لوحدي مفيش حتي عكاز اتسند عليه ..
ظلت تحصي هزائمها المتتالية وظل يرمقها بعينيه الحنونة التي لا يعلم من أين جاءت بكل هذا الحنو ، مد كفه الخشن ليحضن كفها المرتعش من شدة الألم كي يهدأ قليلًا ثم قال :
-ومين اللي ممكن يعمل كده !
استسلم كفها لحضن كفه الدافئ وقالت بضعف :
-معرفش ، معرفش أي حاجة ومحدش حاول يدور ورا مصدر الصور دي !
-طيب خلاص ممكن تهدي !
رمقته بشكٍ :
-يعني أنت مصدقني ؟!
عقد حاجبيه بامتعاض وقال :
-وأيه اللي يخليني مصدقش !
لا شيء أقسى من سقوط قناع حسبناه يومًا وجهًا حقيقيًا ، ولا أحن من إيجاد أماننا في أكثر الأماكن ظُلمة ، طالعته بإعجاب مليء بالذهول :
-عادي ،أصل أخويا نفسه مصدقنيش وو
-حابة تقولي حاجة تانية ؟!
هزت رأسها يمينًا ويسارًا ثم سحبت منديلًا لتُجفف عبراتها وقالت بنبرة مبحوحة :
-لا ، كنت حاسة الموضوع كابوس على قلبي ، ودلوقتِ ارتحت .
-أنتِ ليه مرجعتيش مع عاصي !
تعلقت ببريق عيونه المُلعن بحماس رغبته في معرفة سبب عدم عدوتها وتخلصها من قفص أسرها ، احست بالارتباك إثر هذا السؤال الذي لا تعرف إجابته وقالت برتابة :
-زي ما قُلت لعاصي ، عشان ما ينفعش وحرام وبكده هغضب ربنا .
ضاقت عيونه بشكٍ غير مُقتنعًا بجوابها وقال مُداعبًا :
-وبس كده !
جالت بأبصارها تتفقد المكان هاربة من التقاء عيونهم وقالت :
-ااه هيكون ليه يعني !
تعمد التراقص على أوتار قلقها وقال بنبرته الجدية المُفتعلة :
-لو حابة ترجعي أنا مش همانع ، آكيد مش هجبرك على وجودك معايا وانتِ مش حابه !
-هاه …..
أنقذها النادل من قسوة سؤاله الذي لم تملك رد عليه ، وشرع في رص الأطباق أمامهم ، تفاقم ارتباكها وأحست أن نظراته تفضحها أكثر ، وثبت قائمة بتردد :
-طيب أنا هروح التواليت بس ..
••••••••••
-افردي وشك ده أحسن أفرده بطريقتي !
في سيارة عاصي دويدار الذي يجلس بالخلف بجانبها بعد ما ادخلها السيارة مرغمة ، قال جملته الأخيرة من وراء فكيه المنطبقين ، زفرت باختناق متجاهلة الرد عليه ، رمقه السائق بنظرة خاطفة متعجبًا من أمره مع تلك الفتاة التي تتمرد على حصونه وتتجاهل تعليمات ، قرأ عاصي نظرة السائق ثم تحمحم بخفوت ليخفي احراجه وقال بصوت عالي :
-شد حيلك يا سعيد عايزين نوصل قبل العشا .
أومأ سعيد رأسه بطاعة وزاد من سرعة السيارة وخلفه أسطول سيارات حرسه الخاص ، اخرج هاتفه متحدثًا إلي يسري برسمية :
-وصلت لفين !
-خلاص على وصول وكله تحت السيطرة ، هظبط كل حاجة لمعاليك قبل ما توصل .
-عظيم ، عظيم يا يسري ..
أطرق يسري معتذرًا :
-اسف يا فندم ، بس والله حاولت أغير الميعاد ، هو اللي أصروا على الصبح لأنهم لازم يرجعوا بكرة .
-مش مهم يا يسري ، خلينا نخلص من الحوار ده .. المهم مش هوصيك ، عايزك تظبط لي جناحي الخاص النهاردة !
شرد يسري بدون فهمٍ وقال :
-لمعاليك ولحياة هانم !
ألقى عليها نظرة خبيثة وقال :
-لالا ، حياة هانم تعبانة من المشوار آكيد مش هتكون رايقة للحوارات دي ، بس ابعدنا عن المصري عشان مش بيجي من وراه غير وجع الدماغ .
طالعته “حياة” بغرابة محاولة إدراك ما يشير إليها ، انتظرت حتى فضت مكالمته وسألته بغضب :
-بتيجب سيرتي ليه !
رد عليها بفظاظته المعهودة :
-أنا حُر .
ألقت نظرة خاطفة على السائق ثم همست بحذر :
-لو مفكر إني هعدي اللي حصل ده تبقى غلطان !
اخرج سيجارته الفاخرة وأشعلها ثم نفث دخان تبغه بوجهها وقال :
-أنا حاليًا مش بفكر في أي حاجة غير اجتماع الصبح !
أحست بالحكة في جدار عنقها إثر إحراجها الذي يقصده وقالت بحنقة :
-بردو ما قولتش ، بتجيب سيرتى ليه ! أنا سمعتك بتقوله حياة هانم تعبانة من المشوار ! أنتَ مين أساسًا عشان تتكلم بلساني ؟!
-ما دام مصممة كده يبقى …
ثم مال على آذانها هامسًا :
-كُنت بوصي يسري يجهز لي ليلة ولا ألف ليلة ، وكان مفكر أنها عشانك ..
ثم تراجع متعمدًا إطالة النظر بعيونها معترفًا بوقاحة :
-بس ده لأني عارف أن حياة هانم قدراتها محدودة ، ومش أد عاصي دويدار عفيتك من المهمة الشاقة دي !
تمادى إلى درجة لا تُصف من الوقاحة للحد الذي أعجز لسانها عن الرد محاولة تكذيب ما فهمته من مغرى لكلماته الغامضة ، اكتفت أن ترمقه بنظرة احتقار اطاحت بغروره القاتل وعادت أن تراقب الطريق من وراء النافذة وهي تهز في قدمها بسرعة وتقضم في أظافرها من شدة كظمها للغضب ، تذوق شهدها وشهد الانتصار عليها في نفس اليوم ، ذلك الشعور الذي ملئ قلبه غرورًا وثقة ، عاد ضاحكًا ليُتابع مهامه خلف شاشة الحاسوب مُتجاهلًا حرائقها المتوهجة بجواره .
•••••••••
” في تمام العاشرة مساءً ”
عاد مُراد بصحبة عالية بعد يوم طويل قضاه معها في التسوق وشراء كل ما تُريده ، ووجد قلبه تدريجيًا يتغاضى عن كل كراهية لعائلة دويدار وتحول قلبه المُشتعل بالحقد إلى آخر يود شراء العالم كله بين يديها كإعتذارًا لها عن كل ما عاشته ، بمجرد ما فتح الباب ، دخلت زوجة البواب وبيدها العديد من الحقائب ووضعتهم بالغُرفة ، خرجت جيهان من غُرفتها تُراقب المُشتريات الباهظة التي جاء بها إلى المنزل وقالت بضيق :
-أش أش ! أنتوا سبتوا أيه ما جبتهوش معاكم ، جرى أيه يا بيشمهندس مراد !
أشار لها بطرف عينه أن تعود إلى غُرفته ، لبت طلبه بهدوء متجنبة الحوار مع خالتها وفرت محتمية بحصون الغرفة ، اقترب مُراد من أمه معاتبًا :
-بلاش الطريقة دي لو سمحتِ !
جهرت جيهان بحنق :
-لاا ماهو حالك ده ما يتسكتش عليه !
ثم ربتت على كتفه بقوة ولوم :
-أنا جوزتك بنت عبلة مصلحة يا حبيبي ! فوق كده وارجع لنفسك ، الحال المايل ده ما يرضنيش !
انخفضت نبرة صوتها ولكنها أصبحت أكثر حدة :
-ويكون في علمك زي ما جوزتهالك ، أنا ممكن اطلقكم ! اكسب رضا أمك يا مراد .. البنت دي يا حبيبي نابها ازرق وملهاش أمان ، اسألني أنا !
فاض صبره من تدخل أمه بحياته ، وقال بغضب عارم ليضع حدًا لها :
-سبق وقلت لك شيليها وشيليني من دماغك ، وأنا عارف بعمل أيه كويس أوي ؟!
طالعته بنظرات ساخرة وقالت ناصحة :
-طيب خلي بالك وأنت بتمثل عليها الحب تحبها بجد ، ساعتها مش ههنيك بيها لحظة واحدة .
بين الانانية والطمع ضاعت القلوب ، طالع امه بنظرات حادة متحاشيًا الجدال معها ثم تركها عائدًا إلى غُرفته دون أن يلقى جملة واحدة تريح فؤادها ، ضربت جيهان كف على الأخر وقالت متوعدة :
-ورحمة أبويا لأوريكي النجوم في عز الضهر يا بنت دويدار .
•••••••••
-ماينفعش يا شمس تقعدي معايا هنا وتسيبي تميم لوحده ، طيب حتى عشان اللي في القصر واللي ما تتسمى دي متشكش فيكم !
أردفت نوران جُملتها الأخيرة بنبرة العظة كي تقضي على قلق وخوف أختها التي تشعر به ناحية تميم ، بللت حلقها بخفوت ثم قالت :
-مش قادرة اقعد معاه تحت سقف واحد يا نوران ، بحس إني عايزة أعيط ، ومش قادرة اتنفس في المكان ده كله وأنا شايفة أيديهم ملوثة بدم جدتي .. حاسة إني غلطت غلط كبير أوي .
ربتت عليها أختها بحنو ثم قالت :
-طالما مشينا طريق نكمله للآخر ، مكنش قُدامنا حل غير كده يا حبيبتي ، استهدي بالله وقومي روحي له ، هو آكيد مستنيكي .
ثم حاولت تغير لون الحزن الذي خيم على جلستهم :
-مش عايزين الست العقربة دي تشمت فينا !
أومأت بخفوت ثم تدلت أقدامها الحافية لتلمس الأرض وترتدي نعالها الجلدي وقالت بنصح :
-اقفلي الباب على نفسك. كويس ، ومتفتحيش لأي حد مهما كان ، فاهمة يا نوران !
-متشغليش بالك بيا بس ! أنا هعرف اتعامل .
ما كادت أن تخطو خطوتين فتراجعت :
-متأكدة مش محتاجة حاجة !
نفذ صبر نوران من توتر اختها :
-والله ما محتاجة حاجة ، بطلي حجج بقا !
غادرت شمس الغرفة بتردد حتى وصلت إلى منتصف المسافة بين الغُرفتين وتوقفت مُصطدمة بـ ” عبلة ” التي دنت منها بشرار الانتقام وقالت ساخرة مُتعمدة إثارة غضبها :
-أيه يا عروسة سايبة عريسك يعني ! تؤ وده يصح بردو !
-افتكر أنها حاجة بيني أنا وجوزي ، متخصش حضرتك خالص !
تحولت نظرات عبلة الكيدية إلى الانتقامية وحدجتها بحدة :
-اسمعي يابت أنتِ ، ما تيجي معايا دُغري وتقولي عايزة كام !
تعمدت شمس التحدث بنفس نبرتها الكيدية وقالت :
-كام ؟! هو نصيب تميم بيه كام بقى !
مالت عبلة على آذانها هامسة بصوت كفحيح الأفعى وقالت بملامحها المُنكمشة :
-تميم بيه يحمد ربنا أننا سمحنا له يقعد هنا أساسًا ، يعني نأبك طلع على شونة يا حلوه ، تميم بيه مالهوش ولا حاجة في هيلمان شهاب دويدار ، عارفة ليه !
تطلعت إليها شمس بنظرات الشك حتى أكملت عبلة بنفس النبرة السخيفة :
-لانه ابن زنا ! أوعي يكون خبى عنك الحوار ده !
ثم نصبت عود الأفعى التي تتلوي بها واطلقت تنهيدة جياشة :
-يلا حبيت أوعيكي قبل ما الفاس تُقع في الراس وتقولي يا ريت اللي جرى ما كان !
•••••••••
” في الغردقة ”
-اتفضل معاليك ، كل شيء جاهز !
يخطو بخطواته الثابتة في الممر ويتبعه يُسري راكضًا محاولًا الإلحاق به حتى طلب منه عاصي ناسيًا :
-عظيم ، الساعة ٧ الصبح يا يسري ألقاك جاهز ، فاهمني !
-فاهم طبعًا معاليك ، بس أنا أقصد يعني أن جناحك الخاص جاهز ، والماركة لبناني واخر تؤبرني ، وابقى اشكر يسري حبيبك .
تبسم بكمر الثعلب ثم قال بحزم :
-لالا مشيها ، ماليش مزاج !
ذهل يُسري من طلبه الغامض المُختلف عن عادته :
-نعم ! معاليك انا واثق لو شوفت البنت هتغير رأيك وهـ
زفر بصرامة لا تقبل الجدال :
-قُلت لك مشيها يا يسري ، عايز أنام ساعتين عشان أفوق للجماعة بتوع بكرة !
أطرق يسري بطاعة مُرغمًا :
-اللي تشوفه معاليك ، هعمل كده ..
توقف فجأة ثم أدلى أمره الأغرب من طلبه السابق :
-حياة لو سألت عليا طبعًا عارف هتقولها أيه !
رد يسري باندفاع ، حيث سبق لسانه ذهنه تلك المرة :
-اه فهمت تقصد معاليك اقولها أن حضرتك نايم، ومفيش أي حاجة من دي ، وو
غضب من حماقة يسري الغير معهودة ثم قال:
-لا هتقولها أن البيه مش فاضي ومش هينفع يقابل حد في وقته الخاص ، فهمت يا ذكي ولا أقول تاني !
بمجرد ما أنهى جملته واصل السير مُكملًا :
-كل اللي طلبته بخصوصها وصل ..
-وصل معاليك ، وزمانهم واقفين على باب أوضتها .
على حدة تجلس مقوسة على جانب الأريكة ممسكة بقلمها كي تفرغ شُحنات قلبها السالبة المُنجذبة دائمًا لشحناته الإيجابية ودونت يدها تلك الجُملة بدون إرادة منها :
“أول هزيمةٍ لي كانت طريقتك وأنت تتأملني .”
قطعت الورقة بعبثٍ وهي تعصرها بين يديها وتشعر بالنفور من نفسها ومن تصرفاتها الطائشة التي لا تليق بأنثى ناضجة مثلها ، توقف سن القلم على أول سطر جديد لتنغمس في تدوين شيء آخر يجعلها تتناسى طيفه الكاتم على أنفاسها :
“تخيل أنك أنبهاري! أنا التي لم أر منك إلا رهبة وغرابة ، رُبما لأنك سلكت طريق الممنوع إلى عقلي وتمردت على قوانين الطبيعة تلك التي يهواها فكري ! ”
توقفت عن الكتابة مُتذكرة تلك القُبلة المُفاجأة التي أطاحت بذهنها وأصبح فكرها يجوب حوله كما يطوف دبور عنيد حولة زهرة بريئة ليفترس جمالها الخلاب ..ألقت الدفتر بعيدًا بغلٍ حتى صرخت رافضة كل تلك المشاعر التي اقتحمت قلبها ورأسها في آنٍ واحد :
-هو فاكرني عروسة خشب يحركها زي ما هو عايز ! طيب والله لأعرفك حدودك ..
هرولت مُسرعة نحو الباب الذي فتحته بقوة فوجدت يسري أمامها وخلفه عدد لا بأس به من العمالة ، سألته مشدوهة :
-فين اللي مشغلك ! عايزه اشوفه
عندما لا نجد طريقًا لتواصل مع من نحب ، نشق طريق الشجار ، تبسم يسري ابتسامة خبيثة وقال :
-ده الوقت الخاص بعاصي بيه ! وماينفعش أي حد يدخله !
بثت نيران الضيق في صدرها التي لا تدرك سببها وقالت
-يعني أيه !
-يعني حضرتك تتفضلي وتخلي الهوانم يشوفوا شغلهم عشان اجتماع الساعة ١٠ الصبح .
ثم صاح مُعلنًا :
-اتفضلوا يا بنات ..
وقفت أمامها مُصففة الشعر وهي تتفقد شعرها الكثيف:
– شعرك محتاج شغل جامد ، يا رب نلحق .
تسمرت حياة بمكانها ودائرة من المهام تطوف حولها ، لا تفهم أي شيء وما سيحدث حولها ، لم تجد نفسها إلا جالسة أمام المرآة وكل فتاة تقوم بأداء مهمتها من تصفيف الشعر وطلاء الأظافر ووضع أقنعة التجميل على وجهها ، استسلمت لكل هذا ربما لتلهي نفسها عن فكرة التفكير به وفيما سيفعله الآن بوقته الخاص !
حل الصباح بعد ليلة طويلة قضتها حياة يقظة إلى قرب الفجر برفقت المساعدات وهي تنغمس مستمتعة في اللهو الأنثوي المُحبب لكل فتاة ، لم تنم إلا ثلاثة ساعات حتى أيقظتها المسئولة عن صورتها النهائية لتكتمل إطلالتها ..
نهض عاصي بحماس وبعد ما مارس ساعته الرياضية أخذ حمامه الدافئ وارتدى بدلته الفخمة ونفث عطره المُفضل ثم طوق يده خاتم من حجر العقيق الأسود حتى تفقد هيئته الأخيرة برضا تام .
مرت الساعات سريعًا حتى جاء ميعاد الاجتماع ، طرق يسري الباب حتى فتحت له أحد الفتيات التي أخبرها :
-قولي للهانم عاصي بيه بيستعجلك .
ارتدت حذائها العالٍ متحمسة للجو الجديد الذي ستعيشه ، ألا وهو جو الأميرات الذي رافقها طوال ليلتها ، خرجت من الغرفة في كامل أناقتها وقالت بشموخ :
-أنا جاهزة .
شوشت عيني يسري إثر جمالها الخلاب الذي أشرق مرة واحدة ، انبهر يسري بأناقتها وقال مشدوهًا :
-تمام ، اتفضلي !
تقدمت أمامه كسُلطانات العصر العُثماني حتى وجدته ينتظرها في بداية الممر ، هلت بنيتها المصنوعة من نورٍ أمامه فـ شلت جميع أعضاء جسده إلا عيناه التي تفحصتها من رأسها للكاحل ، لم تكن امرأة مُلفتة للعين فقط بل كانت مُلفتة للروح أيضًا ، تخطت تلك المسافة بهدوء حتى وقفت أمامه قائلة :
-أنا وافقت بس أجي معاك مقابل أنك صالحت عالية !
ضغط على شفته السُفلية مُحاولًا تمالك أعصابه ، أشار ليسري برأسه كي ينصرف ، ودار هو الأخر متوجهًا نحو مقصده ، تابعت خطواته بغرور المرأة العربية وسألته بفضول :
-ليلتك كانت حلوة امبارح ؟
تبسم بمكر لما أحس بنجاح مُخططه ولكنه تعمد الضغط على عروق استفزازها وقال بجمود مُفتعل :
-عرفتي منين !
بادلته بضحكة باردة وقالت :
-ماهو يُسري قال لي !
-يُسري ده ابن جنية ! الوحيد اللي بيعرف يظبط مزاجي كويس أوي !
أصدرت إيماءة ساخرة وهي تقول :
-اه قولت لي ! ما هو باين !
توقف الثنائي على باب المطعم الذي سيُقام به الاجتماع وقال :
-أنتِ مضايقة من حاجة !
ردت بتلقائية وهي تبادله بابتسامة مُجاملة :
-إطلاقًا ، وحد بردو يقدر يضايقني و أنت موجود !
هز رأسه بإعجاب وهو يطيل مدققًا بتفاصيلها النارية حتى قالت بتصنع :
-أنا محتاجة اروح التواليت.
أشار لها على المكان ثم أشار على الطاولة التي سينعقد عليها الاجتماع وقال :
-هرد بس على تليفون مهم ، متتأخريش .
ذهبت حياة وهي تقدفه سرًا بالكثير من السبات واللعنات المتكدسة بصدرها نحوه حتى جهرت بحنقة :
-أغرب منه ما هشوف في حياتي !
على حدة يقف عاصي جنبًا ليجري مُكالمة مهمة جدًا بالنسبة له حتى تفوه مُتسائلًا :
-قول اللي عندك بسرعة .
أجاب المُتصل بثقة واتزان :
-اسمها رسيل قنديل المصري ، باباها صياد كبير ومشهور في سواحل الغردقة ، واتوفى في الحادثة اللي غرقت المركب فيها ، عندها أخين ولسه بيدوروا عليها ، مقدمين بلاغ في كل أقسام الغردقة .
هز رأسه متفهمًا حتى أردف بحدة :
-تمام ، عايز تقرير دقيق عن عيلتها وكل حاجة عنها ، مش عايز معلومة صغيرة تعدي من تحت أيدك ، ٤٨ ساعة يكون ملفها تحت أيدي .
على المُقابل خرجت ” حياة ” من المرحاض وهي تلملم في فُستانها الطويل الذي كاد أن يهوى بطولها حتى سقطت بين يدي رجل أحست بأنها تعرفه جيدًا ، ذو ملامح مألوفة لها ولكن كان قلبها يحمل النفور منه ، حتى تفوه مصدومًا :
-سيــلا !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!