روايات

رواية غوثهم الفصل الستون 60 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الستون 60 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الستون

رواية غوثهم البارت الستون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الستون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفـصل الســتــون”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يا هادي العقل إلى ذاته
فهام بالمنشود من هديه
وراح يدعوك بتسبيحه في قربه منك
وفي نأيه يسعى إلى الأسرار
في حجبها ليجني الفرحة من سعيه
لبيك فأنت الذي تهديه للحكمة
في وحيه خلقته نورا يريه الهدى
ونهجه الصادق في رأيه
لبيك بالروح على شوقها
لبيك بالقلب على غيه أخزاه
ما يحمل من ذنبه فأغنه بالعفو عنه.
_”النقشبندي”
__________________________________
لم ينوْ القلب الوقوع
في الحُبِ لكن ليس للمُراد ما انتوىٰ،
فالقلب وإن أقسم بالزُهدِ عن شيءٍ قام بسحبهِ إليه الهوىٰ،
فكيف لمرءٍ أقسم بالزُهدِ عن الحُب والهوىٰ أن تقوم عيناها بإيقاعهِ في ساحتها…
لينسى حينها قسمه وعهده وما عليه انتوىٰ..
بل والأدهىٰ على مثلهِ أنه شعر بلوعة الفُراق،
وكأن نيران الشوق تقتله وبها اكتوىٰ..
المرأة في بعض الأحيانِ تكون فِتنة لم يقدر عليها الزاهد..
ولا يصد دلالها الغريب ولا يربح في حربها الجريء..
ولا حتى يتجاهلها الشريد…
وكأن القوة تتطلب في بعض الأوقاتِ لضعفٍ يجعل المرء يتطلب الهوىٰ وينسى ما عنه اهتوىٰ…
ضعفٌ يكون بمثابة الارتواءِ والمرءِ في بحور عينيها من ظمأ الغُربة في هوية وطنهِ قد ارتوىٰ.
<“أنا أعرفني جيدًا، لكن أنتم تحتاجون للبحثِ عني”>
قام “مُـنذر” بترك هاتفه ثم أمسك الدفتر والقلم اللاذي وضعهما هو بجواره ثم توجه ناحية الغرفة الموجودة في نهاية الرواق، وضع بداخلها كافة الأوراق والملفات والدلائل والصور أيضًا وفي وسطهم صورته، وحينها أخرج ورقة يكتب فيها بخطٍ كبيرٍ توسط هذه الورقة:
_”مُـنذر شـوقي محمد الحُصري”.
وضع الورقة على اللوحِ وسط الصور والورقات ووقف يتابعها بعينيه، ابتسم بسخريةٍ موجعة يسخر من حالهِ على الدنيا وحالها، من يُصدق أن مثله كُتُبتْ له النجاة مرة واحدة، ليموت بعدها ألف مرة في اليوم الواحد، من يُصدق أن زمن الرقيق والعبيد لازال مستمرًا حتى في وقتنا هذا، وهو !! لقد حدث فيه ما حدث لابن عمه والمتسبب الوحيد رجلٌ يُدعى والده، حسنًا هو هنا، لكن…
لكن من سيفتح الأبواب الموصدة غيره، إن لم يكن هو المفتاح الوحيد لكل بابٍ منهم.
زفر مُطولًا وابتلع الغِصة المريرة في حلقهِ حينما تذكر ألمه وتصدع روحه، لقد أخطأ الظن حينما خُيِّل له أن والده المُدعىٰ “إبراهيم الموجي” هو الذي قام ببيعهِ في صغرهِ، ليكتشف بعدها أنه لم يكن والده من الأساس بل هو فقط من تحمل مسئولية تربيتهِ، لأن والده الحقيقي “شَـوقي الحُصري” قد تخلى عن مسئوليتهِ وهرب منها..
عاد “مُـنذر” بذاكرتهِ إلى الخلف يتذكر هذا اليوم تحديدًا في إحدى البلاد الغربية بقارة “أسـيا” التي تقع معظمها تحت سيطرة “مـاكسيم” وأفراد عائلته، هؤلاء الرجال الذين يتم اعتبارهم عصابة دولية فرقت نفسها في شتى البُلدان حتى ينهبون خيراتها، تنوعت أعمالهم في كل شيءٍ ومن ضمن البُلدان كانت “مـصر” الدولة التي لازالوا يخشونها ويخشون قوتها…
في غرفة كبيرة بداخل أحد القصور الفاخرة في هذه المدينة جلس “ماكسيم” يقوم بتوزيع رجالهِ في خطةٍ قد تكون مُحكمة عند القدوم إلى “مـصر” من جديد لتهريب قطع الآثار التي من المؤكد أنها موجودة بلا شك في ذلك، وعلى رأس رجاله وقف “مُـنذر” معهم، الضلع الأهم في هذه العملية يعتبر هو، وكان يجلس بالقرب منهم ابن عم “ماكسيم” الذي يُـدعىٰ “فِيلين” كان يراقب قريبه أو لربما غريمه بعينين حادتين تنطق بكل حقدٍ على توليه مثل هذه المُهمة الكبيرة، أما الآخر فتجاهل عن قصدٍ نظراته واستمر فيما يفعل ثم بعدها أمر رجاله بالخروج من المكانِ..
حينها فهم “مُـنذر” أن هناك شيءٌ بينهما بالطبع يثير الجدل في نفسهِ بكل براعةٍ وخاصةً أنه يرفض القدوم إلى”مصر” مرةٍ أخرى من بعد علمه باخفاق عملية “إسـماعيل” الذي تسبب فيها “سـراج”، كعادته دلف الغُرفة المُلحقة التي يتخذها كوكرٍ له ويستمع لهما وقد دار بينهما الحديث باللغة الروسية مستدلين بأصلهما حتى ابتسم “ماكسيم” وتحدث باللغة المصرية وهو يقول:
_”فيلين” ؟؟ قولي إيه مزعلك كدا ؟.
زفر الأخر مُطولًا وهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_فيه إن أنا كنت بجهز نفسي علشان أنزل مصر، وأنتَ عارف إن العملية دي أنا كنت مجهز ليها كل حاجة، حجم الآثار اللي هناك مهول “ماكسيم”، مش هينفع بعشوائية، ليه مصمم إنك أنتَ اللي تاخد الشغل دا، وأنا من بعد آخر مرة أنتَ حاولت فيها مخطط لكل شيء.
حينها كان “ماكسيم” يقوم بسكب الخمور في الكؤوس لهما معًا ثم اقترب من قريبه يقول ببرودٍ كعادته حينما يحاول أحدهم إثارة استفزازه من محلهِ:
_أنتَ عارف كويس جدًا أني مش بخسر، وعارف أني بحب التحديات الصعبة، لو الحكومة المصرية بدأت التنفيذ في اكتشاف المتحف يبقى مستحيل نقدر نعمل حاجة، وأنا عارف لما أنزل مصر هعمل إيه، فيه تار قديم وهاخده، من أي حد منهم حتى لو كان “نَـعيم” نفسه، طالما قرر أنه يقف في وشي.
ابتسم “فيلين” حينها وسأله بتكهنٍ:
_”نَـعيم” اللي أنتَ اتسببت في موت أخوه !! ولا اللي أنتَ واخد منه ابن أخوه ؟ متفتكرش أنه سهل علشان من بدري وأنتَ عارف إنه صعب، ومش بالسهل يقع، غير إنك وقفت قصاد الكل ومرضتش تخلي “مُـنذر” يمشي من هنا رغم أنه كان مطلوب.
حينها اتسعت عينا “مُـنذر” ولازال الحديث أمامه مُبهمًا، لم يفهم أي شيءٍ ولا حتى الرابطة بينه وبين “نَـعيم” إلى أن أضاف “ماكسيم” بنبرةٍ ضاحكة:
_طب وهو أنا غلطت يعني؟ ماهو بيتصرف زي ما أنا عاوز أهو، عنده استعداد ينتقم منهم كلهم علشان باعوه حتى من ولاد عمه اللي هما مش ولاد عمه، ونصيحة مني مالكش دعوة بيه، “مُـنذر” تلميذي الشاطر وحكايته محدش هيعرف عنها حاجة أبدًا.
لم يكن التهديد صريحًا بل توارى خلف كلماتهِ، مما جعل الأخر يطالعه بنفس الحقد، قصصهم الكثيرة في مصر لم تنتهي ومصائبهم أيضًا لم تَكُف عند حدها، مثل هؤلاء برعوا في أخذ ما لم يمتلكونه، لذا خرج “فيلين” من الغرفة ووقف ينظر الأخر في أثره بضيقٍ بينما “مُـنذر” لم تنفك الجملة عن عقله وظل صداها يتردد في سمعهِ، كيف لم يكونوا أبناء عمه ؟ إذًا من هو ؟؟.
عاد لواقعه حينما تذكر بداية اكتشافه للخطوط المُبهمة التي قد تكون أسفل الرُكامِ مما جعله يقوم بسحب الخيوط من جديد لإعادتها كما كانت تجر خلفها العبوة بأكملها، وخلال رحلة بحثه قام هو باكتشاف هويته واكتشاف قصة ابن عمه، لم تكن الأمور حينها مقبولة بل تخطت استيعاب العقل، من يستمع لقصصهم يظنها غريبة أو لربما هي من الأفلام التي تثير المُتعة في نفوس المُشاهدين لكن الأفلام في بعض الأحيان يتم أخذها من الواقع، الواقع المرير الذي يعيش أهله في مثل هذا الألم.
عاد بظهره للخلف حينما تذكر محادثته الأخيرة مع “فيلين” الذي كاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وحينها تولى هو مهمة رعايته والإشراف على حالتهِ الصحية، ليس حُبًا فيه بكل تأكيد بل رغبةً في الحقيقة التي يخفيها عنه وهي أن أصل نسبه يرجع إلى “شوقي الحُصري” وحينها أخبره بما يعلمه وهو يقول:
_”شـوقي” كان جبان أوي، خاف أخوه يطرده برة البيت ويمنع عنه ورثه لما يعرف أنه أتجوز في السر، كل اللي كان فارق معاه ساعتها الفلوس والسهر والستات، مقدرش يمنع نفسه من ملاذاته، لما والدتك حملت فيك وطلبت الجواز يكون رسمي هو اعترض وخاف، وساعتها لجأ لـ “ماكسيم” وهو خد البنت وقاله أنه هيحل المشكلة لأنه كان باديء معاهم شغل الآثار، طمع فيها “إبـراهيم الموجي” وفي الفلوس برضه استنى لحد ما ولدتك واتجوزها، بعدها حد من أهلها عرف وخدوها بلدهم تاني وغالبًا هي مقالتش حاجة عنك لأنها خافت، اللي تولى رعايتك ساعتها كان “إبراهيم” لحد ما خلاص زهق وحس إنك بقيت كبير كفاية علشان كدا رجعك تاني لـ “ماكسيم” اللي قرر أن يكون هو المسئول عنك هنا، يعني ولاد “الموجي” مش قرايبك، عمك هو “نَـعيم الحُصري” والورق وكل حاجة ليها علاقة بيك هتلاقيها مع “ماكسيم”، على فكرة كنت هتتباع برضه تاني، بس هو مستخدمك كارت ضد عمك علشان يعرف يحقق انتقامه.
نزلت عبرة واحدة من عينيهِ، لم يرد كل هذا، أصبح فقط يتمنى مجاورة عمه، يود الاحتماء به كما احتمى الغُرباء، أراد أن يعود لكنفهِ، لكن هل سيقبله عمه؟ هل أولاد عائلة الموجي سوف يوافقون على تواجده؟ والأهم من ذلك أين ابن عمه ؟ إن كان ميتًا أو حيًا أين ذهب وماذا فعلت به الأيام؟ هل تألم مثله ؟ هل لاقى العذاب في أيامهِ أم أنهم حفظوه في رعايتهم؟.
__________________________________
<“رجال أقوياء مثل السدِ للغُرباء”>
في مكتب “يـوسف” اجتمع بالشباب مع بعضهم ثم رحب بهم عن طريق تقديم المشروبات لهم وأطباق الحلويات، بينما “أيـوب” كان شاغله أكبر من كل هذا، أراد أن يتحدث معه بشأن شقيقته وبشأن ما يتم تهديده به، أراد أن يستفسر منهم عن هوية غريمه المجهول، ربما يكون الأمر أكبر من مجرد تهديدات عابرة أو حتى مواضيع جانبية، هو من الأساس أعتاد على المُطاردة والمقاومة لكنه لم يعتاد أن تتعدى الأمور حدودها إلى ذويه.
انتبه “يـوسف” لملامحه الباهتة وفهم أن هناك ما يشغل باله لذا أمعن ملامحه بتعجبٍ من صمتهِ وشرود ملامحه التي بدا عليها الوجوم وكأنه كاد أن يفقد أعز الناس على قلبهِ، لذا انتهى من الترحيب بهم وهو على رأسهم وسأله باهتمامٍ:
_مالك يا “أيـوب” ؟.
رفع عينيه له ثم وزع نظراته لوهلةٍ عابرة على أوجه الشباب ثم هتف بنبرةٍ حاول جعلها هادئة قدر الإمكان بالرغم من ظهور الضيق بها:
_أنا الحمد لله بخير، بس فيه حاجة مهمة لازم تشوفها، وعاوز منك تفسير بعد اللي حصل قبل كدا ومحاولة خطفي، أظن يعني دا أبسط حقوقي أني أفهم بما إنك عارف كل حاجة.
انتبه لحديثه “إيـهاب” الذي صب كامل تركيزه وأمعن حواسه بتركيزٍ شديدٍ مع “أيـوب” الذي اتصلت نظراته بنظرات “يـوسف” الذي سكت عن الحديث فيما أخرج “أيـوب” المظروف الأسود من جيب سترته ثم قدمه له وهو يقول بصوتٍ بدا متخبطًا أمامهم:
_الجواب دا جالي وأنا مع مراتي في شارع المُعز، معنى كدا إني متراقب وإن فيه حد بيعرف عني كل حاجة، بس كل دا أنا ممكن أعديه واتعامل معاه بكل طرقي اللي ملهمش حصر بفضل ربنا، بس اللي مقدرش أتعامل معاه إن الخطر يقرب من اللي يخصوني، لو عليا أمري سهل وكدا كدا كل يوم أنا بخرج وشايل روحي على كفوفي، إنما اللي بحبهم مقبلش فكرة حد يقفلهم، فأنا من حقي أفهم فيه أنتم إيه اللي مش عاوزني أعرفه ؟ واللي كان عاوز يخطفني قبل كدا كان غرضه إيه؟.
بدت الدهشة جلية على ملامحهم وبدا الحوار مُبهمًا لديهم عدا “إيـهاب” و “يـوسف” اللاذي بالطبع يعلما مقصد حديثه وهو ينتظر منهما الكلام حتى يفهم سبب الرسائل التي سرقت منه راحته، أما “يـوسف” فعند الحديث عن شقيقته بدأ الضيق يظهر عليه، هو من الأساس أخفاها عن عائلتهِ حتى لا تصل إليها أيديهم، وأراد أن يحفظها في كنف “أيـوب” لأنه يعلم قدرته على حمايتها، إنما بهذا الشكل نقل الخطر إلى “أيـوب” أيضًا !!.
أدرك “سـراج” بسرعة البديهة التي يتمتع بها ما يصير حوله خاصةً حينما علم الخط الذي كتب هذه الرسالة فابتسم بسخريةٍ وسأله بكل صراحةٍ دون تزييف أو حتى تجميل حديثه:
_هو أنتَ ليك في فتح الكتاب و التحصين يا “أيـوب”؟.
اندهش “أيـوب” من السؤالِ الغير متوقع تمامًا، وحرك رأسه بتعجبٍ لـ “سـراج” الذي توجهت الأبصار عليهِ مما جعله يُضيف من جديد بنبرةٍ متريثة في كلماته:
_أقصد يعني على علم بالحاجات دي صح؟.
وزع “أيـوب” نظراته في أوجه الشباب ثم أضاف من جديد بثباتٍ ينفي الظنون التي بدا واضحة أمام عينيهِ وكأنهم يسألونه عن فعله لهذه الأشياء:
_آه على علم بيها بس معملتهاش وعمري ما هقدر أعملها، أنا راجل حافظ كتاب ربنا، مش بتاجر بيه، بس دا إيه علاقته بكلامي وباللي بيوصلي؟ هل دا مبرر أني يتبعتلي رسايل تهديد؟.
تدخل “إسـماعيل” يسأله بتعجبٍ بعدما تاه عقله منه:
_معلش بس علشان عقلي تاه مني، يعني إيه فتح الكتاب؟ وإيـه علاقة دا بـ “أيـوب” ؟؟ ولو ليه علاقة بيه مين اللي هيعمل كدا يعني؟؟.
تحدث “سـراج” مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:
_اللي هيعمل كدا معروف كويس أوي، مفيش غيره “ماكسيم” هو اللي يقدر على كدا، إنما فتح الكتاب دي أنا معرفش عنها كتير بس أعرف ناس كتير اشتغلوا فيها ساعة فتح المقابر والعيال اللي بتختفي من السمان، حتى فيهم واحد اسمه “عـشم” لسه شغال كدا دلوقتي.
تدخل “أيـوب” يتحدث بنبرةٍ جامدة وكأن حديث الأخر أصاب مشاعره بالكلمات لتظهر حدته حين هتف بنبرةٍ جامدة:
_بس دا كُفر بالله، وربنا محذر منه في سورة المائدة، لأن فتح الكتاب أصلًا فعل لا يجوز، وأهل العلم نصوا بكدا، ونصوا على حرمانية الفعل لأنه نوع من أنواع الاستسقام اللي ربنا محرمه في كتابه ضمن سياق الأشياء المُحرمة، فتح الكتاب دا معناه أني حد بيجيلي يستشرني في أمر وأنا ساعتها أفتح الكتاب استخرج منه الفأل عن طريق ظهور الآيات قدامي، فإذا حصل اللي هو عاوزه انبأه بيه وإذا كانت الآيات فيها تحذير ووعيد ساعتها يتشائم، هل بقى يجوز للعبد أن ييأس من رحمة ربه لدرجة تخليه يلعب بكتابه في التفاؤل والتشاؤم؟ طب فين اليقين ؟ فين العبودية لله ؟
تطلعوا إليه بدهشةٍ وكأن الحديث أكبر من تخيلهم، نعم هم لم يكونوا بدرجة عالية من الالتزام وحتى أمور دينهم يجهلونها تمامًا يكفيهم فيها فقط الفروض وقصار السور القرآنية، أما أكبر من ذلك لم تسعفهم بيئتهم لتعلمه، أما هو فأضاف من جديد مُتابعًا:
_ فيه أمام اسمه “النفراوي” قال لا يجوز استخراج الفأل من القرآن فهو نوعٌ من أنواع الاستسقام بالأزلام، ولأنه ممكن يخرج له ما لا يُريد وحينها يتشائم المرء بالقرآنِ، في حين إن القرآن كتاب لا ريب فيه، ربنا نزله رحمة للعباد، والدليل قول ربنا سبحانه وتعالى:
“حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ”
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ”
_فتح الكتاب هو صورة من صور الأزلام، ودي حرمانية صريحة بس دا معناه إيه أنه يعوزني في حاجة زي دي؟ ولو هو فاكر إني ممكن أعمل حاجة زي دي يبقى أكيد هو أهبل ميعرفش مين “أيـوب العطار”.
تحدث “إيـهاب” بتعجبٍ أو لربما تكون حيرةً حينما تذكر ما كان يتم فعلهِ من أهل المنطقة بسبب الآثار واستخراجها وفي بعض الأحيانِ كانوا يستعينون بمثلهِ، لذا هتف مُستفسرًا:
_طب معلش يا أستاذ “أيـوب” أنا بس عاوز اسألك عن حاجة مهمة يعني ساعات هنا لما كان بيحصل حفر وأهل البيت ميقدروش يكملوا للأخر والحكومة تشم خبر كانت بتيجي ومعاها شيخ كبير وكان هو بيوجه العمال دول، إزاي والشيخ “مسـعود” كان بيقف معاهم وكان ميتخيرش عنك إمام المسجد ؟.
انتبه له “أيوب” وهتف بنبرةٍ هادئة مُفسرًا:
_علشان دي طريقة شرعية مفيهاش حُرمانية، حاجة هتخرج من باطن الأرض والحكومة تاخدها، ساعات بيكون فيه رصد أو وجود جن حاضر المكان علشان الأرواح اللي بتكون تحت الارض يعني مينفعش دجل وشعوذة ومينفعش تصديق الكهنة والانسياق وراهم لأن سيدنا “محمد” ﷺ حذر من الاستماع ليهم، وقال إن اللي بيصدقهم قد كفر بما أنزل على “محمد”، فيه تحصين وأذكار وسور قرآنية بيتم قرآتها عند خروج الحاجات دي من تحت الأرض، ببساطة كل حاجة فيها الخير والشر وبين دا ودا شعرة واحدة بس، يعني اللي بيرقي الناس رقية شرعية لوجه الله غير اللي بيتصنع الاستشفاء بالقرآن ويتاجر فيه، نفس الحكاية اللي بيحصن الناس لخروج الحاجات دي بصورة شرعية دون أي شبهات غير اللي بيستخدمها علشان ياخد الحاجة بطريقة حرام.
تدخل “يـوسف” بنبرةٍ قوية يزيل عنه التوتر وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء يحاول من خلالها طمئنة نفسه قبل “أيـوب” الذي بالرغم من ثباتهِ أتضح عليه الخوف لأجل زوجتهِ:
_وأنا مش عاوزك تقلق، علشان ببساطة مش هسمح لحد يأذي “قـمر” وبرضه مش هقبل حد يقرب منك، أي حاجة بعد كدا هتلاقيني معاك فيها، بس مش عاوزك تقلق ولا تفضل خايف، صدقني هتعدي مش دا كلامك، روق بقى.
ضحك له “أيـوب” وهز رأسه مومئًا ثم استغفر ربهِ يحاول التمسك بحبل الاطمئنان وقد أجاد الخيار حينما استمسك بأقوى الحلول وهي الاعتماد على الذِكر، لقد أعتاد أن يُطمئن قلبه بهذه الطريقة لذا تنهد بعمقٍ وهو يتوكل على خالقه في حفظهِ ورعايتهِ ورعاية أحبائه بعدما وضعهم في معية الخالق الذي لا تضيع ودائعه.
__________________________________
<“كان ولازال حزينًا، يحتاج للفرحة”>
لا شك أن السعادة حينما تأتي للمرءِ من بعد غيابٍ عنه تجعله كما طيور السماء مُحلقًا في الآفاق بكل حُريةٍ، هكذا امتلأ البيت بصوت “إيـاد” الذي كان يلعب بالدراجة في حديقة البيت من بعد انقطاعه عنها، وحينها كانت تجلس “آيـات” برفقة “نِـهال” التي كانت تتابعه بعينيها المُبتسمتين حتى سألتها “آيات” بنبرةٍ ضاحكة:
_شوفتي لما بيكون فرحان وفاضي بيعمل إيه ؟ خدي من دا كتير تنطيط وجري وطاقة بتزيد من كتر الفرح، أول مرة من زمان اشوفه كدا، فرحان ومبسوط كدا، شكرًا علشان أكيد أنتِ السبب وباين كدا من ساعة ما نورتي بيتنا.
تبدلت نبرتها في الحديث من الضحكات إلى الهدوء والتأثر مما جعل الأخرى تنتبه لها وقالت بنبرةٍ هادئة هي الأخرىٰ:
_أنا أكيد فرحانة لفرحته دي وأكيد برضه يهمني أنه يكون مبسوط، بس الغريب بقى ليه من الأول ميكونش كدا؟ ليه طفل زيه متبقاش دي حالته علطول يعني يكون فرحان ومبسوط علطول، ماشي فيه ظروف بين أهله بس هو ليه حق عليهم، لحد دلوقتي مش فاهمة إزاي أم تعمل كدا وتسيبه.
رفعت “آيـات” عينيها التي اتضح فيهما الحزن وقد فكرت كثيرًا قبل أن تبدأ الحديث بخصوص طليقة شقيقها خاصةً أنه حذرها من فتح سيرتها أمام زوجته الجديدة، وقد أخبرها أنه أخفى عنها موضوع المال الذي أخذته مقابل الصغير، لكنها لم تتمالك نفسها بل قالت بنبرةٍ متوترة:
_بصي !! أنا هقولك من باب الفضفضة بما إننا هنا مع بعض خلاص يعتبر كلنا واحد، فيه أسرار أكيد مش هقدر أتكلم فيها دي أسرار بيوت، وفيه حاجات هقولك عنها يعني علشان “أيـهم” و “إيـاد” يخصوني، الفكرة إن طليقة “أيـهم” كانت صعبة شوية ومش قصدي اغتابها والله، بس كانت حاطة حاجات قصاد حاجات متنفعش في العلاقة بين الراجل ومراته، علطول محسسانا أنه بنك بس، عاوزة لبس جديد ودهب وعاوزة شقة في العمارة الجديدة، ونبقى قاعدين نلاقيها بتجدد العفش مرة واحدة والقديم توزعه على أهلها والجيران، عاوزة موبايل جديد وعاوزة كل حاجة تكون عندها وهو علشان خاطر ابنه كان بيوافق ولما يرفض ويتضايق تروح سايبة البيت وماشية تقعد أسبوع عشر أيام لحد ما يروح يراضيها علشان خاطر “إيـاد”.
نظرت لها “نِـهال” بذهولٍ مقروءٍ في عينيها وكأنها لم تصدق أن هناك إمرأة بمثل هذه الوقاحة فيما أضافت الأخرى بنفس الحزن وهي تتابع الصغير:
_ولا مرة كان في دماغها ابنها، كل همها تغيظ صاحبتها وتكيد في أهلها وقرايبها وتمشي تتباهى بفلوس جوزها، كل دا كان ممكن يعدي لو هو كراجل عارف ياخد حقوقه الشرعية منها، إنما هي كانت كمان عاملة مشكلة لدرجة إنها دخلت بابا بينهم في حاجة زي دي وبابا ساعتها اضطر ياخد صفها، بس هو كان تعب خلاص، حس أنه هو كراجل مش محبوب لذاته هي عمالة تنهب فيه وتضغط عليه وعمالة تحسسه أنه كراجل أهميته كلها في الفلوس وبس، “أيـهم” جميل أوي وطيب وعمره ما زعل حد منه وطول عمره شايل المسئولية هنا ومع بابا حتى لما زعل منها أضطر يفوق علشان خاطر ابنه، أنا والله مش قصدي أني اخليكِ تضايقي بس ممكن تكوني أنتِ عوض لقلبه عن واحدة قبلك معملتش حاجة غير إنها تأذيه وبس وفي الأخر بتعيش دور الضحية.
بدأت عيناها تزوغ وقد شردت فيه وفي طيبة قلبه وفي المسئولية المُلقاة على عاتقهِ، منذ أن وجدته صُدفةً وتلاقت به وهي ترى فيه الصفات الحسنة التي لم تعهدها في رجالٍ آخرين غيره، وقد ظننته يفعل ذلك معها هي فقط لكن يبدو أنه يتمتع بشيم الرجال مع الجميع، شردت في التفكير فيه حتى وجدته يلج داخل البيت يُلقي عليهم التحية ثم توجه لمكان جلوسهم وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ظل واقفًا:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا جيت أغير وقولت اشوفكم لو عاوزين حاجة علشان رايح أجيب حاجات تبع الشغل لـ “أيـوب” عاوزين حاجة قبل ما أطلع؟ خلوني ألحق أجيبها وأرجع تاني.
هتفت “آيـات” بوجهٍ مُبتسمٍ له تنفي كونهم في حاجة لأي شيءٍ من الخارج:
_تسلم يا حبيبي الصبح أنا وطنط “وداد” جيبنا كل حاجة متقلقش، أطلع غير أنتَ علشان تلحق مشوارك، أحضرلك الغدا ؟؟.
حرك رأسه نفيًا ينفي حاجته لعرضها ثم أستاذن منهما وتحرك نحو شقته لكن “نِـهال” انسحبت من محلها واستأذنت هي الأخرى من “آيـات” التي ابتسمت لها ثم ذهبت لابن شقيقها تلعب معه لكي تترك لهما الحرية، كاد أن يقوم “أيـهم” بإغلاق الباب لكنه تفاجأ بها تلحقه وما إن طالعها حينها ابتسمت له وهي تقول بنبرةٍ لاهثة بسبب ركضها على الدرج:
_أنا جيت علشانك.
عقد ما بين حاجبيه وردد خلفها باستنكارٍ:
_علشاني أنا !! عاوزة حاجة؟.
حركت رأسها موافقةً ثم دلفت الشقة وأغلقتها وقالت بثباتٍ حاولت به إخفاء توترها أو خجلها:
_أنا طلعت علشانك أنتَ، أكيد هتحتاج مساعدة، فأنا هنا لو محتاج حاجة، تحب أساعدك؟.
رفرف بأهدابهِ كثيرًا يستنكر عرضها وطريقتها بينما هي سحبت نفسًا عميقًا تُهديء به نفسها ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تشرح له الأمر الذي ظهر في عقلها من بعد حديث شقيقته عنه وعن تجربته السابقة:
_بص يا “أيـهم” أكيد الحياة بينا مش هتفضل كدا وأكيد برضه أنا مش هقبل أكون أنانية في التفكير حتى لو فيك أنتَ، يعني أكيد هتيجي لحظة ونتخطى فيها كل حاجة حصلت لينا قبل كدا، وأكيد أنا عليا التزامات هنا وليا دور، ممكن تتعامل معايا عادي بلاش الحدود دي بيننا؟ على الأقل علشان أحس إني مرتاحة شوية أني مش شخص وحش.
تفهم هو مشاعرها المُتخبطة التي ظهرت في كلماتها لذا هتف بنبرةٍ هادئة يُزيل عنها عبء التفكير من خلال حديثه:
_وأنا مقولتش ليكِ حاجة دا بيتك، بس كل الحكاية أني متعود أعمل كل حاجة لنفسي، مخدتش لسه على فكرة إن حد يساعدني، يعني بقالي حبة حلوين شايل مسئولية “إيـاد” وفي نفس الوقت مش برضى أجي على “آيـات” بس لو عاوزة تساعدي أنا مرحب أوي بدا، وعلى فكرة أنتِ مش وحشة.
ابتسمت أخيرًا براحةٍ له أو ربما كانت بسمتها امتنانًا له ثم تحركت من أمامه نحو الداخل تحديدًا لداخل غرفته فيما وقف هو ينظر في أثرها بحيرةٍ جعلته يُمعن النظر أكثر في وجهها عند خروجها له من جديد وهي تبتسم ثم هتفت بنبرةٍ هادئة وهي تشير إلى ثيابه التي تمسكها في يديها:
_بص الطقم دا هيكون حلو أوي، وبما إنك رايح مشوار سريع وراجع تاني يعني أكيد مش محتاج تلبس بدلة زي ما أنتَ بتلبس علطول كدا، جرب دا كدا ؟؟.
كانت تمسك قميصًا من خامة الجينز باللون الازرق ومعه البنطال باللون الأسود والحذاء باللون الأبيض، لقد اعتاد في فترته الأخيرة على ارتداء الملابس الرسمية وقلما ارتدى مثل هذه الثياب، لكن مع تجديد الشقة قام بتجديد ثيابه أيضًا، وقد أومأ لها موافقًا ثم أخذ الثياب منها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حاضر، رغم إني بحب البِدل أكتر يعني بس مش هقدر أكسفك، تسلم أيدك يا ست حلويات، ألف شكر.
ضحكت له بصوتٍ عالٍ وهذه تقريبًا المرة الأولى التي تضحك فيها له منذ قدومها إلى هنا، أشرق وجهها له، أُزالت الخوف من ملامحها وبدلته بالسعادة، أما هو فتحرك نحو الداخل يُبدل ثيابه وقد تحركت هي نحو المطبخ، لم تفهم لما تفاقم شعور المسئولية تجاهه، أرادت أن تفرحه لعلها بذلك تزيل عنه عبء ماضيه لذا وقفت تقوم بصنع الشاي له ثم أخرجت الكعك من الثلاجة حتى وقامت بتقطيعهِ لأجلهِ وما إن خرج هو لها بعد مرور عدة دقائق أقتربت منه بصينية معدنية فوقها الشاي والكعك وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_دي علشان تتصبر بيها لحد ما ترجع علشان الغدا، أمسك.
لا يعلم هو إن كانت هي تقصد فعل هذا الشيء لأجلهِ أم إنها فقط اعتادت على ذلك في زواجها القديم لذا سألها بنبرةٍ هادئة يشير إلى ما تحمله بعدما ابتسم لها:
_دي علشاني برضه ولا متعودة على كدا؟.
ابتسمت تُطمئنه وهي تقول بنبرةٍ خافتة تحاول إخفاء خجلها فيها:
_دي علشانك أنتَ، إن شاء الله تكون عادة بقى.
اندفع بمرحٍ يمسك وجهها بين كفيهِ كأنه يعامل صغيره ثم لثم وجنتيها تباعًا واحدة تلي الأخرى وقد ارتخت أعصابها وكادت أن توقع من يديها الصينية لكنه كان الأسرع حينما أسندها وهتف بمراوغةٍ عادت له من جديد:
_اسم الله والحارس الله، مش تحاسبي؟ شكل العادة كانت هتتقطع من جذورها خالص، اللهم احفظنا يعني.
تعالت ضربات قلبها بشكلٍ ملحوظٍ واستنتج هو تأثيره عليها لذا قرر أن لا يتمادى في المزاح وعاد لرسم الجدية من جديد وأخذ منها الصينية وهو يقول بنبرةٍ هادئة قوية بعض الشيء:
_تسلم إيدك، يدوبك هلحق أشرب الشاي قبل ما أتحرك.
حركت رأسها موافقةً دون أن تفهم على ما وافقت ثم توجهت نحو المطبخ مُجددًا، هي فقط شعرت بشعور غريب عند اقترابه منها، لم تنس أنها في الماضي كانت تعاني أيضًا، وخاصةً عند اقتراب ذلك المزعوم زوجها، كان قربه منها هلاكًا حتى إنها كانت تخشى في بعض الأحيان اقتراب أهلها منها، هذه المرة شعرت إنها مُطمئنة له حتى وإن مد ذراعيه يُعانقها ستعلم إنها تفتقد للأمانِ وربنا يكون هو الآمان بذاته كما أخبرها أنها محطة وصوله أخيرًا.
__________________________________
<“إذا أردت لنا الشر، فاجتهد في صنع حُفرتك”>
لقد كُتِبَ لهما أن يكونا معًا منذ البداية، لم يفهم أيًا منهما السبب تحديدًا لكي يكونا معًا ولكي تجمع بينهما شتى الطُرقات بمختلف أنواعها، أوقف “يوسف” سيارته أسفل بنايته يقطع الطريق على “أيـوب” الذي نظر له من زجاج السيارة باستفسارٍ جعل “يـوسف” يخرج من سيارتهِ ثم ذهب إلى الآخر يميل على نافذة سيارته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_بقولك إيه ؟ البت “قـمر” قالتلي أجيب ليها حاجة حلوة وأنا راجع، ما تيجي أنتَ هلاقي أحلى من كدا إيه يعني؟.
رفع “أيـوب” حاجبيهِ مُستنكرًا لا يُصدق ما يصل لسمعهِ مما جعل الأخر يرد على نظراته بقوله ضاحكًا:
_طب والله عاملين أكل حلو وعاوزك تيجي تاكل معايا، لو مش أحسن تبقى وفرت برضه، هاكله بكرة أنا.
فتح “أيـوب” السيارة وخرج منها وهو يبتسم له ثم أضاف بنبرةٍ ضاحكة يمازح الأخر بقولهِ:
_وعلى إيه تاكله بايت؟ ما ناكله طازة النهاردة وخلاص.
بعد مرور دقائق دلفا سويًا المصعد، وقد تعجب “أيـوب” كثيرًا من الأخر وانبساطه معه، “يـوسف” الذي دومًا يقف أمامه صلدًا وجامدًا وكأنه لم يتقبل وجوده الآن يعرض عليه تناول الطعام معه بل ويمازحه أيضًا ؟؟ تبدو أن الصداقة بينهما ستزداد مع مرور الوقتِ وتتوطد العلاقة بينهما.
خرج “يوسف” أولًا من المصعد وخلفه “يوسف” وقام الأول بالضغط على جرس الباب حتى فتحته “قـمر” التي كانت ترتدي عباءة فضفاضة من عباءات والدتها وقامت بفرد خصلاتها، كانت تظن أن الطارق هو أخوها، لكنها لم تضع في الحُسبان أن يكون زوجها معه، وبدلًا من أن تركض أو حتى تختبيء قالت ببلاهةٍ ضاحكة:
_يا خبر أبيض، على بابي واقف قمرين مع بعض ؟.
ضحك “يـوسف” عليها بيأسٍ فيما رفع “أيـوب” رأسه بعدما زاحمت البسمة وجهه، لأول مرة يراها بخصلاتها البنية الناعمة وهي مفرودة تمامًا، ولأول مرة يكتشف هذه البراءة فيها، كانت رغم عفوية هيئتها إلا أنها بدت أمامه بريئة ورقيقة وخاصةً وهي تضحك بسعادةٍ له، كانت ولازالت الفِتنة التي تتفنن في إغواء التقي الزاهد مثله، لقد زهد في كل شيءٍ إلا هي، هام على وجهه في الحياة يسير منساقًا خلف رغبته في مخالفة الهوىٰ لتكون هي كل ما له القلب اهتوىٰ.
ابتسم “يـوسف” وقال بسخريةٍ وهو يطالع نظرته لها:
_يعني بعدما طرفتي عينه جاية دلوقتي تدشملي قلبه؟ يلا يا حلوة أدخلي هتفضلي واقفة لينا كدا زي الكمين على الباب؟.
تحركت نحو الداخل بسرعةٍ كُبرى فيما ابتسم “أيـوب” باتساعٍ أكبر ثم تحرك مع “يـوسف” نحو الداخل لتأتي “غـالية” وترحب بهما معًا، لازالت تبتسم كلما رأت “أيـوب” برفقة ابنها، تمامًا مثل شعور والدتك حينما ترتاح لأحد أصدقائك، هي أيضًا تحب فكرة تواجدهما معًا، أما “أيـوب” فتلقائيًا يرحب بها ويتبع ترحيبه بقوله المُهذب:
_أنا آسف يا أمي إني جيت فجأة كدا، بس بصراحة أنا قولت أطلع أتطمن عليكم، وقولت كويس إن “يـوسف” هو اللي عرض عليا حاجة زي دي.
كان دومًا عن الجميع غريبًا، لم يشعر أن هناك مكانٌ يألفه، ولم ينتمي لأي أرضٍ، دومًا يستثقل تواجده مع الناس، لكن هنا يجد العكس تمامًا، رغم عدم وجود أي روابط دموية بينهم إلا أنه يستأنس بجوارهم، لذا ردت عليه هي ترفع الحرج عنه وتُزيد من الألفة بينهما:
_متقولش كدا هزعل منك، زيك زي “يـوسف” و “عُـدي”، أنتَ ابني برضه، نورت يا حبيبي عن إذنك هروح أحضر الغدا.
كان يطالعها بوجهٍ مُبتسمٍ فهذه المرأة دومًا تذكره بوالدتهِ، تذكره بنفس الهدوء والبسمة الطيبة والحب التي تحفظه في قلبها لهم، لما يراها في كل الناس وكأنه يتمنى أن يعثر عليها فيهم؟ لما الآن يحتاج أن يظهر ضعفه ويخبرها بمخاوفهِ، أراد أن يختلي بنفسهِ لكي يتحدث معها لكنه تذكر أنها موجودة بداخل قلبهِ لذا رفع كفه يمسد بحركةٍ خافتة يلتمس صدق وجودها معه.
في مكان أخرٍ تحديدًا بمنطقة “مصر الجديدة”
خرج “عُـدي” من مقر عمله كما المعتاد في هذا التوقيت، وسار عدة خطوات من محل عمله حتى يلحق بموقف الحافلات لكي يصعد للحافلة التي ستقله إلى بيتهِ وكغيره من المواطنين تمام على حقيبة ظهره والنقود الفراطة لكي يدفع ثمن التذكرة، وما إن ركب الحافلة تنهد بعمقٍ وهو يفكر إلى متى سيظل هكذا؟ يعمل في شركة لم تعترف بشهادته التي عمل بكل جهده وطاقته ورسم عالمًا ورديًا بعد الانتهاء من تخرجه لينتهي به في هذه الشركة التي يأخذ منها مبلغًا زهيدًا يكاد يسير به في أيامه وهو يعاون والده، لم ينكر أن حاله أفضل من حال الكثيرين لكن أحلامه كانت بسيطة دومًا وهو لم يطولها.
صدح صوت هاتفه برقم شقيقته مما جعله يخرج الهاتف من جيبه ثم جاوبها بنبرةٍ خافتة وهو يقول:
_ها يا “ضُحى” ؟؟ خير إن شاء الله.
هتفت في المكالمة باندفاعٍ وكأنها تخشى ما تتحدث عنه:
_أنا لسه مقبتضش والفلوس اللي كانت معايا خلصت، معلش بقى ادفعلي القسط بتاع الموبايل خليك جدع وأنا هبقى أديك الفلوس، والله مش معايا يكمل لآخر الشهر.
زفر مُطولًا وها هي الأموال التي وفرها طوال الشهر أتت شقيقته من حيث لا يدري، وبالطبع لن يرفض ولن يوافق أن تتعرض شقيقته لأي كلمة من أحدهم لذا هتف بخنوعٍ يطلب منها وكأنه لم يملك أي حلولٍ غير هذا:
_ابعتي صورة بطاقتك وأنا هعدي على الفرع حاضر.
بدت البهجة واضحة في صوتها وهي تقول بحماسٍ:
_والله أنا قولت ماليش غيرك، ربنا يباركلي فيك.
ابتسم رغمًا عنه ثم هتف بقلة حيلة يقصد أن يُمازحها:
_طب روحي سخني ليا الأكل خليني أكل يلا.
أغلق معها الهاتف وقبل أن يضعه في جيبه صدح صوته من جديد برقمٍ مجهولٍ وقد تردد في الجواب خشيةً أن تكون خطيبته هي المُتصلة وخشيةً أن يكون مديره بالعمل يريد منه عملًا إضافيًا، لذا تجاهل المكالمة في المرة الأولى حتى تجددت للمرة الثانية وقد جاوب في أخرها بعدما استسلم لفضولهِ، فإذا كان المتصل مديره سيتعامل معه وإذا كانت الأخرى سيغلق في وجهها.
جاوب بقلة حيلة على المكالمة حتى خرجت نبرته آلية بدون أي ترحيب وكأنها مُبرمجة:
_ألو، مين معايا ؟.
كان يعطي طابعًا جادًا في نبرتهِ حتى لا يتطرق لأية أحاديث قد تثير غيظه لكنه انتبه لصوت فتاةٍ تجاوب بترددٍ ردًا عليه لكن طريقتها رسمية مهذبة:
_مساء الخير أولًا بعتذر عن الازعاج، معاك “رهـف”، أنا اللي حضرتك ترجمت ليها حاجات في الشغل قبل كدا تبع “يـوسف”، افتكرتني؟.
تبدلت ملامحه على الفورِ وهتف بتيهٍ بقدر ما حاول أن يخفيه كانت العلاقة عكسية وظهر أكثر:
_آه…فاكرك فاكرك، اؤمري فيه حاجة؟.
تنفست بعمقٍ ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
_طب الحمد لله إن حضرتك فاكرني، كان فيه ايميل هيوصل عليه رد، الرد وصل الحمد لله بس محتاجين ترجمة تكون بروفيشنال، أنا حاولت أترجم أنا بس الحقيقة صدق اللي قال أدي العيش لخبازه، علشان كدا ينفع ابعته لحضرتك ولما تترجمه تبعته؟؟.
حمحم بقوةٍ يرسم على صوته طابع الجدية ثم هتف بنبرةٍ هادئة ردًا عليها:
_تمام مفيش مشاكل بس حاليًا أنا في المواصلات وقدامي بالكتير ساعة وأكون في البيت، فممكن لو سمحتي لما أروح وأظبط نفسي كدا تتواصلي معايا ؟ دا رقمي ابعتي الحاجة واتساب وأنا هسجله عندي.
وافقته في الحديث وقبل أن تغلق معه هتفت من جديد كأنها تذكرت لتوها:
_طب معلش في حاجة مهمة، لو هبعتلك الفلوس ابعتها إزاي ؟؟ على نفس الرقم دا ولا فيه رقم تاني؟.
تعجب من حديثها وسألها باستنكارٍ كأنه يستدرجها في الحديثِ:
_فلوس إيه معلش؟ أنا مش فاهم.
هتفت بتلقائيةٍ شديدة دون تنتبه لتأثير حديثها عليهِ:
_فلوس ترجمتك، أكيد دا وقت من وقتك ومجهودك وشغلك، يعني لازم تاخد مقابل شغلك دا فلوس، أكيد شركتك بتديك فلوس قصاد شغلك ولا أنا غلطانة؟ بعدين أنا متفقة مع “يـوسف”.
لم يعلم لما شعر أن حديثها جارح أو ربما فيه إهانة لشخصه، من الأساس هو يقبل العمل لأجل أخيه لم يكن همه المال أبدًا، لذا هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء ردًا على حديثها:
_وأنا مش بتاع فلوس يا آنسة، أنا إذا كنت بعمل حاجة فبعملها علشان أخويا مش أكتر، وإذا كان على المرة اللي قاتت فأنا كنت بهزر معاهم، حضرتك فهمتيني غلط، وإذا كان على “يـوسف” فأنا هعرفه كويس إني مش كل همي الفلوس، عن إذن حضرتك.
لم يفهم هو لما أخذ الحديث بهذه الحساسية المفرطة على مشاعره، لم يفهم لما رآى فيها إهانة لشخصهِ، هل يعقل أن تكون هذه الفتاة كمن لا يشعرون بغيرهم وكل شاغلها فقط إتمام العمل بدون الإهتمام بمشاعر الآخرين، أما هي فأذنت له أن يغلق المكالمة بقولها موجزةً بكلمةٍ واحدة فقط “اتفضل” وما إن أغلقت معه أدركت خطئها، هي من الأساس اخطأت حينما تحدثت معه في شأن المال، كان يتوجب عليها أن تتركه لـ “يـوسف”، لذا حدثت نفسها تؤنبها بقولها:
_غبية، أكيد زعل، والله مكانش قصدي خالص.
في حارة “العطار” جلس “أيـوب” برفقة زوجتهِ فوق سطح البيت بعدما استأذن منهما “يـوسف” ورحل إلى مشوارٍ في غاية الأهمية، أما “أيـوب” فأراد أن يهدأ هُنا بجوارها، كل حديثه لها في خطابه الأول من بعد عقد القران أراد أن يؤكده لها، هل يشاركها ما يحمله في داخله ويتقاسم معها الهم أم يتركها كما هي بروحها المرحة؟؟ وجدها تقترب منه وهي تبتسم له تمسك في يديها الشاي ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_الشاي أهو، لأجل عيونك أنتَ وبس.
ابتسم لها ثم أخذه منها وأشار لها أن تجاوره حتى جلست هي بجواره تسأله باهتمامٍ عن حالهِ وكأنها استشفت من نظراته أنه ليس على ما يُرام:
_هو أنتَ فيه حاجة مزعلاك؟ حساك كدا مش أنتَ.
سحب نفسًا عميقًا ثم هز رأسه مومئًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_مش حاجة مزعلاني، بس حاجة شغلاني واللي بيشغل الإنسان في دنيته بيكون صعب أوي، تحسيه تقيل على الراس والكتف مش متحمله، عارفة إحساس إنك لازم تقومي تتحركي وتعملي حاجة بس في نفس الوقت مش عارفة إيه اللي المفروض تعمليه؟ وفي نفس الوقت معروف عنك إنك بتعمل كل حاجة صح؟ نفس إحساسي بالظبط، حاسس أني المفروض أعمل حاجة أنا مش عارفها هي إيه.
لم تجد ما ترد به يعبر بفصاحةٍ له عن حلها، هي من الأساس تتلعثم في الحديث العادي فكيف لها أن تنطق وتعبر له عن مشاركتها حزنه لذا وضعت رأسه على كتفها بحركةٍ تلقائية منها أدهشته هو ثم أضافت بنبرةٍ هادئة بعض الشيء ظهر عليها الخجل:
_حط راسك هنا، يمكن أفكارك تتلاقى ببعضها، أعتبر كتفي سند لراسك، صحيح مملكش قوة كبيرة تساندك في طريقك، بس اعتبرني معاك علطول، دي أنسب طريقة لدماغك تهدا شوية يا “أيـوب”.
حركتها هذه وحديثه جعلاه يغمض عينيه باطمئنانٍ، الأن فقط يفهم المعني المادي لعلاقة الزواج التي يحدث الناس عنها، هذه الصغيرة التي تقريبًا تشبه جناحي الطير في ضعفهما، تسانده بقوة محاربٍ لا يخشى ميدان المعركة أو حتى سيف العدو؟ أما هي فابتسمت بخجلٍ حينما وجدته يسكن برأسه فوق كتفها، لم يكن رأسه ثقيلًا، بل كان بخفة العصفور حينما ينتقل بين أغصان الأشجار باحثًا عن عشهِ لتكون هي قراره الأخير.
صورة رأسه الساكنة على كتفها أبلغ من كل الكلام وأفصحه أيضًا، وقد شعرت هي بمشاعرها تتفاقم تجاهه، أرادت أن يبقى هكذا بجوارها يطمئن لها هي من بين سائر الناس، أما هو فتعجب لما لم يكن العالم بقدر نقائها هي؟ لما ظهر فيه الخبث وسواد القلوب والضغينة؟ كيف للبشر أن يسعون لتدمير كل ماهو جيد في نفوس الآخرين وأولهم من كان في نقائه هو.
في الأسفل قام “يوسف” بتبديل ثيابه وقرر أن يذهب ويحضر زوجته من عملها، زوجته أو حبيبته؟ ربما تكون أكبر له من كل هذا والأدهىٰ أنه أصبح يعترف لنفسهِ قبل أن يعترف لها هي، لذا خرج من البناية وقرر أن يسير على قدميهِ إليها، كان هادئًا والصفاء يحتويه بداخلهِ حتى تقابل مع غريمهِ في وجهه !! لم يكن في حاجة رؤيته هذه الفترة نهائيًا، الراحة التي أضحى يعيش بها لم يرد لها أن تتعكر برؤيته، أما الآخر فابتسم له وهو يقول بسخريةٍ:
_دا أنا قولت أنتَ نازل مخصوص علشاني.
وضع “يوسف” كفيه في جيبي سترته ورد عليها بسخريةٍ يقصد التقليل منه بقولهِ:
_ وهو أنا يوم ما أنزل مخصوص من بيتي هنزل علشانك أنتَ !! أنا نازل علشان أجيب مراتي من شغلها ونتشمى مع بعضنا شوية، فترة تعارف بقى قبل الفرح، عقبالك يا رايق.
أجاد هو تدوير الكرة في ملعبه من جديد وقد أجاد بكل براعةٍ أن يعكر هو صفو الأخر، وتأكد هو من ذلك من احتقان وجهه ونظرته الحادة التي رمق “يوسف” بها، أما الآخر فلم يفضل السكوت ولم يكن هو طريقته أبدًا لذا هتف بنبرةٍ وقحة يقصد الإشارة بحديثه إلى زوجة الأخر:
_مش معقول، جيت متأخر للأسف، أنا سبقت وخدتها أيام ما كانت بخيرها وفيها عِزها، وزي ما قالوا زمان اللي سبق أكل النبأ، جيت أنتَ أيام الشقا برضه.
في هذا الوقت تحديدًا أي كلمة تُلقى عليها تكفيه أن يقوم بدفن الأخر في أرضهِ لذا هتف ببرودٍ يتنافى مع رغتبهِ في قتلهِ والتخلص منه لكنه في غِنا تامٍ لتزداد قائمة أعدائه:
_وماله ماهما اللي قالوا الجملة دي برضه كان قصدهم يداروا على وكسة اللي سبق علشان ساعتها اللي جه بعده كل التفاح كله، يعيني كل غرضه يسبق وأخرتها محلك سر، أما اللي حضر متأخر اتشاف ومش بس كدا!! دا إتحس كمان، أشوفك بخير.
كاد أن يلتفت ويتركه ليغير مساره تمامًا ويأخذ المسلك الأخر للذهاب إليها، لكن صوت هذا البغيض اوقفه حينما هتف بنبرةٍ عالية:
_خليك فاكر !! قريب أوي أنتَ هتقلب الدنيا عليا وتبوس رجلي، وساعتها أنا هخليك تندم بجد إنك فكرت تيجي على حاجة تخصني، بالشفا بقى.
التفت له “يوسف” يهتف بسخريةٍ ردًا عليهِ ومتجاهلًا عن قصدٍ حديثه وكلماته:
_ابقى أغسل رجلك الأول يا معفن قبل ما تتكلم.
ضحك له “سـعد” الذي أثار حفيظته بأسلوبه بينما “يوسف” هتف بنبرةٍ هادئة يرد عليه من جديد خاصةً وهو يستهزيء به عن طريق ضحكاته:
_اليوم الوحيد اللي هيخليني أدور على واحد زيك وأقلب المكان عليه هو اليوم نفسه اللي هحط راسك تحت رجلي وأخلي أمك تقف تبوس هي رجلي علشان أسيبك، وبالمناسبة بطل أحلام فارغة، أكيد عارف إن اللي بيحلم كتير كدا بيكون مش متغطي كويس، علشان كدا روح لماما قولها تغطيك كويس علشان شكلها قصرت في الرعاية وأنتَ صغير.
تركه ورحل من المكان بالرغم أن مشاعره انبئته بما لم يكن خيرًا بتاتًا، أنذرته بحدوث شيئٍ يخشاه هو، يكفيه من الأساس خوفه على شقيقته، الأمر الآن يزداد إلى زوجته؟ حسنًا ربما بعض التريث هو فقط ما يحتاج إليه حتى يتعامل مع هذا البغيض، وقد وصل أخيرًا إلى العيادة يقف أسفلها في انتظارها حتى وجد الطبيبة تخرج من البناية وخلفها إحدى النساء فعلم أنها شارفت على الظهور، لذا انتظرها لمدة دقائق قليلة حتى وجدها أمامه وما إن تلاقت نظراتها بنظراته تلقائيًا ابتسمت بسعادةٍ بالغة بعينيها قبل شفتيها حتى سألها هو بنبرةٍ رخيمة مُشيرًا على عينيها:
_هما ضحكوا لما شافوني ؟.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_حسيت كدا كأني خارجة من المدرسة وبابا واقف مستنيني، بس الفرق إن دا شغل يعني مش مدرسة.
ابتسم هو لصراحتها وهي تخبره بما تراه فيه وكأنها تؤكد له نجاحه فيما أراده وهو أن يكون الوحيد الذي يتحمل مسئوليتها، أما هو فشبك كفه بكفها ثم هتف بنبرةٍ هادئة ردًا على حديثها:
_الله يرحمه، أنا هفرح أوي لما تشوفيني زي والدك.
كانت تسير بجواره بهدوءٍ وهي لم تنس ليلة الأمس، لازال أثر اعترافه مُعلقًا في رأسها، لازالت صورتها المطبوعة على الحائط هناك أمام عينيها، ذكرى البارحة لم تنفك عن عقلها، حتى الآن لم يفارقها كما ظنت في دربها، يسير بجوارها وكفه يتشبث بكفهِ، تشعر أنه أكثر من شخصٍ، تعجز في بعض الأحيان عن التعرف عليه، لكنها في كل مرة تتعرف عليه، انتبه هو لصمتها فسألها بسخريةٍ:
_لأ مش علشان قولتلك دوشة دماغي بتسكت عندك يبقى تسكتي أنتِ كمان، اتكلمي يا “عسولة”.
تحدثت بسخريةٍ ردًا عليهِ بقولها:
_طب هتكلم أقول إيه ؟ كلمني أنتَ خليني اسمعك أحسن.
قلب عينيه بتفكيرٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة يقترح عليها بقولهِ:
_طب إيه رأيك نبدأ نتكلم عن فرحنا؟ مش كدا أحسن؟.
ابتسمت له بخجلٍ ثم هزت رأسها موافقةً على سؤاله ليبتسم هو لها بعينين صافتين وراحةٍ تخللت ملامحه، أراد أن يرى رد فعلها على أمر زواجهما وخشى أن يكون مثل السابق النفور والضيق، لكنها نفت ظنونه حينما ابتسمت له فيما شدد هو مسكته لكفها ثم سار معها يتحدث عن عملهِ وعن يومه كيف سار تقريبًا، الأمر معها على عكس المعتاد، كلاهما يتعافى بوجود الأخر معه والقلب يخبر القلب بكل صدقٍ:
_من الجيد إنكَ أتيت فَبِكَ أنا تعافيْت.
__________________________________
<” النساء مثل الزهور، فقط أهتم بها لتأخذ رحيقها”>
في بهو بيت “نَـعيم” جلسوا الشباب مع بعضهم أو للصدق مع هواتفهم، قام “سـراج” حينها بتفحص صفحاتها التي أعادتها هي من جديد، عادت تنير كل الأماكن حولها كما كانت دومًا، رأى صورها برفقة والدها وعمتها، وتوثيق لحظاتها في “مصـر” من جديد، ابتسم بعينين حزينتين عند تذكره لأمر رحيلها، لم يعد يملك أي حيل، تحبه نعم، لكن الكره أيضًا موجود بداخلها، طوال الفترة السابقة لم تنس هي ما حدث هل ستنسى حينما عادت الذكريات لها من جديد؟.
جلس “إسـماعيل” يدخن سيجارته بهدوءٍ وقد أغلق هاتفه تمامًا، لم يرد أن يُعلق نفسه بها، أراد أن يحتمي من الحياة في نفسه دون الحاجة لأحدٍ غيره، القلب يريد شيئًا والعقل يريد نقيضه وبين ذلك وذاك يموت هو بأنفاسٍ متقطعة من الركض بينهما، كل الظاهر أن رجلاً مثله لن يتم رفضه البتة، لكن في الباطن الأمر غير ذلك، كيف يخبرها بماضيه وأسرارهِ؟ كل الأشياء تنذره بالتوقف عن ذلك، عاد بذاكرته إلى الخلف حيث الماضي تحديدًا في يومٍ تم فيه جرحهِ على أيد صغارٍ مثله اكتشفوا حقيقته قبل أن ينتقل إلى بيت “نَـعيم”.
[منذ عدة سنوات]
كان “إسـماعيل” إبان ذلك يلعب في الأزقة الخلفية لبيته مع صبية الحارة، كان يمتاز بالخفة من صغره في الألعاب التي تتطلب إلى القفز والحركات السريعة، وقد ربح على مجموعة من الصغار حينما قفز بين بيتين دون أن يلمحه الصغار، وحينما تضايق أحدهم من ربحه في اللعبة هتف بنبرةٍ جامدة مشيرًا عليهِ:
_أنتَ بتغش كل مرة، سألت أبويا أصلًا وقالي إنك ملبوس علشان كدا بتكسب كل مرة، يلا يا ملبوس، يا عيال !! “إسـماعيل الموجي” ملبوس محدش يلعب معاه تاني، الملبوس أهو، الملبوس أهو.
حينها أشارت الصبية عليه تزامنًا مع قولهم بنبرةٍ عالية يقومون بمعايرتهِ على ما لم يكن بيده “ملبوس” !! ، حينها بكى وسطهم بحرقةٍ وتوسلهم أن يتوقفوا عن الحديثِ، صرخ وسطهم وهو يضع كلا كفيه على أذنيه يقوم بصمهما عن أصواتهم التي تشبه السكين حين ينخر في شرايين القلب، استمر هكذا حتى ركض إليه نجدته كما أعتاد هو دومًا، ظهر لهم وفي يده الحجارة يرميهم بها حتى يبتعدوا عن شقيقهِ الذي جلس القرفصاء وهو يبكي بقهرٍ، أما هو فقام بضمهِ مُربتًا عليهِ لكي يتوقف عن البكاء أما الآخر فارتمى بين ذراعي شقيقه ومن بعد موت أمه لم يجد أمامه سواه فقط، لذا قال بقهرٍ أقرب للصراخ:
_خليهم يسكتوا يا “إيـهاب”.
[عودة إلى هذه اللحظة]
عاد من ألم الذكريات لرحلة الواقع، كلاهما يحمل بداخلهِ الألم والفارق بينهما أنه عاش ما فاته وسيعيش القادم عليه لذا يتوجب عليه أن يتوقف عن أحلامه الغبية الحمقاء، من المؤكد ستخشاه كثيرًا ومن المؤكد أن نظرتها له ستتبدل كليًا ويقرأ هو الخوف عليها لكن المُتسبب سيكون هو بكل تأكيد، وبالرغم من ذلك لم ينكر أنه حقًا استأنس بها كثيرًا في خيالهِ، لقد أصبح يعرف كل شيءٍ عنها تقريبًا ومن المؤكد أنها الوحيدة التي حصلت على هذه المكانة من بعد أمه.
جلس “مُـحي” مَجبورًا على ما يفعله وهو الاستماع لمحاضرةٍ لأستاذٍ من أساتذة كُليته نظرًا لامتحان الغد الذي ينتظره، جلس وبكل نفاذ صبرٍ بدون الملاحظات الهامة، من الأساس كان من أمهر الطلاب في دراستهِ، أشاد بمستواه كل المعلمين، حصل على درجةٍ عالية في مرحلة الثانوية العامة، أهلته لدخول كلية الصيدلة بجامعة القاهرة، ليتبدل حاله من بعدها كُليًا ويسير مُنساقًا خلف رغباته في إفساد نفسه.
كان “إيـهاب” جالسًا وسطهم يتابع هاتفه هو الأخر ويَرد على رسائل زوجته التي كانت تشاكسه بإرسال صورتها مع “جـودي” وهي تلعب معها، كان يضحك بين الحين والآخر عليهما وكأنها لم تُفارقه في حياتهِ حتى وهو يبعد عنها عدة أمتارٍ كانت معه، رفع رأسه يقرأ النظرات في أعين الثلاثة وقد أدرك السبب وحينها قال بسخريةٍ:
_ ماهو أنتم اللي تاعبين نفسكم !! يا حمار أنتَ وهو الحريم زي الورد سقيت رعاية واهتمام هتاخد ريحة حلوة وحنان، بس نقول إيه ؟ عالم غشيمة، واحد عمال يبكي على الأطلال ومش راضي ياخد خطوة تصلح اللي فات، والتاني مستخسر الخطوة أصلًا في نفسه والتالت عمال يرمي الخطوات في كل حتة كدا لما مش عارف هو في أنهي بلد أصلًا، عن إذنكم هطلع أشوف مراتي، جاتكوا الهم عالم قلق.
تحرك نحو شقته بعدما تركهم وهرب منهم لملجأه المرح، هو حقًا يحتاج لمرحها وحديثها وطريقتها العفوية التي تمتاز بطابع العشوائية، دلف الشقة ومنها نحو غرفتهِ مُباشرةً، ليجد “سـمارة” بداخلها تقوم بوضع الكُحل في عينيها، ركز ببصره معها ليبتسم بعينيه أولًا، لا يدري إن كان هذا كُحلًا أم سحرًا تُزين به جفونها، وقد سار إليها بخطواتٍ بطيئة مُنصاعًا خلف تأثير هذا السحر وقد وقف أمامها لتطالعه بعينيها تستفسر منه وهي تكتم بسمتها بينما هو أخذ ريشة الكُحل منها ثم قام بتكملة ما فعلته هي ليزين جفنها الأيسر بالكحلِ وحينما ابتسمت هي له وجدته يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أوصل الأعين ببعضها:
_المثل برضه بيقولك طباخ السم بيدوقه، طب والله عيونِك حلوين زي ضي القمر في ليلة عتمة.
قبل أن تنطق هي أتت الصغيرة تقطع لحظتهما معًا وهي تقول بنبرةٍ حماسية عند رؤيتها له:
_”عـمهم” !! أنتَ جيت ؟!
تلاشت بسمته والتفت خلفه يطالعها ثم هتف بسخريةٍ:
_آه يا قدر “عمهم” جيت، آه يا بختي المنيل.
ركضت إليه حتى يحملها وما إن فعل ذلك قال يحذرها بقولهِ مما هو قادم:
_أعملي حسابك هتنامي في الأوضة التانية، وأنا هنام هنا، السرير هناك صغير مش برتاح عليه.
حركت كتفيها بلامبالاةٍ ثم هتفت تؤكد حديثه بقولها:
_ماشي، بس “سمارة” تيجي تنام معايا هناك.
ضحكت “سـمارة” على قول الصغيرة فيما رد عليها هو بنبرةٍ جامدة يُعاند معها بقولهِ:
_لأ ماهي المشكلة في “سـمارة” نفسها، علشان كدا هتنامي لوحدك هناك وأنا هنام في أوضتي هنا، قولتي إيه يا قشطاية؟
زفرت هي بقوةٍ ثم سألته بما لم يتوقعه هو منها حينما أجادت رسم الدلال عليهِ وهي تتحدث بطريقةٍ لم تكن غريبة عنه بتاتًا بل يعلمها عن ظهر قلبٍ:
_يرضيك يعني يا سي “إيـهاب” أنام لوحدي وأخاف؟.
التفت لزوجته يسألها بدهشةٍ وكأنه وقع تحت أثر الصدمة واختلطت عليه الأمور ببعضها:
_أنتِ بتتكلمي ليه دلوقتي؟ أنا عاوز اسمعها هي.
ردت عليه زوجته بحنقٍ تدافع عن نفسها من اتهامه الباطل لها في ظنه أنها هي من تحدثت وليست الصغيرة:
_والله يا أخويا ما نطقت أصلًا، هي اللي قالت كدا.
حرك رأسه نحو الصغيرة بدهشةٍ من جديد وتلك المرة كسا الاستنكار ملامح وجهه ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة حينما أدرك حقًا أنها هي من تحدثت بسبب نظراتها التي أدعت البراءة:
_هي عضتك ولا إيه ؟ يخربيتك دا “سـراج” ممكن يروح فيها دي، والواطي جايبها من غير ضمان أتاريها بتلقط برضه.
ضحكت الإثنتان عليهِ وعلى سخريتهِ فيما ضم هو الصغيرة ثم لثم وجنتيها وهو يمازحها بينما هي تشبثت به لكي تعاند “سمارة” التي ابتسمت لها بطيبةٍ ولم تهتم كثيرًا بمعاندة الصغيرة لها.
__________________________________
<“ينطقها القلب ويخشاها اللسان”>
عند علمه بضرورة حضوره إليه لم يُكذب خبرًا، بل تحرك إليه بكل سُرعةٍ حتى يعلم ما الجديد في أمر ابنه الغائب، أراد أن يُحيي الأمل من جديد بداخل قلبه، أما الآخر فأراد أن يراه فقط، أراد أن يستأنس به وكأنه آخر ما تبقى من سلسال عائلته، يشبه النازح الفلسطيني عند نزوحه من أرضه إلى أرضٍ أخرى وحينها يأخذ معه مفتاح بيته يقينًا في العودة من جديد، عند قدوم “نَـعيم” إليه يختبر نفس شعور الأسير الذي لم يُحرر بعد لكنه لمح بعينيه آشعة الشمس لتخبره بقدوم الحرية وفَك الأسر للأبدِ.
وقف أمامه “نَـعيم” في هذا المخزن الذي اختاره الأخر لكي يقابله به بعيدًا عن أنظار “ماكسيم” الذي يقوم بعملية إخراج الآثار اليوم من أرضها، رفع “مُـنذر” عينيه نحوه فوجده يسأله بلهفةٍ أقرب في صدى صوتها للوعةِ:
_طمني يابني، عرفت حاجة عن ابني ؟؟.
لمعت العبرات في عينيهِ وحرك رأسه موافقًا ثم هتف بثباتٍ قاتمٍ نتج عن روحٍ سبق وتم قتلها:
_عرفت عن أخوك اللي محدش كان يعرفه، والعيل بقوا اتنين يا حج، ابنك وابن أخوك “شـوقي” الله يسامحه بقى.
رفرف بأهدابهِ مستنكرًا وقع الكلمات على سمعهِ وكأنه يجرب احساس السمع للمرةِ الأولى حتى باتت الكلمات مجهولة بأكملها وكأنه لم يعرفها ولا يعرف حتى مقصد مخارج هذه الحروف، ألم يكن واحدًا ؟ كيف أصبحوا اثنين؟
_________________________
لا تنسوا الدعاء لإخواننا وتذكروا أن الدعاء هو السلاح الوحيد والكلمة جهاد، ادعوا لأهلنا في فلسطين وسوريا والسودان، لا تغفلوا عنهم.
_____________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى