روايات

رواية غوثهم الفصل السادس والثمانون 86 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والثمانون 86 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السادس والثمانون

رواية غوثهم البارت السادس والثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السادسة والثمانون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الأول_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
إلهي رجعتُ…
وإليكَ عودتُ ومن نفسي توبتُ..
أسعمني فأنا هنا في المنتصف عالقًا..
ضِعتُ مني وفي الذنوب وجدتني غارقًا
لكن أحاول بكل مافي أن أخالف الهوىٰ
أحاول بقلبٍ ضعيفٍ وقع وأهتوىٰ
فاللهم إني أرجوك أن ترحمني من نفسي
وضعفي والهوىٰ وكل ما سوىٰ.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
اليوم أنا هُنا معكِ…
لكن دعيني أعود للماضي حيث المدينة البعيدة…
تحديدًا تلك المدينة التي كنتُ فيها غريبًا،
أقف بداخلها بين الحشود وحيدًا..
ثم شاء القدر وأراد المولىٰ أن تجمع الطُرقات بيننا،
والغاية في ذلك أن أجد في الغُربة ونيسًا،
حينها كنتُ أنا وسط الجميع كنجمٍ شاردٍ في سماءٍ معتمة، ويبدو أن بقية النجوم ظهرت على هيئتكِ أنتِ..
ومن وسط الجميع رأيتكِ أنتِ، ومنذ هذا الحين أصابني العمىٰ عن الجميع ولم أعد أرى غيركِ أنتِ..
فسبحان الخالق حينما أشاء، جمع بيننا في لقاء
وكان اللقاء على هيئة حياةٍ أعطيتيها لي أنتِ..
<“إذا وثق الجميع بِكَ، الأفضل أن تخون ثقتهم”>
رفع “بيشوي” أحد حاجبيه يسأل “جابر” بحديثٍ وارىٰ خلفه الكثير مشيرًا بذلك إلى ما مر سابقًا:
_يعني عرفت إن الإنتظار مُتعب؟ ساعة واحدة مخلياك مش على بعضك ؟ أومال أنا بقى أعمل إيه؟ دا أنتَ طفحتني الكوتة وراك وأنا مستني، المهم خير؟ عاوز إيه يا حمايا؟.
زفر “جابر” بقوةٍ بعدما فهم تلميحه المُبطن ثم قرر أن يتحدث مباشرةً وحينها هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_أنا مضطر أكلمك علشان محتاجلك، ومش أنا بس دا فيه غيري كتير محتاجينك، خلاصة القول “تَـيام” مش ابن “صبري” و “نجلاء” دا عيل كان هيموت على يد واحد ابن حرام كان ساكن هنا وللأسف كان صاحبي، ساعتها أنا حليت الموقف و”صبري” كان صاحبي وعنده أزمة، المهم بقى إن أهل “تَـيام” ظهروا، عاوزك معايا علشان نقدر نعرفه اللي حصل وإن كل حياته هتتغير في يوم وليلة.
فتح “بيشوي” عينيه على وسعيهما مصدومًا مما وصل إليه وبدا كأنه في أحد برامج الكاميرات الخفية وهذا المقلب الخفي من تنفيذ حماه، أو ربما يكون إختبارًا صعبًا تم وضعه به؟ ما هذه التفاهات؟ ألم يكن لديهم اخبتارًا أكثر صعوبة من هذا؟ ظلت رأسه تَعُج بأفكارٍ عِدة هزلية أو ربما تقترب من المزاح، بينما “جـابر” لاحظ صمته والتهكم المرسوم على ملامحهِ وفهم أنه لم يتصور حجم الكارثة فهتف بتوترٍ:
_بص !! أنا فاهم إنك ممكن مش مستوعب أو فاكره هزار، بس الموضوع مش مستاهل سخرية، كل الحكاية ومافيها إن “سامي” دا كان صاحبي بما إننا ولاد حارة واحدة، وساعتها لاحظت إنه بيعمل حاجة غريبة، ومعاه عيل كدا هو رايح جاي بيه، بصراحة دماغي راحت حتة شمال وقولت يمكن عك وجاب العيل دا وخايف من عيلة مراته، بس بعدها عرفت إنه عاوز يخلص منه، ساعتها روحت لـ “صبري” كانت بنته ميتة من شهرين ومراته ساعتها الرحم حصل فيه مشكلة وإتشال…
تبدلت تعابير “بيشوي” إلى أخرى مذهولة، فلم يعد مُدركًا ما حوله والضجيج بداخله يزداد لهيبًا، والتشوش يزداد سيطرةً عليه، إذًا الأمر كماهو حقيقة وليست مجرد تراهات يلقونها، حينها وفقط أدرك حجم الكارثة وحجم الخطورة التي تحاوط حياة رفيقه، بينما الأخر زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ ضائعة:
_أنا ساعتها مقدرتش أتدخل لأن “سامي” حويط أوي، عيل شمال الشمال، كان ممكن علشان أنا عرفت يروح يقتل الواد ويقولي ميهمنيش، ساعتها راقبته ولقيته بيدي الواد للست اللي بتاجر في العيال وهي راحت بيه مستوصف وهناك قابلت واحدة اسمها “محاسن” وقالت إنها عارفة الست دي علشان بتسلك عيال للناس وتاخد قرشين، روحت ساعتها لـ “صبري” وهو خد مراته وراحولها وهي أقنعت الولية وخدته منها.
أنقبض قلب “بيشوي” وسقط من محله وتقدم بجسده للأمام بحركةٍ تلقائية فعلها جسده بعدما سارت القشعريرة في جسده، لم يتوقع أن يكون الأمر واصلًا لهذه الدرجة، وحينها جاهد مع نفسهِ لكي ينطق وحينها هتف بنبرةٍ ضائعة:
_أنتَ، أنتَ واخد بالك بتقول إيه؟ قول إنك بتهزر وأنا هقبل هزارك أهون عندي من إن كلامك دا يكون حقيقة، صدقني دا مش مجال هزار أو حوارات منك أنتَـ….
بتر حديثه حينما زفر “جـابر” وهتف بنبرةٍ متعبة:
_يابني مش بهزر، وهي دي حاجة فيها هزار؟ بقولك اللي حصل ساعتها، ما كان ممكن أكبر دماغي بس أنا علشان عارف “سامي” قولت أهو “صبري” أولىٰ من الغريب، مراته كانت بتربي ابن اختها وترضعه وعاجزة إنها تستوعب الحقيقة إنها مش هتخلف تاني، الواد دا كان فرصة لواحدة إنها تخرج من أزمة نفسية، وفرصة إنه يعيش عيشة نضيفة، هتساعدنا؟.
التمس الصدق في حديثه ونبرته، رآها في عينيه أنه لم يُكذب، شعر بصدق الحديث ومنطقيته، بالرغم من ظهور علامات الاستفهام الكثيرة حول الموضوع إلا أنه استشف الحقيقة الغائبة…
لكن قد يكون المرء في بعض الآوئنةِ هو المُعارض الوحيد لذاته، وقد ينتج بداخلهِ ظهور المُضاد له، وهذا تحديدًا ما حدث مع “بيشوي” الذي بالرغم من صدقه للحديث إلا أنه وجد لسانه ينطق مُعبرًا عن لسان حالهِ قائلًا بتيهٍ:
_إزاي ؟؟ عاوزني أنا أروح أبوظ حياته وأخرب كل حاجة فوق دماغه؟ ملقيتش غيري أنا؟ دا أخويا، أنتَ أكتر واحد عارف علاقتي بيه وجايلي أنا ؟ طب أقوله إيه؟ دا ملحقش يفرح إنه أخيرًا بقى مع البنت اللي بيحبها؟ هنكد عليه وهو ما صدق يفرح؟ ليه بس؟.
ترك “جـابر” مقعده وألتف حول المكتب ثم استقر جالسًا في مقابلة “بيشوي” وهتف بنبرةٍ هادئة يقنعه بقولهِ الذي نبع من شدة حاجته إليه:
_صدقني أنا محتاجك أنا وهو، أنتَ الوحيد اللي هتقدر تساعدني وتقدر تكون جنبه، ابن عمه ظهر وراح لـ “نجلاء” وطلب منها تساعده يعملوا التحاليل، وهي وافقت، بس مستنيين تظهر ونقدر نقول لـ “تَـيام”.
زفر “بيشوي” بثقلٍ مُستشعرًا قوة ثقل المهمة فوق صدرهِ، ويبدو وكأن الأرض هي التي تجسم فوق صدره وليس هو من يعتليها، حينها رفع كفه يمسح على وجهه بعنفٍ في حركةٍ جعلت الدماء تتدفق إلى وجههِ وخلايا رأسه، بينما “جـابر” أنتظر منه الرد اليقين منه لكن يبدو أن الأخر غرق في دوامة أفكاره لكنه خرج منها سريعًا يسأله بنبرةٍ مندفعة:
_مين ابن عمه دا؟ يطلع مين ولا مين الناس دي؟
ازدرد “جابر” لُعابه ونبس بنبرةٍ خافتة كأنه يُتمتم بهذه الكلمات بخوفٍ من أن يفصح بها صراحةً لكنه حسم أمره وهتفها أخيرًا:
_”مُـنذر” ابن أخو الحج “نَـعيم” وأبوه هو “نَـعيم”.
توسعت عيناه بذهولٍ وتثبت بؤبؤاه عن الحِراكِ وكأنه وصل لمرحلة جحوظ العينين، فها هي الصدمة الجديدة تنزل فوق رأسه كسوطٍ لمس مباشرةً الجلدية في ليلةٍ شتوية قاسية البرودة، الآن عليك أن تتحمل أثر الصدمة وأثر وقوعها عليك.
__________________________________
<“أول الصدمة صدمة، ثم بعدها تعتاد الأمر”>
الحديث كقنبلةٍ لم تكن موقوتة…
بل هي أنفجرت وأخرجت نيرانها حول الجميع، لكن على كلٍ يبقى الوضع أرحم بكثيرٍ من إنتظارٍ قاتلٍ قد يفتك بالمرء، لكن صدمة المفاجأة بالغة الأثر، تبدو فاجعةً من نوعٍ أخرٍ، كلاهما يجلس أمام الأخر في إنتظار القادم وقد تحدث “نَـعيم” مُجددًا وهو يُكمل سابق حديثه:
_عارف إنك ممكن تكون مصدوم، بس صدقني أنا حالي ميقلش عن حالك في الصدمة، أنا لسه عارف من يومين بس، أنا عايش ميت مستني الروح تترد فيا من تاني، ابن أخويا دور وطلع “تَـيام” أنا بس عاوز أعرف منك، هو فعلًا ولا أنتَ متعرفش؟.
حاول “عبدالقادر” التحدث لكنه لم يقوْ على ذلك، لذا سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ ضائعة تمامًا أو ربما تائهة كحالهِ هو:
_أنا معرفش، أول مرة أعرف حاجة زي دي، اللي أعرفه إن “صبري” كان عايش هنا وخلف بنت وماتت وبعدها قالوا إن مراته تعبت شوية وأعصابها باظت وراح فترة عند أهل مراته واللي أعرفه إنها اتعالجت وخلفت وبعدها راح لأهله في سوريا قعد سنة أو سنة ونص ورجع تاني كمل هنا، لكن معرفش قصدك إيه؟ معنى كلامك دا إن “تَـيام” مخطوف منك أنتَ ؟؟ دا معنى كلامك؟.
حرك “نَـعيم” رأسه يُمنةً ويسرىٰ بتيهٍ وهتف بقلة حيلة:
_صدقني معرفش، أنا مبقيتش أعرف حاجة خالص، وعايش مستني هو يعرف علشان آخده في حضني بصفته ابني مش واحد غريب، معرفش وصل هنا إزاي ومعرفش عاش إزاي ومعرفش هما عارفين إنه ابني ولا لأ ومعرفش حاجة، بس مخبيش عليك؟ القلب عارف كل حاجة، حاسس بيه، شايفها في عينيه، حاسس إن قلبه حتة من قلبي، ولا مرة صدقت إنه ميت، ولا مرة حسيت إن اللُقا بينا معدوم، أنا بس تايه، تايه ومش عارف المفروض أمشي من أنهي طريق.
حينها قدر “عبدالقادر” مشاعره فرفع كفه يضعه على كف “نَـعيم” يؤازره بقولهِ الهاديء مُربتًا فوق قلبه:
_أنا أكيد مش حاسس بيك، بس فاهم يا حج أنتَ عاوز تقول إيه، يمكن علشان كنت زيك كدا وجربت حرقة القلب على الضنا، فأنا فاهم إنك بتتعلق بقشاية توصلك بيه، صدقني أنا ممكن أكون مش مستوعب بس أنا أب وحاسس بيك، طالما قلبك صدقه يبقى أمشي وراه.
ابتسم له “نَـعيم” بامتنانٍ لمعت به عيناه وهو يشكره بصمتٍ وقد طرأ في بالهِ سؤالٌ جديدٌ جعله يسأله بترقبٍ أو ربما ساورته الريبة من الجواب:
_طب لو كل حاجة ظهرت والتحليل اللي “منذر” بيعمله ظهر وقال إنه ابني بجد، هتعمل إيه؟ أنا مش عاوز ظهوري يخرب حياته، مش عاوزه يكرهني، واضح إنه حابب بنتك وباين عليه بس….
بتر حديثه حينما ابتسم “عبدالقادر” رغمًا عنه وهتف بعتابٍ يسأله أو ربما يُقر بما جال بخاطر الأخر وقرأه هو في عينيهِ:
_بس أنتَ مش عاوزه يزعل، ولو ظهورك هيخليني أبعده عن بنتي أنتَ ممكن تقبل إنك تبقى بعيد عنه، دا كلام ناس قليلة الأصل مع إحترامي ليك بس أنا وأنتَ مش كدا، ولو على “تَـيام” حتى لو مش ابنك أصلًا ولا ابن “صبري” ولا حد عارف هو مين، هو ابني، أنا من صغره مربيه في بيتي وسط عيالي وعمره ما كان غريب وسطنا، لما كبر ودخل كلية حقوق أنا أختارته هو ومسكته كل حاجة، وعمره ما قصر ولا قل معايا، بعدين إيه؟ شكلك مش عاوز تناسبني.
الآن فقط فهم كيف تربى “أيـوب” وكيف أصبح على ماهو عليه، الآن فهم كيف يَخلُف من ظهر المرء القوي؛ قوة أكبر منه، وقد استطاع “عبدالقادر” أن يُطمئنه بحديثهِ على الرغم من أنه لازال تحت أثر الصدمة ولجمتها الأولى التي ضربت خلايا عقله، لكنه حاول أن يُطمئن الأخر وقد وصلهما صوتٌ جعل “نَـعيم” يحرك رأسه بسرعة البرق تزامنًا مع إنتفاض قلبه بحركةٍ أقرب لحركة الكهرباء في الجسد وحينها قد دلف “تَـيام” ضاحكًا وهو يقول:
_أنا بصراحة زوغت وجيت على هنا، تشربوا إيه؟.
انتبه له “عبدالقادر” بعينيهِ ثم حرك رأسه يراقب رد فعل “نَـعيم” الذي تشبث به بنظراتهِ وتعلقت به عيناه دون أن يملك الجُرأة أن يُحيد نظراته عنه، وحينها بدا هذا الفعل أشد أنواع القسوةِ والجحود، فقرر “عبدالقادر” تولي زمام الأمور وهتف بنبرةٍ حاول التحكم في ثباتها:
_اتنين قهوة مظبوط، روح شغلك بقى.
ضحك “تَـيام” له وهتف بنبرةٍ خبيثة ألبسها وشاح البراءةِ:
_طب أنا مضطر آجي البيت عندكم النهاردة، صدقني مضطر، حتى أسأل الحج “نَـعيم” وهو يقولك إني مضطر، صح يا حج؟.
الحقيقة هو لم يستمع لسؤالهِ بل ظل مشغولًا بحفظ تفاصيله، ظل يملأ عينيه بأقل تنهيدة تصدر عنه، حفظ أدق التفاصيل حتى شارف على حفظ عدد رموش جفنيه، والآن ما إن سمع الحديث يتوجه إليه من بين شفتي حبيبه الغائب وجد نفسه يبتسم تلقائيًا وفي هذه اللحظة أشبه ببيت شعرٍ قيل في العصر العباسي:
_”‏ويَضْحَكُ سِنُّ المَرْءِ والقَلْبُ مُوْجَعٌ
ويرضى الفتى عن دهرهِ وهو عاتبُ”..
وفي الحقيقة هو يبتسم بعينيهِ لكن القلب ينزف من وجعٍ على فراقٍ تم بالإجبار وليس طواعيةً منه، يبتسم بشفتي يحق له كل الحق أن تصرخ من الوجع، يأمل بقلبٍ لم يعد شاغرًا لدخول أي ذرة صغيرة من الأمل، لكنه لازال يحاول، الآن قد رضى وقبل زمانه بالرغم أنه لم ينس ما فاته.
خرج من جولته مع صغيره في خيالهِ وانتبه لصوت “عبدالقادر” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة بيأسٍ:
_ناوي تيجي يعني؟ طب محدش هيفتحلك.
حينها ازدادت ثقة الأخر وهتف بإصرارٍ وهو يشاكسه:
_هي هتخرج تفتحلي، أنا جوزها ويحقلي أخطفها، ولا نرجع لنط السور تاني بقى؟ خلونا بالأدب بقى؟.
ضحك “نَـعيم” بسعادةٍ لم يعلم سببها لكن يبدو أن هذا الصغير أقل التفاصيل منه ممتعة، وكل الأحاديث منه مهمة وكل الكلمات التي تصدر عنه تحتاج لغاية الإهتمام، بينما “تَـيام” انسحب من المكان تاركًا لهما المحيط سويًا وقد ظهر الإحباط على وجه والده الذي ودَّ خطف أقل اللحظات معه، لكن ليس ما يتمناه المرء يدركه.
__________________________________
<“لقاء الرجال كنزٌ من كنوز الرحلة”>
في شقة “مُـنذر” التي يرجع أصلها لوالد “عـهد”..
جلس هو بها مع “إيهاب” الذي أصر على زيارته والاطمئنان عليه، وبالرغم من بساطة هذا الفعل كان “منذر” يشعر براحة غريبة من نوعٍ آخر، لطالما دومًا كان يتمنى أن يبقى محفوظًا في ظل “إيـهاب” كما عاش “إسـماعيل” محتميًا فيه، وحينها قام بفتح الثلاجة وأخرج منها العصائر ثم وضعها أمام كليهما فيما تحدث “إيهاب” ضاحكًا وهو يمازحه:
_أنتَ هتعاملني إني غريب بجد وتضايفني؟.
ابتسم “مُـنذر” بسمة هادئة وقورة مثل صفاته تمامًا ثم تمتم نافيًا هذا الحديث مُبدلًا إيـاه بأخرٍ ودي:
_لا عيشت ولا كنت يا “عمهم” أنا بس معنديش أي حاجة وبطلب من برة جاهز، بس بصراحة يعني “أيـوب” مش سايبني، ولا الحج “عبدالقادر” بصراحة، الاتنين كل شوية يبعتوا أكل وحاجات، فقولت أتشجع وأشرب معاك، كلها كام يوم وأنزل الشغل من تاني وساعتها هاخد على الناس.
حينها حاول “إيـهاب” جاهدًا أن يبرمج الحديث ليبدو طبيعيًا لكن النزعة الصريحة التي يمتلكها جعلته يندفع في سؤالهِ قائلًا:
_هما إزاي علموك؟ وإزاي بقيت دكتور؟ وإزاي وصلوك لهنا يا “مُـنذر” ؟ أنا عارف إن سؤالي ممكن يضايقك بس متأخذنيش يعني، عالم زي دي إزاي أهتموا أنهم يعلموك؟.
ابتسم “مُـنذر” بإدراكِ لحجم فضولهِ وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما حمحم عدة مرات يُجلي حنجرته:
_كل الحكاية ومافيها إني صورة، يعني علشان أبقى عبد هناك وهما مسئولين عني لازم أكمل الصورة، واجهة لعيلة ملكية، دكتور في الجامعة ومحدش ممكن يشك فيا، بس ورا دا كله أنا بعمل حاجات تانية كتير، زي إني بحسب ميل الرصاصة من أي سلاح وأعرف توصل في قد إيه وتجيب الهدف صح ولا لأ، بعرف اللي قدامي من أقل حركة فيه حتى وأنتَ قاعد عاوز تفاتحني في موضوع “تَـيام” ومش عارف تقولي إيه، أنا عارف، أساليب الحصول على معلومات هما عاوزينها، فأنا واجهة ليهم انهم بيستثمروا في الشباب وإزاي بيستغلوا إبداعهم وفي الخباثة أنا تور في ساقية بتلف، ولو أنتَ مش واخد بالك إزاي الشباب بتروح هناك بطريقة غير شرعية؟.
أنتبه له “إيـهاب” وركز بصره على وجه “مُـنذر” فوجده يضيف بنبرةٍ نبعت عن ذكاءٍ خرج من شابٍ أصبح على درايةٍ كافية بمحركات اللعبة:
_علشان تروح مذلول مش لاقي حاجة، وأول شغل يقابلك تقوله موافق، وهناك تعرف يعني إيه طبقية، وأخرتك معروفة من وسط اتنين ملهمش تالت، يا ضايع هناك وسطهم وزي عيال الشوارع يبقى أخرك وقفة في الشارع بشوية هلاهيل أو ديلر مخدرات، يا تتجوز واحدة تديك الجنسية وترفعك معاها وبرضه اسمك عبد هناك، فأنا بما إني اتكتب عليا العبودية وسطهم صممت أني أكون حر، قصاد الخدمة منهم كنت بتفضل عليهم، هما معملوش جميلة، بس أنا جمايلي غرقتهم.
أنهى حديثه ثم زفر بقوةٍ يخرج أنفاسه المُثقلة خلف كلماته فيما رفع “إيـهاب” كفه يمسح على ظهر الأخر وهو يبتسم له مؤازرًا له وحينها في طُرقَ باب الشقة بطرقاتٍ قوية جعلت “منذر” ينسحب من المكان نحو الباب يفتحه وحينها تفاجأ بـ “بيشوي” في وجهه، وفي هذه اللحظة لم تسعفه ذاكرته في التعرف عليه فربما يكون جميع بينهما اللقاء العابر هُنا، لكن “بيشوي” وقف أمامه محاولًا أن يبدو بأكبر قدرٍ من الثبات وجاهد ليتحدث أخيرًا بقولهِ:
_أنا جيت هنا علشان عاوزك، ممكن كلمتين؟.
بحركةٍ سريعة جال “منذر” في ملامحهِ تلقائيًا مستغلًا ذكائه وقوة ملاحظته في ذلك وهو يحاول تذكر هويته، بينما الأخر لاحظ نظرته فهتف معرفًا نفسه بقولهِ:
_أنا “بيشوي” جاي من طرف الحج “عبدالقادر” أو بالأصح يعني صاحب “تَـيام” ويعتبر هو أخويا الصغير.
حينها وفقط أفسح له المجال نحو الداخل وهو يرحب به لكي يدلف المكان وحينها علم “بيشوي” أن بداية تحول الحوار تبدأ من هنا، هنا الحقائق وهنا ينكشف كل شيءٍ، هنا سيعرف كيف وصلت الأمور إلى هُنا، وكيف سيتفاوض في أمر رفيق دربه، رغم صعوبة الموقف على الجميع، إلا أنه سيحاول، وقد وجد “إيـهاب” في وجهه فرحب كلاهما بالآخر.
أقترب منهما “مُـنذر” ووقف أمامهما وحينما لاحظ التردد باديًا على وجه “بيشوي” بسبب تواجد الأخر فهتف بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_متقلقش هو عارف كل حاجة وليه حق يعرف أكتر مني، قول اللي عندك وأنا هقول اللي عندي، وصدقني أنا واثق إنك هنا دلوقتي علشان خاطر “تَـيام”.
حينها وفقط أدرك أنه لم يكن يتنفس، بل حبس الأنفاس داخل صدره وما إن سُنحت له الفرصة أخرج أنفاسه المحبوسة وهتف بنبرةٍ عميقة لم تكن جامدة أو مُبرمجة بل ملئتها المشاعر:
_أنا لو جيت هنا فأنا هنا علشان “تَـيام” أنا أكتر واحد حافظه وعارفه، صحيح هو يبان دمه خفيف وبيضحك ومش واخد الدنيا قفش، بس بيزعل أوي ويقفل على نفسه، ودا حصله ساعة موت “صبري” اللي المفروض أنه أبوه، فأنا طالب منكم العقل والهدوء، أكيد لازم يعرف مين أبوه على حسب اللي اتقالي يعني وأنا هساعدك، بس “تَـيام” يبقى في أمان.
تدخل “إيـهاب” يهتف بنبرةٍ قوية بها لمحة عزيمة:
_في دي متقلقش، أمان بس أبسط حاجة إنك ترحم أب الفراق نهش قلبه، والوجع مسابهوش، صدقني لو “تَـيام” يخصك ضعف فهو يخصنا أضعاف، أقل مافيها نرد برجوعه جِميل أبوه اللى في رقبتنا، بس أول حاجة ناخد التحاليل وساعتها نقدر نتكلم، أتطمن محدش يقدر يأذيه، هو بنفسه لما يعرف أبوه عاش إزاي في غيابه هيعرف إنه محظوظ.
هكذا دار الحوار بينهم و “بيشوي” يقوم بدراسة الحديث ليعلم دراية الخطوات التي يتوجب عليه أخذها، الأمر لم يكن بهذه السهولة الذي يتوقعها أي فردٍ فوق وجه الأرض، بل الأمر في غاية الصعوبة، وجميعهم أولًا وأخيرًا يسعون لراحة “تَـيام”، مع وضع كل الاعتبارات في أي ردود أفعالٍ غير متوقعة أو متوقعة، لكن يبدو أنه سيحتاج إلى الغوث.
__________________________________
<“هذا صديقي الجديد، حبه في قلبي قديم”>
بدأت الشمس ترحل ويحل محلها الليل بأول درجاته، تتعامد الآشعة فوق سطح النيل أثناء رحيلها لتترك في أثرها وهي راحلة مظهرًا مثل الهدية للأعين ترتاح من عبئها بمجرد النظر له، وحينها كان “يـوسف” أمام النيل يتابعه من مقر الشركة، وحينها وقف شاردًا يدخن سيجاره وهو يتابع المكان وقد أنتبه لصوت “رهـف” خلفه مع إحدى الفتيات بالمكان وهي تُملي عليها الخطوات في سير العمل..
حينها أقترب منها “عُـدي” يتابع معها ورقة من ضمن أوراقٍ عدة في العمل وهي تخبره برأيها وتقترحه عليه، وحينها أبتسم “يـوسف” وهو يرى بعينيهِ كيف تحولت هذه البائسة إلى كتلة نشاطٍ ملتهبة الحواس في عملها، أصبحت أكثر نشاطًا وعملًا ويبدو أنها تناست الماضي بأكملهِ وقد لاحظ أيضًا حديث “عُـدي” معها مستفسرًا منها بقولهِ:
_أنا سمعت كلامك على فكرة اللي قولتيه للبنت، عجبني وحبيت أقولك إن تفكيرك حلو، المظاهر الخداعة اليومين دول بقت بتخلي الناس تضيع نفسها، وبصراحة يعني أنا آسف أني أفتكرتك من الناس دي، وحبيت برضه أقولك إني كتير كنت بقول عليكِ متكبرة وشايفة نفسك بس أنتِ مش كدا، فأنا حكمت على الكتاب من غلافه.
أنتبهت هي لحديثه ورفعت زرقاوتيها وهي تقول بنبرةٍ سيطر عليها الخجل الفطري لكنها حاولت الدفاع عن نفسها بقولها:
_أنا مش كدا والله، أنا بس شخص عملي شويتين ومش بحب كل حاجة هزار أو ضحك، بس لما الوقت يتطلب شوية عادي بعامل كل وقت باللي يستحقه يا “عُـدي” فصدقني أنا بس برسم وش جامد علشان شخصيتي الحقيقية مش هي دي، بعدين أنا فعلًا اتكلمت عن اللي بيحصل، الواقع مليان كتير أوي مصايب وبلاوي وبنات كتير وشباب بيتعبوا بجد، بس مش كله بيتحمل، فيه بنات بتبيع وتزهق وفيه بنات بتقف تسد، بس برضه الهالة الكدابة اللي الناس دي وخداها فيه غيرهم كتير يستاهلها ويكون نموذج للشباب يتعلموا منه، وعلى فكرة أنتَ طموح أوي ودي حاجة حلوة جدًا.
حرك رأسه موافقًا لها ثم عاد من جديد يتابع حديثه في العمل معها وهي أيضًا تجاوزت الحديث وتابعت معه الحديث في العمل مرةٍ أخرى تحت أنظار “يـوسف” الذي لازال مُبتسمًا وقد قرر العودة إلى مكتبهِ مُجددًا وخرج من مكان الاستراحة لكنه تقابل مع “شـهد” في وجهه وحينها رفعت هي حاجبيها تتأهب لحديثه اللاذع الذي لم ينفك عنه لسانه لكنه قرر أن يتجاوزها كأنه لم يراها وحينها هتفت هي ساخرةً:
_إيه ماما عاقتبك ولا إيه؟.
ابتسم بزاوية فمهِ ثم عاد للخلف بظهره ليراها أثناء قولهِ وهو يرد عليها بتهكمٍ:
_وماله، ست محترمة بتربي ابنها، الدور والباقي على اللي سايب بنته دايرة وعمالة تعمل مشاكل زي الحية من تحت، أبقي أديله عنواننا علشان نعرفه الرباية عاملة إزاي.
أحتقن وجهها وكادت أن تتحدث من جديد لكنه رفع كفه يوقفها عن التحدث وهتف بنبرةٍ جامدة جمدتها عن الحراك أو حتى إصدار أي فعلٍ بسيطٍ يصدر عنها:
_خِلصنا وبطلي رغي، أنتِ عارفة إني مش هرد عليكِ ولو رديت هتزعلي أوي، يبقى رَيَّحي كدا في حتة على جنب، علشان لو كل واحد ساب اللي وراه واللي قدامه وفضي للرد على الناس محدش هيشوف شغله، حالنا كلنا هيقف، يلا روحي شوفي القبطان “عزوز” بتاعك وفكك مني.
من جديد تجاوزها تمامًا حينما صدح صوت هاتفه برقمٍ جعله يتعجب لكنه قرر أن يدلف مكتبه ورفع الهاتف يجاوب سريعًا وحينها وصله الرد من الأخر وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فينك؟.
حينها شعر أنه كما الطفل الصغير يخجل من نفسهِ لكنه رفع كفه يمرره في خصلاته الكثيفة ونبس بتوترٍ:
_وعليكم السلام يا “أيـوب” أنا في الشركة، خير؟.
أطلق الأخر زفيرًا قويًا وهتف مفسرًا سبب إتصاله:
_خير إن شاء الله، أنا قولت أكلمك وأشوفك بتضرب مين النهاردة لا تكون ماسك حد بتأدبه ولا حاجة، قولت أعرفك إني في ضهرك يعني، دا حتى المثل بيقولك أنا وأخويا على ابن عمي، مش كدا يا ابن عمي؟.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه من سخرية “أيـوب” وهتف بنبرةٍ ساخرة هو الأخر يمازحه:
_طب يا ابن عمي لو وراك حاجة خلصها علشان شوية وهجيلك ونروح نصالح “قـمر” وأمـي ولا هتخلع مني وتخلى بيا؟.
عقد “أيـوب” مابين حاجبيه وردد مستنكرًا:
_أخلى بيك؟ ياعم هو أنا وعدتك بحاجة؟ تعالى أنا مستنيك أهو في المحل، بس متنساش تراضيني أنا كمان، علشان حاسسني زعلان شوية، شوف هتراضيني بإيـه؟.
ضحك “يوسف” ضحكة خافتة وسأله بقلة حيلة وكأنها يتعامل مع طفلٍ في صغر عمرهِ:
_طب أنتَ واحد زيك أراضيه بإيـه.
جاءه الجواب بنبرةٍ ضاحكة تخللها المزاح وكأنه يؤكد له أنه صفا تمامًا من قلبهِ ليكون الجواب:
_قدرني، شوف كدا أنا أتقدر بكام؟.
حينها تأثر “يـوسف” وجال الرد بخاطره ولم يحفظه بداخله بل باح به دون أن يبخل على “أيـوب” بهذه الكلمات قائلًا:
_هتصدقني لو قولتلك اللي زيك ملهوش تمن؟ علشان غالي أوي أوي ومش بالسهل تتقارن بحاجة تقدرك وتقدر قيمتك؟.
حسنًا هذا المتلاعب يُجيد فنون الكلمات وحينها شكره “أيـوب” وأخبره أنه في إنتظاره حتى يأتي له ويذهبا سويًا إلى “قـمر” وحينها أدرك “يـوسف” أن الأخر لم يشبهه، بل هو أفضل منه بكثيرٍ كونه استطاع مصالحته بهذه السرعة بل وتقبله هو الأخر، وحينها خرج من مكتبه فوجد تلك المرة “نـادر” في وجههِ وحينها أدرك أن هذه العائلة لم تتركه وشأنه، بل ستظل خلفه مهما يفعل أو يتجاهل فيهم.
قرر أن يفعل معه كما فعل مع “شـهد” ويتجاوزه لكن “نـادر” أوقفه وهو يقول بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_على فكرة أنا عرفت إن “نـزيه” راحلك بس أنا ماليش دعوة وهو جـه لما لقى نفسه مش هياخد مني حق أو باطل، علشان مترجعش تقول عليا عيل صغير، وعلشان أنتَ فتحتلي بيتك في وقت كنت محتاجك فيه.
رفع “يـوسف” عينيه يتقابل بنظراته مع نظرات “نـادر” ثم هتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر وكأنه لا يكترث بهم جميعًا أو هذه هي الحقيقة:
_طــز، هعملك إيه يعني؟ أنا بس هقولك اللي فيه النصيب وعرفه لحماك بطريقتك، أنا المرة اللي فاتت كلمته بالبوق بس، المرة الجاية أنا مش هسكت ولا الكلام هيكون بالبوق، أنا همد أيدي وساعتها مش هرحمه، وهوريه بقى إزاي أنا واحد ماليش أصل، والأحسن ليك ساعتها تخليك بعيد.
ألقى حديثه وقرر أن يبتعد لكن صوت “نادر” أوقفه حينما سأله بترقبٍ نبع عن قلقٍ من نظرته وحديثه الغير مبشر بذرة خيرٍ واحدة:
_يعني إيه ؟ بتهددني؟ ولا أفهمها إزاي؟.
توقف الأخر عن سيره وحرك رأسه يهتف بفتورٍ:
_إن شاء الله عن أمـك ما فهمت، وآه بهددك، رغم إنك لو عارفني بجد هتعرف إني مبهددش حد وبدخل زي القطر علطول، فالأحسن بقى إنك تكون بعيد علشان صدقني أنا غشيم يا “نـادر”.
أنهى حديثه وتحرك راحلًا من المحيط لكي يتوجه نحو مكتب “عُـدي” ومنه يأخذه معه إلى حارة “العطار” عائدين إلـى هُناك فيما شعر “نـادر” بالضيق من كل ما حوله، الأمر أصبح لا يُحتمل ولا يُطاق وقد ازداد سوءًا بتدخل “نـزيه” في الأمر، فإذا كانت علاقته بـ “يوسف” تحمل واحدًا بالمائة أملٍ فحقًا قد تبخر تمامًا وأصبحت هذه العلاقة مستحيلة.
__________________________________
<“ألم يكن الوقت ليلًا؟ كيف ظهرت الضُحى”>
هناك أشخاصٌ مثل البحار في عمقهم…
تراهم هادئين ثم تتفاجأ بحركة الأمواج بهم، ربما قد تراهم ذات مرةٍ ثائرين في حركاتٍ هوجاء ورُبما في بعض الأحيان مثل بركة مياه راكدة، لكن تذكر أن خلف الهدوء ربما يظهر البركان الثائر أو الخبث الذي ينبع عن ذكاءٍ محسوب.
وصل “إسماعيل” إلى مقر شركة “ضُـحى” التي تعمل بها وقد خطط هو لهذه الزيارة جيدًا دون حتى أن يسألها أو يُخبرها، فهي مجرد فكرة متهورة طرأت في بالهِ وقرر أن ينفذها، وها هو يسير خلف المرشد لكي يذهب إليها حتى تفاجئت هي به أمامها مبتسم الوجه، منمق المظهر، تظهر عليه الهيبة، وحينها رفرفت بأهدابها فوجدته يبتسم لها قائلًا بثباتٍ:
_مساء الخير يا “ضُـحى”؟.
توسعت عيناها ما إن أدركت أنه يقف أمامها وحينها تركت مقعدها ووقفت أمامه فوجدته يبتسم باتساعٍ أكبر ونظر لها قائلًا:
_مفاجأة صح؟ إيه رأيك بقى؟.
حينها سألته هي بتعجبٍ ما إن رحل المرشد الذي أتى به إلى هنا وأحضره لداخل مكتبها:
_بتعمل إيه هنا يا “إسماعيل”؟ وجيت إزاي؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_جيت بعربيتي عادي، وجيت علشان أشوفك بصراحة، وعلشان زمايلك يعرفوني بما إني في حكم خطيبك دلوقتي فواجب على الدكورة اللي هنا تعرف أنا مين، غلطت أنا يعني؟.
رفعت أحد حاجبيها وضيقت جفنيها ترمقه بشكٍ وهي تعلم أن الأمر لم يكن بهذه البساطة بل هو يدبر لشيءٍ غيره، لكنها قررت أن تجاريه وحينها استعادت السيطرة وقوتها وهتفت بثباتٍ تُحسد عليه:
_وماله تعالى ورايا، علشان أعرفك عليهم، على فكرة هيفرحوا أوي وه‍عزمهم كلهم في الخطوبة، إيه رأيك؟.
وافق على حديثها وسار خلفها واثق الخطى وهي تسير أمامه متعجبة من حضوره وقد فتحت واحدة من الغرف الأخرى التي تكدست ببقية الزملاء وأشارت عليه وهي تقول بطريقةٍ طغى عليها الطابع الدبلوماسي وهي تقول بعدما ألقت التحية:
_أعرفكم يا جماعة، “إسماعيل” خطيبي، لسه طبعًا معملناش خطوبة رسمي مجرد إتفاق بس لما نحدد كلكم معزومين طبعًا، مش كدا يا “إسماعيل”؟.
حرك رأسه موافقًا مؤكدًا ما تفوهت هي به ثم جاورها وهو يقول بنبرةٍ هادئة رسم عليها الطريقة الرسمية حينما هتف:
_أنا الحقيقة جيت علشان رايحين مشوار مهم مع بعض بس حبيت أشوفكم وإن شاء الله نتقابل على خير تاني.
حينها كان كما الصياد الماهر استطاع أن يلمح الفريسة وقد لمح الضيق باديًا على وجه أحد الشباب وهو يرمقه بسخطٍ وكأنه تعدى على ممتلكاته الخاصة، وحينها تيقن أنه توجب عليه هذه الزيارة ولم يفشل في فعله، وتيقن أكثر حينما لمح احتقان وجه الأخر أثناء مباركات الجميع لهما والدعاء بتيسير أمر الزواج وقد هتفت السيدة التي تتولى إدارة المهام خلف المدير العام مباشرةً:
_طب حيث كدا تقدري تروحي بما إنك وراكِ مشوار مهم مع خطيبك، واعتبري اليوم كدا ضَن خلاص، أي خدمة علشان أنتِ جدعة بس يا “ضُـحى” وأنا في ضهرك.
ابتسمت لها “ضُـحى” بامتنانٍ تشكرها ثم التفتت لخطيبها تغمز له بسعادةٍ جعله يعمى عن جميع من حولهِ عداها هي، وكأن الكون في حضورها معتمٌ والضحى تظهر بظهورها هي، وقد أنتبه لصوت الشباب يباركون له فابتسم لهم مع تحية بسيطة من رأسهِ ثم خرج من المكتب يتبعها نحو المكان الأخر فيما لاحظ هو فراغ الغرفة من الجميع إلا هي من ظلت فيها فسألها بتعجبٍ:
_هو أنتِ قاعدة هنا لوحدك؟ مش المفروض دي مكاتب زمايلك وهنا مكانهم معاكِ؟.
حركت رأسها موافقةً ثم التفتت له تقول بنبرةٍ هادئة:
_دي حقيقة بس هما بيحبوا يشتغلوا مع بعض في مكان واحد، أنا كنت بقعد معاهم برضه بس بصراحة مبقيتش، فبقيت أحب أقعد مع نفسي هنا أنجز وأسرع.
قالت حديثها ثم ألتفتت تكمل جمع متعلقاتها من فوق مكتبها فيما سألها هو بإهتمامٍ:
_والسبب؟.
حينها زفرت بقوةٍ ثم استندت على طرف المكتب بظهرها وهي تقول بنبرةٍ أتضح فيها الحزن:
_علشان مبحبش المنافقين يا “إسماعيل” وهما كلهم منافقين، وغير كدا أنا أتعودت إن اللي عاوز ينجح لو دخل كار أو مجال جديد مستحيل يقدر يصاحب حد فيه، وأي حد في مشوار طالب منه جهد لازم يكون لوحده، يعني زي ما بيقولوا كدا الرحلة فردية بس بنضافة، نصهم عاوز مني مصالح في الشغل ونصهم مصالح شخصية، وأنا مش بقول لحد لأ، بس بشرط إن حقوقي متكونش مستنزفة، فأنا بلعب معاهم لعبة اسمها الحدود، مرة أتعامل عادي ومرة أرفض، علشان أنا مش متاحة في كل وقت ليهم، وفي نفس الوقت بركز على شغلي اللي هما بيحاولوا يعطلوني عنه علشان ممشيش خطوات لقدام، فهمت بقى أنا ليه قاعدة لوحدي؟.
ابتسم لها “إسماعيل” ثم أقترب خطوة أخرى مع احتفاظه على المسافة بينهما وهتف بنبرةٍ هادئة ردًا عليها:
_عرفت وكنت متأكد إن رغم إنك صاحبة الكل بس لوحدك وسطهم، فأنا جاي بصراحة أقولك تعالي حطي وحدتي على وحدتك ونروح نقعد سوا وبالمرة نلف على محلات الدهب اللي هنا ونشوف الدنيا إيه، هنلحق نجيب حاجة ولا هتروح علينا؟ مع إني والله أتمنى أجيبلك نجوم السما.
ابتسمت له ثم حملت حقيبتها لكن قبل أن تذهب معه فتحت هاتفها تطلب رقم والدتها ثم قالت بنبرةٍ هادئة وهي تطالع وجه “إسماعيل” تترقب إنتظار رد فعله:
_أيوة يا ماما، أنا هقابل “إسماعيل” وناخد بصة على محلات الدهب ونشوف الأسعار علشان لو اتأخرت تكوني عارفة، تمام؟.
ابتسم هو بزاوية فمه حينما تبدلت ملامحها كُليًا وتحديدًا ما إن وصلها الرد من أمها قائلةً:
_طب ماهو كلم أبوكِ وقاله وأبوكِ عرفني، الواد محترم مش زي ناس تانية كانوا عرر وزبالة، خلي بالك بس من نفسك ومتنسيش نفسك برة يا حلوة، تعالي بسرعة علشان أبوكِ أتحرج يرفض قدام إحترامه.
رفعت حاجبيها تلقائيًا بذهولٍ وفرغ فاهها لكنه ابتسم لها وهتف بثقةٍ يخبرها بما ينتوي فعله معها فيما هو قادمٌ عليهم:
_أنا علشان طبعي حر قولتلك إني مش ناوي أعمل حاجة واحدة تخلي في خطورة بعلاقتي بيكِ، وواخد على الصراحة زيادة عن اللزوم يا “ضُـحى” وهو دا تحديدًا معنى كلامي لما قولتلك إني مبعرفش ألاوع وأخبي، وهو إني واضح زي الضُحى كدا في عز النهار، أتمنى تكوني فهمتي.
حسنًا حسنًا يبدو أنه يتخذ مسلكًا جديدًا يجعلها أمامه عاجزة عن السير معه في نفس المسلك لكنه محقٌ فيما يقول، هو يفضل الصراحة التي قد تكون زائدة عن الحد المُلزم بينما هي تفضل الخصوصية وإن كانت عن طريق الخفاء، نعم قد يكون التضاد هو ما جمع بينهما لكن من الممكن أن يكون هو ذاته وسيلة الجمع بينهما.
__________________________________
<“وصلنا في أمانٍ والدار أصبح لنا أمانًا”>
كان يجلس في محل عمله يمسك بين كفيه كتاب الله عز وجل، يسند بالكف اليمين دُفة المُصحف وبكفهِ الأخر يمسك المُصحف نفسه وهو يقرأ بنبرةٍ هادئة خاشعة ومؤثرة تقشعر لها الأبدان حينما خرج الصوت من مصدرٍ أتقن قراءة القرآن الكريم، وقد وصل إليه “يـوسف” يحمل في كفيه الحقائب التي جلبها وقد أقترب منه يجلس على المقعد وحينها أنهى “أيـوب” القراءة ثم أغلق المصحف ووضعه وهو يتمتم في سرهِ بنبرةٍ خافتة حديثًا لم يسمعه “يـوسف” لكنه رجح أنه يقوله بعد إغلاقه لكتاب الله.
انتبه له “أيـوب” ورحب به بملامح هادئة مبتسمة جعلت “يـوسف” يبتسم أكثر ثم رفع كفهِ ووضع الحقيبة على مكتب “أيـوب” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_هديتك، يا رب تعجبك.
ابتسم “أيـوب” أكثر من السابق وفتح الحقيبة بحماسٍ فوجد بها هدية سوداء اللون تشبه نمط الكعبة المشرفة في تكوينها وألوانها ومعها علبة أخرى لم يعرف ما بداخلها في بداية الأمر لكنه ما إن أشتم الرائحة عرف ما بداخلها فابتسم رغمًا عنه للأخر الذي قال بنبرةٍ هادئة:
_دي مبخرة بدل اللي أتحرقت عندك دي، ودا بخور أصلي من أسوان، جايبه من واحد حبيب الحج حاجته كلها حلوة زي ما أنتَ شايف كدا، عجبتك الهدية يا رَيس؟.
أبتسم له “أيـوب” وهتف بنبرةٍ أعربت عن صدقهِ:
_أوي، فوق ما تتخيل كمان، تسلم إيدك وتعيش وتجيب.
الآن نال “يـوسف” راحته فابتسم له هو الأخر ثم أشار له وهو يقول بنبرةٍ هادئة دون أن يكون مُلحًا عليه:
_طـب ممكن تيجي معايا؟.
مرت دقائق قليلة توقف بعدها كلاهما عند باب شقة “غَـالية” وطرق حينها “يـوسف” الباب وقد فتحته لهما “غالية” التي ما إن رآتهما سويًا كلاهما يرسم بسمة بشوشة على وجهه بجوار بعضهما هتفت بسخريةٍ:
_دا اسمه إيه إن شاء الله؟.
مط “يـوسف” شفتيه بيأسٍ من طريقتها فيما رفع “أيـوب” يحك لحيته المنمقة ثم جاوبها مبتسمًا بطريقةٍ أقرب لطريقة طفلٍ صغيرٍ:
_اسمه حصل خير، يعني كنا بنلعب مسكنا في بعض شوية بس الحمدلله عدت على خير، المهم هتدخلينا يا ست الكل ولا لأ؟ أنا عن نفسي عاوز أدخل بصراحة.
رفعت حاجبها تسألهما بتهكمٍ قاصدة السخرية منهما:
_طب وأنا إيه يضمنلي أني لو دخلتكم مش هتلعبوا جوة وتبهدلوا الدنيا تاني؟ هو أنتوا عيال صغيرة؟ مجانين يعني؟
في هذه اللحظة أقترب “يـوسف” من أذن “أيـوب” وسأله بسخريةٍ من حديث أمـه التي قصدت أن تطالعهما بهذه الطريقة:
_ هو للدرجة سمعتنا بقت زفت؟.
_قصدك بقت هباب.
هكذا جاوبه “أيـوب” بنفس السخريةِ التي نطقها بنبرةٍ خافتة أقرب للهمسِ وقد أولتهما “غَـالية” ظهرها وهي تُجاهد لكتم ضحكتها بعدما استمعت لحديثهما فيما دلفا الإثنان معًا وفي هذه اللحظة خرجت لهما “قـمر” التي وقفت مذهولة حينما رأت الاثنين معًا بجانب بعضهما، فتحدث “يـوسف” أولًا بنبرةٍ هادئة:
_أنتِ زعلانة مني لسه صح؟.
حينها حركت عينيها التي شابهت عينيه كثيرًا ولم تجاوبه شفهيًا بل جاوبت بعناقٍ أرتمت من خلاله بين ذراعيه وهي تبكي بصوتٍ عالٍ جعله يغمض عينيه ثم رفع كلا ذراعيهِ يضمها بهما وهو يقول معتذرًا بأسفٍ أعرب عن ندمٍ سكنه:
_أنا آسف والله، أنا ماكنش قصدي إنك تزعلي مني أو أزعل “أيـوب” حتى وأكيد برضه مقدرش أمشي وأسيبك، أنا علطول بقول إنك رد الروح، عاوزاني أسيب روحي وأمشي؟ حتى لو أنتِ طلبتيها مني مش هعملها وأمشي، دا أنا بحسب عمري من ظهورك في حياتي.
بكت من جديد بنبرةٍ أعلى ثم رفعت رأسها تواجهه وهي تنطق من بين عبراتها المُنسابة بصوتٍ متقطعٍ وهي تشهق أمامه:
_أنا إمبارح والله…لما قولتلك تصلح الموقف كان علشانك أنتَ…ولما زعلت وقولت إنك هتمشي أنا فضلت أعيط، أنا ما صدقت تيجي وأشوفك بعيني بعدما كان قلبي هو اللي بيشوفك…علشان خاطري متزعلش بس أنا بحبك أوي ويمكن اللي مصبرني على غياب بابا إنك معايا هنا، أنتَ مش زعلان صح؟ ولا حتى قلبك شايل مني؟.
لمعت العبرات من جديد في عينيهِ وضمها بقوةٍ يتشبث بها وهي كذلك أخرجت كل البكاء الذي كتمته منذ الأمس بينما “أيـوب” حمحم بخشونةٍ تجاهلها “يـوسف” عن عمدٍ فيما نطقت “غالية” بنبرةٍ هادئة:
_أقعد أحسنلك، هيفضل واخدها في حضنه كدا.
ضحك “أيـوب” وجلس على الأريكة فيما لاحظت “قـمر” ذلك وحينها أشارت لشقيقها الذي ابتسم بعينيهِ ثم تركها وجاور “أيـوب” وحينها ابتسمت هي مسحت دموعها لتظهر بكامل هيئتها الرقيقة أمام “أيـوب”، حيث كانت ترتدي ملابس بيتية أو ما يطلق عليها باللغة الدارجة “ترينج” كان باللون الأسود بأكمله، ناسب جسدها المتناسق إلى حدٍ ما، وفردت خصلات شعرها الطويلة كعادة جلوسها في البيت.
خرج من شروده فيها حينما جلست هي في مواجهتهما على أحد المقاعد الخشبية التي سحبته هي واستقرت عليه ثم ابتسمت لهما وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا بس عاوزة أقولكم حاجة، أنا كتير كنت بحس نفسي لوحدي، وكنت بخاف أعمل مشاكل أو أظهر كتير قدام الناس أو أتعرف على حد علشان علطول حاسة إن ماما لوحدها رغم إن خالو مقصرش بس هي كانت غصب عنها حاسة بالوحدة، وأنا كنت بخاف أتقل على خالو علشان مش من حقي أني أعمل كدا وأخليه مجبر على إنه يشيل مسئوليتي كدا، كل دا أتغير بظهوركم أنتوا الاتنين في حياتي، بقيت بحس إني واحدة تانية بتضحك وتفرح وتتصرف براحتها، ما أنا في ضهري اتنين مش واحد بس، فأنا لما زعلت منك يا “يـوسف” كان خوف عليك، خوف إننا نخسر “أيـوب” علشان محتاجينه، ولما بعتلك يا “أيـوب” إني زعلانة منك فدا علشان أنا بعتبر “يـوسف” زي بابا بالظبط، فأنا مش عاوزة أخسر حد منكم، عاوزاكم أنتوا الأتنين مع بعض، ممكن؟.
ابتسم لها “أيـوب” وأمسك كفها يحتضنه بين كفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ممكن، ووعد مني أتحمله وأتحمل طولة لسانه وأفعاله الغريبة وتربيته المحدودة وكلامه الغير مرغوب فيه وطريقته الغير مهذبة…
ألقى حديثه بنبرةٍ ضاحكة وقبل أن يكمل حديثه وجد كف “يـوسف” يستقر على عنقه بشرٍ وهو يتوعده بكلماتٍ خلت من الأدب وحينها ترك “أيـوب” كف زوجته ثم قام بالضغط على كف “يـوسف” الذي أبعده كفه سريعًا فيما ضحكت “قـمر” عليهما ثم استقرت بينهما تفصل بين جسديهما وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_طب والله شكلكم حلو ولايق تكونوا صحاب.
رفع “أيـوب” طرف شفته العُليا فيما رمقها “يـوسف” بنفاذ صبرٍ ثم سحب حقيبة من جوارهِ يعطيها لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ لتكم غضبه:
_أتفضلي دي علشانك، عباية بدوية أهيه زي اللي كان نفسك فيها وسألتي عنها، قومي كدا وريني هتعجبك ولا لأ، والأول هتعجبنا إحنا ولا لأ.
شهقت بفرحةٍ كبرى ثم خطفت الحقيبة وركضت نحو الداخل وهي تتقافز في سيرها، بينما كلاهما أبتسم بسعادةٍ لرؤيتها بهذه السعادة، وبعد مرور دقائق خرجت من الغرفة وهي ترتدي العباءة السوداء التي صممت بالنمط العربي ونقش عليها التصميمات الخاصة بثياب النساء الفلسطينيات وحينها دارت حول نفسها أمامهما فترك “أيـوب” محله ووقف في وجهها بعدما سار لها مُنصاعًا خلف دهشته بها وهو يقول بإعجابٍ صريحٍ متغزلًا بها أمام والدتها وشقيقها:
_سبحان الله، وتبارك الله فيما خلق…
وسبحانه جل وعلا أنه أختارني
أنا من بين عباده وبِكِ رَزق…
فاللهم إني أسألك أن تُبارك لي في وجودها،
وألا تجعل طريقي يخلو يومًا من نورها،
فسبحانك ربي حينما شِئتُ…
أردت أن تؤنسني في دنياي بحضورها
وأصبحت أنا من بين كل البشر
وسائر الخلائق مطروف العين بها.
تعلقت حينها عيناها بعينيهِ وهي تبتسم له بخجلٍ ناقضته حينما استقرت بنظراتها في وجهه ليتوقف الزمن بهما في لحظةٍ تاه كلاهما عن البقية، أمامه هي وكأن العالم خلا من الجميع عدا ظهورها هي، فياليت كل العالم بنفس البراءة التي تملكها هي، وقد حمحم حينها “يـوسف” ليعيدهما مُجددًا إليه وقد وزع “أيـوب” نظراته على الجميع ثم هتف بمرحٍ يمازحهم قبل فعله الآتي:
_طب بما إنها كدا كدا خربانة، عن إذنكم.
أنهى جملته ثم أقترب منها وضمها بين ذراعيه في حركةٍ مباغتة جعلتها تخفي وجهها في كتفهِ وهي تجاهد لكتم بسمة سعيدة على وشك فضح أمرها، ناهيك عن صوت نبضات قلبها الذي دوى صوته في أذن “أيـوب” وكأنهما أكتملا في هذه اللحظة وقد ابتسم “يـوسف” لهما بيأسٍ وهو يتذكر عناق “عـهد” له وكيف تجعله دومًا معروفًا بالأمان، حينها يعلم أنها النصف الآخر الآمن منه وقد أقتربت “غالية” من “يـوسف” وضمت رأسه لصدرها وتابعت بعينيها ابنتها التي ظهرت السعادة على وجهها.
__________________________________
<“بعضي يشتاق لكِ، يشتاق وكأني كلي عندكِ”>
بالأمسِ سويًا كُنا هُنا…
واليوم في انتظارك أقف أنا، أقف مشتاقٌ وبَعضي يسأل أين أنتَ يا كُلي، أين أنتَ يا أكثري ويا أقلي، هيا تعالي وأرحمي بعضي وكُلي، لقد كنتِ كريمة وبقلبٍ تعذب رحيمة، والآن يقف ذلك المُعذب ينتظر منكِ القدوم فكوني رحيمة.
هكذا وقف “يـوسف” فوق سطح البيت في إنتظار هذه الرحمة التي رزقه الخالق بها، ويبدو أن كل الأسباب اتضحت له ليصبح هو هنا بقربها، لا يعلم ماذا يفعل لكنه ينتظرها وإن طال الوقت لأكثر من ذلك لن يبخل عليها كما لم تفعل هي، وحينها فُتِحَ الباب وظهرت هي منه بعدما قرأت رسالته في وقت تخطى النصف ساعة منذ إرساله لها، دلفت تبحث عنه بعينيها المُتلهفتين لرؤيته واستعلام نتيجة مطلبها منه لكنها رأت حقيبة سوداء وضعت فوق الطاولة فاقتربت منها لتجده ترك خطابًا في مظروفٍ أسود اللون وبداخله الورقة بنية تحديدًا كتلك المراسيل القديمة التي تحبها هي.
أمسكت المرسال وهي تبتسم بسعادةٍ نطقت بها عينيها وقد حمد ربه كثيرًا على اختياره لهذا المكان الذي وقف فيه يواري نفسه عنها واستطاع أن يقرأ تعابير وجهها بكل فصاحة، بينما هي فتحت المرسال ووجدته كتب بداخلهِ:
_اليوم أكتبُ لكِ وأنا حقًا غريبًا…
تحديدًا أثناء خطابي رحلت عن هذا العالم وذهبت في رحلة أخرىٰ، رحلة في مدينةٍ كنتُ ولازلت عنها غريبًا…
رأيت هناك القسوة ولم أعرف معنى الرحمة، عَهدت منهم الكراهية ولم أعلم ماهي المَحبة،
لكن… وآهٍ من لكن هذه، حينما عُدت من رحلتي القاسية، لرحلةٍ أغدقتها الرحمة، رحمةٌ من الخالق بظهورك أنتِ، فياليت ما مَرَّ بدونكِ يُعاد معكِ أنتِ، والآن دعيني أعود من رحلتي إليكِ وأخبرك أن كل أضواء المدينة كانت ولازالت باهتة لم تلمع مثل بريق عينيكِ.
نزلت عبراتها تلقائيًا تستشعر صدق حديثه، تلتمس أنه صدق في حديثه ووفى بوعدهِ والتزم بعهدهِ، كما تعلم أنه نجح فيما طلبت منه، والآن تبحث عنه بعينيها من جديد فياليت يكون قريبًا وليس بالمكانِ البعيد، وقد ظهر هو مقابلًا لها يتبسم بصفاءٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة وصادقة معبرًا عن الحوار الدائر بداخلهِ حينما رفعت “عـهد” رأسها نحوه:
_أنا حبيت أقولك إني أتصالحت مع كل حاجة وصلحت كل حاجة ودي أول مرة تحصل، طول عمري لوحدي وأنا بخرب أي حاجة وأعك الدنيا ومحدش مـدَّ أيده ليا، أول مرة أعرف إن الدنيا ممكن تتصلح في يوم وليلة بكل سهولة عادي، وعرفت دا بوجودك، أنا دلوقتي بس هقولك إنك مش بمزاجك تمشي يا “عـهد” علشان يوم ما هتمشي أعرفي إني كدا خسرت كل حاجة، لو لسه عندك أمل فيا متخلينيش أخسر في وجودك.
يا الله، هذا الغريب ناجحٌ في أسرها بمجرد كلمات فقط، ماهر في إحتوائها بعينيهِ، مُبهر في التعبير بنبرةٍ صادقة وعينٍ صافية، حنون في الحديث وبالغٌ في التعبير، هذا هو المبهر دومًا، وقد أبهرها أكثر حينما أعترف أمامها بصدقٍ يشبه صدق مراهقٍ يصارح حبيبته بقولهِ:
_أنا صالحت “أيـوب” و رضيت “قـمر” وأمي فرحت بيا وخدتني في حضنها، محدش لامني ولا عاتبني، كلهم بس كانوا مستنيين “يـوسف” يرجع ليهم، وعاوز أقولك برضه، إن لولاكِ ماكنتش عملت كدا، أنا عملت كدا بسببك أنتِ.
لم تعلم لما أشفقت عليه وهو يتحدث بهذه الطريقة وقد نزلت دموعها من جديد لكنها مسحتها وأقتربت منه تقف في مواجهتهِ مُباشرةً وهي تقول بنبرةٍ هادئة حاولت إخفاء البكاء عنها:
_بس أنتَ لو مش جواك طيب ونضيف كان زمانك رافض كلامي، ولو مش أنتَ يهمك وجودهم ماكنتش سمعتني أصلًا، أنا بس أقترحت حاجة كانت جواك أنتَ، وماكنش ليه لزوم تتعب نفسك وتجيب حاجة، أنا مش عاوزة مقابل إني ماشية معاك نفس الطريق.
أبتسم لها وحرك كتفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_دا مش مقابل، دي حاجة يا رب تعجبك، شكلها حلو وواثق إنها هتعجبك، وعلى فكرة “فيروز” لبستها قبل كدا، بس أكيد يعني مش هتكون مذهلة فيها زيك.
ابتسمت له باتساعٍ وأخفضت رأسها للأسفل وقد تحولت بسمتها إلى ضحكةٍ جاهدت لكتمها لكنه كان الأسرع حينما التقطها وهتف بمراوغةٍ قاصدًا أن يمحي خجلها:
_طب ما إحنا حلوين أهو.
حسنًا لقد نجح في الحصول على ضحكتها كاملةً دون إخفاءٍ عنه أو خجلٍ طغى عليها، وهذه هي المقابل الوحيد الذي أنتظره هو منذ بداية اليوم، أراد أن تكون هذه الضحكة هي الهدية لشخصٍ مثله لم ينل سوى النظرات المزدرية التي تحمل اللوم أو الكراهية، وقد أقترب منها يضع جبينه على كتفها سامحًا لنفسهِ بسرقة لحظات الهدوء من حربٍ تدور بداخلهِ وصوت السيوف بها لم يتوقف ليتخلف عنها ضجيجٌ مزعج تسكته هي بمجرد رفع كفها وتمسح على رأسه وكأن بعضه يواسي كله.
__________________________________
<“لقد ساهمت في إنتصارنا، بعدما أهلكتنا الحرب”>
حسنًا أتى منتصف الليل وبدأت الجفون تنام،
لعلها تسرق الحلو من أيامها في الأحلام، وياليت كل ما يؤلم المرء يذهب كيفما يصحو وتذهب منه الأحلام، وها قد غفىٰ الصغير في مرقده يضع رأسه على الوسادة وأحد كفيه يحتضن الهاتف وحينها سحبته منه “نِـهال” ولثمت جبينه ثم أقتربت من الغطاء ترفعه على جسده وهي تدثره به.
أنهت رعايتها بهذا الكوكب الصغير الذي أصبح هو محور دورانها دونًا عن سائر الكواكب بمختلف أحجامها، وحينها توجهت إلى غرفتها فوجدت “أيـهم” يجلس على الفراش وفي يده هاتفه وحينها جاورته وهي تقول بسخريةٍ:
_دي وراثة بقى؟ هيجيبه من برة يعني؟.
فهم مغزى حديثها فأغلق هاتفه يطالعها بصمتٍ وقد قرأ كل ما يجول بخاطرها من خلال حركة عينيها وحينها سألها بنبرةٍ متهكنة نبعت عن ذكائه:
_طب ما تقولي أنتِ عاوزة تقولي إيه؟.
سحبت نفسًا عميقًا ثم هتفت بنبرةٍ مندفعة:
_طب ليه عملت كدا؟ أنا قولتلك لو غلبت هطلب نقلي أي مدرسة تانية وخلاص، أو حتى أكلم أي مدرسة هناك تتفاهم معاها، أنا ماكنتش حابة إنك تروح كدا وتعمل كل دا، مش علشان حاجة بس أنا أتعودت أني عادي واخدة على المشاكل وطول عمري بسد فيها لوحدي.
حرك رأسه للأمام حتى يراها مليًا أكثر من السابق وحينها حركت رأسها تسأله بذلك عن سبب حركته وسبب نظرته فيما أعتدل هو في جلستهِ وهتف بثباتٍ:
_كنتِ، كنتِ يا “نِـهال” قبل ما أنا أجي وأدخل حياتك، قبلي حاجة وبعدي حاجة، ثم مين قالك إنك لما تمشي وتسيبي الدنيا ليها دا حل؟ ومين قالك إنك لما توقفي شغلك علشانها دا حل، ومين قالك إن الهروب حل؟ عاوزة تسيبي ليها الدنيا وهي تبرطع زي ماهي عاوزة؟ عاوزة تقوليلها برافو عليكِ قدرتي تخليني أبطل شغل وتسيبي ليها المكان؟ عاوزة تخليها تنتصر لمجرد إنها تحسسك بالضعف؟ لأ طبعًا، كان لازم تكملي وتقفي في وشها ووش كرهها، لازم تكوني نِد وراسك براسها، الإنسحاب ممكن يكون حلو في مصلحة التانيين بس مش في غياب مصلحتك أنتِ.
ابتسمت “نِـهال” وتنفست الصعداء أمامه ثم صارحته بقولها وهي تضحك له:
_عارف؟ أول مرة حد يتدخلي في مشكلة، كل مرة بكون لوحدي وأتحمل العواقب لوحدي برضه، حتى بابا علطول عاملني إن ولد بما إنه مجابش ولاد وبحكم شغله كنت بتصرف كأني راجل شايل مسئولية، ودي كانت أول مرة النهاردة أحس إن فيه حد ممكن يكون واقف في ضهر حد وعنده استعداد يشيل مكانه المسئولية، فأنا بشكرك يا “أيـهم” إنك من غير طلب مني بتعمل كدا.
أقترب منها وهو يهتف بمراوغةٍ خبيثة:
_الشكر مبيأكلش عيش أيامنا دي، تعالي كدا في حضني وقوليلي يومك كان عامل إزاي وأنا أقولك يومي كان عامل إزاي، أنا قافل التليفون والحج لو عمل إيه مش هيعرف يوصلي.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ ثم وضعت رأسها على كتفهِ ورفعت الغطاء تدثر جسديهما ثم بدأت في إخباره كيف مر اليوم قبل مجيئه وكيف مر بعد أن رحل من المدرسة وتركها بمفردها بينما هو كان يستمع لها مبتسمًا وكأنه يستمع لصغيره، يستمع لها وهو يرى أحلامه حقيقة بهذه الزيجة التي أتت محملة بكل أحلامه رغم نقصان أحد هذه الأحلام لكنه يأمل في الخالق أن يمن عليهما سويًا.
في الأسفل بغرفة “أيـوب” جلس على الفراش يقرأ في كتاب السيرة النبوية، تحديدًا ذلك المجلد الأصلي الذي أتاه هدية من أحد رجال الدعوة الإسلامية ليصبح هو صاحب النصيب في الحصول عليه، كان مندمجًا في القراءة حتى طُرِق الباب وأخرجه الصوت من حالة الإندماج هذه فترك الكتاب وخرج من الفراش يفتح الباب فوجد أمامه “عبدالقادر” يبتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_معلش لو صحيتك؟ بس بكلم أخوك قافل تليفونه قولت أجيلك أنتَ أتكلم معاك وأبقى أكلمه هو بكرة، هتنام؟.
أبتسم له “أيـوب”وهتف بنبرةٍ ضاحكة وهو يفسح له مجال الدخول:
_ولو نايم يا “عبده” النوم طار من فرحته بشوفتك.
ولج “عبدالقادر” الغرفة مبتسم الوجه ثم جلس على الأريكة وقد جلس “أيـوب” بجوارهِ وهو يسأله بعينيهِ وقد علم أن والده يخفي سرًا كبيرًا وحينها زفر “عبدالقادر” وهو يحاول تنظيم أنفاسه وترتيب كلماته وبرمجة حديثه وما إن سئم من ذلك هتف بقلة حيلة:
_شوف أنا محتاج مساعدتك، أنتِ الوحيد اللي تقدر تساعده وتساعدني، علشان أنتَ الوحيد اللي بتعرف تلحق الناس من تفكيرهم دا بفضل ربنا طبعًا، جاهز تسمعني وتساعدني؟.
حرك “أيـوب” رأسه موافقًا رغم تيهه وسيطرة الحديث عليه فقرر أن يقتبس والده الصراحة من أسلوب “نَـعيم” وهتف يصارحه بقولهِ:
_إحتمال كبير “تَـيام” جوز أختك يطلع ابن الحج “نَـعيم” اللي ضاع منه، وابن أخوه لقاه هنا بعدما قطع مشوار طويل قطع أنفاسه، فأنتَ هتقدر تساعد يا “أيـوب”؟.
تدلى فكاه عن بعضهما بذهولٍ وزاغ بصره بعيدًا عن وجه والده الذي آكدها له بنظراته وكأنه يتلمس منه الوجود معه في هذه المحنة، محنة طويلة الأثر يحتاج فيها المرء للكثير من الصبر وهو يدعو مُطالبًا “يا صبر أيـوب”.
__________________________________
<“لا تتمنى الحصول، أنتَ حصلت بالفعل”>
الليل أقبل والناس نيام..
ونحن هنا ساهرين برفقة الأحلام…
وقد جلس “تَـيام” بقرب بيت الطيور “غية الحمام” وبجواره جلس “بيشوي” معه وهو يحاول الحصول على الصفاء من ركض أفكاره المتلاحقة بغير هوادة، لكنها رأسٌ عنيدة وتصارع صاحبها والصراع لديها عادة، أما “تَـيام” فهذا المُتيم الحالم صاحب الأعين الرُمادية ظل يتابع السماء الصافية ثم تذكر أمر رفيقه فسأله باهتمامٍ:
_مقولتليش صح؟ “جـابر” كان عاوزك ليه؟.
أنتبه له “بيشوي” الذي جلس بجوار باب بيت الطيور وحينها هتف بنبرةٍ حاول صبغها بالطبيعة:
_ عادي، كلمني في حوار عادي.
رفع “تَـيام” حاجبيه مستنكرًا تواجد الكلمتين بجوار بعضهما وحينها أضاف مُكملًا لوحة عبارته الساخرة قائلًا:
_”جـابر” و عادي مع بعض؟ الجملة مش راكبة كأنك بتقولي إن خالتي “نيفين” بتموت فيا وبتحبني، أكيد كل دي مستحيلات، بعدين مالك؟ هو زعلك ولا إيه؟.
حينها قرر “ييشوي” أن يكذب عليه لمرتهِ الأولىٰ وهتف بنبرةٍ ظهر بها الحزن والتأثر معًا:
_أبويا وحشني أوي، حاسس إني محتاجه معايا وحاسس إني عاوزه في ضهري، أنا عارف إني كبرت بس محدش بيكبر على مشاعر إحتياج الأب، حاسس إني محتاجه معايا في فرحي وفي أيامي الجاية.
يبدو أن أختار الموضوع عن عمدٍ أو ربما قصدها وربما بغير قصدٍ لكنه نجح في إثارة مشاعر الآخر الذي وقع في إجتياح هذه المشاعر له، وقد نطق “تَـيام” بحزنٍ هو الأخر:
_جيت على الجرح يا “بيشوي” جيت على الجرح أوي وأنا محتاج لوجوده معايا، وبالتحديد يوم كتب كتابي عرفت إني محتاجه أوي وأنا واقف لوحدي، كنت زعلان إني بخلي حد تاني يكون كبيري، وكنت زعلان أكتر وأنا من غير عيلة كدا في ضهري، يدوبك أمي وخالاتي، بس تصدق الحج “نَـعيم” مقصرش وحسيته كدا واخد دور أبويا بجد.
ذُهل “بيشوي” من الحديث وطالعه باستنكارٍ تخلف عن دهشتهِ فيما أضاف الأخر بنبرةٍ حالمة وهو يتذكر تفاصيل الشخصية التي أحبها من كل قلبه:
_سبحان الله راجل زي دا متعرفش ظهر منين بس يدخل القلب، عينيه كلها حنية وتحسه كدا مُضحي، كل الشباب دول تبعه وأنا كنت فاكرهم عياله، حتى الواد “مُـحي” حكالي عنه كتير، طلع أسطورة ونفسي أكون زيه.
الآن وفقط علم أن المشاعر والقلوب ماهي إلا المحرك الأساسي لجسد الإنسان، هي الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن تكذيبها، هي الشيء الوحيد الذي لم تترجمه العقول أو البشر بذاتهم، وحينها جاوره في جلستهِ وهتف بنبرةٍ هادئة:
_يعني لو الحج “نَـعيم” طلع أبوك ممكن تفرح؟.
ابتسم له “تَـيام” وقلب شفتيه للأسفل يفكر هُنيهة عابرة ثم جاوبه بنبرةٍ متأرجحة لم تملك الثبات على موقفها:
_مش للدرجة دي يعني، بس مش عارف، أنا آه بحبه، بيفكرني بأبويا، بحسه حنين أوي وبالذات لما أتعاملت معاه، بس كل واحد بياخد نصيبه وأنا نصيبي كان “صبري” الله يرحمه.
أغمض “بيشوي” عينيهِ يحاول التماسك أكثر لكنه فتحهما من جديد يهتف بنبرةٍ مختنقة إثر الغصة المريرة بحلقهِ:
_الحج “نَـعيم” هو أبوك يا “تَـيام” و “مُـحي” أخوك الصغير، أخوك شقيقك من الأب والأم، وليك عيلة تانية غير دي وأصل تاني أنتَ ضعت عنه.
حسنًا أفضل الحلول في الإيجاز هي الطرق على الحديد وهو ساخنٌ لعل ذلك يلعب دورًا هامًا في المشاعر وهي تعتبر المحرك الأساسي، وبالرغم من حجم المخاطرة إلا أنه كما قيل في سابق عصرنا “شرٌ لا بُد منه”.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى