روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل العاشر 10 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل العاشر 10 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء العاشر

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت العاشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة العاشرة

” رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
(10)
-أردت أن أخبرك بأنك أول وآخر شخص أحببته ، و أنك أجمل ما جاءت به الصُدف ، و لكنك صِرت منبع أعمق جرح بقلبي .. كُنت أخشى أن افقدك ، و بالفعل فقدتك !
كنت أخاف أن تكون لـ غيري ، و لقد كنت !
كُنت أهاب الليل بدون صوتك ، والآن أنا وقلبي فريسة له !
لقد حدث كُل ما خشيته معك !
ليتني خشيت قُربك آيضًا لعلك كُنت لي ، وكانت كلماتي تُبعث لك وحدك !
نهال مصطفى .
••••••••••••
لا يوجد شخص حزين بل يوجد شخص نهض فـ لقي نفسه بمكان لا ينتمي إليه ، مكان لا يشبهه ولا يتطابق مع أحلامه الوردية التي أراد أن ينتشلها من بساتين الواقع ! ولكنه تفاجأ أن الواقع ما هو إلا صحراء قاحلة لا ينبت فيها سوى صبار شائك ، صبار مرر مذاق الرحيق بفم حشرة ، فما سيفعل بقلوبنا الهشة ؟!
جففت عالية دموعها وقبلت كف ” تمـيم ” بحنان ثم ردت بوهنٍ :
-أنا موافقة ، متشغلش بالك بيا ، لا أنا ولا أنت هنقدر نقف قصاد ماما وعاصي !
بنبرة قاسية كمن يسير ضد التيار أخبرها :
-أنا معنديش اللي أخسره يا عالية عشان نستسلم لـ لوي الدراع ده !

 

ربتت على ركبته بكفٍ مرتعش وجفون ذابلة :
-ولا عندنا اللي نكسبه عشان نحارب عشانه !
رد مُتصديًا لخضوعها :
-بس أنتِ عمرك ما كُنتِ بالضعـف دا ! جرى لك أيه ؟!
بلعت غِصة أحزانها و أردفت بنبرة مُبطنة بالبكاء :
-زي ما قلت لا عندنا اللي نخسره ولا اللي نحارب عشان نكسبه ، نجرب نمشي مع القدر المرة دي ، ونشوف هيوصلنا لفين !
جن جنون تميم من إذعانها و تثبيطها وقال :
-أنت مُدركة أن دا جواز وبالليل هتروحي مع راجل عمرك ما شوفتيه .. دا من نسل المحلاوي ، هيطلع أيه غير تِعبان زيهم !
أومأت برضاء :
-يبقي مبعدش كتير ، طلعت من حجر الأفاعي وروحت حجر التعابين ، ريح نفسك يا حبيبي ، أنا خلاص رضيت بنصيبي ، مهما كان الجاي صعب ، فـ أنا شوفت الأصعب منه .
ثم جففت دموعها المُنخرطة وأجهشت بنفضة البكاء :
-ماما وعاصي قـٰتلوني النهاردة ، و مفيش مٰيت بيتوجع !
تجلس شمس في الزاوية تسح بدموع العجز والضعف على حالة تلك المسكينة التي سقطت في بئر الظلام الذي لا نجاة منه ، تشعر بنفسها مُكبلة الأيدي ، مغلولة الأقدام ، لم تمتلك سوى قلبًا يمكنها أن تغير به منكرًا وهي تناجي ربها أن يشق لها طريق نجاة من محيط الغرق الذي لا رجوع منه .

 

•••••••••
فرت العصفور من سباق النسور محتميًا بأجنحة الفراشات ، وهذا ما فعلته ” حياة ” تركت ساحة القتال بأكملها وعزمت أن تقضي يومها مع داليا وتاليا ، الثنائي الجميل الذي هون عليها مصائب والدهم ، بعد ما تناولن طعامهم سويًا مع مداعبات وملاطفات ” حياة ” الجميلة والركض واللعب معًا حتى تناست داليا وجعها وباتت تركض معهن بالحجرة ويمرحن كأن الكون لم يحمل إلا ضحكاتهن .
اقترحت ” حياة ” فكرة جديدة ثم سألتهم وهي تأخذ نفسها بصعوبة من شدة الركض :
-أيه رأيكم نقرأ استوري من دول !
قفزت تاليا بحماس وهي تصفق :
-بجد ! طبعًا موافقين ، كان نفسي أوي بابي يجي كل ليل يحكي لنا ، بس هو دايما مشغول !
التوى ثغر ” حياة ” بسخرية وهي تربت على كتفها برقةٍ :
-معلش يا حبيبتي ، بابي حِمله تقيل وبيشقى !
ثم حمستهم قائلة :
-يلا يلا نختار أستوري .
هنا اقتحمت ” نوال” الجليسة الخاصة بيهم الغرفة فوجدتها مقلوبة رأسًا على عقب ، ارتدت نظارتها البصرية وأخذت تتفقد الغرفة بذهول وزمجرة ، لاحظت ” حياة ” انكماش الفتيات واحتمائهن بها ذعرًا من تلك السيدة ، بعد ما انتهت من حملة استكشافها للمكان نهرتهم بقسوة :

 

-مين فيكم عمل كدا ، لو محدش اعترف أنا هعاقبكم أنتوا الاتنين .
استعجبت “حياة” من قسوة وتجبر تلك السيدة التي لا تتجاوز الثلاثين من عمرها وقالت لها بلوم وصوت قوي :
-أنتِ بأي حق بتكلميهم كدا ! وبعدين ما تتقلب الأوضة ، هو يعني جاي لها تفتيش من وزارة الصحة !
تسمرت ” نوال ” في مكانها غضبًا من تلك الطريقة الجافة التي وبختها بها ” حياة ” والتي تتعارض مع مبادئها ، فـ أجابتها بإغتياظ :
-لو سمحتِ يا مدام سيبيني أشوف شغلي ، البنات لازم يتعودوا على النظام !
أحست ” حياة ” بهلع وتشبث الفتيات بها ، كأنهم يترجوها بألا تتركهم في وجه العاصفة بمفردهم ، تقوت ” حياة ” أكثر ثم قالت لها :
-من اللحظة دي مالكيش شغل هنا !
ضبطت ” نوال ” نظارتها وقالت بتجاهل :
-بصفتك مين ! أنا هنا بنفذ تعليمات عبلة هانم وبس !
عقدت ” حياة ” ذراعيها أمام صدرها وقالت بتحدٍ :
-يبقى تنزلي تقولي لعبلة هانم أن …
ثم سكتت للحظة مترددة بنطق الكلمة ولكن لا نجاة إلا بها فـ أكملت مجبورة :
-أن دي تعليمات مِراة ابنها .
دارت حرب الأعين بينهن حتى انهزمت نوال وانصرفت مجبورة من الغرفة ، وبمجرد رحيلها عَمت فرحة الفتيات في الغرفة مرة اخرى وهن سعداء بما فعلته ” حياة ” بـ ” نوال” ، تبسمت الأولى بجهل ثم سألتهم بضحك :
-أيه حكاية الست دي ؟!
••••••••••••••

 

مرت عقارب الساعة بسرعة حتى غربت شمس الأمل ، وحل ليل الحقيقة المؤكدة .. تجلس ” عالية ” أمام المرآة تراقب حُفر الحزن على وجهها بعجز تام على ترميمها ، تنهدت بحرارة التعاسة وقالت لنفسها :
-كي تنجو من الأيام عليك ألا تعلق قلبك بشيء ، أبسط يدك عن متاعها وأقبل عليها بقوة مُحارب في ساحة القتال .
لمت شعرها الناعم بلفة محكمة في آخر رأسها على صورة كعكة وأدلت خصلتين على وجهها محاولة منها لإخفاء تجاعيد الخَيبة بدون أي مستحضرات تجميل .
تعمدت ارتداء فستانًا طويلا من الشيفون مُبطن ذو أكمام واسعة منتهية بمعصم مطرز بحبات اللؤلؤ ، نصبت قامتها الفرعاء تتفقد هيئتها بحزن وخيم وبثت لنفسها وميض من الصبر :
-الله يجمعنا بأشخاصٍ كي يغير مصائرنا !
ثم اتجهت ناحية الشرفة تتفقد السماء ثم رتلت بخفوت :
-أنا واثقة أنك معايا ، ومطمنة بإيماني بك ، هون عليا الأيام الجاية .
تحولت حالة الفزع والرُعب عن عالية والخوف من المجهول إلى فرحة وسرورٍ لـ قلب جيهان وابنتها ، التي تتزين بالعديد من أدوات التجميل ، ترتدي فستانًا يظهر من تفاصيل جسدها أكثر ما يُستر ، ترتدي أثمن المجوهرات ولم يخل كل هذا من تصوير تلك اللحظة ومشاركتها مع جمهورها على منصات التواصل الاجتماعي !
انبهرت جيهان بجمال وفخامة ابنتها المُتزينة و عبرت :
-عاصي لو شافك كدا هيخٰطفك من وسطنا ، قمر يا روح مامي !
قفزت بين ذراعي أمها وقالت بسعادة منشودة :

 

-حاسة قلبي هينط من مكانه ، بجد مش مصدقة ، ياااه وأخيرًا هابقى حرم رجل الأعمال الملياردير عاصي دويدار ، أنت متخيلة طاقة القدر اللي اتفتحت قدامنا .
ربتت جيهان على ظهرها ثم أشارت لمساعدتها أن تخرج حتى أكملت حديثها بأريحية مع ابنتها :
-عايزاكي تنسي كل حاجة الليلة ، وتنسي عاصي دويدار اسمه ، عايزاه يبقى زي الخاتم في صباعك ، ومتشليش هم البنت اللي جايبها هخلصك منها !
قبلت أمها بشدة ثم هللت :
-أنت أعظم أم في الدنيا !
ربتت على كتفها ثم قالت :
-يلا كملي لبسك ، وأنا هكلم مُراد اشوفه فين !
••••••••••••••
وصل عاصي بعد يوم طويل من الدوام والعمل في شركته عائدًا إلى غُرفته ليُبدل ملابسه متناسيًا ما ينتظره تلك الليلة ، مجرد ما فتح باب غُرفته فوجيء بالزينة والورود وغيرها من التفاصيل التي بدلت شكل غُرفته ، تجاهل كل هذا وتجولت عيناه باحثة عنها ، تفاقم الفضول حول أمرها بصدره متسائلًا إلى أين ذهبت !
ظل يفتش عنها كمن يبحث عن أثمن مجوهراته مبررًا لنفسه أنها لا تشغله ولا تعني له أهمية ، بل يود أن يثبت لها ليس هو الرجل الذي يُرفض من فتاة ، يؤكد لها أنها لا تهمه بقدر انتقامه منها وأنها مجرد لحظات من الاشتهاء لكل ما يتمنى ، أراد أن يرضي غروره الذي حطمته أنثى لم يقابل مثلها من قبل ، كانت جميل ومثيرة ولكنها بمذاق الليمون ، الذي يغرك لونه وينتقم منك بطعمه !

 

التفت ناحية طرق الباب ، فـ سمح للطارق بالدخول ، ألقت أحد الخدمات جملتها :
-عاصي بيه ، المأذون وصل تحت .. وكمان مُراد بيه وعبلة هانم في انتظارك .
رد باختصار دون الإكتراث لتبديل ملابسه :
-جاي ..
ثم استوقفها متسائلًا :
-هي فين ، قصدي حياة فين !
أردفت الخادمة بهدوء :
-حياة هانم مع البنات في أوضتهم .
أشار لها بالانصراف من أمامه ، ثم تحرك هائمًا بدون تفكير صوب المكان الذي يحويها بين جدرانه ، تحرك بهيبته وصلابته وملامحه المنكمشة ناحية غرفة ابنتيه التي لم تطأها أقدامه إلا نادرًا ، وقف أمام باب الغُرفة للحظات يلملم فيها حُطام كبريائه ثم فتح الباب بدون إذن مسبق .
تسمر مكانه عندما وجدها نائمة كحورية البحر وبجانبها كلا من تاليا وداليا على الفراش الصغير تحتضن الكتاب والفتيات بجوارها غائصة في سبات عميق .. سحبته أقدامه إليها و بقُربها شاردًا يتأمل تفاصيلها بعناية شديدة ، شعرها المُنسدل من جانب الفراش وتلامس الأرض أطرافه ، صفاء بشرتها وهدوء أنفاسها كمن ينعم بالسلام الأبدي .
تصلبت تعابير وجهه و اجتاحته رغبة شديدة في حملها والانتقام منها عن أفعالها التي راودت بها ذكوريته ! تحكم في نفسه متذكرًا تجبرها وعنادها الذي لا يعلم من أين نبتت تلك الأنياب من حمامة رقيقة مثلها ، تحمحم بخفوت ثم تراجع عن هواجسه الشيطانية وغادر الغرفة بثبات ثم أطفئ الأنوار وفارق الغرفة ولكن صورتها الملائكية لم تفارق ذهنه للحظة .
جلس الجميع في ضيافة ” المأذون ” ما عدا عالية وعاصي الذي لا يريد رؤية مُراد ، حيث تسلل إليه بعض وخزات الندم ! وما الذي سيفعله ! أ يضع يده بيد أعدائه ! ويسلمه أخته ؟! أن ينسب لاسمه إمراة تنتمى لعائلة المحلاوي !

 

غسل وجهه عدة مرات ثم ألتفت على صوت عبلة معاتبة :
-أيه يا عاصي ، يلا يا حبيبي هنتأخر والرجل عنده مواعيد تانية !
-قلت جاي !
-بسرعة لحد ما أشوف أختك ، يلا خلي الفرح يدخل بيتنا !
في تلك الساعة تعمد تميم أن يأخذ جرعة أدويته كاملة كي يهرب من واقع عاجز أن يغيره لـ نوم يخلد به بارتياح بعيدًا عن ذلك الصخب ، أما عن شمس تقف أمام الشُرفة تطالعه بحزن يفاقم حزنها عن رفيقة أيامها القليلة التي ستُكتب على اسم رجل لم تراه من قبل بعد اتهامها بأبشع الاتهامات .
••••••••
تجمعت العائلة حيث عاد كريم من رحلته الجامعية بلهو دون أي يبالي للأمر بشيء ، فوجد الحشد العظيم مجتمعًا ، اتجه نحوهم بفضول رهيب وهو يعلق :
-هي القيامة قامت ولا أيه ! مُراد وعاصي على كنبة واحدة !
غمزت له جيهان بتحذير كي يصمت ، ثم تدخلت عبلة موضحة :
-تعالى يا كيمو ، النهاردة كتب كتاب مراد وعالية ، وعاصي وهدير !
وقف مصدومًا للحظات يدرك فيها ما سقط كالصاعقة على آذانه وقال :
-سبحان مغير الأحوال !
زفر عاصي بامتعاض :

 

-خلصنا يا مولانا !
ثم ألتفت الجميع على خطوات نزول عالية الهادئة التي تحمل العديد من التردد والذعر ، انفرجت أعين مُراد انبهارا بجمالها ورقتها وهدوئها ، أحس بأنه أمام فتاة الأحلام ، تصلبت تعابيره عندما تذكر تلك الفتاة التي أبدى إعجابه بها من قبل وقت الحفل ، فأحييت رؤيتها دقة جديدة بقلبه إليها .. أخذ يتدبر خطواتها وتفاصيلها الساحرة بخشوع وصدمة في آن واحد .
أما عنها فلم ترفع عيونها عن الأرض ، لم يجبرها الفضول حتى لاختلاس نظرة من ذلك الشخص الذي ستكتب على اسمه بعد دقائق ، هتفت جيهان بترحاب :
-أهي عروستنا جات .
جلست عالية بجوار أمها والدموع تفر من عيونها بانتفاضة تحاول أن تخفيها ، بدأ المأذون في مراسم الزوج ، ثم طلب من عاصي أن يضع يده بيد مُراد ، تحولت ملامحه وعيناه إلى جمرٍ مشتعل ، مد مُراد يده بحماس وانتصار ، فكر عاصي للحظات طويلة حتى تلاقت أعينه بعيون عالية المحمرة من كثرة البكاء وهي تترجاه ألا يفعل ذلك ، ولكنه تجاهل وجعها وأكمل ومد يده مُرغمًا ووضعها بيد مُراد وبينهم نظرات اللهب المتبادل وكل منهما يردد ما يطلبه المأذون منه .
اختلج قلب عالية عندما أعلن الشيخ داعيًا :
-بالرفاء والبنين .
أجهشت ببكاء مسموعٍ لفت انتباه الجميع ، حتى مراد تحير أكثر من سبب حزنها ولكنه تجمد في مقعده يُراقبها بعيون فاحصة ، بررت عبلة دموع ابنتها على أنها دموع الفرحة وهي تضغط على كفيها بقوة كي تصمت وتتوقف عن ذلك الهراء .. وقالت لها :
-يلا قومي امضي …. زغردي يا سيدة !!
أعد المأذون الدفتر الثاني لإتمام مراسم زواج هدير وعاصي ثم طالع البيانات وسأل هدير :

 

-مين وكيلك يا عروسة !
انكمشت ملامح هدير بعناد وقالت بصرامة :
-محدش وكيلي ، أنا وكيلة نفسي !
تفجرت حُمرة الغضب بوجه مُراد ، ثم وثب قائمًا بفظاظة بعد ما رمق أخته بنظرات الخسة وقبض على يد عالية بدون انذار مما جعلها تشهق من هول الصدمة ، صرخت بوجهه ممتنعة الذهاب معه ولكنه لم يستمع لتأوهاتها بل جذبها رغم عنها بقوة .
عائق المصور طريقهم :
-مراد بيه الصور عشان …..
قطعه قبل ما يستمع لمزيد من الكلام وازاحة بقوة من أمامها وجر عالية خلفه وهو يضغط على كفها بقسوة .. أخذت تترجاه أن يتوقف ولكن هدير أشعلت به نار لا تنطفئ ، دفعها بداخل سيارته فأدركت أنها أمام وحش أخر ، انكمشت في باب السيارة برعب وما أن جلس بجوارها سألته :
-أنت واخدني على فين !
تجاهل مُراد سؤالها ومال للوراء متخذًا انفاسه بصوت مسموع حتى هدأت تدريجيا ، أخذت تترقبه بخوف كمن يراقب ملك الموت قبل أن يقبض روحه ثم تذكر جملة أبيه الأخيرة وأوصاه :
-رجع حق أبوك من شهاب دويدار ، أوعي تسيب حقك يا ابني .
ولي وجهه لينفجر بها ولكن ملامحها الملائكية جعلت كلماته الشيطانية ترتبك بفمه وتفر هاربة مع ذيول غضبه حتى أردف بصوت هادئ لا يعلم من أي جهة تسرب إليه وقال :

 

-مش عايز اسمع كلمة زيادة لو سمحتي !
تفهمت الأمر وهزت رأسها بالموافقة ثم استدارت منكمشة بباب سيارته مستندة برأسها تبث شكواها للطريق، انطلق مراد بأقصى سرعة من ذلك القصر الذي لا يتحمل النفس به .
رفضت “هدير” أن يقوم أحد بوكالتها وزوجت نفسها لعاصٍ دون ذرة حياء واحدة ، لقد فر الخجل من مضجع وجهها .
سكوت عاصي كان مثير للشك والغرابة ، هدوئه وعدم تمرده على جميع تلك الأحداث فتح باب العقل الآلاف من الاسئلة ، بمجرد ما انتهت مراسم الزواج وقبل انصراف المأذون والشهود ، التصقت هدير بعاصي وأخذت تلتقط معه العديد من الصور والمقاطع .. والمثير للدهشة أنه كان متناغمًا معها للحد الذي ظنه الجميع أن بينهم قصة حُب عملاقة .
تسلل عاصي من حصار هدير وذهب إلى أمه قائلًا :
-كدا نفذت طلبك ، الدور عليكِ .
وثبت قائمة وقالت له باستهجان :
-وأنا عند كلمتي ، اتبسط مع عروستك ، وبكرة الصبح هروح مع المُحامي واتنازل لك عن نصيبي .
تكورت يده من شدة الغضب ، وسرى الضغن مجرى الدم بعروقه ولكنه تحكم بأعصابه بصعوبة وقال بابتسامة مزيفة :
-تمام !
فوجئ بذراعي هدير تحاوط كتفه من الخلف وقالت بدلالٍ :
-هستأذنك يا لبلبة ، عاصي الليلة دي بتاعي وبس .
وضع يده في جيبه كاظمًا غيظه ثم قال برسمية :
-عندي شغل هخلصه واجي لك ، اطلعي نامي أنت !
لفت ذراعها حول ساعده وقالت مترنحة :
-مفيش الكلام دا ، الليلة ليلتي !
أردف جُملته الأخيرة بحدة ألجمتها :
-هدير قلت اخلص شغلي .

 

ثم سحب ذراعه منها متجهًا نحو مكتبه ، مما ألقى جمر الغيظ بـ هدير وجيهان التي رمقت خالتها بأسهم الدهشة من تصرف ابنها ، تفادت عبلة الموقف مبررة :
-معلش هو عنده ضغط شغل جامد اليومين دول ، اطلعي فوق استني جوزك يا حبيبتي ، والصبح طمنيني ، عايزاكي تكسبي عاصي ، وبلاش النكد بتاع جيهان ! فهماني !
استسلمت هدير لكلامها وصعدت إلى جناحه بالطابق الثالث ، ثم وجهت عبلة حديثها لجيهان :
-متقلقيش ، بكرة هتصحي تلاقي وشهم زي البدر ، و طايرين من الفرحة .. المهم نلحق نشير صور عالية ومراد عندنا ، عشان ابن المرشدي يخف تهويش .
•••••••••
صف مُراد سيارته أمام المبني المُقيم به ، ثم قال بنبرة معاتبة :
-أنتِ ناوية تباتي هنا ولا ايه !
خفق قلبها برعبٍ :
-هااا !
في تلك اللحظة اشتعلت شاشة هاتفه معلنة وصول رسالة ما ، فتح محموله فـ وجد رسالة من رقم مجهول ، ضغط لتحميل الصور ورؤيتها ، إذًا بصور عالية التي سبق ونشرتها هدير ، بما فيهم ما اعترف به ابن المرشدي بعلاقتهم الزائفة ، أخذت عيونه متنقلة بين الهاتف وبينها وهي شاردة بالطريق ، ترمد الغضب في جمره لأنه ظن أنه وقع في مكيدة آل دويدار من

 

جديد .
قفل هاتفه وحاول ضبط نبرة صوته وقال آمرًا :
-يلا انزلي !
ترجته عالية بدموع العجز :
-لو سمحت أنا عايزه أروح .
فك حزام الأمان ولملم أشياء وهبط من سيارته بجمود مصطحبًا بصوت قفل باب السيارة الصاخب ، متجهًا إليها ، فتح بابها ومال ليحررها من حزام الأمان ممسكًا معصمها بعنفوان و أنزلها من السيارة رغم عنها .
نهرته محتجة وهي تحاول أن تحرر يدها من قبضة حصاره القوية :
-أنت مجنون ! بتعمل ايه !
التزم الصمت التام ، وسار بخطوات واسعة نحو المصعد دون التفاتة واحدة منه ، تأوهت من شدة قبضته ولكن ذلك لم يحرك ساكن بداخله ، بمجرد ما فتح باب المصعد دفعها بقوته للداخل حتى ارتطم كتفها بأحد زواياه وهي تصرخ معترضة :
-أي الأسلوب دا ! أنت اتجننت !
ثم خبطت بقوة على جدران المصعد مزمجرة :
-بقول لك روحني .. أنا مستحيل أقعد معاك في مكان واحد !
استقر المصعد أمام الطابق المقصود ، ركل مراد الباب بقدمه ثم جرها كما تُجر الأغنام خلفه وفتح باب شقته وبكل قوته وشحناته الغاضبة من آل دويدار دفعها للداخل حتى ارتطم جنبها بالمنضدة ، فـ اندلع من جوفها صرخة مرتفعة دوى صداها في جميع ارجاء جسده وهي تسيح بعبرات الألم والذعر معًا :
-أنت عايز مني أيه !حرام عليك أنا أذيتك في أيه ؟!

 

ملامحه الثابتة الجامدة تبدلت مرة واحدة لملامح حيوان شرس ، تجاهل ضعفها وألمها ، انقض على ذراعيه وكفتهما وراء ظهرها ، و درأها بقوة تحت حصار يديه حتى وصل إلى المطبخ ، فألقاها كمن تُلقى النفايات صارخًا بوجهها :
-الواضح أن مفيش حد في عيلة دويدار نضيف !
ثم جثا على ركبتيه وعلى عيناه ضبابة الغضب التي أعمته عن رؤية دموعها وصرخاتها التي يلين لها الحجر ، لف شعرها على كفه وشده بقوة مما جعلها تتلوى بوجع إمراة آتاها طلق الولادة للتو ، ثم زمجر غاضبًا :
-أوعي تفتكري أنك هنا عروسة ومراتي والجو دا ! لا انسي ، أنت هنا خدامة تحت رجليا ، مهمتك هي التنضيف ، صوتك مش عايزة اسمعه ، الشارع ما يشوفش ضلك .
ثم ضغط أكثر على شعرها وقال باشمئزاز :
-حتى السرير خساره فيكي ، أنت تتلقحي هنا في المطبخ دا أخرك ، كل يوم هتيجي واحدة هنا تخدميها وتنفذي كل طلباتنا ، عارفة الذل ! أنا هوريكي أيام الموت بالنسبة لها رحمة ليكِ !
ثم دفعها بشروره حتى ارتمت على الأرض تتضور وجعًا وهي تنكمش حول نفسها كـ طفلة غدر بها الطقس وأمطر ثلجًا وهي لا تملك معطفًا ولا بيتًا يأويها .
انطلق مراد وقفل الباب بالمفتاح ثم ذهب إلى غرفته ونزع كل ملابسه وأخذ يفجر بقايا غضبه ” بكيس المُلاكمة ” المُعلق وهو يزأر كأسد جائع في غابة خالية من الحيوانات .
••••••••••••

 

انهى عاصي شغله الذي تحجج به للهروب من براثين هدير ، ثم تناول جاكيته وألقاه على كتفه و غادر مكتبه ، ذهب إلى الطابق الثاني حيث قادته أقدامه إلى الغرفة التي احتوت مصدر هزيمته الأولى ، وفتح الباب برفق ، فوجدها تقف أمام الشُرفة ويداعب نسيم الهواء شعرها ، شاردة ، تائهة في عتمة الليل تحاول أن تتذكر أي شيء ولكنه بدون فائدة .
اقترب منها بخطوات هادئة إلى أن وقف وراءها وقال :
-مشيتِ ليه من الأوضة !
دارت نحوه بذراعيها المُنعقدة ثم قالت بهدوء :
-سمعت أنك عريس الليلة ، مبروك !
ثم دنت منه خطوة وقالت :
-أظن لعبتنا انتهت يا عاصي بيه ، ووجودي بقا زي عدمه !
شعر بغصة علقت بحلقه لا يعلم مصدرها ولكنها تجاهلها بسرعة وقال :
-مين قال انها انتهت ! الشهر لسه مخلصش !
-ممكن اسألك سؤال ، اشمعنا أنا ، وليه ! شايفة أن مكانتك مستاهلش التمثيل والكذب ده ، هو في حاجة تانية مخبيها ! أيه هدفك فهمني !
ظلت تُرمقه بنظرات خرساء منتظرة رده على أي سؤال منهم ، ولكنه غرق بدوامة عيونها ، ‏يحدث أن تُصادف إمراة ثم تتوقف أمامها وتتحسس صدرك كأنك تخشى أن ينكأ بـ جرحٌ ما حاولت أن تضمدته لأعوامٍ .. ملت من انتظاره ثم قالت بنفاذ صبر :
-أنا عايزة امشي ! كفاية أوي كدا !
-تمشي تروحي فين ؟!

 

جزت على فكيها بصوت خفيض كي لا يفيق بناته ثم قالت :
-أيه مكان ! المهم بعيد عنك ، ما بقتش عايزة أشوفك قدامي ! أول ما بشوفك بتعصب .
تجرأت على كبريائه وهيبته ولكنه لم يستمع كل هذا صمت متأملًا تراقص شفتيها اللاتي يود تذوقهم حتى ولو كانا يحملان علقم كلماتها ، مال على آذانها وقال بهمس :
-مش لازم كل شوية افكرك ، أنك حامل في ابني !
صمتت الالسن وانفجرت برك الأعين من جموده وجحوده فـ زفرت بوجهه بغيظٍ :
-مستفز !
ثم عادت لتطالع السماء مرة آخرى فلم تتحمل النظر بعيونه الشرسة التي تغتالها أكثر من ذلك ،تشعر كأنها تركض فـ حل مستديرة يملأها الخوف والغموض ، ما أن ألقت نظرة خلفها فـ وجدته انصرف من وراءها ، تنفست الصعداء ثم ركضت لـ تغلق الباب خلفه وهي تكلم نفسها :
-دا مصنوع من أيه ! هو في ناس كدا ؟!
صعد عاصي إلى غرفته فوجدت عروسته في انتظاره ، تهيأ له ليلة رومانسية على ضي الشموع ورائحة الورود ، مجرد ما رأته ركضت نحوه مدللة:
-كل دا تأخير !
حاول التملص منها ولكنها لم تمنح له الفرصة باتت ملازمة له كظله ، مثلما رافقت رأسه ذكرى “حياة” ، أخذ يتحجج و يتهرب منها كي تتركه ولكن بدون فائدة وهنا سقطت عيناه على المكان الذي هشمت فيه تلك المراة غروره وأعلنت رفضها صراحة له ، ظل يبلل حلقه بالكثير من المياه ثم النبيذ الذي أحضرته هدير بعد تناوله الطعام ، فـ بات يتجرع كأس وراء الأخر كي يتناسى ذكراها وما فعلته بـ رجولته ، أصبحت كـ شبح يطارده في الظلام يريد أن يتخلص منه .

 

وفي تلك اللحظة التي خضع فيها تحت تأثير خمره وذاكرته انعدمت الرؤية الصحيحة أمامه ، وبدأت عيناه تراها أمامه بدلًا من هدير ! لم يدرك كم الانتقام الذي خيم فطره على قلبه ليثبت لها بأنه رجل ضد الرفض ، ولكن خدعته ملامحها تلك المرة وهو يرمق هدير بنظرات الاشتهاء التي تجسدت أمامه في صورة ” حياة ” وهنا توقفت عقارب الساعة وشنت لحظة الانتقام لضحايا كبرياء رجل اغتالتها اهداب امراة ، وكانت تلك المشاعر كلها من نصيب هدير التي ذابت فيه حبه الكاذب وتأكدت منه .. مما جعلها تفيض بوميض الفخر والانتصار واكتسابها الأبدي لعاصي دويدار .
انتهت ليلة قاسية على الجميع ، كل منها يتقلب على جمر همومه المُختلفة ، فلا يوجد ناجٍ من مخالب الأيام ، استيقظ عاصي على صوت رنين هاتف ، فتناوله بتكاسل وصداع ينخر برأسه مجيبًا :
-أيوه يا يسري !
هلل يسري فارحًا :
-اسف على الازعاج معاليك ، بس حبيت أكون أول حد يبارك لك .
زفر عاصي بضيق :
-اخلص يا يسري !
صعد يسري سيارته بعد ما ودع المحامي وقال له :
-مبروك علينا مجلس الإدارة.. عبلة هانم والمحامي خلصوا كل حاجة .
تنهد عاصي بارتياح وهي ينهض من فوق مخدعه متحمسًا :
-عفارم عليك يا يسري .

 

فوجئ بهدير تتلوى حول كتفيه كالحية وهي تقبله بحب ثم قالت له بصوت يغلفه النوم :
-أنت ليه ما قولتش من زمان إنك بتحبني للدرجة دي !
طالعها عاصي بفرحة ثم قبل كفوفها بسعادة ، فتدللت عليه أكثر :
-قول لي بحبك يا هدير !
أبعد كفوفها عنه ثم لبى طلبها قائلًا بشموخ ومكرٍ :
-أنتِ طالق يا هدير .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى