روايات

رواية غوثهم الفصل السادس والسبعون 76 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والسبعون 76 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والسبعون

رواية غوثهم البارت السادس والسبعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السادسة والسبعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والسبعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
الدمعُ مني فاض وسال
ابكي عليِّ وعلى قلبي بكل حال…
إلهي أرجوك بكل ثنايا القلب
والقلب في البُعدِ عنك يحمل الهموم الثِقال..
أتيتُ وأنا أعلم أن القلب مني مال
والبُعد عنكَ كربٌ والعودة ليست بمحال.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
“تاهتْ عُيوني في بُحورِ عُيونِها
واختارَ قلبي أن يغوصَ فيغرقا
أوَّاهُ من رمشٍ أحاطَ بعينها
سهمٌ توغَّلَ في الوريدِ فمزَّقا”
_كلمات كتبها الشاعر وربما يكون عاشها، لكنني أظن أنه أهداني أنا هذه الكلمات قبل رحيله لتكون أكثر الأوصاف بلاغةً عن شعوري أمام عينيكِ، فها أنا حسبتُ نفسي ناجيًا من الغرقِ ولم أضع في الحُسبان أن أغرق في بحور عينينكِ، ها أنا هربت من سهام ألف عدوٍ وحدك من قتلني كان سهم عينيكِ، أنا من أقمت الحروب بمهارة فارسٍ ولم تأتيتي الهزيمة من سواكِ، ومن غيركِ ومن سواكِ تهزمني عيناها، ليصبح الفارس المنتصر في كل ميادين المعارك، مهزومًا من سهامكِ وأنتِ تتركيني حائرًا، فكيف لفارسٍ مثلي لم يعرف سوىٰ الانتصار أن تكون هزيمته من عينين؟.
<“إذا كنتُ مجبورًا فاستمتع عند أخذ حقك”>
_ما تقولنا كدا يا “عمهم” أخوك هيعمل إيه لما يعرف إنك أنتَ اللي قتلت أبوك ومخبي؟!.
برقت عيناه للخارج بصدمةٍ وتجمد محله وقد حقًا قُتل من جديد بهذه الرسالة، لم يظنها قريبة بهذا الحد ولم يظن أن مجرد كلمات تشكلت بجوار بعضها تتحكم في مصيره، وأي مصيرٍ هذا، فهو مصير شابٍ قتل أبيه، ازدرد لُعابه بخوفٍ وزاغت عيناه بحركةٍ مُشتتة التقطتها زوجته ومدت كفها تتلمس كفه وهي تسأله بنبرةٍ متباينة المشاعر بين القلق والتعجب من تحوله بهذه الطريقة:
_مالك يا سي “إيـهاب” !! فيه حاجة؟.
انتبه لها ولكفها الذي يُعانق كفه ثم أخفض عينيه نحوهما ورفعها من جديد بأسفٍ وهو يقول بنبرةٍ واهنة:
_بقولك إيه، أنا رايح للحج وجاي تاني، مش هتأخر ومش عاوزك تضايقي، كملي أكلك أنتِ يا “سمارة”.
سحب كفه من أسفل كفها الذي ارتخي تلقائيًا عن كفهِ وهي توميء له موافقةً بوجهٍ مبتسمٍ تُطمئنه بهذه الطريقة فيما خرج هو من الشقة يتوجه نحو مُغيثه، كان يهرول بخطواتٍ واسعة وكأنه يُلاحق السراب قبل لكي يتمسك به قبل ظهور الحقائق، والحقائق هذه لم تكن عابرة فحسب، بل هي قاتلة وألوانها قاتمة إذا خيمت على أيامهم ستملؤها باللون الأسود الحالك..
دلف مهرولًا حتى وصل لمكان الخيول وهو يعلم أنه يجلس هناك في هذا التوقيت، ركضه وخوفه في هذه الحالة أشبه بنفس حالته أثناء ركضه يومها، وصل إليه وقد انتبه له “نَـعيم” الذي التفت بنصف جسده إثر صوت دخوله الذي صاحبته الهرولة العنيفة وقد ضيق جفونه يتفرس ملامحه الذي أتضح عليها الخوف ليجد الأخر يقترب منه وهو ينطق بأنفاسٍ متقطعة:
_أنا جاي علشان تلحقني.
أقترب منه “نَـعيم” فورًا ما إن استمع لصوتهِ الخائف الذي بدا عليه الإضطراب جليًا وسأله مستنكرًا حالته والذعر البائن في نظراته:
_مالك يا “إيـهاب” فيك إيه ؟ حد حصله حاجة؟.
حرك رأسه موافقًا عدة مرات بنفس الخوف ثم أخرج الرسالة يضعها نصب عيني الأخر الذي صُدِمَ في باديء الأمر ثم تداركه سريعًا وأخرج زفيرًا قويًا ثم سأله بنبرةٍ ألبسها وشاح اللامبالاة حين هتف:
_طب وفيها إيه؟ أنتَ كنت بتدافع عن نفسك وعن أخوك، وساعتها محدش كان يعرف غيري أنا وأنتَ، وقولتلك أكيد حد من الرجالة الشمال اللي أبوك بيشتغل معاهم هيكون عرف إن حد اللي عملها، أنتَ إيه اللي مخوفك كدا؟.
سأله بنفس عدم الاكتراث ليصرخ “إيـهاب” في وجههِ قائلًا بنبرةٍ عالية:
_فيه إن “إسـماعيل” ميعرفش، ساعتها كان نايم متخدر مشافنيش ولا عرف أني زقيته، فيه أني مش عاوز أخويا يكرهني ويخاف مني لما يعرف إني قتلت أبوه، فيه أني مش عاوزه يحس بالعار مني ومن أبوه، واحد تاجر آثار والتاني قتل أبوه تاجر الآثار، دي حياة حد يقبلها !!.
صرخ في وجهه مستفسرًا بقهرٍ أعرب عن وجع قلبه ليعلم الأخر أن حالته هذه نتجت عن متاعب شديدة يحاول هو إخفائها عن نفسهِ قبل الآخرين لينطق “نَـعيم” بنبرةٍ هادئة بعدما مسح على ظهرهِ:
_دي حياة مكانش حد هيقبلها خالص، لو سلمت لأبوك وأوامره إنه يلعب بحياة أخوك ويخليك زي ما أنتَ عيل نشال يسرق الكُحل من العين، اللي عملته دا كان دفاع عن نفسك ونفس أخوك اللي أب زي أبوك عاوز يدوس عليهم، ولو أخوك عرف مستحيل يزعل منك، بالعكس دا هيشيلها طول العمر دَيْن في رقبته يا “إيـهاب”.
ازدرد لُعابه ليروي حلقه الجاف ثم سأله بنبرةٍ منكسرة بعد حديث الأخر الذي طمئن قلبه ولو لطرفة عينٍ:
_هو أنا هرتاح إمتى بقى؟ أنا تعبت من كل حاجة، عاوز أرتاح شوية من الهم وقلبة الدماغ وعاوز أتطمن إن أخويا كويس مفيش حاجة بتهدد حياته، أظن من حقي يعني أرتاح بعد الغُلب والشقا دا.
أقترب منه “نَـعيم” أكثر ثم ضمه إليه يمسح على ظهره بحنوٍ بالغٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يحدثه بما يمسح على قلبه المكلوم:
_متزعلش نفسك بقى ولا تفكر ولا تشغل عقلك، وإذا كان على أخوك أنا هتصرف واللي بعتلك كدا تلاقيه واحد من رجالة الـ*** “ماكسيم”، روح يلا ريح شوية وأقعد مع مراتك النهاردة وخرج نفسك من الهم دا بقى، ولا أخليك ترمي عليها يمين الطلاق ؟!.
ابتسم “إيـهاب” أخيرًا ورفع رأسه ثم لثم جبين “نَـعيم” وهتف بنبرةٍ هادئة وصادقة بنفسها الكلمة التي نادرًا ما يتفوه بها:
_ربنا يباركلي في عمرك يا أبويا.
ضحك “نَـعيم” بصوتٍ عالٍ ثم أشار له لكي يتحرك من مكانه وقد خرج “إيـهاب” بحالٍ تبدل كُليًا عن حال دخوله إلى هُنا، فيما زفر “نَـعيم” بقوةٍ وهو يفكر في حلٍ لهذا الشاب الذي يعتبر النسخة الأخرى منه، يعلم جيدًا أن الهموم إذا تكالبت عليه ستعصف به ولهذا السبب غرق في التفكير لينتشله حينها صوت هاتفه برقم العزيز عليه مما جعله يبتسم رغمًا عنه وجاوب على المكالمة بلهفةٍ وهو يقول:
_حبيب عمك، مش ناوي تخليني أشوفك؟؟
جاوبه “مُـنذر” بنبرةٍ ظهرت فيها فرحته بهذه المكالمة وهو يقول:
_والله وحشتني أوي، أنا بقالي هنا كام يوم أهو برتب حاجات مهمة وتقريبًا خلصت، ممكن أجيلك النهاردة أشوفك وأقعد معاك شوية، طمني إيه أخبارك ؟ كويس؟.
ابتسم “نَـعيم” مُجددًا وهتف بنبرةٍ هادئة ظهرت فيها أثر ابتسامته:
_مبسوط علشان كلمتك ومبسوط علشان باين على صوتك إنك بخير، وهبقى مبسوط أكتر لما تيجي تقعد وسط أخواتك هنا، قولي بس محتاج حاجة؟ فلوس لبس أي حاجة؟؟.
ابتسم “مُـنذر” وهتف بنبرةٍ ضاحكة بعدما أرخى جسده على الأريكة التي يجلس عليها:
_والله يا عمي أنا كل اللي ناقصني أني أجيلك تحضني وكله هيبقى تمام، على العموم لو أنتَ محتاج حاجة عرفني وأنا أسيب الدنيا كلها وأجيلك لحد عندك.
دار بينهما الحديث من جديد بسعادةٍ بالغة الأثر من كليهما بحديثهِ مع الآخر بينما “إيهاب” توجه إلى شقتهِ من جديد وقد قرر أن يترك كل الأمور لحين وقتها وما عليه الآن هو أن يستمتع بوقته لذا عاد لزوجته يستأنف معها لحظاته المميزة لعل ما يتعايش هو معه يزيل عن رأسه حمل التفكير.
__________________________________
<“لقد غادرتك محطة الوصول بنفسها”>
عاد بالصغير إلى بيته منذ مايقرب الساعتين ولازال الصغير ينتظر عودة أمه حتى سئم الإنتظار فاقترب من عمه الذي يجلس في ردهة البيت يتصفح هاتفه وهو يسأله بنبرةٍ حزينة:
_هي ماما هتتأخر؟ أنا جيت من بدري.
هتف “أيـوب” بنبرةٍ هادئة بعدما أغلق هاتفه وهو يتحدث بكلماتٍ تُطمئنه:
_متقلقش يا عم مالك فيه إيه؟ هي باباها تعبان شوية بس وراحت تشوفه، ولا نخليها تنسى أهلها علشان خاطرك يعني؟ بعدين ما أنا قاعد مستني بابا أنا كمان مش عاوز ييجي، خليك قاعد معايا زمانها جاية.
حرك رأسه موافقًا لكنه لم ينس حالة القلق التي بدأت تساور عقله مثل التصاق السوار في معصم اليد، رغمًا عنه وعن أنف عقله الصغير تذكر هذه الحالة البائسة التي كان يعيشها في السابق حينما يعود ويجد البيت فارغًا من أمـهِ ويجلس في إنتظار عودتها لمدة تصل في بعض الأحيان لأسبوعين كاملين حتى تعود من جديد، الآن أيضًا يجلس والخوف رفيقًا له وهو يفكر بكل ذعرٍ هل من الممكن أن تعود هذه الحالة من جديد وينتظر عودة أمه؟.
ظل مكانه بدون حراك و “أيـوب بجوارهِ ينتظر عودة أبيه الذي منذ الأمس وهو يرمقه بسخطٍ مبالغٍ في أثرهِ عليه وقد قطع لحظة انتظارهما هذه خروج الهرة الصغيرة كما يلقبها “أيـهم” وماهي إلا “آيـات” التي خرجت تمسك في يدها كوبًا من مشروبها المُفضل وحينما رأتهما بهذه الحالة أقتربت وهي تسأل بحيرةٍ:
_مالكم !! أنتوا قاعدين كدا ليه؟.
انتبه لها الإثنان وقد رد عليها “إيـاد” بلهفةٍ:
_هي ماما هتتأخر؟! بكلمها مش بترد عليا أصلًا.
حركت عينيها نحو “أيـوب” الذي مط شفتيه بيأسٍ ثم عاودت النظر إليه وتركت ما تمسكه وأخفضت جسدها وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له:
_لأ مش هتتأخر بس هي بتشوف باباها علشان تعب شوية، بعدين يعني علشان هي مش هنا هتفضل قاعد كدا؟ قوم هات حاجتك يلا نذاكر شوية وهي هتيجي النهاردة ولو لقيتك مخلص كل حاجة أكيد هتفرح، صح؟ يلا روح هات شنطتك.
ركض الصغير على الفور وهي تنظر في أثره مبتسمة الوجه ثم اعتدلت في وقفتها لتجد “أيـوب” أمسك الكوب الخاص بها وتناول مافيه وحينها جلست بجواره وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما توسعت ضحكتها:
_إيه يا سيدي؟ مزعل الناس منك ليه؟ القمر من ناحية، وحما القمر من ناحية وبنت حما القمر من ناحية تالتة؟ بقينا بنتشاقى خلاص؟.
نظر لها بطرف عينه ثم نظر أمامه من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_والله ياختي ما زعلت حد، أبوكِ اللي مرة واحدة كدا بصلي بصة عيل مقفوش بعلبة سجاير والقمر نفسه بقى دي في الطراوة بعتتلي رسالة إن الوضع مش نافعها وأنا كمان مش نافعها.
شهقت “آيـات” تلقائيًا وهي تحاول التحكم في ضحكتها لتجده يقول بنبرةٍ ضاحكة هو الأخر حينما طالع ملامح شقيقته:
_استني بس، بعدها بخمس دقايق لقيتها بعتالي تقولي الكلام دا في وقت انفعال وهي لما تتجوزني هتعدل حالي المايل دا، على أخر الزمن الشيخ “أيـوب” بقى حاله مايل.
ضحكت “آيـات” من جديد وضحك هو رغمًا عنه حينما تذكر رسالة زوجته فيما طلبت منه شقيقته أن يختار معها بقية التفاصيل الأخيرة الخاصة بشقة سكنها مع خطيبها “تَـيام” لذا كان يختار معها بكل حبٍ وحماسٍ حتى جاورهما “إيـاد” وبدأ يختار معهما لتمر لحظات أخرى تبعها دخول “عبدالقادر” و “أيـهم” معه فركض نحوهما الصغير يسأل والده بلهفةٍ:
_هي ماما ماجتش؟ هتيجي إمتى؟.
عقد “أيـهم” مابين حاجبيه وهو يطالعه بتعجبٍ وهتف يستفسر منه بقولهِ:
_هي ماما مش هنا ؟! أومال فين؟.
هتف “أيـوب” بنبرةٍ هادئة يجاوبه بما حدث وكيف أخبرته أن يأتِ بالصغير إلى هنا وقد ازداد تعجب الأخر أكثر وهو يسأله مستنكرًا بحيرةٍ كبرى:
_كلمتك أنتَ؟ طب مكلمتنيش أنا ليه طيب؟.
التفت له “عبدالقادر” يهتف بنبرةٍ جامدة وهو يلفت نظره لما تفوه به شقيقه:
_هتفضل تسأل ليه مكملتكش؟ ولا تروح تشوف مراتك وحماك وتقف معاهم؟ يلا روح دلوقتي وأبقى طمني ولو فيه حاجة كلمني هجيلك، يلا.
أومأ له “أيـهم” موافقًا ثم تحرك من جديد وقبل أن يوقفه “إيـاد” لكي يذهب معه فأوقفه “عبدالقادر” حينما هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم له:
_لأ خليك هنا علشان بابا يروح يجيبها ويرجع تاني، ويلا أقعد ذاكر كويس وخلي بالك من نفسك لحد ما ترجع تاني يلا يا “أيــهم” روح هات ماما وتعالى.
تحرك “أيـهم” فيما أمسك “عبدالقادر” كف الصغير لكي يدخل معه لغرفته وهو يتجاهل “أيـوب” عن عمدٍ لكن الأخر أوقفه بقولهِ المرح وهو يقصد مشاكسته:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا “عبده”
كتم “عبدالقادر” بسمته ورد عليه بملامح جامدة يشوبها الانبساط الطفيف فور استماعه لجملة صغيره لتخرج جملته تهكمية:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا نن عين “عبده”.
ضحكت “آيـات” بصوتٍ عالٍ جعل “أيـوب” يقبض على خصلاتها وقد أرتفعت ضحكاتها أكثر ليلثم هو جبينها حينما وجدها تتشبث بهِ قبل أن يمزح معها بيده.
__________________________________
<“الخطأ كان بسيطًا، وأثره فاق بساطته”>
أنهى “يـوسف” عمله أخيرًا ورحل بعدما ودع الشباب ورحل من المكان يتوجه إلى حارة “العطار” وقد قرر أن يبقى مع أمـه حتى ترضى عنه بالرغم من علمهِ لسبب خوفها عليه، وقد وصل إلى هناك ليجد “قـمر” تجلس أرضًا تلصق ظهرها في الأريكة ووالدتها تجلس على الأريكة وهي تمشط لها خصلاتها وكأنها طفلة صغيرة، ابتسم بعينيه وفاض الحنين من نظراتهِ وأغلق الباب ليقترب منهما وهو يقول بنبرةٍ دافئة ورخيمة:
_مساء العسل على حبايب عيوني.
نظرت له والدته بحاجبٍ مرفوعٍ ثم تنهدت بضيقٍ وحينها رفع كفه يحك فروة رأسه ثم تحرك يجاور أمه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_ماشي، اتقلي عليا كويس، بس مش حرام يعني تفضلي زعلانة مني كدا؟ على فكرة أنا روحت أجيب حاجات مهمة من هناك، ولو نيتي وحشة كان ممكن أخبي عليكِ أني روحت بيت “الراوي” بس أنا مبكدبش ووشي مكشوف، وكان معايا “أيـوب” كمان يا ماما، زعلانة مني ليه بقى؟.
تنفست الصعداء من جديد وهتفت بنبرةٍ محشرجة وهي تخبره عما في قلبها بكل صراحةٍ دون أن تخفي عنه شيئًا:
_زعلانة منك علشان مش مقدر خوفي وحالتي، روحت هناك تعمل إيه ؟ وبتقولهم ليه إنك عايش هنا وإنك معانا؟ أنا خايفة عليك أنتَ، اللي يعملوا في واحدة ملهاش حد ويحرموا بنت صغيرة من أخوها وطفل من عيلته يبقوا عالم جاحدة، وطول الليل مخوفني عليك !! ليه يا “يـوسف”؟.
أنبته بحديثها وألمته بنبرتها الباكية وقد شعر حينها بالذنب أكثر من السابق مما جعله يمسك كفها بين راحتيه ثم لثمه بكل حبٍ وأسفٍ جعلها تطالعه بعينين ترقرق بهما الدمع وهو يقول بأسفٍ:
_أنا آسف وحقك عليا والله، بس أنا مبعرفش أسكت عن حقي، كنت كدا قبل ما “مصطفى” يسيبني لوحدي، لكن دلوقتي أنا مينفعش أسكت، علشان زي ما داسوني قبل كدا هيدوسوني تاني، وعلى رأيك، اللي مرحموش عيل صغير زيي، هيرحموا راجل كبير زيي؟ بس أوعدك أني مش هقلقك تاني، بس بلاش تزعلي مني، أنا ماصدقت إنك معايا.
ابتسمت هي رغمًا عن ضيق ملامحها وشملت ملامحه بنظرةٍ مُحبة نتجت عن قلب أمٍ يحمل الحنان بداخله لتهتف بوجهٍ ازداد ابتسامته:
_هزعل إزاي من حبيب عيوني؟.
توسعت بسمته وصرخت عيناه بالفرحةِ ورأى هو بنفسه قلبه الذي هلل فرحًا وكأنه خرج من بين الضلوع، حينها ضمها بين ذراعيه يشدد ضمته لها لكي تضع رأسها على صدره ولم يفصل لحظتهما هذه سوى صوت “قـمر” التي هتفت بحنقٍ:
_والله ؟؟ طب وأنا وضعي إيه؟.
ضحكت “غالية” على تذمرها فيما ترك “يـوسف” والدته ثم أمسك فرشاة الشعر منها وأقترب يجلس محلها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_أنتِ روح قلب “يـوسف” استني اسرحلك شعرك.
قال جملته ثم بدأ في تمشيط خصلاتها الناعمة وهي تضحك بسعادةٍ ثم صفقت بكفيها معًا، ضحك هو أيضًا على فعلها بينما والدته طالعته بعينين دامعتين وهي تقول بنبرةٍ مُحشرجة وهي تراه بصورةٍ تُطابق صورة صغره:
_افتكرتك لما كنت بتعمل كدا معايا وتصمم تسرحلي شعري، أنا هقوم أسخن الأكل وأعمل حسابك تروح تشوف مراتك وتيجي تسرحلي زي القمورة كدا، ماشي يا ابن “مصطفى”؟.
حولت نبرتها للمزاح وهي تتحرك من محلها نحو الداخل فيما أبتسم هو بسعادةٍ ثم استأنف ما يفعله مع هذه الصغيرة التي قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_بص هغني دلوقتي وأنتَ كمل زي ما أنتَ.
أقترب برأسه من رأسها يسألها بملامح مبتسمة وبنبرةٍ رخيمة:
_طب هتغني إيه وأغني معاكِ؟
راقصت له حاجبيها وهي تقول بمراوغةٍ:
_السود عيونه يا ولا.
عاد للخلف تلقائيًا بعد جملتها فيما ضحكت هي عليه وعلى إحراجهِ ليبدأ هو فيما قرر أن يفعله وهي تجلس بهدوء تام تبتسم بحبٍ لما يفعل أخوها الحبيب وهي تتخيل والدها أيضًا في صغرها يفعل ما تفعله نسخته المُصغرة منه، ولو الأمر كان بيدها لكانت تدللت أكثر ومازحت أخيها لكنها قررت أن تتصف بالعقل وتستمتع بسكون هذه اللحظة، ولم يختلف حاله عن حالها بل كان سعيدًا بما يفعل حينما ذكره بأيام صغره.
__________________________________
<” لما الأسف؛ لقد تسببوا في جرح قلوبنا”>
لقد كانوا غرباءً عنَّا في بداية الأمر ثم أصبحوا الحياة بمحورها في أعيننا، مجرد أناس جمعتنا بهم الطرقات صدفةً من بعدها أصبحت كل الطرقات تقودنا إليهم، غريبة من الأساس الطرق التي أصبحنا نسلكها لأجل من كانوا يبعدون عننا بُعد الشمس عن الأرض..
ابتسم “أيـهم” بتوترٍ حينما أوقف السيارة أمام بناية بيت زوجته ونزل منها ليمر على باب عمل والدها وقد ظن في بداية الأمر أنه قد يكون بداخل البيت نظرًا لمرضهِ ولم يضع في خيالهِ أن يراه محله وقد دلف له يهتف بثباتٍ بعدما ارتسمت الهيبة على ملامحه الوقورة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إزي حضرتك يا عمي؟ طمني على صحتك إن شاء الله تكون بخير.
انتبه “شلبي” للصوت وابتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ يا جدع نورت، وحشتني.
أنهى جملته ثم وقف يرحب به بوجهٍ بشوشٍ يُنافي جموده السابق معه وقد تعجب “أيـهم” من ذلك لكنه ابتسم له ورد عليه الترحيب بنفس الود وجلسا معًا يتحدثان سويًا ومن وسط أطراف الحديث المُتبادلة هتف “أيـهم” مستفسرًا منه بتلقائيةٍ:
_طب وحضرتك نزلت إزاي وأنتَ تعبان؟ مش المفروض ترتاح؟.
رد عليه الأخر بنفس التلقائية دون أن ينتبه لطريقة سؤاله:
_الحمد لله بقيت أحسن بكتير، بصراحة من ساعة ما أخواتي بعدوا عني وأنا بقيت مرتاح، ومن ساعة ما “نِـهال” بقت مرتاحة ومبسوطة وأنا كمان مرتاح علشانها، وكويس إنك جيت، يلا أطلع سلم على حماتك وأنا هخلص كام حاجة وطالع وراك أهو.
تحرك “أيـهم” نحو الأعلى وهو يفكر فيما حدث ويحاول ربط الأشياء ببعضها، إذا كان والدها يبدو طبيعيًا في أحسن حالته لما كذبت بشأن مرضه؟ ولما من الأساس تركت البيت دون أن تخبره؟ ظل هكذا حتى وصل إلى شقة والدها ودلف بعدما رحبت به والدتها وأخبرته أنها في غرفتها منذ أن وطأت قدماها إلى هنا من جديد.
استأذن من حماتهِ ودلف غرفتها فجأةً ليجدها جالسة على الفراش وهي تبكي وتضم ركبتيها إلى صدرها وتحاوطهما بذراعيها وما إن انتبهت لدخوله حركت رأسها نحوه لتتصل نظراتهما ببعضهما، الاستنكار من جهتهِ والعتاب من قِبلها وقد أغلق هو الباب وأقترب منها يسألها بلهفةٍ:
_دا واضح إنك تعبانة أوي !! مالك بس؟.
بمجرد ما سألها بهذه النبرة وجدت نفسها تبكي من جديد بصوتٍ أعلى جعله يضمها إليه وهو يقول بنفس القلق بعدما حاوط جسدها المرتجف بذراعيهِ:
_بس علشان خاطري، مالك طيب ومين زعلك؟.
أبتعدت عنه تخبره بصوتٍ متقطعٍ بسبب البكاء:
_أنـ..أنتَ.
انفرجت شفتاه عن بعضهما بذهولٍ وتجمدت نظراته وارتخى ذراعاه عنها لتقول هي بنبرةٍ باكية من جديد:
_طليقتك جاتلي الشغل وقالتلي حاجات كتير مش مهمة كلها وقالتلي إنك قولتلها أني مطلقة ومبخلفش، يمكن هي تكون وصلتها ليا بطريقة غلط، بس كلامها وجعني أوي، ليه قولتلها حاجة زي دي؟ عايرتني زي ما كانوا بيعايروني كلهم، الخلفة دي نصيب ورزق ربنا مش كاتبوا ليا…
ضمها له من جديد وتلك المرة ضغط على جسدها أكثر وهو يقربها منه ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يُخلل أنامله في خصلاتها:
_حقك تزعلي بس والله العظيم مش أنا اللي قولت ليها، وربنا ما أعرف هي عرفت منين ولقيتها جت وأول ما جابت سيرتك في الكلام انا مقدرتش أسكت ولقيت نفسي بقولها كلام غريب مش طبعي ولا طبع تربيتي، مش بعمل كدا علشان انتقم لنفسي بس جوايا حاجة مستحملتش إنها تجيب سيرتك في الكلام، صدقيني والله أنا مقدرش حتى أزعلك.
نزلت دموعها وهي تسأله بنفس الصوت المُختنق:
_طب مين قالها؟ أنا مصدقتش أي حاجة قالتها عنكم وعن عيلتك وكنت عارفة إنها بتكدب بس لما قالت إنك عرفتها أسباب حياتي قبلك أنا لقيت نفسي بتوجع منك أنتَ، أنا والله ماصدقت حياتي تتصلح شوية وأحس إني ينفع أعيش حياة زي أي ست غيري..
ابتسم رغمًا عنه ثم لثم جبينها وهتف بنبرةٍ هادئة:
_هي تقريبًا دورت أو سألت وحبت تعرفك بنفسها بطريقتها، بس وعد مني ليكِ حقك هيرجع، أنا كنت بقول أسكت أحسن علشان دي أم ابني، بس خلاص هي مش لزمانا ولا لازمة ابنها نفسه، وإذا كان على ابني فأمه أهيه في حضني وبتعيط ومنكدة على أبونا.
أبتعدت عنه ترمقه بأسفٍ وهي تقول:
_أنتَ حلفت أهو إنك مقولتش حاجة وأنا مصدقاك علشان عارفة إنك مش بتكدب وإنك مش زي حد، بس علشان خاطري أنا مش عاوزة أخسرك وأخسر “إيـاد” بعدما بقيت أخيرًا حد يُعتمد عليه، لو أنتَ اللي قولت عرفني.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ بدت جامدة رغمًا عنه حين هتف:
_والله ما أنا يا “نِـهال”، أنا مش عيل صغير بريالة علشان أقول كلام من غير ما أحسبه، ولو عليا وعدتك إني مش هسيب حقك، بعدين ولو نفترض إني قولت، فيه إيه يعيبك؟ دي حاجة بتاعة ربنا، سواء الطلاق أو الخلفة دول نصيب، وأنا بحبك زي ما أنتِ، ولو عليا كنت رجعت العمر كله من الأول علشان أكون معاكِ أنتِ بأي حال وأي وضع، بس نرجع ونقول الحمد لله إن فيه “إيـاد” معانا.
خفق قلبها خفقة قوية جعلتها تشدد مسكتها على كفهِ ثم سألته بتعجبٍ من بين دموعها وهي تحاول إخراج غوغاء فضولها لخارج رأسها:
_هو إزاي أنتَ كدا وحبيتها؟ إزاي وأنتَ مفيش منك؟ شوفت فيها إيه يخليك تحبها وأنا شاف فيا إيه يخليه يضربني كل يوم ويعتدي عليا من غير حق؟.
ابتسم بقلة حيلة ثم أنزل أنامله نحو عينيها يُزيل العبرات العالقة بأهدابها ثم هتف بنبرةٍ هادئة ورخيمة يخبرها بكل بساطة:
_علشان أنا مشوفتش يا “نِـهال” أنا كنت أعمى وعيني عليها غشاوة ومعرفتش إني أعمى غير لما شوفتك أنتِ، فأنا دلوقتي أقدر أقول إن قلبي الأعمى فتح على إيدك.
سحبت نفسًا عميقًا تحاول من خلالهِ وقف البكاء لتجده لثم جبينها من جديد ثم هتف بنبرةٍ رخيمة يعتذر لها:
_حقك وحق قلبك على قلبي أنا من كل الدنيا حتى من قبل ما أعرفك، أنتِ أحسن ست في الدنيا كلها، ومفيش منك اتنين ولا تتقارني بحد، ولو عليا فأنا والله متكفي بيكِ وبـ “إيـاد” من كل الدنيا، ها لسه زعلانة؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبتسم له فوجدته يقترب منها أكثر وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم ينفك عنها الخبث:
_كويس إنك مش زعلانة علشان أبوكِ فاكرني راجل محترم، مش عاوزه ييجي يشوفني ببوس بنته ولا بحضنها، ويلا يا حلو يا محلي قومي غيري هدومك علشان هنروح، ولا يرضيكي “إيـاد” يزعل مني؟.
حركت رأسها نفيًا من جديد ثم وضعت رأسها على صدرهِ وهي تتمسك به وهتفت بنبرةٍ هادئة بعدما أدركت صدقه وانتبهت لكذب الأخرى:
_أنا مقدرش أزعله ولا أقدر أزعلك أنتَ كمان، علشان النعمة ميقدرهاش ويعرف قيمتها غير اللي اتحرم منها، وأنا كنت محرومة منكم انتوا الاتنين والله، وما صدقت بصراحة بقيت معاكم، منها لله عكننت عليا.
ضحك بصوتٍ عالٍ جعلها تضربه في ظهرهِ بكفها حانقةً على ضحكته في حين أنها أصبحت أمامه ساذجة لم تفهم الأمر إلا عند رؤيتهِ، فيما أطمئن هو أن نظرتها صفت له مثل قلبها لذا ظل بجوارها وهي بين ذراعيه تخبره بما حدث إجمالًا وتفصيلًا وتخبره كيف شعرت حينها بهذا الإحساس الذي طابق طعنات القلب، أخبرته أن الأخرى طعنتها في أنوثتها وفي كبريائها وكأنها أتت لتؤكد لها أنها لم ولن تصبح أمًا لـ “إيـاد” كما أخبرته عن نظرة زملائها لها أنها مجرد إمرأة خططت لتندس بين هذه العائلة لكي تنعم بما لم يكتب لها من الأساس..
كان يستمع هو لها بحزنٍ عليها وعلى ما أخبرته به، وتأكد بكل أسفٍ أنها تحمل في قلبها الكثير والكثير من نظرات المجتمع ولوم الأشخاص وعتاب النساء، وكأنها أجرمت في حق نفسها وحق المجتمع لمجرد أنها قررت تخطي حياتها السابقة لتحظى بحياةٍ أخرى رسمتها في خيالها ولم تضع في حسبانها أن هذه اللوحة قد يطولها بعد الغُبار إجبارًا عنها وكانت هذه هي مرتها الأولى التي تصرح فيها له بكل ما تتعرض له منذ انفصالها الأول.
__________________________________
<“أحضر لنا ولي أمرك، لقد طال الشغف قلوبنا”>
عاد كلًا من “إسماعيل” و “سراج” إلى البيت لدى “نَـعيم” الذي جلس برفقة “إيـهاب” يتمم معه العمل وهو يحاول في الخِفاء أن يُنحي قلقه وفكره بعيدًا عن رأسهِ حتى لا يظهر عليه آثار ما حدث، فيما كانت “سمارة” تشعر بالسعادة والرضا بعدما عاد لها من جديد وأخبرها أنه سيقضي اليوم برفقتها حتى تطلب هي منه الرحيل…
جلس الإثنان بجوار الرَجُليْنِ وبعد الترحيب بعودتهما ودخولهما البيت سألهما “نَـعيم” بتعجبٍ:
_أنتَ ياض منك ليه !! محدش فيكم خلص في موضوعه ليه؟ مش المفروض ننجز ونخلص والدنيا هادية كدا؟ ولا نستنى لما تتقلب فوق دماغ الكل؟.
تحدث “إسماعيل” بنبرةٍ جامدة وملامح مقتضبة:
_أنا بفكر أرجع في كلامي، بصراحة يعني.
انبته له شقيقه وكذلك البقية في نفس اللحظة التي خرجت فيها “سمارة” تمسك صينية الكعك التي صنعته هي وقد تابع الأخر الحديث بقولهِ:
_بصراحة حاسس إني متوتر أو بتاخد غصب عني، أنا مبحبش يبقى ليا نقطة ضعف، بس لسه مش لاقي طريقة حلوة أخلع بيها من غير ما أزعلها.
توجهت النظرات نحوه وخاصةً شقيقه الذي رفع حاجبه ثم أنزله من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة على عكس جمود طبيعته:
_لأ كتر خير أهلك إنك خايف على زعلها، أنا بقى عندي الحل، فيه عريس قصادي ابن حلال هرميه في طريقها وساعتها أبقى تعالى سمعني بودعك.
انتبه له “إسماعيل” بقلقٍ ليجده أضاف من جديد:
_من غير ما تبصلي، أنا مبحبش الراجل الملقلق، عاوزها ولا لأ؟ هتاخد خطوة ولا لأ؟ لو عليا أنا مفيش على قلبي أحب من وجودك كدا فاضي لا ليك ولا عليك، إنما ندخل بيوت الناس نلعب قط وفار يا “إسماعيل” دا كدا اسمه عبط.
زفر بقوةٍ ثم أخبره بالحديث الذي أخبرته هي به أمام الجميع وأخبرهم بحيرتهِ في أمرها وأمر علاقته بها وسأل بتعجبٍ تغلفه الحيرة الشديدة:
_أنا بس مش فاهم، ليه هي مش عاوزة حد يعرف؟ ماشي دي خصوصية بيننا بس أكيد فيه حاجة تانية هي مش عاوزة تقولها وأنا مش هرتاح غير لما أعرف إيه اللي هي مش عاوزة حد يعرفه، يا كدا يا نفضها سيرة أحسن.
ترك “إيـهاب” حينها محله ثم أخرج هاتفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_هات رقمها ياض.
توجهت الأبصار حينها نحو “إيـهاب” الذي وقف يقول بنبرةٍ هادئة بعدما انتبه لنظرة شقيقه الذي شكك في طلبهِ ليجده ناطقًا بمزاحٍ ساخرٌ أمام الجميع:
_متخافش ياض، هصالحكم على بعض.
ازداد صوت الضحكات أكثر ليحرك “إسماعيل” رأسه نحو زوجة شقيقه وهو يقول بنبرةٍ تهكمية:
_ما تشوفي جوزك ياما !!.
هتفت حينها بمزاحٍ توارى خلفه التهديد من غيرتها عليه:
_خليه يروح يتكلم زي ماهو عاوز، وأنا برضه من حقي أتكلم زي ما أنا عاوزة، مش كدا يا عمنا ؟؟.
رفعت حاجبها بعدما سألته لتجده يطالعها بتهكمٍ ثم أصر على أخذ الرقم من شقيقه وما إن حدث ما أراد تجهز لكي يتحرك من وسطهم وقبل أن تتبعه زوجته التفت لها يهددها بقوله الذي خرج بنبرةٍ جامدة:
_لو جيتي ورايا هزعلك، خليكِ هنا.
تخصرت وهي تسأله بتهكمٍ بعدما هددها بصراحةٍ:
_هتعمل إيه يعني يا “عـمهم” ؟؟.
حرك نظراته نحو الجميع ثم عاد يستقر على وجهها وهو يقول بنبرةٍ خبيثة مراوغة بكل مشاغبة يمتاز بها طبعه:
_هبوسك، تحبي تيجي؟.
شهقت تلقائيًا وتورد وجهها بحمرة الخجل فيما ضحكوا البقية عليها حينما عادت هي للداخل تتخفى منهم وتفعل ما أراده، وهو أن تختبيء بعيدًا عن الأعين لحين يعود هو لجلستهم وقد طلب رقم الأخرى التي جاوبت عليه بنبرةٍ مستنكرة:
_ألو، مين معايا؟.
هتف هو بكل صراحةٍ ردًا على استفسارها:
_معاكِ “إيهاب الموجي” أخو خطيبك إن شاء الله.
عقدت حاجبيها على الجهةِ الأخرى وسألته بسخريةٍ:
_وهو جايبلي ولي أمره؟ خير يا أستاذ “إيـهاب”؟.
تعجب هو من سخريتها وهتف بنبرةٍ ساخرة تماثل سخريتها:
_واضح كدا إننا مش هنعمر مع بعض يا آنسة “ضُـحى” ومع ذلك أنا حبيت أعمل اللي عليا وأكلمك وأقولك إن أخويا شاريكي لسه وباقي عليكِ، وإذا كان فيه حاجة عاوزاها تقدري تعرفيني هي إيه ووعد مني عمري ما أرجع فيه، قوليلي إيه اللي مخليكِ مش عاوزة حد يعرفه علشان أخويا لا يمكن يضر حد حتى لو لحساب نفسه.
سحبت نفسًا عميقًا ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
_طب بما إنك كبيره أنا هكلمك بصراحة، ودا علشان أنا عارفة غلاوته عندك، وعارفة كويس أوي كل واحد فيكم يمثل إيه للتاني، أنا معجبة بأخوك ويمكن أكون أكتر من معجبة، بس أنا من حقي برضه إني أكون مرتاحة في علاقتي بالإنسان دا، مش حابة كل شوية حد يسألني عن تفاصيل خاصة بينا، ومش حابة حد يفضل يتدخل في حاجات تخصه وتخصني حتى لو أهلي نفسهم، أنا عرفت منه اللي حاجات كتير ولسه هعرف تفاصيل أكتر، فنفس الوقت أنا مش عاوزة حد يبصله بصة مختلفة، أنا ممكن أكون فهمت الوضع، بس أهلي ممكن ميفهموش، علشان كدا أنا طلبت منه شوية خصوصية بينا، بس واضح أنه اتعود يقولك كل حاجة وبالتالي رافض إني أخبي.
شرحت له وجهة نظرها تفصيلًا بكل هدوء جعله يقتنع بما تتفوه به بينما هو وجد نفسه يُعجب بمقدار تفكيرها العملي وهتف بنبرةٍ حملت كل الصراحة فيها:
_لأ جامد يا “عـمنا” تفكيرك حلو مش هقدر أنكر ومعاكِ حق فيه برضه، بس دي حياة بتأسس وأسمعي مني، النقط لما تتحط على الحروف بتريح الكل، يعني متزعليش مني أنا مش قصدي حاجة بس لما ييجي الكلام دا يتعرف بعد فترة، أول حاجة هتتقال إننا مش رجالة ولفينا على أهل البيت، وإذا كان “يـوسف” عارف اللي فيها فوالدك ميعرفش، أنا كدا فهمت وجهة نظرك وحطيتها فوق راسي، حاجة أخيرة بقى، عاوزة أخويا ولا لأ؟.
حركت عينيها يمينًا ويسارًا ثم سحبت نفسًا عميقًا وهتفت بما جمده محله ولم يتوقعه هو منها أو من صراحتها:
_أنا مش عاوزة غير أخوك، وواثقة أني اللي بشوفه في عينيه إنه مش عاوز غيري، علشان كدا بقولك يهمني إني أشوفها في عينيه إنه علطول عاوزني من غير كسوف أو إحراج من حد، وأنا حابة رجولته وشهامته أنه ميكدبش على أهلي بس صدقني كدا أحسن للكل إذا كان هو عاوزني، لأن ببساطة مش حابة يكون فيه نظرة من أهلي لجوزي متعجبنيش، لأني مش ضعيفة ولا غلبانة، بالعكس أنا شخصية قوية مبعرفش أسكت لحد.
زفر بقوةٍ يخرج أنفاسه المكتومة مع التفكير الذي أثقل عاتقه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أدرك فهمها الذي يتسم بالعملية أكثر:
_وأنا موافق يا ستي وياريت تكلمي الحج، اتفقنا؟
ابتسمت حتى أتضح أثر بسمتها في قولها:
_حاضر، هكلم أخويا وهو يقول لبابا، عن إذنك.
أغلقت الهاتف معه فيما وقف هو يبتسم بتعجبٍ ثم قال بنبرةٍ ضاحكة بعدما تردد صدى حديثها على سمعه:
_صحيح العلم نور والله.
التفت بعد جملته ليجد زوجته أمامه تطالعه بحاجبٍ مرفوعٍ بعدما وجدته يبتسم بهذه الطريقة وحينها أقترب منها يضع ذراعه خلف خصرها لتقترب منه بحركةٍ مباغتة جعلته يهتف بنبرةٍ رخيمة:
_هو أنا مش قولت لو جيتي ورايا هبوسك؟ عاوزة تتباسي يا “سـمارة” ؟! مبتسمعيش الكلام ليه يا ست أنتِ؟.
كادت أن ترد عليه وهو يقترب منها أكثر برأسه تحديدًا من وجنتها اليُسرى ليقطع لحظته هذه صوت شقيقه الذي هتف بقلقٍ يستفسر منه:
_ها كلمتها قولتلها إيه؟.
عادت “سمارة” للخلف تلقائيًا فيما أخرج “إيـهاب” سبة نابية من بين شفتيه يحتج على هذا الوضع بها ثم التفت لشقيقه يهتف بنبرةٍ تهكمية وهو يرمقه بسهامٍ حادة:
_قولتلها يمين بالله لو الجوازة دي متمتش وجت تلمك، أنا هبعتك لبيت حماك وعليك بوسة هدية، جرى إيه يا عم هو أنتَ ضرتي؟ روح يا شيخ إلهي يوقف حالك نفس وقفة حالي.
كتمت “سمارة” ضحكتها وحركت رأسها للجهةِ الأخرى لتجده يضيف لها بتهكمٍ:
_وماله !! أضحك يا “عمنا” براحتك.
تحركت هي من أمامهما فيما أقترب منه “إسماعيل” بقلقٍ يستفسر منه عن المكالمة وما نتج عنها ليحاول الأخر طمئنته ببعض الكلمات الدلالية على نجاح الموضوع بينهما، وقد حاول “إسماعيل” أن يصدق حديث شقيقه لكنه رآها في عينيه أنه أنتوى فعل شيءٍ آخرٍ لكنه عجز عن سؤاله وقرر أن يهاتف مُعذبة فؤاده لكي يستفسر منها.
__________________________________
<“إتحادٌ صعبٌ عبارة عن اجتماع الغجر مع البقر”>
منذ أن ظهر في أمسهم سرق منهم هدوئهم وسلب طمئنتهم، لقد دلف البيت كعادتهِ ليلًا بكل أريحية كما كان يفعل في مراهقتهِ، هذا القوي الذي أضحى مصدر خوفهم يتفنن في إثارة ذعرهم، وقد جلس “عاصم” في البيت خوفًا من تكرير فعل الأمس ومعه “سامي” الذي أنهى عدة مكالمات ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_معرفش البيه بقاله فترة مقاطع الكل ليه؟ ومش بس كدا، دا عمال يسألني عن “غالية” و “قمر” وإيـه اللي حصلهم زمان، وإزاي خبينا عليه، ومش بس كدا دا بيقولي إنها أخته زيها زي “يـوسف”، تفتكر ممكن يكون بيفكر في حاجة؟.
انتبه له “عـاصم” بعدما خرج من شروده وهو يقول بنبرةٍ هادئة أثناء ما ضم كفيه في بعضهما لتكون طريقته مُتسمة بالرسمية:
_والله أنا شايف إن دا من الصدمة مش أكتر، متنساش إن إبنك كان متعلق أوي بـ “غالية” وبنتها، ودا من ضمن الأسباب اللي خليتنا نبعد عنهم تمامًا، وبرضه أنتَ نجحت لما خليته يكره “يـوسف” علشان خوفك إنهم يتحدوا سوا خوفك أكتر، ولا ناسي اللي حصل زمان؟ “نادر” لسه فاكر إن “يـوسف” هو السبب في حرقه وهو صغير، ومن ساعته بيكرهه، يبقى أكيد مش هيتقبل فكرة إنهم عايشين، وعلى فكرة إحنا ممكن نستفاد من مشاعر “نادر” ناحيتهم، دا لو كان “يـوسف” فعلًا ناوي ياخد ضدنا أي إجراء، فهمت؟.
هز رأسه مومئًا وقد صدح صوت هاتف “سامي” برقم “ماكسيم” مما جعله يتحرك من أمام الأخر بتوترٍ ورد على المكالمة بهمسٍ حانقٍ:
_جرى إيه يا “ماكسيم” !! بكلمك من امبارح وأنتَ عمال تنفضلي؟ بتصيع عليا؟ عيب دي حركاتنا إحنا دي، المهم قبل ما حد يسمعني، “يـوسف” و “أيـوب” اتفقوا عليا هما الاتنين ومش بس كدا شكلهم ناويين نية سودا، المهم أنا قولت أعرفك قبل أي خطوة، بس لو عاوز تعرف حاجة عن الواد الضايع اللي ناوي ترجع بيه تهدد أبوه لحد ما يديك اللي أنتَ عاوزه يبقى توفي بوعدك وتساعدني أشوف صرفة للاتنين دول.
حينها هتف “ماكسيم” بتريثٍ مُريب وقاتمٍ:
_دا على أساس أنتَ عارف مكان الواد فين يعني؟ بس على العموم دي عندي أنا، هشوفلك الصِرفة اللي تخليك تخلص منهم وترتاح كمان، إيه رأيك؟ بس قبلها تشد حيلك وتلاقي الواد اللي بتهورك ضيعته مننا، لو عليا كنت خدته مع ابن عمه، بس ساعتها تهورك حركك، أتمنى تبطل تهور بدل ما آخرتك تبقى على أيد “يـوسف” و “أيـوب”.
رد عليه الأخر بخضوعٍ تامٍ يستدرجه من خلاله لكي ينفذ له ما يريد وفي حقيقة الأمر هو يريد فقط أن يرى أثر الإتفاق بينهما بماذا سيفيده، وفي قرارة نفسه يتمنى أن يثمر عن هذا الاتفاق نهاية الشابيْن معًا، حتى يعود هدوء أعصابه من جديد كما حاله المُتصف بالبرود دومًا.
__________________________________
<“نأسف لكم على إحزانكم، نحن من الأساس أغبياء”>
كانت تجلس في غرفتها تفكر في طريقة تُفاتح بها شقيقها..
لم تعلم من أين لها بهذا الخجل ومن أين لها بهذا التوتر وهي من الأساس صاحبة شخصية قوية منفردة؟ لكن يبدو أنها في نهاية الأمر مثل أي فتاةٍ في هذه المواقف، وقد دلف لها “عُـدي” بعدما تحمم وبدل ثيابه ليجلس بجوارها وهو يقول بنفاذ صبرٍ:
_ها يا “جعفر” يا أخويا؟ إيه الحوار.
حسنًا لقد نحى خجلها جانبًا وجعلها تسحب الوسادة من خلفها تضربه بها في وجهه ليتأوه هو بعنفٍ إثر الضربة التي تلقاها في وجههِ وقبل أن يتحدث ويعنفها وجدها تتنفس عدة مرات خلف بعضها بتروٍ ثم هتفت بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_بص !! دلوقتي أنا هعاملك ولأول مرة إنك أخويا الكبير، أنا غصب عني أعجبت بيه يا “عُـدي” حسيت ناحيته بمشاعر جديدة محسيتهاش قبل كدا، وعلشان كدا بقولك بكل صراحة أنا عاوزة موضوعي يتم مع “إسماعيل” ومش هكدب عليك أنا شوفته كذا مرة واتكلمنا كتير، بس هو جدع أوي ومش عاوز حاجة تحصل في الدِرا، وبصراحة يعني هو وصلني مرة بعربيته…
بدأت في سرد حديثه معها وحديثها معه دون التطرق لتفاصيله الشخصية الخاصة بأمر حياته السابقة لينتج عن ذلك قول أخيها بنبرةٍ هادئة بعدما فهم مشاعر شقيقته:
_طيب، بما إنك جدعة كفاية إنك قولتي كل حاجة من غير ماتخبي حاجة عننا، فأنا محترم شخصيتك دي، وعاوز أقولك أني مبسوط بيكِ، بس دا مش هيحصل تاني، لما النقط تتحط على الحروف ونتكلم مع بعض ويتقدم رسمي، وأظن يعني أنتِ خرجتي من البيت وشوفتي ناس كتير وفهمتي إزاي العلاقات الغلط بتخرب علطول، عاوزك تفضلي راسية وهادية لحد ما ييجي يقابلنا ويحصل حاجة بصورة رسمية، تمام؟.
هزت رأسها مومئةً عدة مرات وهي تبتسم بخجلٍ جعله يبتسم هو الأخر ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_على فكرة أنا من الأول وفاهم إن فيه حاجة، وفاهم كمان إنك حتى لو مش مبينة حاجة بس لما سيرته بتيجي حتى لو بالصدفة بيبان عليكِ يا “ضُـحى” وأنا الحقيقة أتمنى أنه يكون ابن حلال مش خاين ولا كداب زي الأول، ومن حقي كأخ كبير أتطمن على أختي مع راجل يحافظ عليها، صح؟.
توترت بعد جملته أكثر لكنها ابتسمت من جديد ثم أقتربت منه أكثر تضع رأسها على كتفه وهي تقول بنبرةٍ خافتة:
_هو أحلى حاجة فيه أنه صريح زيادة عن اللزوم ومش كداب، يمكن لو فيه حاجة غريبة في شخصيته هتبقى إنه شخص نضيف أوي بدرجة تطمن وتحزن الواحد على نفسه.
ابتسم “عُـدي” بيأسٍ ثم رفع ذراعه يمسح على ظهرها ليجدها تغمض جفونها وهي تستسلم للأمان بقربهِ دون أن تتفوه بأي كلمة، هي فقط وضعت رأسها على كتفه كما أخبرتها “قـمر” لتجد نتيجة قربها من شقيقها واضحة أمام عينيها وهو يمسح على ظهرها دون أن يتفوه بأي كلمةٍ، بل فكر بكل جوارحه كيف حرم نفسه من هذا العناق فيما سبق؟.
__________________________________
<“نبكي مخافةً أن تنفرد بنا الأيام”>
لا شك أن أهم ما يملكه المرء هو عائلته..
ولا شك أن لا قيمة للمرء بدون جيشٍ يكون متمثلًا في وجود عائلته، وهاهو هنا قد أتى إلى زوجته بعدما أقتبس الأمان من وجود عائلته…
ألح عليها مرارًا حتى وافقت وصعدت للسطح أخيرًا فوجدته في إنتظارها ثم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ولجت له:
_ميبقاش قلبك زي لبسك كدا؟.
رفعت “عـهد” حاجبيها بسخريةٍ فوجدته يقترب منها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما التصق فيها ولم يفصل بينهما أية مسافات:
_وحشتيني على فكرة.
لم تجاوب بل حافظت قدر الإمكان على ملامحها المُقتضبة لتجده رفع كفه يحاوط صفحة وجهها وهو يقول بنبرةٍ هادئة ورخيمة:
_لأ ردي، أنا مش بتاع محايلة ولا بتاع مصالحة، بس دا معناه إنك غالية عندي أوي، وميهونش عليا زعلك، ها !! قلبك أبيض يا عسولة.
تنفست الصعداء ثم هتفت بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_أنا معنديش مانع تعمل اللي أنتَ عاوزه، علشان ببساطة مبفرضش نفسي على حد، بس نرجع لنقطة تانية مهمة وهي إنك مش حد، أنتَ جوزي وخوفي عليك أكيد مش محتاج مُبرر وقدامه غيابك لازم له مُبرر، لو حصلك حاجة أكيد هتفرق أوي معانا، فهمت سبب القمص ولا نقول تاني؟.
ابتسم لها وقرر أن يراوغها بقوله بعدما أخفض أنامله يمررها في عنقها بحركاتٍ هادئة:
_طب ما تقولي إنك بتحبيني وخايفة عليا؟ أشيك حتى.
ابتسمت رغمًا عنها ثم هتفت بنبرةٍ هادئة بعدما أدركت قدرته في تحويل الألفاظ وتلاعبه بالكلمات:
_طيب لو دا هيخليك ترتاح يعني، فأنا هقولها ليك، آه بحبك وخايفة عليك كمان وخوفي عليك عمال يتضاعف من ساعة ما روحت معاك وشوفت عيلتك وإزاي عينيهم كلها مش صافية ليك، صدقني أنا ماصدقت لقيتك علشان أقدر أفرد نفسي في وش الدنيا شوية، فبلاش بعدما بقيت قوية بوجودك، تضعفني بغيابك خصوصًا لو لينا ظروف خاصة زي ظروفنا دي.
حقًا !! هي الآن من تتلاعب بالألفاظ؟ أجادت هي أن توقف رأسه عن التفكير وتجعله يشعر ببعض القوة وما كان عليه إلا أن يحتضنها بين ذراعيه بصمتٍ، هي صمتت وهو صمت والقلوب هي التي تحدثت، نفسها الجملة التي يخبر بها كل قلبٍ رفيقه حينما يقتبس منه الأمان، وقد أدركت هي وبكل آسفٍ أنها تخطت مرحلة الحب لهذا الرجل، بل هي في أقصى درجات الحب كما جائها غريبًا من أقصى المدينة..
مسح على رأسها بعد الصمت الذي حاوطهما ثم لثم جبينها مُعتذرًا لها دون أي حديثٍ فقط الصمت من جهتهِ كما المعتاد والتشبث به من خلال نظراتها وهي تحتضنه بعينيها ليقول هو بنبرةٍ هادئة:
_تصدقي إن عيونك حضنهم حلو أوي؟.
ابتسمت بخجلٍ له ثم سألته بنبرةٍ هادئة:
_علشان هما مفيهمش غُربة صح؟.
حرك رأسه نفيًا ثم عدل على الحديث بقولهِ:
_علشان هما وطن، والغريب ما بيصدق يلاقي وطن يعرفه فيه، والحلو بقى إن عيونك السود حلوين، والغريب بقى إني مش كدا أصلًا، لا بتاع كلام حلو ولا بتاع حب ولا بتاع أي حاجة، بس واضح إنك غير الكل، واللي تخليني أخاف على زعلها كدا أكيد مش قليلة في قلبي..
ابتسمت من جديد له بنفس البسمة الهادئة التي تُهاديه بها كلما كان يشعر بالتعب أو كثرة الألم في رأسهِ، كلاهما يعطي الأخر شيئًا لم يعرفه لكنه عند تجربة مذاقه يُدرك حجم الحاجة إليه، لذا بادرت هي وضمته لها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_لو فيه حاجة مزعلاك تاني قولي إيه هي، ولو حاسس إنك تعبان أو متلغبط عرفني مالك، صدقني أنا أكتر واحدة ممكن أكون فاهمة دماغك واللي فيها، ساعدني نرتبها سوا يا “يـوسف”.
أغمض جفونه وهو يتخيل بسذاجة طفلٍ صغيرٍ أن هناك حِبال قوية تم عقدها بين رأسه المتكدسة وبين قلبها الكبير لتتم برمجة أفكاره وترتيب زحامها بمجرد خروج العاطفة من قلبهِ، لذا طلب منها بنبرةٍ خافتة بعدما أغمض جفونه لوهلةٍ:
_أنا بحب “داليدا” غني ليها أحسن.
ابتسمت رغمًا عنها وقد فهمت لعبته في الهروب من الجواب لكنها صاحبة كرمٍ كما أخبرها لذا هتفت بتعالٍ وهي تمسح على خصلاتهِ السوداء بعدما تشبث بها أكثر:
_عيوني الاتنين علشان على رأيك، بنكرم الغريب بالوصال، عيني ليك يا “غريب”.
ابتسم رغمًا عنه ليجدها بدأت تُمرر أناملها في خصلاتهِ حينما بدأت الغناء بصوتها الرقيق قائلةً:
_كُنا بنقول إن الفراق دا مستحيل..
وكل دمعة على الخدين كانت بتسيل..
مليانة بأمل إن إحنا نبقى موجودين،
في بحر الحب على الشطين..
كلمة حلوة وكلمتين، حلوة يا بلدي..
غنوة حلوة وغنوتين، حلوة يا بلدي..
فين حبيب القلب يا بلدي
كان بعيد عني يا بلدي…
وكل ما بغني بفكر فــيـه.
أغمض جفونه حينها واستسلم للغرق في بحور حُبها، وفي سحر صوتها، ويبدو حقًا أن كل الأمور في حياته تتم بإرادته إلا حبها استوطن قلبه وأحتله رغمًا عنه وعن قلبهِ وعن أنف كل القبيلة التي عارضت اجتماعهما، وها هو أصبح من بعد الخوف في كنفها هنا آمنًا..
__________________________________
<“أهلًا وسهلًا بضيفٍ اسمه الفرح”>
كان يجلس وسط الشباب بكل هيبته ووقاره..
جلس “عبدالقادر” معهم في حديقة بيته وقد جلس معه “بيشوي” الذي وضع أمامه عُلبة الذهب المخملية التي قام بجمعها لأجل عرسه ثم هتف بنبرةٍ هادئة أمام البقية:
_دا الدهب اللي جمعت تمنه لـ “مهرائيل” وفيه حاجة تانية أنا عملتها بأيدي بس دي هتكون هدية جوازنا، بما إنك خلاص قررت الخطوبة أخر الأسبوع وتاني يوم كتب كتاب “تَـيام” أنا بسلمها ليك أمانة علشان أبوها يتطمن.
رد عليه “عبدالقادر” بكل ثباتٍ وهو يقول:
_مش عاوزك تقلق، جدها هنا وأنا هنا وأكيد ملهوش حجة، طلب الدهب ييجي ويشوفه، كتر خيرك حضرته أهو، المهم إنك متبقاش عامل كدا بالغصب عن نفسك وعن مشاعرك.
حرك رأسه نفيًا وآكد له عكس ذلك بقولهِ القوي:
_خالص، أنا عندي استعداد أعمل أي حاجة علشانها، وعلشان تكون ليا وفي بيتي، أظن كفاية أوي خمس سنين مش عارف أطولها فيهم وعمال يكسر فيا بكل حاجة، شوف إيه الضمان اللي هو عاوزه وأنا سداد، بس أي حاجة غير أني أبعد عنك، علشان أنا معنديش استعداد أني أبعد عنك في يوم.
ربت “عبدالقادر” على فخذهِ مبتسم الوجه فيما وضع “أيـوب” أمام خطيب شقيقته قائمة أجهزة الزواج وهو يقول بنبرةٍ هادئة ورخيمة:
_دي بقى القايمة يا “تَـيام” وكل حاجة فيها بما يرضي الله، شوف وقوم بنفسك عاين وعلى فكرة الفواتير لسه هنا، دا حقك يابن الناس ومحدش يقدر يعاتب عليك فيه.
نظر لهم “تَـيام” بعينيهِ الاتي نطقتا بكل حيرةٍ وقد استفسر شفهيًا بقولهِ الحائر:
_وإيه المطلوب مني؟.
تدخل “أيـهم” يفسر له مايتوجب عليه فعله بقولهِ:
_كل اللي عليك إنك أنتَ ومعاك “بيشوي” تقرا القايمة وتعرف فيها إيه وهتمضي على إيه ولو عندك حد فيه شوية صحة زي خالتك التنحة وخالتك أختها هاتهم يشوفوا هما علشان أنا مش هقدر بصراحة.
ابتسم له “تَـيام” ثم سحب الورقة وبدون أي مقدمات أدلى بتوقيعهِ عليها دون حتى أن يقرأ الرقم المكتوب أو ما أقر على نفسه به، وتحت نظرات التعجب من البقية وحيرتهم هتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لهم:
_أنا شاري بعمري كله، ولو فلوس الدنيا دي هتضمنلي إنها تبقى معايا وليا مش خسارة فيها، أظن يعني أنتوا أمنتوا على بنتكوا معايا، شوية الحاجات دي هتفرق معايا؟ المهم بس تتم على خير وتبقى على اسمي وساعتها والله روحي كمان مش كفاية عليها.
صفق له الشباب الثلاثة في هذه اللحظة فيما خطفه “عبدالقادر” بين ذراعيه وربت على ظهره وهو يهتف بنبرةٍ متأثرة وفرحة لأجل ابنته:
_”صبري” عرف يربي راجل بحق، وأنا قدرت أختار لبنتي راجل بجد، ألف مبروك يا حبيبي وربنا يسعدكم ويكمل فرحتكم على خير.
في الداخل كانت “آيـات” تراقب هذه اللحظة بخوفٍ تحول إلى سعادةٍ غامرة جعلتها تتحرك مثل فراشةٍ تنتقل في الربيع بين أغصان الأشجار المثمرة والزهور المُفعمة بالحيوية والرحيق المُبهر، تورد وجهها خجلًا وخفق قلبها فرحًا وبين هذا وذاك هذه الملاك كانت تختبر هذه المشاعر لمرتها الأولى، مشاعر تناقض مرتها السابقة حينما تم وضعها في خانة المقارنة بين أشياءٍ لا قيمة لها وبين إتمام حياة زوجية صورية أمام الجميع، أما هذا فهو اليوم فضلها على كل شيءٍ حتى نفسه ليجعلها تتيقن أن هذا هو الوحيد الذي يستحق قلبًا حفظ الحُب له وصان الود لأجله..
جاورتها “نِـهال” في هذه اللحظة ثم احتضنتها بمحبةٍ خالصة وهي تبارك لها كأنها شقيقتها الصغيرة لتقول الأخرى لها بعينين دامعتين على أثر فرحتها بما حدث:
_كنت خايفة أوي، عمل أكتر من اللي اتمنيته وأكتر من اللي تخيلته منه، كنت خايفة أحس نفسي مجرد حاجة بتتبدل مع حاجة تانية، أنا مبسوطة أوي يا “نِـهال” مبسوطة بيه وحاسة أني عاوزة أشكره كمان.
مسحت “نِـهال” على ذراعها من منطقة الكَتف وهي تقول بنبرةٍ هادئة ووجهٍ مبتسمٍ:
_أنا حاسة بيكِ أوي، لما تكوني جربتي حاجة أثرها وحش وخليتك تحسي بمشاعر مش كويسة وقصادها تحسي بمشاعر تانية خالص نقيض ليها، بتسحي إنك ممتنة لصاحب المشاعر دي، بصراحة يعني أنا علطول ممتنة لأخوكِ، وربنا يسعدك ويتم فرحتك بخير لحد ما تروحي بيتك كمان وساعتها أشكريه بمليون طريقة، حتى ميبقاش الكلام أدريحي كدا.
خجلت “آيـات” منها وأخفضت رأسها أرضًا لتضحك الأخرى عليها ثم ضمتها بين ذراعيها وهي تقول بنبرةٍ ممازحة:
_ليه حق يقول عليكِ قطة بتتكسف، يابت أنشفي شوية كدا، دا أنتِ عبارة عن كتلة كسوف وخجل ماشية على الأرض، بس أنا هنا ويا أنا يا أنتِ يا “آيـات”.
ضمتها الأخرى بكلا ذراعيها وهي تبتسم بسعادةٍ ثم حركت عينيها نحو لوحة التقويم المُعلقة فوق الحائط تستبين منها موعد عقد قرانها عليه وهي تقوم بعد اللحظات الباقية لكي تخبره بكل ما تحمله بداخل قلبها له أخيرًا.
__________________________________
<“يزورونا بالليلِ، وكأن النهار عدوهم”>
لم يبقى محله جامد الحراك من يريد التوصل للحقيقة..
هكذا كان يقتنع “مُـنذر” الذي أخيرًا وبعد عناء قرر أن يأخذ خطوة واحدة لأجل التوصل إلى ابن عمه وقد فعل ما يمكنه فعله لأجل الوصول إلى هذه اللحظة..
ففي شقته التي يرجع أصلها لوالد “عـهد” جلس على مقعد السُفرة الخشبي بوضعٍ مُعاكسٍ ثم أنتظر استيقاظ الأخر الذي طال انتظاره وما إن يأس من إيفاقته بمفردهٍ قام بسحب دورق المياه وقام بإلقائه عليه دُفعة واحدة ليفيق على أثرها “نـادر” الذي وجد نفسه مُكبلًا على المقعد هو الأخر ليقول حينها “مُـنذر” بأسفٍ مصطنعٍ:
_أنا آسف، بس بابا “سامي” مسابش ليا أي تصرف تاني، أنا آسف يا سيادة القبطان، قولي بقى تحب حاجة مُعينة ولا أديك على ذوقي أنا !!.
اتسعت عينا الأخر حينها بخوفٍ وهو يرى نفسه مثل الطفل الصغير يجلس على المقعد مكبل الأطراف مُككم الفم حتى لا يخرج منه أي صوتٍ، بينما الأخر كان يحدجه بنظراتٍ قاتلة تبعها بإخراجه لسلاحه من جيب بنطاله ووضعه على الطاولة أمامه وهو يقول بنبرةٍ قاتمة:
_للأسف عمال يلعب معايا ويشحطتني وراه، وبما إنه كلب فلوس وكلب طمع فأنا بقى هخلصه من مسلسل المال والبنون اللي هو فرحان بيه دا، تحب أبدأ بالمال ولا البنون؟
________________________
_إن شاء الله الفصل الجاي هيكون يوم السبت، طبعًا دا تأخير كتير مني بس غصب عني والله بحاول أوفق بين كل حاجة وعلى أساسهم الكتابة، وإن شاء الله من السبت الجاي هنرجع تاني لمواعيدنا ونظامنا، وشكرًا لحضراتكم..
_إهداء إلى الجميلة:
“تقى غالي” كل سنة وأنتِ طيبة يا كتكوتة وعقبال مليون سنة في خير وسعادة وفرح وهنا، ويديم وجودك لينا.
_لا تنسوا الدعاء لإخواننا وتذكروا أن الدعاء هو السلاح الوحيد، لا تنسوا أهل فلسطين وسوريا والسودان واليمن ولبنان وكل بقاع الأراضي العربية.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى