روايات

رواية غوثهم الفصل السابع والأربعون 47 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والأربعون 47 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل السابع والأربعون

رواية غوثهم البارت السابع والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة السابعة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـم”
“الفصل السابع والأربعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
_ياربي إنها دُنيا فانية فلا تجعلها أكبر همي
فبات السير في طريقك أكبر حُلمي
أنا الضعيف وقلبي المُعذب من الذنوب
القلب الذي ضاع من صاحبه المكذوب
إنها قلوبٌ يملؤها في بُعدكَ الندوب
لكن ما يُصير لها عليها هو المكتوب.
فيا خالقي رحماكَ بهذه القلوب
قلوبٌ من قسوة دنياها هشة وتذوب.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
كيف حالك أيها الغَريب؟
ودعني تلك المرة أُلقي عليكَ سؤالًا يَخصك أنتَ لكنه يشغل بالي، فَـدعني أخبرك أن الإطمئنان عليكَ يُعني الإطمئنان على حالي،
فربما نكون عن بعضنا مجرد غريبين لكن حتمًا قبلها كنا شتيتين، شتيتان أرادت لهما الدنيا أن يتلاقيا سويًا وما كان هذا بمحتملٍ، لكنه تحقق وسار،
فربما تكون جمعت بيننا السُبل وكان المُلتقى هُنا
وياليتنا أول ما تعلمنا الخُطى أتينا إلى هُنا،
فمنذ أن أتيتَ وأخبرتني أن الشبيهين كلاهما للأخر يطمئن،
دعني أخبرك أن الزهور لموطنها تَحن،
وإن كُنت أنا وردةً فمن المؤكد إنكَ موطنٌ وإلا ما كان القلب لكَ حَن.
<“خيوط اللُعبة معي، فلا تأتي فُرادة”>
كانت “مهرائيل” تقف خلف الستائر الموضوعة على مقدمة الرواق من جهة الداخل تستمع لهذه الجلسة التي انتظرتها ببالغ صبرها، كانت ترتدي فستانًا باللون الأسود ذي أكمام منتصفة الطول تصل لمرفقيها وقامت بفرد خصلاتها الشقراء لتكون لوحة رقيقة هي مبدعتها وهي اللوحة بذاتها في أنٍ واحدٍ.
في الخارج جلس “بيشوي” وجاوره “تَـيام” فنطق الأول شارحًا للموقفِ بقوله بنبرةٍ هادئة:
_أنا جيبت “تَـيام” معايا علشان عيب أدخل لوحدي، والمرة الجاية هييجي معايا أخواتي كلهم وأمي وكبيري الحج “عبدالقادر”.
رد عليه “مـلاك” مُستحسنًا فعله بقوله:
_فيك الخير والواجب عمره ما يفوتك، على البركة.
تحدث “جـابر” بثقةٍ وكأنه لم يرضخ للهزيمة بهذه السهولة:
_طب ندخل في الموضوع علطول، أنتَ جاي تطلب أيد بنتي، وأنا موافق بصراحة.
ظهر التعجب على ملامح الجميع حتى “مهرائيل” التي نظرت لـ “مارينا” بحيرةٍ فحركت الأخرى كتفيها، لكن التعجب تلاشى فورًا حينما قال “جـابر” بإصرارٍ وكأنه يتحدى “بيشوي” بهذه الطريقة أو لربما يقصد معاندته:
_ليا شرط وهو إنك تسحب كل شغلك اللي تحت إيد “عبدالقادر” وكل حاجة ليها علاقة بيهم تبقى باسم بنتي، وتشاركني، واعتبره زي ما أخواتنا المسلمين بيقولوا كدا مهرها.
حلت الصدمة عليهم جميعًا وخاصةً “مـلاك” الذي تسبب ابنة شقيقته في إحراجه وكذلك “تَـيام” الذي رمقه بسخطٍ على عكس “بيشوي” الذي أنصدم وكأن المسافات التي ظنها تتلاشى.تزداد عليه، لكنه لن يرضخ له بهذه السهولة ولن يخضع لمطالبه وقبل أن يرد عليه رافضًا لهذا الاقتراح وجده يُضيف من جديد بنفس الأسلوب السابق:
_أظن يعني غلاوة بنتي مش هتتقارن بالفلوس ولا إيه ؟
رمقه حينها “مـلاك” بحسرةٍ وكأن عينيه كلٍ منهما تحمل نظرة مختلفة عن الأخرى، أما “مهرائيل” فشعرت بالخزي من موقف والدها خاصةً وهي ترى “بيشوي” جالسًا بضياعٍ أمام والدها وكأنه يحاول لملمة شتات نفسه، أما “تَـيام” فهتف بتوترٍ يحاول تهدئة الشرارات الموجودة بالمكان:
_بالهدوء يا جماعة مش كدا دا جواز يعني كل حاجة فيه بالعقل، ولا إيه يا عم “مـلاك” ؟ قول حاجة كدا.
نطق “ملاك” حينها بنبرةٍ جامدة:
_هقول إيه ؟ الكلام دا مرفوض طبعًا وأكيد أنا مش هقبل بيه.
رد عليه “جابر” مُعلقًا بقوةٍ أعربت عن مدى هشاشته:
_لأ دا رأيي، إذا كانت بنتي هتعيش معاه العمر كله يبقى حقي أضمن مستقبلها، ولا هرمي وخلاص والاسم إني بجوز ؟؟ أنا بضمن حقها بصراحة.
رغم مدى حقارة شخصيته إلا أن “بيشوي” قرر أن يلتزم ببعض الهدوء وابتسم له وقال بنبرةٍ هادئة:
_وأنا موافق بس أنا…
هُنا لم تدعه “مهرائيل” يُكمل حديثه بل اندفعت بقوةٍ قد تكون امتلكتها للمرةِ الأولى في حياتها وهي تقول بنبرةٍ جامدة تقف نِدًا لوالدها ورفعت رأسها وهي تسأله:
_هو دا شرطك يا بابا ؟.
رفع حاجبه يتعجب من وقوفها أمامهم ومن طريقة القائها للسؤال أيضًا وحينما طال انتظارها للحصولِ على الجواب أومأ لها موافقًا فوجدها تسحب الهواء داخل رئتيها عنوةً وكأنها كما المصارع تتجهز لحلبة المصارعة التي ربما تُقتل بداخلها وتلفظ أنفاسها الأخيرة، لذا قالت بثباتٍ واهٍ:
_طب أنا كمان موافقة ودا حقك علشان تطمن عليا كمان.
تأهبت حواس “جابر” واعتدل في جلسته يطالع ابنته بتعجبٍ مما تتفوه به _ولم يتوقعه هو_ لكنها قالت ما جعله يشعر بالانتشاء منتصرًا على غريمه الذي طالعها بغير تصديق وكذلك الأخرين الجالسيْن معهم، لتضيف هي من جديد بعدما رمقت “بيشوي” بنظرةٍ عابرة:
_زي ما حقك تطلب أي ضمان لحقوقي حتى لو كان إنك تقطعه من أهله، فأنا كمان عندي شرط، وهو إن لو “بيشوي” عمل كدا يبقى أنتَ كمان تقطع علاقتك بيا، وتنسى إنك خلفت في يوم بنت اسمها “مهرائيل” وبكدا نبقى وازنا الكفتين واتقطعنا إحنا الاتنين، لو دا شرطك فدا شرطي أنا كمان، إنك من اليوم اللي هو هيعمل فيه كدا أنا مش هيبقى ليا علاقة بيكم هنا.
شهقت والدتها في الداخل بحزنٍ لأجل ابنتها أما “مارينا” فأشفقت على “مهرائيل” كثيرًا وهي تراها بداخل صراعٍ لم تقوى على الوقوف لمجابهته لكنها لازالت تحاول، أما “جـابر” فما إن وجد الراحة تسكن ملامح “بيشوي” حينها وقف أمامها يقول بنبرةٍ عالية:
_أنتِ اتجننتي يا “مهرائيل” ؟ عاوزة تسيبي أبوكِ وتقطعي بأهلك علشانه ؟ بتحطينا كلنا في كفة وهو في كفة ؟؟.
ابتسمت ساخرةً وردت عليه تتشدق بنزقٍ:
_والله ؟؟ طب ما أنتَ طلبت منه نفس الطلب، أنا بقولك أهو موافقة ودا حقك بس حقي برضه أختار اللي هعيش معاه، علشان كدا لو هو وافق أنا هقطع علاقتي بيكم وكدا ميكونش حد أحسن من حد، أظن أنا مش أحسن منه في حاجة علشان أفضل مع أهلي وهو يتقطع من أهله.
القطة الصغيرة التي كان يستمع لموائها فقط أصبحت قوية وتخدش بمخالبها من تسول له نفسه بالاقتراب، تلك الضعيفة أمام نفسها تتسلح بالقوة لأجله ومن سِواه يستحق أن يُحارب لأجلهِ من قِبلها؟ حركت رأسها بتوترٍ تطالع “بيشوي” بعينيها فوجدته يبتسم لها يُطمئنها ثم انتصب واقفًا وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_لو فاكر إني لو وافقت على طلبك دا وبعدها هتأمنلي عادي ولا حتى تقدر تطمن على بنتك معايا تبقى غلطان يا حمايا، علشان لو بيعت الراجل اللي مربيني وقليت بأصلي معاه هبقى مليش أصل بعد كدا، واللي ملوش خير في أهله ملوش خير حتى في نفسه، مش بس في الست اللي هيتجوزها، علشان كدا طلبك مرفوض حتى لو مش هكون مع بنتك العمر كله، بس مستحيل أقل من نفسي ومن الراجل اللي كبرني.
ألقى حديثه دُفعة واحدة بدون هوادة على “جـابر” الذي تفاقم الغِل بداخله من حُـب “بيشوي” لغريمه الأوحد، أما “مـلاك” فأشار لهم بالجلوس وهو يقول بنبرةٍ لازالت هادئة لكن حديثه لم يكن عاديًا:
_طب اتفضلوا اقعدوا بقى، الكلام معايا أنا مش مع البيه، أنا الكبير هنا وكملتي اللي بتتقال هي اللي هتمشي، يعني الهبل اللي اتقال دا يتنسي، مفيش اتفاق غير بحضور أهله كلهم ونسأل عروستنا الأول عن رأيها، موافقة يا “مـهرائيل” ؟؟
وزعت نظراتها بتساوٍ بين والدها الذي حذرها بنظراته وبين “بيشوي” الذي بدا التوتر جليًا عليه وما إن استطاعت أن تهرب من عينيه رفعت رأسها تنطق بثباتٍ:
_موافقة يا جدو.
ابتهجت الأوجه عدا واحدٍ فقط شعر بالهزيمة فيما أضاف “بيشوي” بهدوءٍ وكأنه لم يَرد أن يرفع شرارات الأجواء:
_وأنا موافق يا عم “مـلاك” واللي تؤمروا بيه هنفذه.
ربت “مـلاك” على ركتبه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_قد القول يا بني، بس إحنا هنتكلم لما أهلك كلهم يكونوا معاك وخصوصًا الحج “عبدالقادر” أنتَ كدا خدت الموافقة مننا ومن عروستنا نفسها، المرة الجاية يبقى الكلام والاتفاق الرسمي وأنا مش راجع المنيا تاني غير لما اجوزكم، اتفقنا ؟؟.
ابتسم “بيشوي” له أما “جابر” فشد سترته ثم زفر بقوةٍ مما جعل “تَـيام” يميل على أذن “بيشوي” وهو يقول بنبرةٍ هادئة يمازحه بها:
_ابقى فكرني لما نروح أروح أبوس راس عم “عبدالقادر” وأيده، دا راجل نعمة مفيش منها اتنين في الدنيا دي.
كتم “بيشوي” ضحكته فيما ابتسمت “مهرائيل” لجدها ثم اقتربت تجلس بقربه ليضمها هو أسفل ذراعه ضاحكًا لها ومعاندًا في “جابر” في نفس اللحظة التي خرجت فيها “سلوى” والدتها و معها ابنتها الأخرى ثم رفعت صوتها تعبر عن الفرحة بزغرودةٍ عالية أضافت البهجة للأجواء ليبقى الخاسر الوحيد هُنا هو “جـابر”.
اقتربت “مارينا” تخطف باقة الزهور التي دلف بها “بيشوي” ثم وضعتها بكف شقيقتها وهي تقول بنبرةٍ حماسية:
_يلا اقفي علشان تتصوري بيها، يلا يا “بيشوي”.
اقترب “بيشوي” يقف حيث إشارة الأخرى ثم تبعته “مهرائيل” إلى هناك بخجلٍ منه حتى تضرج وجهها بحمرة الخجل وقبضت على باقة الزهور تتشبث بها فضحك هو بخفةٍ ناهيك عن سعادته وهو يرى الدربين يتلاقيا سويًا ليصبحا دربًا واحدًا، أما هي ما إن جاورته أخفض رأسه قليلًا يهمس لها:
_فيه كارت جوة الورد أبقي شوفيه يا “هيري”.
ما ازدادت إلا خجلًا فوق خجلها وهزت رأسها أما “مارينا” فالتقطت الصورة لهما سويًا بنفس الحماس ثم التفتت بالهاتف وهي تلتقط الصور لهم مع بعضهم وهي تضحك بسعادةٍ بالغة وكذلك البقية شاركوا الصورة معهم عدا “جـابر” الذي بدا كما الطفل الصغير مُحتجًا على فعل والديه.
رحل بعدها “بيشوي” ومعه “تَـيام” بحالٍ أختلف كثيرًا عن القدوم إلى هُنا، أما “مهرائيل” فانسحبت إلى الداخل بحماسٍ أكبر ومعها باقة الزهور لترى ما كُتُبَ بداخل البطاقة، لم تكن بطاقة عادية إنما وجدتها ورقة بنية من خامة الجلد تقريبا منطوية بشكل المراسيل القديمة وبخارجها انشوطة حمراء اللون، قامت بحل الانشوطة وأمسكت الخطاب تقرأه لتجده دون بداخله:
_رُبما اليوم أو لربما غدًا
وربما تجمع بيننا الطُرقات مجددًا،
ربما بقصدٍ منها أو بدونِ قصد، وربما تعمدتها
القلوب أو بغير عمد،
لكن المؤكد أننا سنبقى معًا
وبدلًا من ألمٍ حيينا به، سيحاوطنا الأمل
فربما ليس هذا اليوم لكنه حتمًا سيأتي هذا اليوم.
أطلقت زفيرًا قويًا وقد ترقرق الدمع في عينيها لكن تلك المرة دموع الفرح، تلك المرة تأكدت أن اليوم شارف على القدوم، تأكدت أن الطُرق ستتلاقىٰ وأن الفراق لن يدوم.
__________________________________
<“قلوب عليها الألم هو المكتوب”>
ربما تكون في بعض الأحيان الجلسة الهادئة الصامتة هي كل ما يحتاج إليه المرء في حياته، وربما تكون هذه اللحظات هي الأكثر انتصارًا على عالمٍ عُرِفَ بالهزيمةِ، هو هنا يرى الهدوء ويشعر به في رأسه وكأن السكون سكنَ رأسه هو، لذا حينما شعر بهذه المشاعر النادرة ولاحظ صمت “عـهد” وشرودها فبادر هو متحدثًا بنبرةٍ هادئة يقول:
_عاوزة تقولي إيه ؟ قولي علطول أنا سامعك.
سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بنبرةٍ متوترة وكأنها تخشى أن تتحدث أو حتى تبدأ بالكلام:
_لأ عادي، عاجبني شوية الهدوء دول.
أومأ موافقًا بعدم اقتناع ثم أخرج سيجارته يضعها بين شفتيه وقام باشعالها وسحب هوائها داخل رئتيه ثم سألها بنبرةٍ هادئة يقطع طيلة الصمت المُطبق عليهما:
_تسمعي حاجة على ذوقي ؟ ولا تسمعينا أنتِ؟
انتبهت له فحركت رأسها موافقةً وأضافت توافق على اقتراحه الذي ألقاه عليها:
_سمعنا أنتَ.
أخرج هاتفه ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_طب اعملينا اتنين شاي من أيديكِ، ممكن؟
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت نحو موضع صنع الشاي ثم وقفت أمامه تُعد الشاي لهما سويًا وقد تحركت للجهة الأخرى تقطف وريقات النعناع الخضراء ثم عادت لموضعها، الأمر استغرق منها دقائق معدودة على أصابع اليد الواحدة ثم عادت تجاوره وهي تمسك الشاي في يدها، أما هو فابتسم لها وقال بنبرةٍ هادئة:
_شكرًا تسلم ايديكِ.
ابتسمت له وأومأت ترد عليه بصمتٍ أما هو فضغط على التشغيل في هاتفه ليصدح صوت الأغنية عاليًا مما جعلها تسأله بتعجبٍ لكن بملامح مُبتسمة:
_أنتَ بتحب “صباح فخري” ؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها فضحكت بسعادةٍ كبرى وهي تقول بحماسٍ شديد وكأنها عثرت على توأمها:
_أنا بحبه أوي وبحب الأغنية دي جدًا.
_طب كويس فيه حاجات مشتركة بينا كتير أهو.
كان هذا قوله ردًا عليها وعلى ما تفوهت به بحماسٍ لم يود هو أن يقلله بل أراد أن يزداد لأجل رؤية اللمعة في عينيها، تلك الأعين التي أجادت إلقاء السحر عليهِ، وخاصةً ازداد السحر حينما نظرت له وتلاحمت نظراتهما من جديد وارتفع صوت الكلمات من خلفهما:
_وعيونِك سود يا محلاهم،
قلبي متولع بهواهم،
وعيونِك سود يا محلاهم
قلبي متولع بهواهم
صارلي سنتين بستناهم
حيرت العالم في أمري
قدك المياس يا عُمري
يا غُصين البان كاليسرِ.
كانت هي الأسرع حينما حركت رأسها للجهةِ الأخرى تهرب من نظرته التي طابقت كلمات الأغنية وكأنه أناب أخرًا عنه، أما هو فيبدو أنه وجد الراحة من عبئه في عينيها هي، وجد الوطن في حين هو الغريب، وجد ما خشى أن يجده بقربها هُنا، وجد ما دفعه للاستكمال هُنا وكأن قلبه يخبره بسعادة طفلٍ صغير حصل على ما أراده:
_لقد تلاقينا مع الشبيه هُنا وجدت من يُطمئني هُنا.
انشغل مع قلبه الذي أخبره أن الأمر لم يكن كما يظن أو كما خطط ودبر عقله، بل هذا العاصي انتصر عليه وعلى عقله ليعلن أن ما حسبه عاديًا وقع به أسيرًا.
على عكسه تمامًا كانت هي، جلست تفرك أناملها ببعضها تود إخباره بما فكرت فيه أنها أرادت أن تعطي لهذه العلاقة فرصة أخرىٰ، أرادت تخبره أنها تود أن تأخذ هذه العلاقة صورة طبيعية ذات يومٍ لكن عليهما أن يُمهل كلاهما الأخر فرصةً وحينما نجحت في ترتيب الكلمات وبرمجة ما يتوجب عليها قوله، بدأت في الحديث بقولها حينما استطردته من طرف لسانها:
_أنا كنت عاوزة أقولك على حاجة بمناسبة علاقتنا مع بعض، يعني بدل ما الوقت يعدي علينا و نتفـا….
قبل أن تُكمل حديثها أوقفها هو بما جعلها تبتر حديثها وتتوقف عن إكماله حين هتف بنبرةٍ مندفعة وكأنه يخشى ما تتفوه هي به أو لربما يخشى إنها تذكره بمؤقتية علاقتهما:
_من غير ما تكملي، أول ما ألاحظ وأفهم إنك مش محتاجاني خلاص همشي يا “عـهد” أنا مستحيل أفرض نفسي على حد، وأكيد مش هرغمك على وجودي معاكِ، أول ما أفهم دا همشي من هنا.
هل صدقًا ما يتفوه به؟ يخبرها أنه سيرحل ولم يُمهلها الفرصة لكي تخبره بما فكرت هي فيه، يبدو أنها كانت ستخطيء فيما كانت تفكر به لكن حمدًا لله أنها لم تتسرع، لكن هناك شيء مجهول لم تفهمه هي، إذا كان هو أراد أن يترك المكان، وهذا ما أرادته هي لما تشعر في هذه اللحظة بخوفٍ غريب؟ خوفٌ أكبر من أي خوفٍ سبق عليها؟ لذا ردت عليه بما يتتافى مع مشاعرها:
_وأنا كنت هقولك كدا برضه، عن إذنك.
قررت أن تهرب من تفكيرها الذي أصبح ينصب عليه مؤخرًا لذا تحركت من محلها حتى تنزل شقتها تقترن بخوفها دون أن يراهما سويًا أي أحدٍ ، وما إن تحركت من مكانها أوقفها هو حينما ذكر اسمها بنبرةٍ قوية:
_”عــهـد” !!
تلك النبرة التي شابهت النبرة السابقة حينما كانا في منطقة الخيول، لذا التفتت له تسأله بنظراتها عن سبب ذكره لاسمها، فترك هو موضعه ثم وقف أمامها يقرأ نظراتها، يقرأ ما لمحه وكذبه فابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ بدت لها مراوغة:
_نسيت أقولك إني فهمي بطيء.
أشار بجملته إلى حديثه السابق ليقرأ نفس النظرة من جديد لكنها حرمته منها حينما تركته وأولته ظهرها خوفًا من أي حديثٍ أخر يُقال، لتتركه من جديد وحده لكن بلمحة انتصار محاربٍ دلف ساحة المعركة ورأى الخصم بها ضعيفًا.
لو كانت الأمورعلى عكس ماهي عليه
لكان الحال على غير ما هو عليه،
لكنها في نهاية الأمر قلوب،
مر عليها الزمن وملئتها الندوب،
قلوب كُتِبَ عليها الألم
فكيف نُصدقها إن كان خبر سلامتها هو المكذوب
وفي نهاية الأمر هي مجرد قلوب، تتجرع القسوة وبالاسم
هي قلوب، قلوبٌ عليها الألم هو المكتوب
حتى وإن كان الفراق وتحمل معضلة “يـعقوب”.
__________________________________
<“زورنا بلادًا حيينا فيها وحشةً بدون أنيسنا”>
صارع نفسه طوال النهار حتى أخذ قراره ومع حلول الليل قرر أن يخطو نحو البيت الذي تعلق به منذ الزيارة الأولى، البيت الذي زاره عابرًا لكنه أصبح به مُتعلقًا، نجح في تحدي نفسه وصراع خُطاه ووصل إلى بيت والدها بعدما رحلت عائلته وانفرد هو بأسرته فقط، لكنه تفاجأ بـ “أيـهم” هنا في عقر داره وبدون أي وجه حق؟
جلس “أيـهم” متوترًا من الداخل على عكس ثباته خارجيًا وهو يحاول انتقاء كلماتٍ مناسبة لموقفه وحُجة قوية تُبرر مجيئه إلى هُنا، أما والدها فجلس مقابلًا له يسأله بنبرةٍ جامدة مقتضبة لا حياة بها ولا ترحيب:
_أهلًا يابني خير فيه حاجة ؟
كاد أن يتلعثم في جوابه لكنه تحدث بثباتٍ ردًا عليه:
_أهلًا يا حج، أنا جيت أتطمن على حضرتك وصحتك، ألف سلامة عليك أتمنى تكون أحسن دلوقتي.
_آه أحسن كتير الحمد لله، خير تؤمر بحاجة ؟
بنفس الأسلوب الذي يخلو من الأدب والترحيب أو مراعاة الجلوس لضيفهِ الذي يجلس أمامه نطق هذا الحديث الذي فهمه “أيـهم” لكنه سأله بنبرةٍ هادئة يواري خلفها اطمئنانه عليها:
_أومال أستاذة “نـهال” فين ؟ هي كانت قلقانة على حضرتك جدًا وكانت متوترة أوي، أتمنى تكون بقت أحسن.
أدرك والدها مقصد حديثه فابتسم مقتبضًا وهو يخبره بنفس الجمود مُعلقًا على كلامه:
_للأسف هي الفترة الجاية هتكون مشغولة شوية علشان فرحها، “بهاء” ابن عمها طلب ايديها والخطوبة هتتم الفترة دي، علشان كدا حبيت أقولك إن حتى شغلها مع “إيـاد” مش هتقدر عليه، شوف مُدرس تاني وربنا يوفقه.
تعجب وتفاجأ وأراد أن يثور في وجهه لكنه نحى كل هذه الهواجس من عقله ونطق بنبرةٍ هادئة يقول:
_ربنا يتمم على خير إن شاء الله، وألف سلامة على حضرتك، إن شاء الله تفضل بصحتك والبيت مفتوح بحسك، عن إذنك.
أومأ الأخر موافقًا له فيما انسحب “أيـهم” من المكان وكأنه انسحب من المعركة بأكملها، معركة اتضح له أنه بداخلها الجيش والسلاح وقد يكون الميدان بذاته.
خرجت “نـهال” بعد رحيله من غرفتها تندفع في حديثها وهي تخبر والدها بصوتٍ عالٍ تعبر عن ضجرها:
_أنا فضلت جوة علشان مسببش ليك أي إحراج، إنما كدا لأ، أنا مش عيلة صغيرة هنا، جواز إيه اللي بتتكلم عنه؟ أنا مستحيل اتجوز تاني لا “بهاء” ولا غيره، مش هسمح لحد يقرر أي حاجة عني، ليه قولتله كدا ؟؟.
تحرك من جلسته واقترب منها ينطق بصرامةٍ تليق بمقامه كتاجرٍ قبل أن يكون أبًا:
_ قولت اللي لازم يتقال بصراحة، أنا مش هستنى لما حد يعدل على تربيتي وأخلاق بنتي، لو مش هتتجوزي يبقى خليكِ هنا أحسن، ولو متعشمة فيه خير فأحب أقولك إن البيه مطلق مراته أم أبنه، هتقنعيني أنه هيبقى عليكِ؟؟
شعرت بالضربة في قلبها وبالغصة تحتل حلقها الذي جف تمامًا وزاغ بصرها عليه وقد ثبتت حركة بؤبؤيها وهي تسأله بنبرةٍ ضائعة:
_قـ…قصدك إيه يا بابا؟؟
أطاح برأسه يخبرها بقسوةٍ يُكمل ما سبق وتفوه به:
_اللي فهمتيه، لو حاطة عشم فيه فأحب أقولك إنه مش زي ما أنتِ فاكرة وخصوصًا “أيـهم” دا علطول شايف نفسه ورافع مناخيره لفوق، يعني ممكن يبقى أصعب من اللي قبله، عن إذنك.
نظرت في أثره بدهشةٍ وكأنها لم تعرفه، بالطبع لم تعرفه، أين والدها الذي كان داعمًا لها في كل خطوات حياتها، أين ذاك الذي بعد عنها كل هذه المسافة، يبدو أن سحر كلمات عائلتها وأفرادها وقع عليه وأصاب الهدف، لذا بكت بوجعٍ ثم ارتمت على الأريكة تضم نفسها وهي الداعم الأوحد لنفسها قبل الكُل.
خرج “أيـهم” من بيتها نادمًا على مجيئة إلى هنا، ندم على تسرعه وعلى انجرافه وراء هذه الرغبة الغريبة المُلحة التي ساقته إلى بيتها وجعلت قدميه تطئا بيتها، ركب سيارته يلعن نفسه وغبائه وتهوره وتسرعه اللذين تسببوا في سماعه لمثل هذه الكلمات من والدها، ثم قاد سيارته إلى حارة “العطار” حيث بيته وعائلته من قبلهم ابنه.
كان “أيوب” جالسًا في محله حتى مر عليه “بيشوي” ويرافقه “تَـيام” أيضًا فانتفض هو يسألهما بقلقٍ بلغ أشده على رفيقه:
_ها، عدت على خير ولا هيبقى فيها موت ودم؟
جلس “بيشوي” بارتخاءٍ تام وهو ينطق بثقةٍ:
_لحد دلوقتي اعتبره بلع لسانه، تمت أول خطوة واتصورت مع بنته قدامه ومراته، وهو مش هيقدر يتكلم أصلًا، عم “مـلاك” برضه ليه تأثير عليه ومتنساش إن “مـلاك” سايبله فلوس كتير يعني “جـابر” هيخاف يلج قصاده.
زفر “أيوب” مطولًا ثم أقترب من رفيقه يحتضنه وهو يبارك له فتحدث “تَـيام” بحنقٍ يستفسر منه:
_وأنا هتبركولي إمتى ؟؟.
ضحك له “أيـوب” ثم وقف بجواره ووضع ذراعه على كتفها الأخر وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_قريب، خلص شوية بس في شقتك أنتَ وأنا هخليك تكتب كتاب وترحرح زي ما أنتَ عاوز، بس تحترم نفسك.
احتضنه “تَـيام” بفرحةٍ أما الآخر “بيشوي” فقد ضحك لهما وقبل أن يلاحظ غياب “أيـهم” وجده يصف سيارته أمام المحل ثم دلف لهم يلقي عليهم التحية بملامح مقتضبة لاحظوها هم، أما هو فنطق بنبرةٍ جامدة:
_يلا يا “أيـوب” أقفل علشان نروح.
تعجب أخوه من طريقته فيما تحرك له “بيشوي” يسأله بلهفةٍ:
_مالك ؟؟ أنتَ كويس ؟ مع إن شكلك مش بيقول كدا.
أومأ له ثم بدل الحديث بقوله حتى يهرب من أسئلتهم:
_قولي بس، أنتَ عملت إيه، “جـابر” المعفن دا زعلك ؟.
تدخل “تَـيام” ينطق بنبرةٍ ضاحكة:
_هو حاول بصراحة بس مقدرش، يعني قطم من سكات عقبال ما يخرس خالص ومنسمعلهوش صوت تاني قادر يا كريم، استجب ليا.
ضحكوا على طريقته أما “أيـوب” ففهم أن “أيـهم” لم يكن على ما يرام وأن ملامحه تنطق بشيءٍ يجهله هو لكنه يعلم في قرارة نفسه أنه موجودًا.
__________________________________
<“يحق لكَ الحزن، لكن يحق لكَ أن تُجيد الحزن”>
في شقة “غـالية” بدل “يوسف” ثيابه وجلس برفقة الاثنتين يتناول معهما الطعام متنعمًا بهذا الدفء الذي يسري في أوردته بينهما، وقد نطقت والدته بنبرةٍ جامدة توجه الحديث لابنتها:
_”قـمـر” !! ياريت قبل ما تنامي تكلمي “ضُـحى” أنتم مش صغيرين هنفضل نصالح فيكم على بعض، خليها عليكِ.
زفرت “قـمر” بقوة وهتفت بنبرةٍ مختنقة تعبر عن مدى ضيقها من الحديث برمتهِ:
_ليه يا ماما ؟ هي اللي علت صوتها الأول وأنا مش هاجي على نفسي علشانها، هي بتتقمص علشان عندها دم وأنا يعني عندي عصير برتقان ؟؟ مليش دعوة.
نظرت لها “غالية” بقلة حيلة فتدخل “يوسف” يسأل بنبرةٍ هادئة يفهم الأمور وسبب ضيق “قـمره”:
_بالراحة بس، فيه إيه ومالها “ضُـحى” ؟.
اندفعت “قـمر” تسرد عليه الموقف تفصيلًا وإجمالًا ثم سألته بنبرةٍ شبه باكية وكأنها مظلومة من بلدةٍ كاملة:
_طب كدا أنا غلطانة ؟ هي اللي طلعت فيا زي الأنبوبة والله
ضحك على كلمتها الأخيرة فيما عنفتها والدتها تمنعها من التطاول على الأخرى في غيابها، فتدخل “يوسف” يقول بنبرةٍ هادئة يحل هذه المعضلة بينهن:
_طب علشان الدنيا دي تتحل نروح أنا و “قـمر” نشوفها وأهو نجيبها بهزار علشان مفيش واحدة فيهم تزعل من التانية خصوصًا أنه موضوع هايف بصراحة، معرفش كبر كدا ليه.
سألته “قـمر” باهتمامٍ بعد حديثه:
_بجد هتيجي معايا ؟
أومأ لها موافقًا ثم أنهى طعامه وأخذها من يدها يتجه بها نحو شقة “فـضل”، قد تبدو اللحظة عادية وطبيعية لكن لفتاةٍ مثل “قـمـر” لم يكن الأمر عاديًا، رأت “يوسف” مثل والدها وهي فتاةٌ أخطأت في حق الآخرين ووالدها هنا هو حاميها الأول، المسافة القصيرة التي تحركتها معه تمنت أن تطيل بهما وهو يقبض على كفها، وهي مثل البلهاء تضحك بسعادةٍ غريبة حتى فتح لهما “عُـدي” وسأل بتعجبٍ:
_فين عمتو ؟؟ ماجتش معاكم ليه؟
جاوبه “يوسف” بنبرةٍ هادئة يخبره بما تفعله والدته:
_بتشطب المطبخ وهتيجي ورانا، فين “ضُـحى”؟
فهم “عُـدي” سبب سؤاله وأنه أتى إلى هنا لمراضاتهما فأخبره بضجرٍ من جلوسها بمفردها:
_والله هي في اوضتها غالبًا نامت ومش هتروح الشغل، بس تعالوا يمكن تصحى وتصالح “قـمر” هي أول مرة يعني؟ علطول جايبين شعور بعض.
بعد مرور ثوانٍ دلفوا معًا أمام باب غرفتها وكانت هي في الداخل تبكي بمفردها وهي تشاهد صور رفيقتها مع خطيبها السابق دون أن تعير مشاعرها أي إهتمامٍ أو حتى تخجل من فعلتها.
تجاهلت “ضحى” النداءات المتكررة من الخارج حتى أتاها صوت “يوسف” يهتف بنبرةٍ جامدة:
_افتحي يا “ضُـحى” باين إنك صاحية، يا كدا يا ندخل عليكِ كلنا سوى، وأنا مبهددش على فكرة، هـا !!
مسحت دموعها وقررت أن تخرج لهم وما إن فعلت هذا والتقت نظراتها بنظرات “قـمر” حينها بكت من جديد وهي تتذكر حديثها عن رفيقتها، فاحتضنتها “قـمـر” ظنًا منها أنها تبكي بسبب حديثهما سويًا، لكن الأخرى كانت تبكي من الخُذلان الذي أعطته لها رفيقتها.
لاحظ “يوسف” أن الموضوع أكبر مما يبدو عليه فقرر أن يتحدث هو معها وطلب أن يجالسها بمفرده، ومع قوة عرضه وافقوا جميعهم حتى هي نفسها، وبعد مرور ثوانٍ دلف الشرفة وهي معه حتى سألها بنبرةٍ هادئة أعربت عن اهتمامه بها:
_مالك يا “ضُـحى” ؟ أول مرة أشوفك كدا، دي عيبة حتى في حق أمك سمكة صاحبة الروح الحلوة.
سحبت نفسًا عميقًا ثم جاوبته بنبرةٍ مختنقة:
_تعبت، أنا تعبت يا “يوسف” وخلاص مش قادرة أعمل نفسي قوية أكتر من كدا، الفترة اللي فاتت دي عملت فيا كتير أوي وغلطتي أني موقفتش أزعل، كملت علشان الحياة مبتقفش، بس نسيت إن هييجي يوم طاقتي فيه تخلص وهقف أنا.
اندفع يسألها بلهفةٍ بسبب حديثها الغريب:
_ليه كل دا ؟؟ وعلشان إيه أصلًا، مين زعلك؟
سحبت الهواء الطلق داخل رئتيها عنوةً ثم أخبرته بما حدث من رفيقتها و “عـلاء” وأخبرته كيف لم يهتم أيًا منهما بها أو بما قد تشعر به، أما هو فكان أكثر الناس علمًا بما تشعر به، لقد مر بنفس الموقف تقريبًا وفهم حال القلب، لكنه ابتسم بسخريةٍ وسألها باستخفافٍ:
_علشان كدا زعلانة؟ خليهولها.
تعجبت من حديثه واستخفافه بها فاندفعت تخبره بتهكمٍ
_بس ؟؟ أكيد مش حاسس بيا ولا حاسس أنا صعبان عليا نفسي إزاي.
أقترب منها في مقعده وهو يقول بوجعٍ ظهر في عينيه وهو يهتف بما ينفي ما تحدثت هي به:
_في لحظتنا دي أنا اكتر واحد في الأرض كلها حاسس بيكِ، وأكتر واحد ممكن أوصف شعورك حاليًا، علشان ببساطة نفس الموقف دا أنا جربته، يمكن كان أصعب، بس لما فوقت من الصدمة عرفت إن دي ناهيتها، وأنهم أولىٰ ببعض، هي قليلة الأصل وهو ندل مبروكين على بعض، وألف حمد وشكر لله إننا خلعنا منهم، صدقيني حقك تزعلي بس تزعلي بضمير، وعلى ناس تستاهل زعلك، أوعي تدي مشاعر لحد ميستهلهاش، ولما تدي نفسك، أديها كل الحق، فهمتي يا “ضُـحى” ؟؟
حركت رأسها موافقةً وهي تبكي من جديد فأضاف هو متابعًا بعدما ابتسم لها:
_بعدين أنتِ زي القمر، حلوة ودمك خفيفة وبنت مسئولة ويعتمد عليكِ، وفيكِ كل المواصفات اللي تخلي أي حد يتمنى قُربك، متزعليش نفسك عليهم، وبكرة هما يزعلوا مع بعض بما فيه الكفاية، ساعتها خدي طبق ورق عنب واقعدي اتفرجي بمزاج.
ضحكت رغمًا عنها وضحك هو الأخر ثم ربت على كفها حتى وجدها تقول بنبرةٍ باكية:
_يا بختها “قـمر” بيك.
انتبه لها وتذكر شقيقته فسحبها من ذراعها وهو يقول بنبرةٍ تبدلت كُليًا يحذرها من تكرار فعلها من جديد:
_فكرتيني، يمين بالله لو صوتك عِلي على البت تاني لاقطعلك لسانك، مشطرتيش على الحمار، هتيجي على البت، اظبطي.
ضحكت له وضحك هو الأخر ثم لثم جبينها بحنوٍ وقال بنبرةٍ رخيمة:
_وأنتِ أختي زيك زي “قَـمر”.
سعدت هي بحديثه كثيرًا وهو كعادته يحنو على الجميع عدا نفسه، يعطيهم ما يريده هو يقدم ما أُخِذَ منه، لكنه حينها يرى نفسه في الآخرين، يرى يده تربت عليه هو وكأنه إن فقد كل شيءٍ لازال قادرًا على إعطاء كل شيء.
__________________________________
<“نحن نحب الحياة حتى وإن لم تحبنا هي”>
وقف في شرفته ليلًا يراقب سفح الأهرامات منها، يرى الحضارة المصرية متجلية أمام عينيه، شريطٌ كامل من الحياة مر عليه وهو يقف هُنا، صغره وحياته وعائلته وبيته وأبناء عمه، رأى ركضه بين الأزقة الضيقة بعدما يربح على أبناء حارته في لعبة “البِلي” أو بلغةٍ أخرى الطابات الزجاجية الصغيرة، كل هذا سُلِبَ منه بيد من ؟ بيد من يتوجب عليه أن يقف أمام الدنيا حتى ينصره ويأتي له بحقه.
أخرج “مُـنذر” هواء سيجارته ومعها أخرج همومًا تجثو فوق صدره وأهمها أنه فقد نفسه بداخل نفسه، وما يتوجب عليه فعله أن يخرج من كل هذا من جديد بنفسه هو فقط.
مرت صورة والدته حينما كانت تركض خلفه حتى يتناول الطعام الذي لم يفضله هو، تذكر أيضًا شقيقه الكبير الذي تسبب والده في إهماله حتى مات بداخل السجن، طفلٌ تم بيعه لتتم المتاجرة به.
صدح صوت جرس شقته التي استأجرها يقضي بها أيامه هُنا، ألقى السيجارة من يده وخرج من الشرفة يتوجه إلى الباب يفتحه فوجد “ماكسيم” أمامه حينها رسم الثبات وهو يسأله بتعجبٍ:
_أتأخرت كتير أوي، أنا قولت هتيجي من بدري.
دلف “ماكسيم” الشقة فيما أغلق الأخر الباب ثم دلف يجلس أمامه وهو يقول بنبرةٍ أجشة:
_وافقوا ؟؟ ولا لسه عاملين فيها سبع رجالة.
ابتسم له وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة باردة كطبعه:
_هيوافقوا، محدش فيهم يملك الجرأة أنه يقف قصادي، بس متقلقش، أنا عارف محتاج إيه علشان أقدر عليهم، المهم بس فيه حد تاني عاوزك تجيبلي كل المعلومات عنه.
انتبه له “مُـنذر” وتأهبت حواسه للقادم، فأخرج “ماكسيم” صورة مرسومة بحرافية شديدة من سترته يقدمها له، وتبع حركته هذه قوله الهاديء:
_دا، معرفش عنه أي حاجة، بس رسمت صورته في بالي، تجيبلي كل تفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة، غالبًا هو شيخ مش مجرد شاب ملتزم واسمه معرفوش هتقدر بقى تساعدني وتوصله؟
أخذ “مُـنذر” صورته يمعن تركيزه بها ثم سأله بلامبالاةٍ:
_تمام، المهم لو وصلت لحاجة اتصرف ؟ ولا أسيبك أنتَ تخلص كله من برة برة بنفسك.
اندفع “ماكسيم” يقول بلهفةٍ يردع فعله قبل أن يفعله:
_لأ، لأ أوعى تعمل حاجة، دا مفتاح حاجات كتير مقفولة، حاليًا ركز مع “سـامي” وقولي لسه مكمل رسايلك زي ما أنتَ ؟ أنا عاوزه يضعف خالص.
أومأ له مؤكدًا ثم سأل بحيرةٍ مما يفعله:
_أنتَ عارفني مش طبعي السؤال، بس لو كلامك صح، يبقى كدا “نعيم” ابنه مات فعلًا ؟؟.
هز رأسه مؤكدًا ثم أضاف مُردفًا:
_آه، “شوقي” كان ندل و “سامي” حقير زيه، علشان كدا ضحوا بالولد الصغير بس ساعتها الشيخ وهو بيفتح المقبرة قبل ما يدبح الطفل البيت اتهز عليهم وشبه كان هيقع ساعتها هرب “سامي” ومعاه “شوقي” والولد ابن “نَـعيم” بس الناس اللي كانت دافعة فلوس مدخلش عليهم الموضوع، ظنوا إن “شوقي” بينصب عليهم وكان التمن حياته وحياة الطفل الصغير، للأسف “سامي” كان بعيد عنهم. كانت علاقته بأخو “نَـعيم” علاقة الآثار وبس، والنهاية راح في الحكاية دي “شوقي” وابن أخوه والست اللي كان متجوزها في السر، بس “سامي” ميعرفش حاجة غير إن “شوقي” هرب بالولد.
زفر مُطولًا بثقلٍ ثم ترك “ماكسيم” ونظر في الرسمة التي وضعها أمامه ليمعن النظر في ملامح “أيـوب” المرسومة بحرافية شديدة وكأنه يراه حقيقةً أمام عينيه كما لو أنه يقف نصب نظره.
ليس من الطبيعي أن تأمن وأنتَ وسط الخوف بذاته، وليس من السهل عليكَ أن تتجاوز خوفك وهو يسكن بداخلك، لكن على الأقل تحاول أن تصارع هذا الخوف، وتحديدًا هذا الذي حدث في بيت “نَـعيم الحُصري” جلس الشباب مع بعضهم أرضًا ينتظرون صنع أكواب الشاي عدا “مُـحي” الذي تولى مهمة تنظيف السيارات وغسلها.
كان “إيـهاب” يقف في الأسفل بجوار بناية شقته فوجد “تحية” تخرج من بيته حينها قال بسخريةٍ بعدما ترك هاتفه:
_ها أدخل ولا هلاقيكي جاية من تحت السرير؟
ضربته على صدره وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
_يا واد اختشي بقى، أهيه فوق يا أخويا عندك.
تركته وتحركت فيما دلف هو البناية ثم توجه إلى شقته مباشرةً فوجد في وجهه زوجته التي ضحكت بسعادةٍ وهي تقول فور رؤيتها له:
_يا أخويا بكلمك مرديتش عليا ليه؟ “إسماعيل” قالي إنك مش هنا وروحت مشوار، فينك.
لم يرد عليها بل تنهد بعمقٍ ثم أخرج من جيبه سلسالًا ذهبيًا ثم أقترب منها يضعه في رقبتها بدون أن يتكلم بكلمةٍ واحدة، أما هي فذُهِلَت من فعله واخفضت رأسها تطالع ما تم وضعه في عنقها وسألته باستنكارٍ تغلفه دهشة تلقائية:
_دي علشاني أنا ؟؟ بتاعتي ؟
زفر مُطولًا من جديد ثم نطق بنبرةٍ حزينة:
_دي كانت بتاعة أمي، بس مكانش فيها أي شكل خالص، ادتني واحدة وسابت لـ “إسماعيل” واحدة وقالتلي لما تيجي بنت الحلال اللي تستاهل حاجة زي دي، أديهالها، فروحت حطيت في شكل شمس، معرفش ليه بس حسيتها زيك يعني، وعلى فكرة أنا مش هلاقي حد غيرك يستاهل حاجة غالية على قلبي زي دي، وبرضه مش هلاقي منك اتنين يا عمنا.
ابتسمت له ولمعت العبرات في عينيها بفرحةٍ فسألها هو بتعجبٍ من صمتها وبكائها:
_مالك ؟؟ أنتِ زعلانة إنها بتاعة أمي ولا إيه ؟؟
حركت رأسها نفيًا ففهم هو مشاعرها لذا ضمها إليه حتى وجدها تبكي بصوتٍ عالٍ ثم قالت بنبرةٍ باكية:
_أمي كانت سيبالي واحدة ومرات أبويا خدتها مني، علشان كدا بعيط، كل حاجة وجعاني بلاقيك من غير قصد بتعرف تداويها، علشان كدا لما بقولك ماليش غيرك بكون قصداها والله، أنا بجد ماليش غيرك.
مسح على ظهرها ثم لثم قمة رأسها واقترح عليها بنبرةٍ محشرجة:
_طب كفاية نكد بقى، يلا البسي حاجة وتعالي اقعدي تحت شوية ألعبي مع “جـودي” وهاتي عصير من التلاجة، يلا.
في الأسفل قام “مُـحي” برفع صوت الأغاني من السيارة ثم وضع هاتفه على أذنه يتحدث فيه مع إحدى الفتيات التي غالبًا لم يعرف اسمها لكن على كل حال هو يعرفها، أما “سـراج” و “إسـماعيل” فكلاهما أرهف السمع في كلمات الأغنية وكأن “مُـحي” تعمد أن يُلهب جراحهم، حيث بدأ المقطع الأول بكلماته وخاصةً “سراج”:
_عمري إيه قبل الليلة دي، عمر
ضايع عمر فاضي واللي عيشته من حياتي
ورقة فاضية وقلم،
واللي كانت روحي فيها كدبتني ليه عينيها
فجأة راحت مش لاقيها زي حلم اتهدم
_جوة مني كتير معاني والحياة مكتفاني،
أنا نفسي أقول وأصرخ بصوتي، نفسي أتحدى زماني.
أحلام كتير متكسرة زي السنين متنتورة، نفسي ألاقي
فيا نفسي، نفسي يتحقق كياني.
زفر “سراج” مُطولًا و أراد الهرب من هُنا كل الأماكن اتفقت على حزنه وحتى صدف الأغنيات ذاتها، أما “إسماعيل” فركز هو الأخر مع الكلمات ليجدها توصفه حين قيل:
_أما أنا فحكايتي قصة، من هروب لهروب ولسه
لسه بحلم يوم بمرسى ومركبة وحضن وصبية،
ليه حياتي شايفها سد، مش مهمة لأي حد،
نفسي أعيش، بس أني أعيش ولا يبقى كتير عليا
_جوة مني كتير معاني والحياة مكتفاني،
أنا نفسي أقول وأصرخ بصوتي، نفسي أتحدى زماني.
أحلام كتير متكسرة زي السنين متنتورة، نفسي ألاقي
فيا نفسي، نفسي يتحقق كياني.
ترقرق الدمع في عينيه وجال بخاطره صوت بكائه وهو ينادي على شقيقه يوم أن نزل المقابر، فانتفض “سـراج” يرفع صوته في “مُـحي” وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_وقف يابني بقى الأغاني دي، إيه تحب ندبح نفسنا هنا ؟؟ عندك حاجة عدلة شغل، معندكش يبقى مع السلامة، دماغنا ورمت.
أغلق “مُـحي” الأغنية ثم أقترب منه يسأله بتهكمٍ:
_هو أنتَ لا منك ولا كفاية شرك؟ عاوز إيه يا عم ؟
أتى “نَـعيم” يقول بسخريةٍ:
_عاوزك توقف الأغاني، روح يا أخي يا رب أشوفك زي “أيـوب” وييجي اليوم اللي تنصح فيه الناس زيه كدا، قول يا رب.
رفع “مُـحي” كفيه ثم تحرك نحو السيارة يُكمل عمله بها فوجد كرة قدم تضربه من الخلف وقبل أن يرفع صوته وجد “ميكي” يقول بلهفةٍ:
_لامؤاخذة يا “مُـحي” جت فيك بالغلط، تعالى ألعب معانا.
في هذه اللحظة نزل “إيهاب” ومعه زوجته فتحدث “سراج” بسخريةٍ يقصد الأخر:
_خد عمهم معاك يا “ميكي” ولا العضمة كبرت؟.
رفع “إيـهاب” حاجبه فوجد “سمارة” ترفع نفسها حتى وصلت لاذنه تهمس له بقولها:
_هما عملوا فريق للأوغاد يا أخويا؟؟
نظر لها بحدة فجاهدت هي لكتم ضحكتها ويبدو أنها نجحت في تحديها له حتى تركها واقترب منهم بمسك الكرة ثم أشار لهم أن يتبعونه بكلمةٍ واحدة:
_ورايا.
ضحكت “سمارة” بسعادةٍ وتحرك البقية خلفه فقام هو بتقسيم الفريقين فرفع “سراج” صوته يسأل الصغيرة:
_هتشجعي مين يا “جـودي” ؟؟
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_محتاجة كلام يعني يا خالو ؟ هشجع “عـمهم” طبعًا.
انتشرت الضحكات على قول الصغيرة حتى جلس “نَـعيم” وأجلسها بجواره ومعها “سمارة” لتبدأ لعبة الكرة برئاسة “إيهاب” ومعه بقية الشباب ضد العاملين بالمكانِ، ليلة برغم من صعوبة بدايتها إلا أنها أظهرت الأطفال الصغيرة بداخلهم، لازالوا رغم آلامهم يتشبثون بحياةٍ قاسية ترغمهم على ما يكرهون فعله، لازالوا يحبون الحياة حتى وإن لم تحبهم هي.
__________________________________
<“أيامنا لم تقف بل تمر، نحن فقط نتذوق المُر”>
مرت عدة أيام وصلت تقريبًا إلى أسبوعٍ أو أقل من هذا بنسبة قليلة، لم تقف الحياة كما يظن البعض بل تسير وتتحرك حتى وإن كنت تود أنتَ التوقف، وعلى الرغم مما تحمله القلوب من ألمٍ وتعايشه في وجعٍ إلا أنها مُجبرة على السير مع حركة الحياة.
في شركة “الراوي” كان “يوسف” يجلس في غرفة الاجتماعات في مقابلةٍ عملية هامة قبل يوم الغد وقد دلفت “رهف” بتوترٍ تلقي عليه التحية بنبرةٍ خافتة تعجب هو لها وخلفها دلفت “مادلين” و “سامي” و “عاصم”.
وزع هو نظراته الحادة عليهم فوجد “عاصم” يقول بتهكمٍ:
_حضرتك عارف بقى إنك المفروض تكون خلصت العرض ؟ والملف يكون جاهز بكرة قبل النهاردة ولا لأ؟؟ بما إنك صممت تاخده أنتَ ؟؟.
رفع حاجبه له ثم نظر لـ “رهف” التي ازدردت لُعابها بتوترٍ فقال هو بثباتٍ ردًا على عمه:
_عارف وكل حاجة جاهزة، خليك في حالك.
سحب “عاصم” المقعد وجلس بينما “سامي” سأله بسخريةٍ:
_أنا قولت أنتَ مش هتيجي بصراحة، قولي أنتَ قاعد في أنهي داهية دلوقتي؟
أرجع “يوسف” ظهره للخلف وهو يقول بثقةٍ باسلوب:
_في نفس الداهية اللي أمك جت منها، فاكرها؟
بدا حديثه مشاكسًا لكنه كان مُحقًا فيما تفوه به، لكن “سامي” لم يكترث بل ظنها كطريقته المعتادة في تطاوله عليه بحديثه، أما “مادلين” فقررت أن تبدأ في العمل وفي وصف الملف تقديريًا بما تتذكره هي من معلوماتٍ حتى انتهوا من الاتفاق في العمل وقد أخفت “مادلين” خبر ضياع الملف حتى تتصرف برفقة “رهـف”.
تحدث “سامي” بعدما نظر في ساعة يده بحديثٍ يواري خلفه خبثًا وهو يعلم أن الحديث يتجه إلى “يوسف”:
_طب يلا يا “عاصم” نادر كلها ساعات ويوصل ومراته لسه هنا بتخلص حاجات مهمة، يدوبك نتحرك.
ضحك “يوسف” بسخريةٍ ثم أنتظر خروج الإثنين معًا وخلفهما “مادلين” أيضًا فانتبه هو لـ “رهف” التي التزمت بالصمت ولم تتفوه وحتى الآن تخشى النظر إليه، مما جعله يسألها بنبرةٍ ساخرة تهكمية:
_هو أنتِ مقموصة مني؟ مالك يا “رهف”؟
رفعت رأسها له وقالت بنبرةٍ ضائعة قبل أن تظهر دموعها من جديد:
_الورق اللي اديتهولي من أسبوع وكل حاجة ليها علاقة باجتماع بكرة ضاعت يا “يوسف” وللأسف مش معايا أي حاجة تخليني حتى افتكر مجرد اسماء عادية، شوفت بقى إن الموضوع صعب؟ بس والله أنا خلصته ومكسلتش عنه وسلمته لـ “مادلين” وهي خدته راجعته ورايا بما إنها هي أشطر مني، مش عاوزاك تزعل.
كانت على وشك البكاء لكنه فهم عليها وفهم أنها لا يمكن أن تقصر في عمله، لذا سألها بنبرةٍ جامدة:
_مين اللي عمل كدا ؟ أو الملف حصله إيه ؟
سحبت نفسًا عميقًا وقالت بترددٍ:
_غالبًا “شـهد” علشان الورق اتاخد واتحط مكانه ورق ابيض فاضي، ولو بكرة جه وإحنا مش محضرين أي حاجة هتبقى كارثة في حقك قبلي حتى.
زفر مُطولًا ثم ترك محله وترك المكتب بأكمله وترك “رهف” خلفه مدهوشة من فعله وقصد أن يتوجه إلى غرفة “شـهد” تلك التي جلست بداخل مكتبها تضع الحاسوب أمامها وهي تتابع الأعمال حتى تفاجئت بالمكتب يفتح عليها ويدلف هو منه كما الرياح القوية وخاصةً وهو يرمقها بشراراتٍ قاتلة.
وقفت تسأله بتهكمٍ من طريقته:
_فيه حد محترم يدخل كدا ؟؟ أحترم مكان شغلك لو سمحت.
ابتسم بسخريةٍ وأغلق الباب وهو يقول بتهكمٍ:
_دا على أساس إنك الخضرا الشريفة اللي بتحترم نفسها أوي، طب كدا كدا أنا مش محترم واللي بيجي على سكتي بدوسه زي القطر، أنتِ بقى يا ملاك يا حنينة شكلك إيه لما تطلعي سارقة ملف من زميلة ليكِ؟ دا عيب حتى على منصب أبوكِ.
ضمت ذراعيها معًا وهي تنطق بثقةٍ ردًا على حديثه:
_والله ؟؟ معاك دليل بقى على كلامك؟ أكيد لأ.
زفر مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ جامدة يسألها:
_”شـهد” !! الملف فين
حركت كتفيها وقلبت شفتها السُفلى تنفي علاقتها بجوابه، مما جعله يقترب منها ثم أمسك ذراعها يضغط عليه حتى تأوهت هي من الألم، بينما هو ضغط على أسنانه وهو يسألها بنفاذ صبرٍ:
_لأخر مرة هسألك، راح فين الملف، هي ملهاش ذنب بالغل اللي جواكِ، انطقي بدل ما أعملك فضيحة هنا.
سحبت كفها من يده تدلكه وهي تقول بخوفٍ:
_قطعته، قطعته ورميته.
رفع كفه يشد خصلاته ثم دفع المكتب بقدمه وأشار لها بسبابته قائلًا:
_لأخر مرة تفكري تيجي على اللي مني وأخر مرة تفكري برضه تقفي في حاجة ليها علاقة بشغلي، لو حصل أنا هرميكي برة بفضيحة، ياريت تنضفي بقى.
أهانها بحديثه وأصاب كبريائها في مقتلٍ مما جعلها تسأله بتهكمٍ دون أن تحسب حساب ما تفوهت به:
_يا ترى بقى مراتك عندها علم بعلاقتك بـ “رهف” ؟؟ ولا يا عيني مغفلة متعرفش عنك حاجة..؟
شملها بنظرةٍ تقلل منها ثم أولاها زهره فأوقفته هي بقولها:
_ذوقك طلع مش حلو، كنت فكراك هتجيب واحدة أحلى مني من بعدي، طلعت عادية وأقل من العادية كمان.
التفت لها يتفحصها بنظراته ثم هتف بتهكم بما يقتل أي فتاةٍ مغرورة مثلها وهو يعلم تمامًا مقصد حديثه:
_ليه هو أنتِ حلوة أصلًا ؟؟
اتسعت عيناها بغير تصديق فوجدته يقول من جديد مُكملًا على سابق حديثه:
_أنا يوم ما فكرت من بعدك اختارت واحدة عندها قلب، منكرش إنك كأنثى عندك مقومات تحرك أي راجل، بس كإنسان عنده قلب ومشاعر فأنتِ zero، ثانيًا بقى تتكلمي عن مراتي بأدب بعد كدا.
أقتربت منه تبتسم بثقةٍ وهي تسأله بميوعةٍ كما كانت تفعل سابقًا ظنًا منها أنها لازالت تملك سحرًا يؤثر به:
_طب ياترى المدام بقى عارفة عنك كل حاجة ؟ ياترى قولتلها اللي قولتهولي ولا لسه؟.
سألها بنبرةٍ مُحتدة وهو يرجع للخلف بحركةٍ تلقائية:
_قصدك إيه ؟.
قلبت عينيها بعد سؤاله تتصنع التفكير ثم قالت بضحكةٍ خبيثة:
_أقصد اللي أنا أعرفه عنك، طالما هي متعرفش يبقى أكيد محبتهاش، أصلك لو كنت حبيتها زي ما حبيتني أكيد كنت هتقولها على كل حاجة، لكن يا خسارة قلبك مش قابل غيري، رغم أني تعايشت عادي من بعدك.
ابتسم بسخريةٍ ثم أشار برأسه عليها وهو ينطق باستخفافٍ:
_كدا وتعايشتي ؟؟ دا أنتِ ناقص تعرفي بحط بنزين العربية بكام، على العموم أنتِ مال أمك؟ لما يبقى شيء يخصك ابقى اتدخلي، ثانيًا بقى هي مش سطحية زيك، العمق ليه ناسه برضه وبنت اللذين دي مفيش منها اتنين، رَيحي يا حلوة.
تركها تقف مهزومة بالرغم أنها حينما ذكرته استطاعت أن تُصيب ثباته في مقتلٍ، لكن ببراعته أجاد رد الضربة لها وخرج من محله بعدما انتصر عليها في الحرب الكلامية.
خرج من عندها فوجد “رهـف” أمامه حدثها بنبرةٍ جامدة يوجه لها أوامره:
_هاتي حاجتك واتصلي بـ “لوزة” عرفيها إنك هتتأخري وأنا هبقى اروحك وهاتي اللاب توب بتاعك معاكِ.
حركت رأسها موافقةً بخوفٍ منه بينما هو خرج من مقر العمل تمامًا يتوجه إلى سيارته، رأسه التي عجب بالافكار المزدحمة وقد أرتفع صوت ضجيجها، الأصوات ترتفع وتتداخل في بعضها بدون أي شفقة عليه، فلم يكن أمامه سوى أن يسحب دفتره من السيارة والقلم ثم فتح صفحة فارغة وأمسك القلم يرسم ضجيج رأسه في الصفحة الفارغة لتتشابه كلتاهما تقريبًا في غوغائها.
في بيت “عبدالقادر” طوال الأسبوع المنصرم كان “إياد” يشعر بالحزن الشديد بعد انقطاع سُبل الوصال بينه وبين “نهال”، كان يشعر بالحزن وألم الفقد أكثر من فقده لوالدته نفسها، دلف “أيـهم” البيت فوجد “آيات” أن تحاول مع الصغير الذي رفض تناول الطعام ثم جلس على الأرجوحة.
أقترب منه يسأله بنبرةٍ جامدة:
_بعدين ؟؟ هتفضل تعاند فيها لإمتى؟
انتبه له الصغير ثم وجه بصره للجهة الأخرى يتجاهل والده فاقتربت “آيات” من شقيقها تحدثه بنبرةٍ خافتة:
_متزعلوش، هو زعلان شوية بس هياكل أنا بحاول معاه.
حدثها بنبرةٍ جامدة حين هتف بما لم تعلمه هي:
_اللي محدش يعرفه إنها هتتجوز خلاص يعني مش من حق حد فينا يتواصل معاها تاني لا أنا ولا هو، يبقى بأنهي حق عاوزني أخده هناك؟ استنى لما حد يقل بيه منهم؟ دا أنا أدفنهم مكانهم لو حد بصله.
زفرت “آيات” مُطولًا ثم نظرت للصغير الذي بدا الحزن عليه واضحًا حتى تبدل حاله كليًا وقطع حتى الحديث معهم، وقد وقف “عبدالقادر” يتابع الموقف بعينيه ثم نطق ينادي لحفيده قائلًا:
_”إيـاد” !! تعالى يا حبيبي عاوزك.
رفع الصغير عينيه نحو جده ولم يرد عليه أو يحرك ساكنًا حتى عنفه “أيـهم” بقوله:
_رد على جدك مش هكرر تاني، يلا.
ترك الصغير محله وتحرك نحو جده الذي أشار لابنته قائلًا:
_خديه يا “آيات” لبسيه علشان رايح معايا مشوار مهم، وسرحيله شعره اللي هو مبهدله دا، شبه أبوه وهو صغير كان نفس السِحنة دي.
ضحكت هي له فيما سأله الصغير بعدما رفع رأسه له:
_هنروح فين يا جدو؟؟
بعثر “عبدالقادر” خصلاته ثم غمز له وهو يقول بمزاحٍ:
_هاخدك أحلقلك يا حبيب جدو.
أخذته عمته وتحركت به نحو الداخل فيما حذر “عبدالقادر” ابنه بقوله:
_لأخر مرة هحذرك أوعى تزعله، طبيعي دا عيل صغير وأكيد زعلان ومن حقه يحس أنه متضايق، فياريت تبطل تخرج عصبيتك عليه، فهمت؟.
هز رأسه موافقًا ثم ترك مكانه وصعد لشقته يهرب من أي نقاشٍ قد يُزيد من عصبيته عليهم وهو من الأساس يكفيه كل شيءٍ منذ عدة أيام وكأنه عاد مراهقًا حُرم من وصال حبيبته.
في محل “أيـوب” كانت “قـمر” تحدثه في الهاتف وتخبره بثرثرةٍ لم تكف عنها عن تفاصيل يومها وإنجازاتها المزعومة فلاحظت صمته وحينها سألته بتعجبٍ:
_روحت فين يا سيدي بكلمك.
أنزل الكوب من على فمه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_هكون روحت فين ؟ أقسم بالله كنت بشرب والزير جنبي أهو يقولك إن كنت بكدب، هسيبك وأروح فين يا “قـمر” ما خلاص لبست الحمد لله.
سخرت من حديثه بقولها:
_لبست ؟؟ والله طب أنا قاعدة على قلبك.
ضحك على حديثها ثم قال بخضوعٍ لها:
_والله العظيم ما اتطمن غير بوصالك يا “قـمر”، أنا بقيت مطروف العين بيكِ.
ضحكت بسعادةٍ بالرغم من جهلها مقصد كلمته ثم سألته بحديثٍ أخر تهرب من خجلها:
_أنا عاوزة أشرب من الزير، مش عجباني مية التلاجة.
ضحك على طريقتها في تبدل الحديث ثم نظر للزير الفارغ أمامه وقرر أن يغلق معها المكالمة متحججًا بالعمل وانشغاله في الوقت الحالي عنها.
بعد مرور بعض الوقت اجتمعت نساء العائلة الخاصة بـ “يوسف” فوق سطح البيت ومعهن “عـهد” أيضًا التي عادت من العمل لتوها، أما “أيـوب” فحمل زيرًا من محل عمله وقد سبق وصنعه بيديه ثم توجه به مباشرةً إلى بيتها، وللحظ وجد العائلة بأكملها هناك وهو الرجل الوحيد هُنا.
أقتربت منه “قـمر” وهي تضحك بسعادةٍ وسألته عن سبب مجيئه وعما يحمله في يديه:
_أنتَ إيه اللي جابك كدا وماسك إيه في إيدك ؟
جاوبها بنبرةٍ هادئة بعدما نظر في وجهها:
_جيت علشانك، جيبتلك الزير اللي هتشربي فيه أهو، كان نفسي أعملها مفاجأة بس باظت محدش قالي أنكم عايشين في السطح.
ضحكت له ثم أخفضت رأسها تطالع الزير الفخاري فوجدته دون عليه بالخط العربي جملةً لم تكن لغيرها ولم تخص سواها حيث كتب:
_جَـلَّ مَـن سَـواكَ يَـا قَـمَّريِّ.
التقت نظراتهما من جديد ليجد هنا الراحة من العبء والسكن من بعد التيه والأمان من بعد الخوف، تلك الغريبة أصبحت أقرب من نفسه إليه، قطع تواصل النظرات بينهما “غَـالية” حينما اقتربت ترحب به وتشير له أن يلج فدلف هو بعدما أخفض رأسه يضع الزير في حامله المعدني وقد عاونته “قـمر” التي كانت تبتسم بدون أي داعٍ لهذا.
لاحظت “عـهد” وقوفهما سويًا وضحكات “قـمر” معه فابتسمت لهما وتذكرت أمر قمرها الغائب، هذا اللذي منذ لقائها الأخير به قل التواصل معه، وكأنه أتى عند ذكره ليدلف لهم ومعه “رهـف”.
حينها انتبهت له وهو يقول بنبرةٍ هادئة مشيرًا إلى من تجاوره:
_دي “رهف” يا جماعة جارتي والنائب بتاعي في الشركة، أعرفك عليهم يا “رهـف”.
بدأ مهمة التعريف على الجميع وحينما لاحظ “أيـوب” أشار عليه وهو يعرفها به قائلًا بثباتٍ:
_دا “أيـوب العطار” جوز “قـمر” أختي.
مدت يدها وهي تقول بنبرةٍ ودودة:
_أهلًا وسهلًا بحضرتك يا أستاذ “أيـوب”.
وضع كفه على صدره وهو يقول بآسفٍ لها:
_الشرف ليا أنا يا آنسة، معلش مبسلمش.
موقفه الغريب هذا جعل الأعين تنطق فخرًا به، وخاصةً “قـمر” بينما هي نفسها قدرت شخصه وهتفت بنبرةٍ هادئة لبقة:
_ربنا يثبت حضرتك إن شاء الله ويكتر من أمثالك.
اقتربت منه “قـمر” تهمس له في أذنه:
_جدع، ربنا يحفظك من العين، والله أنتَ تستاهل بوسة.
جاهد ليكتم ضحكته ثم همس لها بمراوغةٍ:
_طب ما تجيبي، هو أنا هقولك لأ.
لكزته بكتفها في كتفه وهي تبتسم بخجلٍ فقال هو بمزاحٍ:
_آه منهم الستات دول، تنكش الواحد وتعمل نفسها بريئة، بس على العموم الحساب بيتقل يا “قـمر”.
أقترب “يوسف” من زوجته وهو يقول بنبرةٍ هادئة يعرفها على الأخرى:
_دي بقى “عـهد” مراتي، وقبلها كانت جارتي.
أقتربت منها “رهف” تمد كفها وهي تقول بحماسٍ:
_زي القمر، أكيد تستاهل إنك تتجوزها بسرعة كدا علشان متتخطفش منك، متعرفيش أنا فضلت قد إيه متحمسة أشوفك، طلعتي زي القمر ربنا يحفظك.
نظرت “عـهد” لها تمعن النظر في ملامحها وخاصةً عينيها الزرقاوتين، فتاةٌ جميلة مثلها تثني عليها؟؟ لكزها “يوسف” حتى انتبهت لهما ومدت كفها هي الأخرى وقالت بنبرةٍ تائهة:
_ها، آه طبعًا دا شرف ليا، شكرًا.
تحركت “رهف” من أمامها تجلس بجوار والدته فمال على أذنها يقول بسخريةٍ:
_افردي وشك هتاكلي البت بعينك.
ابتسمت هي له بسخريةٍ من تفكيره الغريب، فوجدته يسأل بتعجبٍ:
_الشيخ “أيوب” كان بيعمل هنا إيه؟
ردت عليه هي تجاوبه بتهكمٍ تقصد فعله:
_راجل محترم، داخل على مراته بحاجة بتحبها، مش داخل وفي أيده واحدة؟ فيه فرق اخلاقيات برضه.
مال على أذنها يهمس بنبرة رخيمة يعلم مدى أثرها جيدًا:
_دا أنتِ الغيرة هتاكل منك حتة يا “عسولة”.
همت بالرد عليه تنفي أي شيءٍ من هذا القبيل فوجدته تركها واقترب من “أيوب” الذي وقف بجوار زوجته وسأله بسخريةٍ:
_جاي هنا مخصوص علشان تجيب زير؟ أنتَ إيه حكايتك مع القُلل يا عم أنتَ ؟؟.
جاوبه “أيـوب” بثقةٍ ردًا عليه:
_بحبها.
رفع “يوسف” حاجبيه يسأله بنبرةٍ جامدة:
_هي إيه دي؟
_القُلل يا بشمهندس مالك؟
كان هذا قول “أيـوب” فيما وقفت “قمـر” بينهما تضحك عليهما سويًا حتى أتى صوتٌ لم يكن في محله أو حتى وقته وهي تلقي التحية بقولها:
_مساء الخير ؟؟
التفتوا لمصدر الصوت التي كانت صاحبته “فاتن”، فاندهش “يوسف” من تواجدها وكذلك “رهف” أيضًا التي طالعتها بتعجبٍ على عكس “غالية” التي أمعنت النظر في وجهها تحاول تكذيب نفسها، على عكس “فاتن” التي اندهشت من تواجدها هنا وقد ظنت أنها في بيتٍ أخر، لم تضع في حسبانها أن تنتقل إلى هنا وتبقى هنا مع “يوسف”، وعلى كل قد سبق السيف العزل.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!