روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل التاسع عشر 19 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل التاسع عشر 19 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء التاسع عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت التاسع عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة التاسعة عشر

“رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
كُنت أول رجل تفتحت عيون قلبي عليه ، فـ ظنك أمه ، والأم وطن لا يضل ، فسار خلفك مُتبعًا خطاك لاخر العمر .. والآن أصبح يتيمًا وتائهًا ، يطوف الطُرقات مُتسائلًا :
-لماذا رسمت لي الحُب بحرًا ، و ما أنت في العمر إلا سراب !
نهال مصطفى
•••••••••••
توغلت في التيه إثر الوقاحة التي يتحدث عنها بكامل حُريته وسألته كطفل أحمق لا يُدرك مغزى ألغازه الخبيثة :
-أنا مش فاهمة أي حاجة ! مستني أيه ؟
تحمحم بقوة مُستردًا قوته وصرامته :
-عايزك تجهزي بُكرة بالليل ، مسافرين الغردقة ..
عصرت في شفتيها ابتسامة هازئة وأردفت :
-ومين قال إني هوافق أجي معاك أصلا !
شرع في فك أزرار قميصه ولكن عيونه لا زالت متعثرة بنظراتها المُضيئة بلون شروق الصباح وقال :
-مش بتفاوض معاكِ ، جاي أقول لك عشان تكوني على علم .
تحدته بعِناد البِغال وهي تقوس ذراعيها بخصرها وشادت مُنافسته :
-قُلت مش جاية معاك لأي مكان .
فارقت مَرمى أنظاره بخطوتين للأمام هاربة من نواياهم ، انتهى من فتح قميصه ثم ولي إليها قائلًا من ورائها :
-ولا اقول لك خليها النهاردة بالليل .. عشان مايبنش على وشك التعب .
ثم دار حولها نصف حركة دائرية كي يقف أمامها وكأن هناك مغناطيس سحري بعيونها يجذبه إليهما كُما ابتعدت عنه ، ارتسم بسمة خفيفة على محياه ثم أضاف موضحًا :
-عايز مراة عاصي دويدار ما يبقاش فيها غلطة واحدة .
دنت منه خطوة سُلحفية حتى باتت المسافة بين أجسادهم غير كافية لمرور الهواء و أعقبت بنفس بنبرة الابتزازية :
-تصدق أنت الغلطة الوحيدة اللي في حياتي .
نشبت حرب ضارية بينهم ، كل منهما سن أسلحته بوجه الآخر غير مُتقبل فكرة الاستسلام والتنازل عن كبريائه ، تلك الحرب الباردة من الغرور التي نتجت من اشتهاء رجل لعيون إمراة أغمضت جفونها عن منبت شهيته .. تحولت عيناه الراغبة بها إلى آخرى غاضبة من تطاولها عليه ، ضغط على مرفقها بتجبر ألقاها بين يديه مُتخذة من أسوار قلبه مُتكئًا لمخاوفها ، برقت عيونها وأغلقت جفونه كأنه يتمرد على الهزيمة تلك المرة رافضًا سطو نظراتها الساحر ، مال على آذانها متجاهلًا ضربات قلبها السريعة التي يدوي صداها بقلبه وقال :
-صبري عليكِ له حدود !
أدلى جملته المروعة بعرش تمردها ثم تراجع عن قُربها متوقفًا فوق رجفة شفتيها المكتنزتين ، و هي تطالعه بعيون مرتاعة خائفة ولكن للحظة تسلل إليها شعور من الإعجاب بهيبته ، أطالت النظر بعيونه الداكنة التي تخفي أسرار عديدة أدت إلى تحرك عواطف الاستكشاف بدلًا من عواصف الكبرياء الناشبة بينهم ، لأول مرة تتعمق بعيونه دون خجل دون نفور من قربه المُرعب ، سيل مُتضارب من المشاعر حل بيهم ، تحولت عداوتها إلى الرغبة في المُصاحبة ، وتحول غضبه إلى الرغبة فيها .. طالعته بقلبها بينما طالعها هو بغريزته !
صوت طرق الباب صرف الشيطان الحاضر بينهم حتى حرر ذراعها من قبضته القوية فتلوت بخفوت متوجعة وقال بصوت الكاظم لعواصفه وعواطفه :
-ادخل …
دخلت “سيدة ” مهرولت وهي تترجاه :
-عاصي بيه تعالى بسرعة .
-في أيه يا سيدة !
-تعالى وحضرتك هتفهم بنفسك ..
قفل بعشوائية بعض أزرار قميصه وتقدم مُسرعًا للخارج حتى لمح الموكب المحتشد حول تميم وعودة الطبيبة شمس ، أسرع الخُطى راكضًا للأسفل ليرى ما حقيقة الأمر الذي نشب فجأة أدى إلى تلك الفوضى الصاخبة بالطابق السُفلي …
وقفت عبلة أما شمس موبخة :
-أنتِ أيه يابت ! هو أنا مش قولت لك مش عايز أشوف وشك حتى ولو صُدفة .
فوجئت بكف تميم ينكمش على معصم يدها وأوقفها :
-من هنا ورايح مراتي ليها اسم ، مع أني أفضل حفظ الألقاب ..
تدلت أنظار عبلة بصدمة من وقاحة تميم الزائدة ، وفي تلك اللحظة تدخل عاصي مُتسائلًا :
-في أيه !
اقترب يسري من رئيسه و رمق شمس بنظرة خبيثة ثم قال بتهامس :
-تميم بيه اتجوز الدكتورة شمس .
صاحت عبلة معارضة :
-تعالى شوف مجايبك يا عاصي بيه ، وأخرة إنك تدخل بنات من الشارع القصر ، أهو بنت الحواري اتمسكنت لحد ما اتمكنت !
تجاهل عاصي كل هذا ووجه سؤاله لتميم :
-أيه حصل ! منا يااماا اتحايلت عليك وكُنت رافض ؟! فجاة غيرت رأيك ! طيب ليه ما قولتش !
لم تتح الفرصة لتميـم ، بل هتفت بحُرقة ومُعايرة :
-شوف مين بيتكلم ! البيه اللي جايب لنا واحدة لا نعرف اصلها ولا فصلها ولا حتى ليها جار يسأل عليها !
ثم ضربت كف على الآخر وضحكت باستهزاءٍ :
-أنا بلوم على مين ! ما هو دم دويدار كله واحد .. بيميل للرمرمة .
فاض صبره من أمه ، فتدخل بصرامته كي يضع حدًا لتلك المناقشات الغير مُجدية ، نهر أمه بعنفوان :
-مش عايز كلمة زيادة !
أشار لسيدة بنظرة آمرة :
-وصلي الدكتورة وأختها لأوضة عالية ..
وانخفضت أنظاره نحو أخيه قائلًا :
-تعالى نتكلم جوه فـ المكتب .
تفرق شمل الحشد المتجمع وكل منهما ذهب لعمله ، حتى فرغت الدائرة على عبلة بمفردها وهي تضرب كف على كف :
-اللي بيحصل ده ما ينفعش يتسكت عليه أبدًا !
جلس عاصي مع أخيه وهو يستجمع هدوئه قدر الإمكان وبدأ الحوار معه مُتسائلًا :
-اشمعنا هي ، وأيه السُرعة دي ؟! تميم فهمني هو في حاجة أنا معرفهاش !
ألتوى ثغر تميم بحسرة متعمد تجاهل اسئلته :
-لينا كتير منعرفش حاجة عن بعض ، فاكر أمتى آخر مرة جيت الأوضة عندي عشان تعرف أنا عايش ازاي ولا عايز أيه ؟!
ساد الصمت بينهم للحظات تعرى فيها تأنيب ضمير عاصى حتى حاول التبرير ولكن تميم منعه عندما سحب وسادة الذكريات منه و صرح قائلًا :
-هفكرك ، اخر مرة افتكرت أن ليك اخ من ٤ شهور ، لما الدكتور المتابع حالتي جاتله بعثة ومشي ، ومن بعدها مفكرتش حتي تيجي تشرب معايا فنجان قهوة !
شبك تميم كفوفه ببعضهم أمام بطنه ثم أكمل :
-جاي دلوقتِ عامل فيها المُهتم بأحوال أخوك ! أحنا اخوات بالاسم وبس يا عاصي ! بصراحة سقفة لعبلة هانم أنها قدرت تفرق بينا للدرجة دي .. حتى عالية ! فكرت تسأل عليها ولا هي عايشة ازاي !
انخرط عاصي في زحام افكاره ، ومهامه التي سلبت الكثير والكثير وأولهم أخيه الذي يتناسى وجوده ، بناته الاتي لا يعرف عنهن إلا اسمائهم ، اخته التي ساقه الجنون إلى رميها في فم الأسد ، أحس بأنه قضى عمره كمن يحرك ساقيه في الهواء لا يصل ولا يتوقف عن المحاولة في اللاشيء !
تصببت جبهته عرقًا حتى استيقظ بجوفه غرور الرجل الذي يقوده وربت على كتفه بجفاء :
-مبروك يا عريس .
••••••••••
-مالك يا شمس ، ساكتة وشاردة ، ووشك مخطوف ، أول مرة أشوفك كده !
أردفت نوران جملتها الآخيرة بعد ثرثرة عبثية لم تمر إلى أذهان شمس ، بل أدركت الجُملة الآخيرة وردت عليها بتيهٍ :
-أنا اللي عملته ده صح ولا غلط ! نوران أنا عايزه أهرب من هنا .
ربتت نوران على كتف أختها بعجزٍ :
-الهروب حل ! احكي لي أنتِ خايفة من أيه !
-كله ! كله على بعضه بيت مُرعب ، أنتِ ما شوفتيش حصل أيه تحت ؟
ثم بللت حلقها متحسرة :
-قلبي وجعني أوي وهما بيكتبوا الكتاب وأنا مفيش حد جمبي ، حتى وكيلي كان عم ابراهيم إمام المسجد ، حاسة إني مش هقدر والله يا نوران ، غصب عني !
كفكفت نوران دموع أختها المنهمرة بحنو وهي تترجاها :
-لا عشان خاطري يا شمس انا مستقوية بيكي ، بلاش تعملي في نفسك كده ، هنا لو لقيونا ضعاف هياكلونا ، بالذات الست المفترية اللي تحت ! أو ما شوفتها كنت عايزه اجرجرها من شعرها الاصفر ده وهي عامله فيها الشحرورة !
تشققت شفتيها بشبح ابتسامة حزينة وهي تضم أختها إلى صدرها لترمم جروحها بقُربها ، لم يستمر الأمر طويلًا حتى دق صوت الباب فركضت نوران لتفتحه ، إذًا بتميم أمامها ، بادلته بابتسامة هادئة ثم افسحت له الطريق ليدخل بمقعد المُتحرك وقال مُداعبًا :
-اسيب أختك معاكِ الكام دقيقة دول ، ارجع ألقاها معيطة !
ثم طالع نوران بلطف متعمدًا كسر الحاجز بينهم :
-أنتِ عملتي فيها أيه !
جلست نوران بجوار اختها فوق الأريكة وردت بمزاح يخرجهم من حالة الحزن القاسية :
-والله بحاول معاها من الصبح بس هي اللي غاوية تنكد عليا وعليها .
تحرك بمقعده مُقتربًا منها وبنبرة حنونة وجه إليها كلامه :
-بعتذر على طريقة استقبالهم ، بس اتمنى تكوني متفهمة ، ومتقلقيش محدش هيحاول يزعلك وأنا موجود .
رمقته بعيونها الذابلة من كثرة البكاء وقالت بصوت مبحوح :
-أنا كويسة .
-بس أنا مش كويس !
كانت جملته مندفعة وتلقائية للحد الذي أخجلت نوران ، وسرقت انتباه شمس إليه ، حتى وضح مُبررًا :
-يرضيكي يا نوران أختك مشيت وسابت مواعيد الأدوية بتاعتي لسيدة ! عايز أقولك أن سيدة بتنسى تغديني ، وبتجيب لي الفطار على أنه عشا .
أطرقت شمس بخفوت معتذرة :
-اخ ! بجد أسفة يا تميم ، نسيت إنك ما أخدتش أدويتك من أول اليوم ، أنا هقوم اجيبهم حالًا .
مسك كفها كي يوقفها فأحست بقشعريرة خفيفة انتابت جسدها ، فـ شدت كفها بسُرعة بتوتر ، تجاهل ارتباكها وأخرج هاتفه ومنحه لنوران قائلًا :
-عارف أن امتحاناتك قربت ، خدي الموبايل اطلبي كل الكتب والمراجع اللي محتاجاها ..
تدخلت شمس في حديثهم معترضة :
-لا ما ينفعش ، أنا معايا مبلغ وهننزل أنا وهي نجيب اللي تحتاجه .
حدجها بحدة كي تصمت ثم قال بصوت هدر :
-شمس ممكن تسبقيني على الأوضة !
اختلج قلبها من هول الكلمة ، كانت دائمًا تقطن بهذه الغرفة وهي طبيبة اليوم كيف ستقام معه تحت سقف واحد وهي زوجته ! أومأت بخفوت ثم لبت طلبه بطاعة شادرة في عواقب الجملة حتى انها نسيت توصي أختها على نفسها ، انتظر حتى غادرت شمس الغُرفة وعاد إلى نوران قائلًا :
-هتسمعي الكلام ولا دماغك ناشفة زي اختك !
تبسمت نوران لانها أحست بوجود أخ جديد يملأ حياتها ويكون لهما سندًا ، هزت رأسها متقبلة وقالت :
-هسمع الكلام .
شدها من كفها كي تجلس أمامه وقال بصوت خفيض :
-بصي يا ستي ، أنا معرفش أي حاجة عن حاجات البنات ولا أنتوا بتفكروا في أيه ، فـ عايزك كده تدوري وتجيبي كل حاجة ممكن تحتاجها أختك ، وأنت زيها ..
برقت عيني نوران بذهول :
-بس ده كتير ، شمس هتزعل !
-لا مش كتير ، وكمان كلمي كل الاستاذة بتوعك يجوا هنا ، عشان الكام شهر اللي باقيين ، عايزك تركزي .
طالعته بإعجاب ثم عبرت عنه :
-بجد شمس محظوظة أوي بيك ، وأنت محظوظ بيها ، وأنا كمان محظوظة أن ليا أخ طيب كده زيك ..
-اسيبك ترتاحي ، اقعدي في أوضة عالية مؤقت لحد ما اخليهم يفرشولك أوضة تانية .
لم يدرك سبب افعالها التلقائية ، من أين جاء بها ليستخدمها وسيلة لرد انتقامه ومن أين يشغل رأسه كيف يسعدها ، تشوشت رأسه بتصرفاته المُتناقضة التي تعاكس بعضها وتحرك بمقعده مُغادرًا الغرفة ، مفكرًا ما نهاية هذا الطريق الذي انساق إليه متحججًا بستائر الاتهام ! كيف يحمل قلبه هذا الكم الهائل من النقاء نحو قلب شك في مصدقيته !
•••••••••
” في الغردقة ”
-آكيد في حل ، ما أحنا مش هنسكت ونندب حظنا زي الولاية كده يا يونس !
انفجرت عواصف غضب رشيد التي أخذت تهشم كل ما يُقابلها ويحدث نفسه بجنون سلب صواب ، ركل المنضدة الصغيرة بقدمه صارخًا ثم ألتمس العُذر لأختهِ :
-أنا فهمت دلوقتِ ليه رسيل كانت رافضاه ورافضة فكرة الجواز كلها .. اتاري البيه كان عايز يتجوز أختى وياخدها كُوبري لجشعه .
تدخل يونس بهدوء :
-اهدا يا رشيد وآكيد في حل !
أزاح رشيد شعره المتدلي على جبهته التي تتصبب عرقًا :
-ورحمة أبويا وأمي لأقتٰــلك يا فريد ، هندمك على اليوم اللي فكرت تقف فيه قُدام ولاد قنديل المصري !
سرح يونس في مصيرهم المنتظر والحرب العائلية التي ستقام بينهم وقال بنبرة انتقام :
-رشيد أنا بفكر في حاجة ، مش عارف هتوصلنا لأيه ! بس على الأقل اسمنا حاولنا !
انتبه لأخيه مُتسائلًا :
-حاجة أيه ؟! ما تنطق !
-فريال … فريال بنت عمك هي الوسيلة !
-قصدك أيه يا يونس ! مال فريال بالكلام ده ، وأصلا هي آكيد ما تعرفش بعمايل أخوها الحرامي .
وقف يونس أمامه مُعلنًا الحرب :
-تعرف ولا متعرفش ، أنا هخليك تضرب عصفورين بحجر ، منها هنرجع أملاكنا ومنها هتتجوزها !
شُل تفكير رشيد من ألغاز أخيه وسأله بحيرة :
-أنت تقصد أيه ؟!
-أقصد أن الحاجة الوحيدة اللي هتكسر فريد هي أخته ، أنا هقولك تعمل أيه بس عايزك تفكر قبل ما تُرد !
•••••••••
تجلس ” عبلة ” بحديقة تحدث رفيقتها بالهاتف وتشكو لها همها :
-هيجننوني يا سوزان ، كل حاجة ماشية عكس ، بجد أنا مش عارفة ألاحق على المصايب .
فارقت ” سوزان ” تلك السيدة الثرية صاحبة السابعة والاربعين من العمر التي ورثت أملاك زوجها وتولت إدارة كل شيء حتى أصبحت من سيدات المجتمع الخاص بهم ، أخذت تتمايل في خُطاها بساحة مكتبها وتقول بضيق :
-ومين البنت اللي اتجوزها عاصي دي ، غريبة بعد ما كان مقضيها سهر ودلع ، فجأة طلع بحوار أنه متجوز وكمان حامل !
تشبثت عبلة برأسها من شدة الصدمات المُنهالة فوقها وقالت :
-البنت دي لوحدها هتجنني ، البنت شديدة ومش سهلة أبدًا يا سوزان ، لا وعاصي معاها في كل حاجة ! يابنتي في أكتر من إني ولعت فيها وخرجت صاغ سليم ! عاملة زي القُطة بسبعة أرواح !
وقفت سوزان أمام الشُرفة وعقدت ذراعها وتحدث بنبرة مبطنة بالغيرة الشديدة من تلك الفتاة التي سرقت فارسها :
-البنت دي آكيد وراها حوار ، وأحنا مش هنسكت يا عبلة ، طالما بتقولي مش سهلة يبقى لعبت في عداد عُمرها ، أحنا لازم نبعدها عن عاصي بأي شكل !
تنهدت عبلة بمرارة ثم غيرت مجرى الحديث معتذرة:
-أنا عارفة يا سوزي إني منفذتش وعدي ليكِ ، خاصة أنكم لايقين على بعض أوي ، بس البنت دي شقلبة حال عاصي .
أعلنت سوزان عليها الحرب وقالت بتوعد :
-وسوزان الطوخي مش بتسيب حاجة تُخصها لحد !
••••••••••
لا يبكي المرءِ مِنَّا من فرطِ أحزان قلبهِ ، ولا من صعوبة الطُرق الوعرة التي يسلكها مُرغمًا ، ولم يكن بُكائه من ثُقل الحمل على أكتافه ، بَل من فرطِ يقينهُ بأنه لا يستحق كلٌ ذلك أبدًا .
أحست عالية بالملل الشديد من جلوسها بالغُرفة التي أعادت ترتيبها من جديد ، حتى فتحت درج الكمود لتعيد ترتيبه فـ وجدت بعض زُجاجات النبيذ بداخله ، مسكت الزجاجة وقرأت ما بها ففهمت أنه من فصيل الكحوليات ، وضعت الزجاجة مكانها وقفلت الدرج كما كان ولكن أصبح صدرها أكثر ضيقًا .
نهضت محاولة تشتيت رأسها عما رأته وهى تهمس لنفسها ناصحة :
-ملكيش دعوة يا عالية ، كل واحد حُر ، كأنك مش شوفتيش حاجة ..
وقفت أمام خرانته لعدة دقائق شاردة لا تعلم لِمَ فتحتها حتى عادت لوعيها آخيرًا وتذكرت ، أخذت تُفتش على ” بيجامة ” في ملابسه بدلًا من فستانها الذي ترتديه ، إلا أن وجدت منامة مناسبة لها بعض الشيء خاصة أن فرق الطول بينهم ليس بكثير .. أخذت الملابس وذهبت إلى المرحاض أخذت حمامًا دافئًا وارتدت ملابسه وصففت شعرها الكستنائي وخرجت من الحمام مشغولة بلفه حتى وجدته أمامها جالسًا على طرف السرير يُتفحص بعض الملفات على جهازه الحاسوب .
تسمرت عالية مكانها عندما تقابلت نظراتهم الحائرة ، أحست بالخجل من تأمله المتزايد لها حتى تكورت أصابع قدمها من شدة الخجل وقالت مبررة :
-اسفة ، بس مالقتش حاجة مُناسبة وو
نصب مُراد قامته بعد ما رمى الجهاز بتجاهل ، وقال متغزلًا :
-دا انتِ تلبسي كل بيجاماتي بعد كده !
لاحظ ارتجاف يديها وهي تبلل حلقها الذي جفها من نظراته التي تعلنها بغزل ، اهتز داخلها إثر اقترابه منها فسألته :
-يعني أيه !
شرد في تيه عيونها المُنتفضة وهمس صوت قلبه مُصرحًا :
-إمراة اختزنت دفء الشمس في ليلة قارصة من شدة البرودة للحد الذي يثير عواطف شخصًا بالغًا مثلي برغبةٍ في البكاء، أتعلمين ما معنى أنّ تذوبَ كُل تلك القسوة التي شكلتها الأيامُ في لحظةٍ واحدة بجانبك !
فاق مُراد متحمحمًا من تلك الأحلام الطائشة التي بعثرت رأسه وافتتكت بـ نضجه حتى تحول لفتى مُراهق يكُتب الشعر تحت سطور عيونها ، كيانها المُهيب الذي لا يمكن تجاوزه بدون قُبلة تهزم شموخه للحظات ، خشنت نبرة صوته عائدًا لوعيه وقال :
-النهاردة ننزل اشتري كل اللي ناقصك !
اكتفت بهز رأسها بخفوت قطعه بصرامته المزيفة وهو يتناول علبة قطيفة من فوق التسريحة وقدمها لها بملامح قاطبة كي ينهزم مرة آخرى أمام براءتها :
-دي ليكِ !
مدت كفها المُنتفض وأخذت العُلبة ثم رفعت جفونها إليها فقال :
-مش هتفتحيها !
أومأت بالإيجاب وهي تفتحها بفضول رهيب حتى وجدت بداخلها مُصحفًا ومسبحة من أحجار العقيق برأس فضية ، كانت هديته لطيفة للغاية ادخلت سعادة لم تعهدها من قبل على قلبها ، رأي بريق الفرحة بعيونها الدامعة وهي تتفحص الهدية ، بدون ما يشعر ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه مُتأثرًا بفرحتها الطفولية ، تحول خجلها لحماس وهي تشكره بامتنان :
-الله ! دي أحلى هدية ، متتصورش فرحتني أزاي ! بجد مرسي اوي اوي .
استرد هيبته المصنعة وقال بفظاظة :
-بما إنك خلتيني اصلي الفجر ، قلت أرد الجميل .
حضنت الهدية بحب وعبرت عن فرحتها :
-الهدية جميلة بجد .
بمجرد ما أنتهت جملتها ، تبدلت ملامحها الفارحة إلى آخرى عابثة فشلت في إخفائها ، لاحظ تغيرها المفاجئ فـ رفع حاجبه مُتسائلًا :
-عايزة تقولي حاجة !
تردد قبل ما تخبره ولكن نيران اشمئزازها مما رأت كانت أقوى ، تركت العُلبة ورائها ثم ذهبت نحو الكمود وأخرجت زجاجة النبيذ ثم عادت إليه مُطأطأة الرأس :
-أنا اسفة إني فتشت في حاجة تخصك ، بس ما ينفعش تقف قدام ربنا و أنت بتشرب الحاجات دي ! وبصراحة أكتر أنا مش بحب أشوفها في مكان أنا موجودة فيه .
خجل من هدوئها في تقديم النصيحة ، فـ صرح موضحًا :
-أنا مش بشرب على طول .
بادلته بابتسامة رقيقة ثم قالت بسكينة :
-أنت حر مش قصدي ادخل في خصوصياتك ، أنت حد كبير وواعي ، بس أنا بطلب منك مش حابة اشوفها في مكان أنا موجودة فيه ، ممكن !
لبي طلبها على الفور ، وأخذ الزجاجة من يدها وفرغ محتواها بالحوض ثم رماها في صندوق القمامة وقال مُرحبًا بطلبها :
-أي أوامر تانية !
اتسعت ابتسامتها بانتصار ولكن سرعان ما ذابت فرحتها مع صوت طرقات باب غُرفتهم بقوة ، ابتعدت قليلًا تاركة له الساحة كي يفتح هو لأمه التي تصيح بتمرد :
-جرى أيه يا بنت عبلة ! أنتِ ناسية أن عندك ضيوف وواجب عليكِ تراعيهم ، ولا أمك بقيت شخص مش مرغوب فيه يا مُراد !
زفرت عالية من ألاعيب خالتها التي تحفظها ، أردف مُراد بحيرة :
-عايزة أيه بس وهيكون عندك حالًا !
-عايزة اتغدى ! ولا أنتوا ناويين تجوعونا ! والله لو وجودي تقيل عليك أنا ممكن اسيبك وامشي .
-طيب ما تطلب لي أكل من بره !
أردف مُراد جملته الأخيرة بسهولة محاولًا إيجاد حلًا يرتضي به جميع الأطراف ، هنا انضمت هدير إلى أمها وقالت بتخابث متعمدة إثارة غضب أمها :
-شكلها كده يامامي هترسى على أكل من بره ، عشان الست عالية مش عارفة ترحب بضيوفها ، أنا مش عارفة شايفة نفسها على أيه !
ثم حملت بعيونها واكملت مُتعمدة تهديدها بمعرفة مُراد :
-قال رضينا بالهم والهم مش راضي بينا !
زمجرة رياح غضب مُراد بنفاذ صبر :
-هدير كفاية خدي أمك واطلعي .
ربتت هدير على كتف أخيها بقوة متعمدة إغضاب عالية أكثر :
-والله أنت صعبان عليا أوي ياخويا ، ربنا يصبرك على ما بلاك !
•••••••••••
جلست ” حياة ” بشُرفة غرفته ترتشف كوبًا من العصير ، محاولة الهروب من نفسها قبل أي أحد ، أخذت تُراقب ساحة القصر الواسعة ، وتتأمل اسطبل الأحصنة حتى انتابتها رغبة عارمة في ممارسة الفروسية ، تسللت رائحة عطره إلى أنفها فأفسدت احلامها النقية ، وما أن دارت وجدت خلفها .
التزمت الصمت جالسة على أحد المقاعد ، فجلس بجوارها شاردًا ، أخذ يُطالع امبراطورية دويدار بتيه وأخذت تطالعه باستكشاف ، مرت دقائق طويلة على صمتهم الذي قطعه معترفًا :
-تعرفي إنك في نعمة ، آه لو نمت وصحيت ناسي كل العالم ، ناسي حتى أنا مين ! بجد يا بختك !
أجابته بعدم اقتناعٍ :
-ليـه ! يمكن العالم بتاعي ما يستحقش النسيان ، أنت في حياتك حاجات كتير عايز تهرب منها ، ويمكن كان في حياتي حاجات جميلة بهرب ليها ومش عارفة أوصلها !
ثم جرت المقعد من تحتها واقتربت منه وأتبعت :
-الفكرة كُلها في أنك فشلت في صُنع ركن أمان في حياتك تهرب له لما الحياة تسن سكاكينها علينا ، ده اللي مخليك بتتمنى النسيان بدل من الهروب لمكان تتحامي فيه .
تذوق شهد الحديث الشيق معها ، أحس برغبة عارمة تمنى أن يتخلص من كل ما يخنقه ويقصه عليها ، طالعها بإعجاب من حكمة رده وهز رأسه مُؤيدًا :
-معاكٍ حق ، مغرستش شجرة أقعد تحت ظلها لما تشد حرارة الأيام .. حولت كل حاجة في حياتي لانتقام ، وبقيت بنتقم من نفسي أولًا قبل أي حد !
تحيرت من حالة التوهان التي يتحدث بها ، حتى سألته :
-طيب أيه الحاجة الغلط اللي حصلت النهاردة صحت كُل الحاجات السابقة ؟!
أقر مُعترفًا بندم :
-عالية ، شايف أني ظلمتها ، حاسس بمنشار بياكل في قلبي ! أنا ازاي رميتها الرمية دي ؟! ازاي مفكرتش اسال عليها ! ازاي اجبرتها تتجوز واحد متعرفهوش ! مش هنكر أن كل ليلة قبل ما أنام بشوفها بس بعفي نفسي من عذاب الضمير وأقول هي اللي عملت في نفسها كده !
لم تدخل معه في مناقشات غير مُجدية بل تجاوزت طريق العتاب وسلكت طريق البناء ! صمتت للحظات ثم قالت :
-ندمنا على اللي فات مش هيفيد ، بس يمكن ده وقته عشان نصلحه .
رمقها باهتمام :
-قصدك أيه ؟!
-قصدي مادام حسيت باللي أنت حاسه دلوقت يبقى ده وقته المناسب لتصليحه ! ده الوقت المناسب الـ عالية محتاجة لك جمبها ! القلوب بتحس ببعضها ..
تربعت الكلمات بقلبه ثم قال :
-أنتِ شايفة كده ؟!
-أنا مش شايفة ، بس أنت حاسس ، وأنا بترجم أحساسك اللي مصمم تنيمه !
كسرت باب العداوة بينهم وتعمقت في جوف الذاكرة وأكملت :
-حاول تبني أكتر ما تهدم ! الانسان ما هو إلا اثر ؟! شوف حابب تسيب أيه وراك ، شوية طوب واسمنت ! ولا قصور ومباني جميلة !
تمعنت في مراقبته لتشاهد تأثير كلماتها عليه وأكملت :
-وقصدي هنا القلوب ، بلاش تكسر قلب حد لمجرد أنت عايز كده !
-يعني أنتِ من رأيك اروح لها !
-كُنت لسه بتقول أن القلوب لازم نسمع لها ، اسمع كلام قلبك المرة دي وشوف هيقول لك أيه !
••••••••••
يجلس فريد على مكتب عمه بفخامة وهو يتحكم آمرًا بالعُمال حتى أمسك هاتفه مُتصلًا بـ سارة :
-ما بتسأليش قُلت اسال أنا !
أجابته سارة بصوت مُفعم بالنوم :
-أبدًا ، أنت اللي مشيت وقلت عدولي ..
أخذ الاثنان يتبادلان بكلماتهم الدنيئة وضحكاتهم الشريرة حتى ختم فريد الحوار بينهم :
-هشوفك بكرة !
رفضت سارة رفضًا قاطعًا :
-لا مش هينفع اليومين دول خالص ..
زاد فضول فريد لمعرفة سبب رفضها :
-لا من حقي افهم !
تدللت سارة في فراشها وهي تُخبره :
-عاصي جاي بكرة ، وبصراحة كده ناوية افضى نفسي اليومين دول عشانه …
نصب فريد قامته كالملدوغ وهي يسألها باهتمام :
-قُلتي مين !!!!!
••••••••
تقف عالية في المطبخ مُتعمدة تجاهل جيهان وهدير تمامًا ووقفت تعد لنفسها مشروبًا دافئًا غير مُكترثة بتهامسهم وأعينهم العدوانية التي تغتالها ، اقتربت هدير منها و طلبت منها :
-اعملي لي معاكِ لو مش هتقل عليكِ !
تجاهلت عالية طلبها ، فلم تتكلف بنظرة واحدة أن ترمقها بها ، اشتعلت نيران هدير المكتظة فتعمدت إسقاط إبريقًا زجاجيًا في الأرض ، حتى سقط بجانب عالية وبمجرد ارتطامه بالأرض تهشمت فتات الزجاج هُنا وهناك ، فزعت عالية صارخة إثر الرجفة حتى ابدت اسفها :
-سوري يا عالية ، مخدتش بالي !
ركض مُراد إثر صوت الزجاج المُتهشم بلهفة وهو يطلب منها بحزم عندما وجدها حافية :
-متتحركيش من مكانك !
ارتدت نعاله بسرعة ثم اقتحم المطبخ بدون تفكير وحملها بين يديه خوفًا منه أن يُصيب الزجاج قدمها الناعمة ، صدمة تلو الأخرى لم تدركها عالية ، فجاة وجدت نفسها محمولة بين يده وهو يخرج بها من المطبخ كي يبعدها عن مرمى الزجاج ، وضعها على الاريكة برفق وسألها باهتمام :
-في حاجة عورتك !
هزت رأسها بالنفي ومازالت تحت تأثير صدمها وقُربه الذي داعب صواميل قلبها ، ونبرته الخائفة التي لم تراها من قبل ، تفوهت بخفوت :
-أنا كويسة ..
رن صوت جرس الباب في تلك اللحظة ، فتحمست هدير راكضة :
-ده اكيد الاوردر وصل !
أوقفها نداء مُراد الحازم وأشار لها بطرف عينه كي تنسحب ، وسيفتح هو الباب ، التوى ثغر هدير بمكر وهي تتوقد بدخان الحقد من رد فعل أخيها واهتمامه بها ، أحست أن الحرب التي اشعلتها عليهما غير مُربحة فلابد من استبدالها … ذهب مراد ناحية الباب بعد ما أحضر حافظة نقود ، وما أن فتح الباب اتسعت عيناه من هول ما يراه وهو يردد بدهشة :
-عاصي !!!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى