روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الحادي عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الحادي عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة الحادية عشر

“رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
يصف درويش ما بقلبي كاتبًا :
‏أنا لا أبكي ‏كُـلُ ما في الامرِ..
‏أن غبار الحنين قد دخلتْ عيني .
••••••
ما يميز الإنسان عن الحيوان منارة الضمير ، تلك المنارة التي تبقى مُشرقة عندما تغـرب عيون الشخص ويخلد لرحلة الموت الصغيرة ، حينها ينفرد بقلبه مُحارب أمام مُحارب كُل منهما يدافع عن قضيته ، والمُنتصر هو من يتسلح بذخائر الخير وسيف الحق .
أما عنه وعن تَجبُره فـ ضم كل جنود تلك الحرب لـ صفه ، حتى أصبحوا جميعًا يرضخون لـ قوانينه ، التي لا تتحدث إلا عن المصلحة والمكاسب ، وكل ما تحمله العواطف فهو خارج قواعده المُثلى ؛ أردف جُملته الأخيرة بهدوء قاتل لفضول العقل البشري وهو يُكررها مرة أخرى :
-زي ما سمعتي كده ، أنتِ طالق يا هدير .

 

كان وقع الجُملة على مسامعها كـ وقع صدى الكلمات على أذني أمرأة لا تُجيد السمع ، توقف مجرى الدم بعروقها و تثلجث أوصالها وهي تضحك بعدم إستيعاب :
-طالق ! أنا سمعت صح ! أنت أكيد بتهزر .
ثم مررت أصابعها على وجنتيه و بـ رجفة الصدمة تلعثمت الكلمات بحلقها :
-عاصي ! بص لي كده ، أنا هدير ، اتجوزنا أمبارح ، افتكر كدا كل اللي قلته واللي حصل ما بينا ! لا أنت أكيد بتهزر ، أنا مش غبية أنا واحدة ست و عارفة الفرق بين الرجل لما يكون بيحب ، ولما بيتسلى .
أبعد كفوفها عن وجهه ثم مسح على شعرها كـ قاٰتل يحوم حول مسرح الجريمة ليخفي أثارها ؛ عاين عيونها المُتسعة من هول الصدمة و أكمل بنبرة كـ الصراد :
-ونسيتي لما يكون متقل حبتين في الشُرب ! عموما انسي كل اللي حصل دا عشان أنا كمان صحيت مش فاكر حاجة .
دب الجنون برأسها ، عندما تأهب مفارقًا قُرباها ، قفزت من مكانها بملابس النوم الكاشفة وشعرها المبعثر وهي تقف أمامه مستندة علي صدره العارٍ ، توسلت :
-عاصي كفايه هزار بقي ! أنا هعمل نفسي مسمعتش حاجة وكل اللي قلته تأثير الشُرب ، وو تعالى تعالى نسافر أي بلد نغير جو ، أحنا لسه عرسان جُداد .

 

زفر بـ ضيق محاولًا الخلاص منها ولكنها كانت ملتصقة بهِ كـ الجرادة ، دفعها من أمامه برفقٍ وبنبرة حادة أخبرها :
-هدير خلاص ! افهمي بقي أنا مش بحبك ، عيشي حياتك بعيد عني .
تقطرت عبراتها الغزيرة ولكنها لا زالت تحت تأثير الصاعقة التي فاقت عليها ، حاولت الالتصاق بهِ بآهات الترجي والتوسل عير مُتقبلة فكرة رفضه لها ، حاولت أن تُقبله ولكنه مانع ذلك منعًا تامًا ، صرخت بوجهه وهي تلهث :
-بس أنا بحبك ، متعملش فيا كده ! عمري ما اتخيلت أكون لحد غيرك ، أنت لو زعلان مني في حاجة قولي لي ونصلحها وأنا أوعدك هنفذ كل كلامك بالحرف .. أنا زعلتك في أيه فهمني ؟!
فاض صبره منها ثم قبض على مرفقيها بقوة و رجها أمام عينيه لتفيق من ثورة الجنون التي طاحت بعقلها وقال جاهرًا بقسوة :
-هدير فوقي ! أنتِ كنتِ لي مصلحة وخلاص خدتها ، يعني وجودك على ذمتي ساعة زيادة ميلزمنيش ، افهمي بقا .
جتم جُملته كـ صرير الرياح القوي وهو يطير الكلمات من ثغره ثم رماها بقوة في منتصف الفراش دون أن يلتفت لها مهتمًا أو مُشفقًا على حالتها ، اتجه نحو خزانته وهو يطلق صفير السعادة متجاهلًا أمر الزجاجة التي هشمها بدون مقصد .
•••••••••

 

قد يتمرد قلب المرء منا على عيشته وأيامه ، و يفر هاربًا من قسوة حياته إلى نعيم المجهول ، ظنًا منه بأنه اكتسب حصانة قوية يمكن أن يواجه بها ما يقابله ويتغلب عليه أيضًا ، ولكن تلك أكبر خديعة للعقل ، من امتلك القوة حقًا فـ الأفضل له أن يغير بها واقعه الحرج لا يهرب منه ! لأن الفرصة الثانية التي يمنحها العقل للقلب الهارب مُرعبة للغاية ، لـ هول ما تُخاطر به تلك المرة ، إنه عُمرك ! .
فاقت ” عالية ” من نومها على صوت قفل الباب بـ قوة ، كانت راقدة على الأرض بجوار الطاولة الدائرية الصغيرة بالمطبخ ، من كثرة بُكاءها غرقت عينيها في ظلمة النوم كي تستريح قليلًا من نزف الحزن بيهم ، حاولت النهوض بتثاقل وكأن ثقل صخرة فوق جسدها مستندة على أحد المقاعد الخشبية ، أخذت خطوة النهوض منها القليل من الوقت والكثير من الآهات وأنين التوجع .
مجرد ما وقفت على ساقيها لم تتحمل الاستمرار للحظة بل جلست بسرعة على طرف المقعد ممسكة بجنبها الأيمن بقوة فـ لم تستطع تحمل الألم أكثر ، رفعت جفونها الذابلة وأخذت جولة سريعًة في أركان البيت حولها ثم أغمضت جفونها سريعًا كي تمحي ذكراها القاسية .

 

تمردت على عذابها الجسدي والنفسي ثم وقفت بصعوبة بعد ما تحررت من حذائها المؤلم وبدأت رحلة تجولها بـ الشقة الكبيرة باحثة عن المرحاض ، فارقت المطبخ وسارت جهة اليسار قاطعة الممر الطويل الذي كان يختتم بغُرفته ، اقتربت منها بخوف وهلعٍ إثر أنوارها المتقدة ، وما أن وقفت على أعتابها اندهشت لـ فوضى وعبث الغرفة أمامها ، رمقتها بعيون فاحصة وبعقل يُترجم لها ما تشاهده نافيًا انتماءها لجنس بشري ، فـ كانت الغرفة أشبه بحظيرة للحيوانات .
تنفست الصعداء عندما تأكدت من عدم وجوده بالمنزل ، وأنها ستنعم بالحرية لساعاتٍ مجهولة العدد ، ولكنك إذا نجوت من الغرق سيظل الماء يُخيفك باقي عُمرك .
سقطت عينيها على الباب يمينها ثم فتحته فوجدت ما تبحث عنه ، بمجرد دخولها أحكمت قفل بابه بالمفتاح ثم انفجرت بحيرة البكاء من عيونها عندما تفقدت هيئتها بالمرآة ، شرعت في نزع ما ترتديه وإذا ببقع الحزن الزرقاء تملأ جسدها ، أخذت تمرر أصابعها عليهم بشفقة كمن يعتذر لنفسه عما فعله بها .
تدلت أنامها إلى خصرها وبالأخص يمينها الملون بزرقة الظلم حتى أنها عجزت على تحمل الألم به بمجرد لمسه ، قفلت جفونها بخيبة أمل سحيقة ثم تركت أوجاعها للماء ربما تهون تلك الحرائق الناشبة بجسدها .
أما ” بالأسفل “

 

خرج مُراد من جراج البناء العملاق بصوت سيارته الصاخب معانيًا من صداع الذنب بما فعله بتلك الفتاة أمس ، فجأة أوقف سيارته إثر استمرار صوت رنين الهاتف ورنين ضميره ، فأمسك بهاتفها الذي سقط منها ليلة أمس ووجد هوية المُتصل ” تمـيم ” ، ظل ينظر بالشاشة حتى توقف الرنين ولكنه سرعان ما عاد الصوت مرة أخرى ، تحرك إبهامه على الشاشة مُجيبًا على اتصاله ، فأتاه صوت تميم بلهفة :
-عالية أنتِ كويسة ! ألو !
صمت للحظة ثم أجابه بصوت خفيض :
-عايز إيه يا تميم !
انفعل ” تميم ” من فوق مقعده صارخًا :
-مُراد ! اسمعني عالية ملهاش ذنب باللي بينك وبينا ، عالية غيرهم يا مُراد .
زفر مُراد بجزع ثم قال بصوت مُريب :
-أختك كويسة ، حاجة تاني !
نبرته ثارت الحيرة بعقل تميم ثم طلب منه :
-عايز أكلمها ، هي فين ؟
زفر مُراد بضيقٍ:

 

-أنت متصل بـ اتنين عرسان الساعة 10 الصبح ، تتوقع عالية هتكون فين غير في السرير نايمة .
جُملته كانت غريبة وغامضة على أن يستوعبها عقل تميم الذي خضع أمامه راجيًا :
-مُراد طلع عالية من الحوارات دي كلها واللي أنت عايزه أنا هعملهولك !
-اللي عايزك تعمله كُان المفروض تعمله من زمان يا تميم ، بس أنت اللي غدرت ! اااه متتصلش تاني اليومين دول عشان مسافرين شهر عسل .
ختم الحوار بينهم بهذه الجملة ثم أغلق الهاتف نهائيًا ورماه في صندوق السيارة أمامه يتذكر خطايا الماضي التي تعرت أمامه !
جهر تميـم بصرخة قوية بـ اسمه في الهاتف ولكن دون جدوى ، دنت ” شمس ” منهم ثم أخذت الهاتف وطلبت منه أن يهدأ ، فـ ظل يهذي بسبات غير مفهومة حتى ختمها متوعدًا :
-ورحمة أمي ما هـ رحمك يا مراد !
شمس بتحيرٍ :
-ممكن تهدى ! فهمني قال لك أيه ؟!
-قلبي مش مطمن يا شمس ، الهدوء اللي بيتكلم بيه يقلق ، وأصلا تليفون عالية معاه ليه !
تجاهلت شمس أشواك القلق بداخلها وأخذت تطمئنه :
-مش يمكن فعلًا اتفاهموا ؟!

 

عارضها رافضًا :
-مراد لحمه مُر يا شمس ، ومستحيل يتغير من يوم وليلة ، دا تعبان أنا عارفه كويس ، لدغته والقبـر .
أطبقت جفونها كي لا يقرأ وسواس الخوف بداخلهم ثم تنهدت بـ رقة وقالت :
-بس نسيت حاجة مُهمـة ، أن عالية قُريبة من ربنا ، وربنا عز وجل الـ بيتولى أمر “النعاب” بعد ما أبوه وأمه يتخلوا عنه تفتكر هينسى قلب “عالية” الأبيض ورقتها ، أنا وأنت مفيش حاجة في إيدينا نعملها غير الدُعا !
شرد تمـيم في كلامها ثم قال بأسف :
-تصدقي أول مرة أكره عجزي ! كنت بتعامل معاه الأول على أنه رحمة ونجاة من سواد الحياة بره ! دلوقتِ بقى الحديد الـ مكتفني عشان أنقذ أقرب الناس ليـا .
-هصدقك ، كُلنا مر علينا لحظات عجز ، مش شرط يكون جسدي ، ساعات الدنيا بتكتف إيدينا ورجلينا وأحنا بكامل صحتنا ، كل واحد منا جواه جانب عاجز ممكن يكون واضح للناس وممكن يكون مختفي .
بدأت حروف قلبها تفيض بدلًا من حروف لسانها ثم أتبعت بعد لحظات من الصمت تستجدي فيهما قوتها :
-يعني أنت بالرغم من تقيد حركتك ، إلا أن قلبك حُر ، ولسانك وفكرك ، كل حاجة جواك حريتها مُغرية للسلام الداخلي .. في ناس كتير بكامل صحتها لكن عمرها ما لمس قلبها جناح الحرية والسلام .
وجودها هون على قلبه جمر الكارثة التي حالت على قلبه ، حيث ترمد الجمر في سلامها متحولًا لورد ، تأملها بإعجاب شديد ثم قال مُعبرًا عما يحسه :

 

-أنتِ معدنك جميل أوي يا شمس ، بس حظك هو الـ …
ضحكت ” شمس ” مستهلة كـ شروق النور من خلف الضباب وقالت ممازحة :
-ماله حظي بقى !
أجابها بفُكاهةٍ :
-رماكي في قصر دويدار !
تبسمت بـ رقة ثم جادلته قائلة :
-وما نقولش ليه ده من حظك الحلو ! أن لقيت حد يواسيك دلوقتِ .
ثم نهضت من مكانها وتمسكت بـ مقعده المتحرك وأكملت :
-اتعود دايمًا تبص على نص الكوباية المليان !
تحركت بمقعده بدون إذن منه مما جعله يلتفت متسائلًا :
-هنروح فين ؟!
-هننزل الجنينة تحت ، الجو حلو أوي ، وأنت محتاج ڤيتامين D.
•••••••••••

 

عمت الزغاريد المندلعة من جوف “جيهان” وأحدى الخادمات خلفها أركان القصر وهي تسير في مُقدمة الفتيات اللاتي يحملن أشهى المأكولات والمشروبات وغيرها من الملابس الجديدة ، فلم يتوقف الصخب حتى بعد ظهور “عاصي” أمامها بل تضاعف .
بمجرد ما رأته ” جيهان ” عانقته بفرحة عارمـة وأخذت تنفض ملابسه الرسمية كتفيه بحب ورفق وهي تهنئه :
-صباحية مباركة يا حبيب خالتك ! أي سايب عروستك ورايح فين !
بجمود كـ من لا يفعل شيء :
-عندي شُغل والله يا جي جي .
اتسعت عيونها بذهول واعتراض :
-و ده بردو كلام يا عاصي ! يا حبيبي وهو الشغل هيطير !
ربت على كتفها مُسايسًا :
-ساعة وراجع ، مش هطول !
تبسمت جيهان ثم همست له :
-العروسة صحيت ولا لسه نايمة في العسل !

 

وسع الطريق من أمامها وقال بـ براءة :
-طبعًا صاحية ، ادخلي شوفيها ، يلا بعد إذنك .
انصرف ” عاصي ” سريعًا من أمامها ولم تصل أقدامه إلى أرضية الطابق السُفلي فـ تحولت فرحة جيهان إلى صريخ وعويل يطرد ما تبقى من الفرح بجوفها .. لم تتوقف خُطاه عن السير بل أكمل طريقه بـ تجاهل تام مُناديًا على أحد الحرس كي يستعد للذهاب معه .
ركضت جيهان نحو ابنتها صاحبة العيون المتورمة من كثرة البُكاء بعد ما طردت الخادمات و انفجرت بشلالٍ من الاسئلة في وجهها :
-يعني ايه عاصي طلقك ! وليه ؟! أنتِ عملتي له أيه ؟!
ثم ندبت على وجنتيها بجنون :
-يا بنت انطقي بدل ما أنا بكلم نفسي كدا !
تدفق العويل من جوفها وهي ترتمي بحضن أمها وتبث حزنها :
-طلقني يا ماما ، طلقني .

 

-طيب احكي لي طيب حصل ايه ؟! صحى الصبح كدا قال لك أنت طالق ؟! دا كلام يخش العقل !
قنطت من استجواب أمها ثم ثرثرت بوجع :
-ايوه يا مامي صحى الصبح قال لي طالق ! أنا معرفش أيه حصل أحنا كُنا كويسين ، معرفش أيه حوله ..
ثم صمتت للحظات وقالت بغلٍ تحاوطه نيران الشر :
-مامي مفيش غيرها اللي ما تتسمى البنت اللي تحت ، هي اللي كلمته الصبح عشان كدا اتجنن ، وبقى مش شايف قدامه ، هو بيحبني أنا متأكدة ! بس البنت اللي تحت دي هي السبب ، هي اللي خلته يطلقني !
ثم حدجت عيونها بنوايا الانتقام :
-البنت دي لازم تتربى ! لازم تعرف يعني أيه تاخد حاجة تخص هدير المحلاوي ، يا أنا يا البنت دي في القصر .
حاولت جيهان أن تهدأ من ثورة ابنتها ثم قالت ناصحة :
-طيب استني بس هكلم خالتك عبلة ، ونشوف رأيها ، وساعتها محدش هيرحم البنت دي من تحت أيدي .
•••••••••

 

” في حديقة القصر ”
قد يحدث إننا نقطع العديد من الطُرقِ بدون وجهة مُحددة ، أن نتخبط بدروب الأيام و ما تحمله بين يدي الليل والنهار ، همنا الوحيد هو أن نعتاد على خُطواتها المفاجأة ونتقبلها كما هي ، وليس الوصول إلى جهة بعينيها !
جلست “شمس” بمحاذاة تميم وشرع كُل منهما في شغل نفسه بشيءٍ يهمه ، قد استعارت منه أحد الكُتب ، أما عنه انشغل بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي حتى أصابته شهوة الحديث معها مُجددًا ، قفل هاتفه ثم سألها ليشق طريقًا جديدًا للحوار المثير للعقل بينهم وقال :
-غريبة ! سبتي كُل الكُتب اللي تناسب فكركم كـ بنات و أخدتي كتاب عن التاريخ !
سؤاله جعلها تتوقف عن القراءة وهي تقفل الكتاب مُحتفظة بالصفحة التي وصلت إليها وقالت بابتسامة ساحرة :
-وهي أيه الكُتب المناسبة لينا كـ بنات .
تأرجحت أنظاره فوق أشجار الفكر ثم قال برتابة :
-يعني أغلب البنات بتهتم بالرواية ، وقصص الحُب ، والكُتب الرومانسية كمجمل يعني !
تنهدت بحرارة أفكاره وقالت :
-مش بحب أقرأ عن حاجة مش مؤمنة بوجودها !

 

-مش فاهم ! يعني أيه مش مؤمنة بوجودها !
وضعت الكتاب على الطاولة أمامها ثم سردت على مسامعه معتقداتها :
-الحُب أكبر خُرافة يصدقها الإنسان .
ثم التوى ثغرها بضحكة ساخرة و أكملت :
-وبعدين يزعل ويندب حظه لما يصحى من نومه يلقاها مش موجودة ، أو يكتشف حقيقة أنها وهم .
تابع تفاصيل حركاتها بدقة واهتمام حتى غاص بهما مُتحيرًا من أمرها :
-يعني ايه وهم ! الحُب ضروري عشان نعرف نعيش يا شمس !
-معنى كده أن اللي ماحبش مات ! مش بقول لك خُرافة !
توغل في التيه إثر حديثها الغامض وقال :
-أول مرة تقولي حاجة مش متفق معاكِ فيها ، الحُب هو حياة القلوب الميتة !
-وأنت الصادق ، الحُب هو مـٰوت القلوب الحية !
قيس حب ليلى لحد ما مات على قبرها .. عنتر حارب الدنيا عشان عبلة ، روميو وجوليت ضحوا بـ حياتهم عشان الحب ، ومع ذلك الحُب بخل أن يجمعهم حتى لـ ليلة ! دا ليه ؟! لانه وهم ! أنت مستني مكافأة من حاجة ملهاش وجود!
ذاق حلاوة الحديث بينهم ثم قال متحمسًا :

 

-لا شكل الموضوع كبير وأنا لازم أعرفه ، أيه رأيك تروحي تقوليلهم يعملولنا اتنين قهوة ويا تقنعيني يا اما اقنعك النهاردة !
أومأت بالموافقة ثم قالت :
-تمام ، وكمان ده معاد دوا ، هروح أجيبه بالمرة .
طارت من جواره بخفة الطير ولكنها سكبت برأسه أفكار بثقل جبل ، من أعلى تُراقبهم حياة بفضول تام ، ربما وجدت شيئًا يشغل تفكيرها ، ثم نظرت إلى الفتيات اللاتي يلعبن أمامها وقالت متسائلة :
-مين دي اللي في الجنينة !
أردفت تاليا بسرعة وحماس شديد :
-ده أونكل تميم ، واللي كانت معاه دكتور شمس .
ثم تدخلت داليا مُكملة :
-دكتور شمس طيبة أوي زيك كده ، أيه رايك نجيبها هي كمان تلعب معانا !
داعبت ” حياة” شعر الفتاة الناعم بمرحٍ ثم وقفت لـ تستكشف بأنظارها الثاقبة القصر العملاق والحراس الذين ينتشرون بجميع أرجائه ..
بالطابق السُفلي تعثرت ” شمس ” بـ ” يُسري ” الذي عاق خُطها وسحبها خلفه رغم عنها ، تملصت من قبضته محذرة :
-شيل ايدك من عليا يا حيوان .
دفعها يسري صاحب الملامح الحادة التي يحشوها المكر ، وقال منبهًا :
-وطي صوتك يا دكتورة .

 

شدة شمس ذراعها من قبضته بصعوبة ثم سألته :
-أنت عايز مني أيه !
غمز له بطرف عينه :
-أنت ، عايزك أنتِ .
رمقته بأسهم الخسة والاحتقار :
-أنت عارف لو قربت مني تاني ، أنا هندمك علي اليوم الـ قابلتني فيه !
مال نحوها وبصوت هامس أردف :
-عارفة أنت لو قربتِ مني وسمعتي كلامي هـ تشكري ربنا علي اليوم الـ قابلتيني فيه .
-أنتوا بتعملوا أيه ؟!
هُنا فصل بينهم صوت ” عبلة ” التي رمقتهم بأسهم الشكِ المُريبة ، اعتدلت قامة يسري وهو يهندم ملابسه وقال محتجًا :
-الدكتورة عايزة تسيب تميم بيه وتمشي ، كُنت بـ حذرها من غضب عاصي بيه .
راقت الكذبة لـ فكر عبلة وقالت ساخرة :
-ليه هي شبرا هواها بحري وهوا القصر مش جاي على مزاجك يا حلوة !
ابتلعت ” شمس ” شعور الإهانة ثم رمقتهم بتحقير وانصرفت من أمامهم ، ثم توجه يسري إلى عبلة مطمئنًا :
-متشغليش بالك يا هانم ، كُله تحت السيطرة طالما يسري موجود .
-أنت بتعمل أيه هنا ، مش المفروض تكون في الشركة !

 

أومأ بطاعة متححجًا :
-البيه نسى ملف مهم جيت أخده !
هنا أتاها صوت جيهان موبخًا :
-تعالي يا عبلة شوفي البيه ابنك عمل أيه !
••••••••••••
خرجت “عالية” من المرحاض بعد ما أخذت حمامًا طويلًا ولكنه لم يعد كافيًا لذوبان صخور الهم من فوقها ، ما كادت أن تخطو خطوتين فـ تسمرت إثر صوت المفتاح بالباب ، دب قلبها شعور السجين الذي ينتظر دكة مفاتيح جلاده ، التصق ظهرها بالحائط وهي تترقب دخوله من الباب الذي يحجز بينهم حتى ظهر بهيئته المروعة رغم وسامته و صلابة بنيته إلا أن الغضب والكره حول معالمه لـ وحشٍ يهابهُ الجميع .
بللت حلقها وهي تراقب خُطاه بعد ما قفل الباب ، ثم عاد ليحكم غلقه جيدًا كي لا تهرب متجاهلًا وجودها و سار إلى غُرفته ، وقف أمام الخزنة و أدخل رقمها السري ، ثم أخرج من قلبها بعض الأوراق وما كان أن يغلقها و يدير وجهه فـ باغتته متمردة :
-أنت اتجوزتني ليه ! أكيد مش عشان تسجني هنا !

 

وقف أمام المرآة ثم رش القليل من العطر وقال :
-متجوزك تصفية حساب ! تار قديم كده !
طالعت عيونه القاسية بالمرآة فـ تعثر بعيونها الذابلة وهي تعاتبه :
-ليه ! أنا اذيتك في أيه ؟! ليه تعمل فيا كده ؟!
-يمكن عندك حق و مالكيش ذنب ، بس ذنبك الوحيد إنك أخت عاصي دويدار .. وأبوكي شهاب دويدار .
دنت منه خطوة :
-أنا معرفش هما عملوا فيك أيه للكُره دا ، بس اللي أعرفه أن التار بيخلص من الرجالة ! وصمة عار أوي في حقك أنك تخلصه من واحدة ست !
ختم جُملتها بـ لطمة قوية على وجهها ثم انهال على شعرها بعنـٰفٍ وهو يلفها تحت يده بجبروت :
-مش ناقص غير واحدة زيك تقول تغلط فيا وتديني حكم ومواعظ !
تجاهل صرخاتها وتوسلاتها تحت قبضته الشرسة وحركها بـ دون رحمة مواصلًا :
-اسمعيني يا بت ، دورك هنا دور خدامة متنسيش نفسك ، أنا أصلًا قرفان من وجودك في بيتي !
صرخت تحت يده مستغيثة :

 

-ولا أنا متحملة أشوف وشك سبني بقي ! أنت مستحيل تكون بني آدم !
دفعها بقوة حتى ارتطمت بأحد ضُلف الخزانة متأوهةً من قسوة الألم وجهر محذرًا :
-أحسن لك تتقي شري ، ومتستعجليش ، هرميكي أول ما أخد منك اللي عايزه .
ألم جسدها سلب عقلها من الاهتمام بالرد عليه ، بل أخذت تتلوى من شدة و جهامة الكدمات بجسدها ، مجرد ما ألقى قائمة أوامره انصرف من أمامها بعد ما أخذ الاوراق التي عاد لأجلها .
تابعت خُطاه بتمرد أنثوي مستندة على عكاز الألم وما أن غادر وقفل الباب بإحكام ، فأسرعت وشدت ترابيس الباب من الداخل متوعدة بحرقة :
-دا أن عرفت تدخل هنا تاني !
ثم أشفقت على حالتها الصعبة وجلست خلف الباب جالسة كالقرفصاء تتمنى أن كل هذا يكون كابوسًا وستفيق منه يومًا ما .
•••••••••••
” عودة إلى القصر ”
ذهبت ” عبلة ” إلى غرفتها وأخرجت سلاحها من خزانتها الخاصة ثم عادت إلى جيهان وابنتها اللاتي يشتعلان بدخان الحقد ، ربتت جيهان على ظهر ابنتها :
-متقلقيش ،حقك هيرجع تالت ومتلت ، واللي عمله عاصي دا هيدفع تمنه أضعاف .
مسحت ” هدير ” عبراتها وقالت مبررة :

 

-يا مامي كله من تحت رأس البنت اللي جايبها دي ، هي اللي واكلة دماغه .
همست جيهان بـ شرٍ في آذان ابنتها قائلة :
-زي ما خلصتك من مها ، هخلصك منها ، أنت في ضهرك جيهان المحلاوي .
هنا أتت عبلة حاملة مسدسها الكاتم للصوت ثم قالت بـ حقد :
-البنت دي اخر يوم ليها في القصر النهاردة ، مش أنا اللي تضحك عليها يا عاصي وتأكلها الأونطة .
ثم شدت هدير من ذراعها بقوة و أكملت :
-تعالي رجعي حقك بنفسك .
تحرك ثلاثي الشر ناحية غُرفتها ولكن أوقف عبلة نداءها على نوال لتذهب معهن ، تقدم لهب الانتقام خُطاهم حتى فتحت جيهان الغرفة بقوة ، هنا جهرت عبلة آمرة :
-نوال خُدي البنات واطلعي بره !
صرخت تاليا بذهولٍ:
-نانا أنتِ ماسكة مسدس ليه !
هتفت ” عبلة ” بنفاذ صبر :
-نوال قُلت لك خدي البنات واطلعي بره .
تحركت ” نوال” امتثالًا لأوامرها وشدت البنات بقوة ، من حملتها رغم عنها ، ومن جذبتها من ذراعها بقسوة وجفاء ، عارضتها ” حياة ” وعنفتها :
-أنت مجنونة ! شيلي أيدك أزاي تمسكي البنات كدا ؟!

 

هنا أمسكت بها ” عبلة ” ووقفت أمامها بوجهها الأخر :
-سيبك من البنات وخليكِ معايا هنا !
قفلت ” نوال” الباب خلفها بعد ما أخرجت الفتيات من الغرفة ، عضتها تاليا في يدها بحدة مما جعلتها تلتهي في ألمها وأمسكت بيد أختها وركضا معًا إلى أسفل هاربين من بطش تلك السيدة عديمة الرحمة .
تسمرت ” حياة ” مكانها وهي تراقب شرور الانتقام بأعين جيهان وهدير ، تراجعت خطوة للوراء وسألتهم بقلق :
-أنتوا عايزين مني أيه ؟!
في تلك اللحظة وصلا تاليا و داليا عند ” تمـيم ” والخوف يقاسم جوارحهم ، اندفعت شمس نحوهم بلهفة :
-مالكم يا بنات ! أنتوا معيطين !
لهثت داليا من قوة الركض وقالت راجية :
-أونكل تميم كلم بابي بسرعة مفيش وقت !
سألهم تميم بفزع :
-أهدوا بس ، فهموني في أيه !
صرخت تاليا بوجهه موضحة وبحركاتها الطفولية :
-ناناه ماسكة مسدس وهتمـٰٰوت أنطي حياة ، يلا بسرعة كلم بابي يلحقها .
تصلبت تعابير وجه ” حياة ” وهي تُراقب ذلك العدوان الثلاثي المُحيط بها ساخرة منهم متسائلة في نفسها هل أصابهم مس من الجنون أم العالم قد جن !
اقتربت منها هدير لاهثة بنيران الغيظ :

 

-أنت عارفة اللي بيتجرأ ويمد أيده على حاجة تخص هدير المحلاوي .. بقـطعهالٰـه !
جرفها الفضول بعينيها الذاهلتين :
-بصرف النظر عن كلامك اللي مش فاهمه من أي حاجة ، أنتِ مين عشان اشغل بالى بيكي .
ضغطت هدير علي معصمها معاتبة :
-وعاصي !
-سبق وقلت لك خُديه يا حبيبتي ما يلزمنيش ، زي بالظبط كده أنتِ مش لازماه !
ثم ترنحت” حياة” بقوتها التي لا تعلم مصدرها مستخدمة أسلحة كيد النساء وهمس لها بنصحٍ :
-سوري بس ده اللي أنا شايفاه ، ونصيحة مني كـ بنات زي بعض متحاوليش تلفي حولين راجل رفضك ، لانه هيقرف منك زيادة !
في تلك اللحظة ثار جنون هدير فانهالت عليها بالضرب المبرح دون منحها فرصة للدفاع عن نفسها ، ظلت تلهث وتضرب بحرقة وهي تصيح بامتلاكها له :
-عاصي بيحبني أنا ، أنت مين عشان يبص لك .
حررت كلا من جيهان وعبلة ” حياة” من تحت وطأة يد هدير بصعوبة بالغة ، وما كاد ” حياة ” لتتطاول عليها كي تأخذ حقها أوقفها عبلة مصوبة السلاح بوجهها وقالت بحزم :
-شوفي يا بت أنت ، سبق وجيت بالذوق ، مسمعتيش الكلام ، يبقى المرة دي أنت اللي اختارتي !
ثم أكملت جيهان حملة التهديد :

 

-قدامك حل من الاتنين يا تمشي من هنا بمزاجك ، ياما هتدفني مكان ما أنت واقفة !
استندت ” حياة ” على أحد المقاعد تأخذ نفسها بصعوبة وشعرها يغطي وجهها ثم قالت مهددة :
-أنتوا فاكرين اللي حصل ده هيعدي كدا ! تبقوا غلطانين أنا ما بتهددش .
هزت عبلة رأسها كأنها تفهمت شيء ما :
-نظريتي فيكي ما خيبتش ، واضح أنك متعلمتيش تكلمي أسيادك ازاي بس أنا هربيكي من أول وجديد !
ثم أشارت لجيهان بنظرة فهمتها جيدًا ، وهجم الثنائي عليها كل واحدة منهم من جهة ، وأشارت لـ هدير بتنفيذ بقية خطتهم ، ركضت الأخيرة وأخذت تفتش بـ ألعاب الفتيات حتى أمسكت ( السكوتر ) الثقيل ، وبكل ما أوتيت من قوة أخذت تضــٰرب على بطن “حياة” بدون رحمة ولا شفقة .
أخذت تستغيث بشفتان تلهجان من شدة التوجع والأخيرة لم تتوقف عن التخبط ببطنها بانتقام صارخة :
-كده نقرأ الفاتحة على روح اللي في بطنك .
بين كل الهجمات الشديدة على بطنها ، وغلق جفونها بين اليقظة والإغماء تذكرت ذلك الصوت القوي الذي حذرها صارخًا على أحد المراكب ” خلي بالك يا رسيل ” .. في تلك اللحظة خرت كل قواها فسقطت أرضًا مُغيبة عن الوعي .
تركتها عبلة ثم ذهبت ناحية الشُرفة مُنادية على أحد الحرس كي يأتوا عنها .. وعلي الفور لبوا النداء وجاء إليها رجلين من أصحاب البنية الضخمة وصرخت بوجههم آمرة :
-شيلوا الحشرة دي من هنا وارموها بره القصر كله .
نظر الرجلان لبعضهم ثم أردف أحدهم بخوفٍ :
-بس عاصي باشا !

 

رفعت سلاحها بوجههم وهتفت آمرة :
-اللي بقوله يتنفذ ، يلا أنت وهو مش عايزة كلام كتير .
جر الرجلان ” حياة ” من أكتافها بقسوة حتى مسحت ركبها ممر خُطاهم ، هنا جاءت ” شمس ” بصحبة الفتيات فوجدتهم يحسبونها ناحية الباب الرئيسي للبيت ، وقفت مكانها مندهشة من ظلم ما رأت وكأن صاعقة من السماء نزلت فوق رأسها .
ذهبت عيونها نحو هدير وجيهان وخلفهم عبلة وهم يتبعون خطاها بشماتة وشر حارق ويشيعون جثمان ضحيتهم إلى مثواها الأخير ، فاقت من هول صدمتها وهي تلحق بهم راكضة لتنقذ تلك المسكينة التي وقعت فريسة للانتقام .
وصل الرجال بحياة إلى دهليز البيت إلى أن وجدوا سيارة ” عاصي ” تندفع أمامهم بأقصى سرعة ممكنة ، ألقوا جسد حياة أرضًا ثم تفرق شملهم .. تسمر ثلاثي الشر بمكانهم بمجرد رؤيتهم لعاصٍ الذي هبط من سيارته كرصاصة انطلقت من فوهة المسدس أثناء حرب طاحنة .. وهنا كانت “حياة” مُلقاة أرضًا تتقيء دمٰــاء الافتراء والظلم تحت عرشه .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى