روايات

رواية غوثهم الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والخمسون

رواية غوثهم البارت الحادي والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الحادية والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
كلُّ اجتهاد في سواك مضيَّع
وكلُّ كلامٍ لا بذكرك آفات
وكل اشتغالٍ لا بحبك باطل
وكل سماعٍ لا لقولك زلات
وكل وقوفٍ لا لبابك خيبةٌ
وكل عكوفٍ لا إليك جنايات
وكل اهتمامٍ دون وصلك ضائع
وكل اتجاه لا إليك ضلالات
وكل رجاء دون فضلك آيس
وكل حديثٍ عن سواك خطيئات
_”عبد الله بن مُبارك”
__________________________________
قد يبدو الأمر غريبًا لكني دعيني أخبرك،
أنني أنا من نشأتُ في طرقات المدينة وكنتُ بها غريبًا،
لكنني في نهاية الأمر تغلبتُ على غُربتي، وانتشلت نفسي منها وقد كانت كل الأرجاء المُظلمة تعرفني، لكني برغم هذا كنتُ غريبًا،
خشيت من التيه طوال سنين عُمري والآن… أرى عينين رغم غُربتهما عني إلا أنني بداخلهما لم أكن كما كنتُ غريبًا..
وبرغم ذلك توهتُ بداخلهما وكأنهما هما الموطن والمدينة،
عينان رغم الحزن الساكن بهما أعطتني كلتاهما الونس وأشد ما يحتاج إليه المرء في حين كونه غريبًا…
دعيني الآن أخبرك أن النظرة منكِ كانت أمانًا…
وبدون عينيكِ أنا غريبًا،
كل تيه الدنيا وإن كان بداخل عينيكِ فبه لن أكون غريبًا.
<“في بعض الأحيان يكون النور مرافقًا بالأُنسِ”>
خرج “سراج” من الغرفة نحو الكافتيريا الموجودة في نهاية الرواق بجوار المِصعد يجلب العصير لمن بداخل الغرفة وحينما رفع عينيه نحو باب المصعد وجد أخر من توقع تواجدها هُنا، وجد “نـور” تخرج من الباب وهي تبحث بعينيها عن الغرفة ورقمها، أما هو فترك محله واقترب من المصعد تزامنًا مع تحركها في المكان الموازي له لتتقابل نظراتهما من جديد بعد انقطاعٍ دام لأيامٍ طوال، أيامٌ استوحش بها دنيته بدون ونيس.
بعض اللقاءات وإن كانت قاتلة تظل مقترنة بنكهة الحياة، وثمة بعض الأحاديث تنطقها الأعين لكنها تُسكتنا عن الكلام، مقابلات وإن أقامت الحروب بداخلك تبقى مثل السلام، كما الشيء ونقيضه مع بعضهما وأنتَ الضعيف بينهما، هذا تحديدًا ما يشعر به كلاهما، وقد ثبت “سراج” عينيه عليها وخشى يُغلقهما تفر مثل السراب كما فعلت في السابق، النور يظهر في المعبر من جديدٍ ليثبت له أنه سلكَ الطريق الصواب.
أما هي فتبخر غضبها وخانها قلبها الذي دقَ له، لم تقوى على الركض ولا حتى الابتعاد، تسمرت أمامه وأغرورقت عيناها بالدموع، نظراته تعاتبها ونظراتها تلومه، قلبه يصرخ من شوقهِ وقلبها يبكي من وجعهِ، تلاقت النظرات صُدفةً لتخون ألف لقاءٍ متفقٍ عليه، فحتى وإن تحركت الحواس بما لم تشتهي، فالقلوب عاصية لن تقبل غير بما تشتهيه.
كانت هي صاحبة القوة الأكبر حين أبعدت عينيها عنه واخفضت رأسها للأسفل في محاولةٍ يُحاوطها الضعف لكي تُخفي دموعها، أما هو فهتف اسمها بلوعةٍ وكأنه يتأكد أنها هُنا بقوله:
_”نـور” أنتِ هنا بجد ؟
رفعت عينيها من جديد وتصنعت الجمود وهي تسأله بنبرةٍ خالية وكأنها آلية مُبرمجة على هذه الطريقة:
_أوضة بابا فين ؟
أغمض جفونه بأسىٰ يُعنف نفسه على سذاجة تفكيره، كيف توقع أن تعانقه وتخبره باشتياقها له، هل ينتظر منها أن ترتمي عليه وتخبره بمدى حبها وشوقها وندمها على فعلها؟ لذا فتح عينيه ورفع ذراعه يشير على الغُرفة فالتفتت هي توليه ظهرها في اتجاهها نحو الغرفة المُشار إليها وحينها أوقفها بقوله:
_”نــور”.
بعد ذِكره لها تسمرت محلها من جديد وهي تبحث عن إرادة قوية تتجاهله بها فوجدته يضيف بنبرةٍ مقتولة بعثرت ما حيا بداخلها من نفورٍ تجاهه ليصبح مثل كومة القش:
_أنتِ وحشتيني.
الكلمة لم تكن في موقعها الصحيح أو لربما لم يكن وقتها الصحيح، هي الآن ضعيفة ومبعثرة وتخشى كل شيءٍ حولها وفي يومٍ من سائر الأيام كان هو كل الأمان لها، أما الآن فأصبحت تخشاه، وتخشى قربه لذا هتفت بتهكمٍ حينما التفتت له:
_متشوفش وحش يا “سـراج”.
طالعها بعينين ترقرق بهما الدمعِ من طريقتها معه، هذه التي كانت ذات يومٍ النور بداخل الدرب، أصبحت هي الهزيمة في الحرب، توقع كل شيءٍ منها لكنه لم يصدق أن تفعل بهما الأيام ما هما عليه الآن، وقد تحركت هي أولًا وقبل أن يتبعها أوقفه العامل من خلفه بقوله ملهوفًا:
_يا فندم !! العصير حضرتك مخدتهوش.
أوقفه عن تتبعه لها في سيرها وعاد له من جديد بينما هي لملمت شتات نفسها التي تبعثرت أمامه وركضت نحو غرفة أبيها بلهفةٍ تجددت لكي تطمئن على غالي عينيها، لذا دلفت الغُرفة دون أن تنبته لوجود شخصٍ أخرٍ غير والدها وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_بابا !!.
انتبه لصوتها وحرك رأسه بعيدًا عن النظر لـ “نَـعيم” ونظر لها بغير تصديق إنها أتت حقًا، لا يصدق أن بعد عامين كاملين وأكثر شارفا على الثالث أنها تنازلت عن غُربتها وأتت له، ظهرات العبرات في عينيهِ فيما ارتمت هي عليه تبكي بعدة مشاعر جميعها تقتل الثبات وتجعل القلب قاب قوسين أو أدنى من الموت بسبب قوتها، رفع ذراعيه اللذيْن يؤلماه بشدة وحاوطها وهو يقول بنبرةٍ مُحشرجة يُعاتبها بقوله:
_كدا يا “نـور” !! كان لازم يعني أشوف الموت علشان تيجي؟ وحشتيني يا قلب بابا، وحشتيني أوي.
انتحبت بين ذراعيه وهي تقول بأسفٍ تعتذر له:
_أنا أسفة والله، آسفة إني سيبتك وإني زعلتك مني وإني خليتك لوحدك من غيري، والله كان غصب عني.
شدد مسكته لها يقول بعاطفةٍ أبوية أكبر من مقدار حزنه على فراقها الذي اختارته هي بإرادتها:
_بس يا حبيبتي، أنا كفاية عليا إنك تكوني معايا هنا.
نظر “مُـحي” لباب الغرفة خشيةً من قدوم “سراج”، في هذه اللحظة خاف كثيرًا على مشاعر صديقه أراد أن يتحرك من محله ويأخذه من هنا وكذلك “نَـعيم” الذي اهتز ثباته لكن السيف قد سبق العزل ودلف “سراج” يحمل العصير في يديه وقال بثباتٍ واهٍ لا حياة في نبرته:
_العصير يا جماعة.
للحظةٍ توجهت الأبصار نحوه ونحوها بتساوٍ روحةً وجيئة من هذه اللحظة الفارقة التي أنهاها هو بقوله:
_نورتي يا “نـور” وألف سلامة على والدك.
رفعت عينيها نحوه تنطق بثباتٍ تُجيد صنعه أمامه:
_الله يسلمك، شكرًا.
عادا كما كانا غريبين عن بعضهما لم تألف قلوبهما بعضًا ذات يومٍ، اللقاء المُميت كما يُقال، هذا اللقاء الذي تمناه قرابة الثلاثة أعوام اليوم يراه ساحقًا، علم اليوم أن أصعب ما يختبره المرء رؤية من كان خليلكَ كل يومٍ يقف أمامك وكأنه يراك للمرةِ الأولىٰ اليوم.
_”نـور” صاحبة الملامح الرقيقة والبشرة البيضاء والجسد الممشوق، خصلاتها السوداء ناعمة الملمس، أمعن نظره في ملامحها، استطالت خصلاتها كثيرًا بعدما كانت تصل لمقدمة كتفيها أصبحت تغطي ظهرها بالكامل، لازالت كما هي لم تتغير، حتى وإن تعمدت أن تُظهر عكس هذا لكنها هي كما هي مثل فرحة الصِغار بنزول المطر لم تتغير حتى وإن غدوا شبابًا.
__________________________________
<“أهلًا بكَ في أرضنا إن كنت صاحب حق”>
اليوم صعدت للسماء ولمست النجوم بكفيها واحتضنت القمر أيضًا، فعلت كل تمنته في ليلةٍ واحدة، دلفت منزل والدها واستعادت حقها المسلوب من بين مخالب عائلتها المزعومة، وتسلحت بالأمانِ خلف حصنٍ يُدعىٰ “يـوسف” اليوم تحققت كل ما أرادته في يومٍ واحدٍ لذا جلست بجوار “قـمر” بعدما رحبت بهما، فيما قال “عبد القادر” لزوجها يستحسن فعله:
_بس جدع الله ينور عليك، متأكد إنك ابن “مصطفى الراوي” ؟؟ أبوك كان غلبان أوي وطيب.
جاوبه “يوسف” بثباتٍ يزهو في نفسه يُثني على مُعلمه:
_أنا صحيح ابنه بس اتربيت في نزلة السمان، على يد “نَـعيم الحُصري” وهناك أنا عرفت الحق بيرجع إزاي، اللي قهرك مرة ردله القهرة عشرة في اللي يوجعه ودول عالم جعانة عينها مشافتش شبع، فاللي يوجعهم الفلوس.
انتبهت له “عـهد” وقبل أن تتعمق بنظراتها في وجهه قالت “قـمر” بنبرةٍ خافتة:
_بقولك إيه تعالي ننزل نوزع باقي القُرص دي علشان نروح، أنا خليت “أيـوب” أدى ناس في المسجد، يلا؟
حركت رأسها موافقةً ثم استأذنت منهم بقولها:
_عن اذنكم يا جماعة فيه حاجات لسه هوزعها، مش هتأخر.
تحركت ورافقتها “قـمـر” في الحركة وقد اتجهتا نحو البيت المجاور الذي تسكنه “أمنية” جارتها وصديقتها التي لازالت العلاقات بينهما قائمة ومستمرة، رحبت بهما هذه الفتاة كثيرًا وأخذت منها الحقيبة الممتلئة بالأكياس لكي تقوم بالتوزيع على الجيران أيضًا.
في هذه اللحظة نزلت إحدى الجارات وما إن وقع بصرها على “عـهد” في بنايتها لوت فمها بسخطٍ وقبضت على حاوية نقودها وما إن مرت بجوارها قالت بصوتٍ عالٍ:
_استغفر الله العظيم، توب علينا يا رب، أشكال هَم وحارة موبوئة، احفظنا يا رب.
عقدت “عـهد” مابين حاجبيها باستنكارٍ فيما بَهُتَ وجه “أمـنية” التي سألتها “قـمر” بتعجبٍ من حديث المرأة:
_هي مالها ؟؟ حد جه جنبها، طب ترمي السلام حتى.
أدركت “عـهد” أن الأمر كان به شيئًا غريبًا لذا قالت بنبرةٍ تُغلفها الدهشة ويرافقها الاستنكار:
_هو فيه حد قال حاجة ؟؟ صح؟
لم تجد الأخرى بُدًا من الكذب لذا قالت بقلة حيلة تُدلي أمامها بما حدث وانتشر في الحارة من أقاويلٍ كاذبة تفتري على فتاةٍ بريئة من كل جُرمٍ:
_بصراحة، اللي متتسماش عمتك نزلت لأم “رنـا” بتاعة الخضار وجابت سيرتك معاها و ذمت في حقك وقالت إنك سلطتي الراجل اللي كنتي ماشية معاه يضرب عمك، ومن ساعتها وكلهم فضلوا يتكلموا عنك، واللي ييجي يدافع عنك يقولوا أهلها نفسهم بيتكلموا، والله ما في حاجة أعملها.
نزلت دموع “عـهد” وتبخرت فرحتها من جديد وكأن كل الدنيا تقف ندًا لها، هي لم تعلن الحرب ولم تدخل ساحة القتال من الأساس وإذ بها تتفاجأ بنفسها وسط ميدان المعركة بدون سلاحٍ أو حتى درعٍ يحميها من سهام المُقاتلين.
ضمتها “قـمر” تمسح على ظهرها وهي تقول بنبرة صوتٍ حزينة كادت أن تبكي وهي تحدثها بها:
_علشان خاطري متزعليش نفسك، مش مهم حد يتكلم إحنا كلنا عارفينك وعارفين أخلاقك يا “عـهد” منهم لله هما اللي عالم طماعة وجعانة، بطلي عياط يا حبيبتي.
هدأت “عَـهد” كثيرًا بفعل هدهدة “قـمر” لها ثم عادتا معًا إلى الشقة لكن أتضح عليهما الحزن وخاصةً “عـهد” التي تهجمت ملامحها وحل عليها الوجوم وزالت الاشراقة عن وجهها وكأنها كانت مؤقتة فقط، وقد لاحظ هذا “يوسف” الذي قرأ تعابيرها واقتبس المعنى من ملامح شقيقته، حينها سأل بنبرةٍ قوية:
_حصل إيه يا “عـهد” حد برة قالك حاجة ؟
حركت رأسها نحوه بعينين زائغتين فتركها وسأل شقيقته بنبرةٍ أقوى وهو يُضيف:
_طب قولي أنتِ، ومتكدبيش عليا يا “قـمر”
سحبت الأخرى نفسًا عميقًا وهتفت بما حدث وأخبرتهما عنه “أمنية” من أحاديثٍ تُقال عليها تسببت في احزانها كثيرًا وحينها تفاقم الغضب بداخله وظهرت القتامة التي يحملها بداخل صدره لكن هُنا تدخل “عبدالقادر” يقول بإصرارٍ:
_حقك هيرجع وقدام الحارة كلها قبلك أنتِ ذات نفسك حتى، علشان دي قلة قيمة لبنتي وأنا مش هقبل كدا، وبما إنك رجعتي حقك منهم يبقى كلهم لازم يعرفوا أنتِ مين وبنت مين وتبع مين، والمرة دي “يوسف” مش هيتدخل.
بعد مرور رُبع ساعة تقريبًا نزلوا مع بعضهم من البناية وفي المقابل جلس “وجدي” بالمحل وبجوار شقيقته وزوجها صاحب الطباع القذرة في تتبُع عورات النساء، وقف كبيرهم في المنتصف وخلفه الشباب ضرب الأرض بعصاهِ لتنجذب الأنظار نحوه بهيبتهِ الفارضة، ثم أشار لعامل المقهى بقوله الذي خرج قويًا:
_روح هات الست أم “رنـا” بتاعة الخضار.
أومأ الشاب وتحرك في لمح البصر بخطواتٍ راكضة يتحدى موجات الهواء في الوصول إلى محل المرأة قبل الهواء نفسه وما إن وصل لها قال بنبرةٍ أظهرت تشفيه بها:
_تعالي يا ست أم “رنـا” العطار الكبير عاوزك.
سقط قلبها من موضعه بخوفٍ وكأن الأرض تميد بها، أدركت أن نهايتها شارفت لا محالة، تعلم أنها مُخطئة لذلك خافت من الظهور أمامه، صاحب الحق دومًا في كل أرضٍ تطئها قدماه، لذا تصنعت شجاعةً وخرجت من محلها تضع وشاح رأسها الصوفي وهي تحاول الهرولة بجسدها الممتليء حتى وقفت أمامه وهو يرمقها بنظراتٍ قاتلة قاتمة وعند اقترابها منه قال بنفس القوة:
_تعالي يا حجة، مش برضه روحتي بيت ربنا ؟؟
حركت رأسها موافقةً بخوفٍ منه فاقترب منها يسألها بصوتٍ أقوى:
_ولما هو أيوة، بتجيبي سيرة الناس ليه؟ بتبيعي وتشتري محبة العباد بسمعة البنات ليه ؟؟ بدل ما تتقي ربنا في أكل عيشك ماشية تدوري دي اتجوزت ليه ودي اتطلقت ليه ودي راحت فين ودي جت منين وناسية إنك هتقفي قدام ربنا تتحاسبي على كل كلمة خرجت منك، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ، وعلشان كدا محدش يجيب من الست دي حاجة تاني، علشان باب الرزق دا هي مش مرعياه وزي ما حكت عن بنات الناس ليكم، هتحكي عن بناتكم أنتم كمان.
اندفعت المرأة تقول بلهفةٍ أمام الجميع وكأنه تتوسله أن يصدقها:
_يا حج والله عمتها اللي قالتي وهي كانت عارفة إن أهل الحارة لاحظوا وعلشان كدا لما سألوني قولتلهم.
ابتسم لها بثقةٍ وهتف مؤكدًا:
_آه، ما أنا عارف كل حاجة، علشان كدا هفلسك.
صُعِقَت المرأة مما قيل أمام الجميع بشئون محل عملها وباب رزقها الوحيد فيما التفت هو إلى “وجـدي” وشقيقته وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_وأنتَ يا بيه !! شايف الناس بتعض في لحم بنت أخوك وأنتَ ساكت بدل ما تخرسهم يا أخي ربنا ينتقم منك، بالمناسبة البيه والست أخته برضه حرامية وغشاشين وبيبيعوا الحاجة المضروبة على إنها أصلي، يعني اللي ربنا نجدها من وسطهم علشان مش شبههم بنت “محفوظ” الله يرحمه، البنت اللي كله بيجيب في سيرتها وفرحانين بالكلام عليها، رغم إن أي واحد فيكم ميعرفش يربي ربع التربية دي من الأساس، وإذا كنتم نسيتوا كلام ربنا فابني موجود أهو يفكركم علشان تحترموا نفسكم.
اقترب “أيوب” يجاوره وضم كفيه على بعضهما وهو يقول بنبرةٍ رغم هدوئها كانت قوية ورغم حزنها كانت عزيزة، مشاعر متباينة وهو يهتف أمام الناس بقوله:
_بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الخلق وخاتم المرسلين، فقد حذرنا الخالق عز وجل وخاطبنا في كتابه العزيز حين قال تعالى جل جلاله:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”
_يعني نتأكد الأول قبل ما نتكلم وقبل نسمع الخبر وننشره، فمن تحقق وعلم كيف يسمع وكيف يعمل وكيف ينقل فهو الحازم المصيب ومن كان غير ذلك فهو طائش الهوى ولن يصل إلا للندامة بسبب فعله.
وقال ربنا سبحانه وتعالى جل جلاله في قذف المحصنات:
“وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”
“إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَ”
أنهى ذِكر الآيات وتابع من جديد قوله مُفسرًا:
قذف المحصـنات من أكبر الكبائر وهو التكلم في أعراض الناس دون برهان أو شهود مثل
“فلانة فعلت أو قالت أو زنت”
دون أن يأتي ببرهان أو أربعة شهود كما ذكر الخالق في كتابه العزيز والمراد من قصف المحصنات تشويه سمعة الشخص وهي للأسف ظاهرة انتشرت بين الناس واستسهولها رغم صعوبة عواقبها
“وتحسبوه هينًا وهو عند الله عظيم”
إتقوا الله في أفعالكم وأقوالكم .
عند التكلم في أعراض الناس عرش الرحمان يهتز ولا تنس أن الله لا يغفل لا عن كبيرة أو صغيرة وفي الحياة كما تدين تدان فإحذروا وتوبوا إلى الله قبل فوات الأوان، وإذا كان مقصد الحديث ليس الزنا بعينها وليس الفعل بذاته، لكنه يخص السمعة فهو من الغيبة المُحرمة، ومن كبائر الذنوب وقد حذرنا النبي ﷺ في حديثه الشريف حين قال:
قال ﷺ:
“اجتَنبوا السَّبعَ الموبقاتِ قالوا: يا رسولَ اللهِ : وما هنَّ ؟قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفسِ الَّتي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ،وقذفُ المحصَناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ”.
ومعنى الحديث هنا ومفرداته:
︎المُوبقات يُقصد بها المُهلكات
• ︎والتولي يوم الزحف يقصد بها أي الهروب من الجـهاد ولقاء العدو في الحــرب.
• قذف المُحصنات يقصد بها رمي واتهام المرأة المؤمنة العفيفة بالزِنـا
• ︎الغافلات يقصد بها البريئات يعني الفعل دا لم يصدر عنهم
_اتقوا الله وتوبوا إليه فإنكم ستسئلون.
ظهرت علامات الخزي على ملامحهم، جميعهم فقط يلزمون الصمت، بدوا كمن نسوا دينهم ونسوا خالقهم وأوامره وسط مُلهيات الدُنيا التي وُجدنا بها فقط زيارة عابرة ونسينا أن القرار في الآخرة، أما “عـهد” فابتسمت وهي ترى انكسار نظرات الجميع وهي الشامخة أمامهم وخاصةً حينما شبك “يوسف” كفه بكفها وكأنه يُأمنها حتى في وقفتها أمام الجميع فانتبه لهما “عبدالقادر” وابتسم لهما مُستحسنًا فعل حاميها الأوحد.
__________________________________
<“الفعل الذي لم نرغبه سابقًا، أصبحنا نهواه حاليًا”>
الطير الذي اختير الحرية لتوهِ تفاجأ اليوم بأمطارٍ عصيفة، وجناحاه صغيران على مواجهة هذه الرياح القوية، كانت سعيدة للغاية كونها أتت إلى هنا من جديد لكنها لم تضع بالحسبان أن يُعاملها سيد البيت بهذه الطريق، مهلًا !! هو محق يعلم أنكِ ستُصبحين لغيرهِ ووالدك قام بطرده من بيتهِ وتريدين منه أن يفتح ذراعيه لكِ مُرحبًا بكِ وبعودتكِ ؟؟
وصلت بيتها بعدما أنهت درسها مع الصِغار لكنها تفاجئت بمن تركض نحوها تُهلل بفرحةٍ كُبرى جعلتها تلتقطها بين ذراعيها وهي تقول بحماسٍ ظهر ليبدد حزنها وهي تقول:
_حبيبة روح خالتو، وحشتيني.
ابنة شقيقتها الكُبرى هنا بين ذراعيها وقد خرجت شقيقتها من الداخل ترحب بها وبعودتها حينما احتضنتها لكن الآخرى تشبثت بها ثم هتفت بنبرةٍ حزينة لشقيقتها:
_جيتي في وقتك، أنا محتاجالك.
هتفت شقيقتها بحبٍ لها وهي تقول بتفهمٍ:
_والله كنت حاسة علشان كدا جيت على هنا.
أتت من الداخل والدتهما وهي تقول بتعجبٍ:
_جيتي يا “نِـهال” ؟؟ طب كويس روحي غيري يلا هدومك علشان ناكل مع بعض كلنا وهاتي “حـور”.
أعطتها الصغيرة ثم دلفت مع شقيقتها داخل غرفتها وقد دارت بينهما الأحاديث وهي تُخبرها عما حدث معها خلال الفترة السابقة وأخبرتها عن فعل والدها وأفراد عائلتها بأكملهم ومع استرسالها في الحديث أخبرتها عن موقف “أيـهم” اليوم وعن طريقته الجافة معها، أخبرتها أنها لم تتوقع منه هذه الطريقة هو تحديدًا وقد انتبهت شقيقتها لذلك فسألتها بتعجبٍ:
_طب وأنتِ إيه اللي يزعلك كدا يا “نِـهال” ؟
هتفت الأخرى بنبرةٍ حزينة وهي تقول مفسرةً:
_فيه إني كنت بحس أنهم ناس مختلفة، أو يمكن اتعشمت فيهم لدرجة إني لما حسيت حد فيهم متغير معايا زعلتني، بس أنا يا “نـوال” محتارة أوي وحاسة إني زعلانة ومحدش فاهمني، من ساعة ما جيت محسسني أني اتوسمت بالعار، فيه مليون واحدة اتطلقت لأن الرجالة مبقوش أمان، البنت تخرج من بيت أبوها بتحلم بالجنة في بيت جوزها تتفاجيء بحياتها جحيم، المفروض أفضل اتضرب منه وأسكت ؟؟ يجبرني على قربه وأسكت؟ اتعاير إني ست مبخلفش وكل قعدة في عيلتهم أبقى نجمة المسرح !! والاسم إني مش بحافظ على بيتي؟ يغور البيت بصحابه إن كان مبني على قلة القيمة، يغور الراجل اللي ميحترمش عهده مع ربنا، إنما أني أبقى ست خايبة كل همها تحافظ على بيت بتتهان فيه دا كان لا يُمكن أقبل بيه أبدًا.
ربتت شقيقتها على ظهرها وهي تقول بحزنٍ لأجلها ولأجل المعاناة التي عاشت بها بسبب عادات وتقاليد عقيمة في مجتمع لم يوضع له معيار التعامل مع الأقدار المكتوبة، بينما الأخرى اغرورقت عيناها بالدموعِ ثم وضعت رأسها على موضع قلب أختها التي عاملتها كما تعامل فتاتها الصغيرة.
في بيت “العـطار” وصل هو أولًا بعدما أطمئن على الشباب مع بعضهم وتركهم وعاد إلى بيته ليجد هناك “أيـهم” الذي خرج وعاد بعد خروج “نـهال” من البيت، جلس أبوه بجواره وسأله بنبرةٍ هادئة دون أن يُظهر اهتمامه:
_ها ميس “نـهال” جت هنا ؟
أومأ له موافقًا وأضاف بفتورٍ:
_آه، جت ومشيت.
لاحظ والده صوته ونبرته الفاترة فسأله هذه المرة باهتمامٍ:
_هو أنتَ متكلمتش معاها ؟؟ يعني مقولتش ليها أي حاجة، رحبت بيها حتى؟ إيه سايب حيطة هنا ؟؟.
زفر “أيـهم” مُطولًا وهتف بنبرةٍ جامدة دون قصدٍ:
_لأ مقولتش ليها حاجة خالص، كلمتها على الناشف وسيبتها وطلعت وبعدها خرجت من البيت كله، هي هتتخطب لابن عمها يعني مينفعش إننا نفضل متطفلين عليها كدا، بعدين المرة دي ممكن أبوها يكبر الدنيا فالأحسن نقتصر وهو دفع باقي فلوس الرخام اللي جاله من المصنع خلاص.
شعر “عبدالقادر” بابنه وبمشاعره لذا رفع ذقنه يسأله بنبرةٍ هادئة عن سابقتها وكأنه يتحدث مع طفلٍ صغيرٍ:
_طب أنتَ إيه اللي مزعلك ؟؟ قولي فيه إيه يمكن نحلها سوى، أنا حاسس إنك متلغبط وتايه ودي مش عادتك طول عمرك صاحب قرار من دماغك، مالك ياض، أنتَ هتعمل فيها كبير ؟؟.
ابتسم له “أيـهم” ثم هتف بقلة حيلة يُعبر له عما يموج بداخل قلبه ولم يفهمه هو حتى الآن:
_مش عارف، يمكن علشان طول عمري صاحب قرار المرة دي حاسس إنها صعبة عليا ؟؟ أخر قرار خدته من قلبي كان جوازي من “أماني” وزي ما أنتَ شايف رمت ابنها حتى من غير ما تهتم بيه، والمرة دي قلبي عاوزني اسمعله وأنا بخاف منه، بخاف من قراراته، وفي نفس الوقت أنا نفسي اسمع كلامه، حاسس إني المرة دي هرتاح.
ربت “عبدالقادر” على كتفه وهتف بثباتٍ:
_يبقى استخير ربنا وهو يوصلك بالطريق الصح، أطلب منه ييسرلك الطُرق الصعبة، ادعيه يقربك من الخير، اسمع مني يا بني أنتَ مش كبير علشان تضيع حياتك كدا خصوصًا إنك مراتك متستاهلش إنك تحرم نفسك بسببها، وبرضه مش صغير علشان تستنى حد يعرفك الصح من الغلط ولو عليا أنا فاهم إنه صح أوي أوي، وأنتَ عارف إنه صح وأبنك عارف إنه صح الصح، يبقى تعمل إيه ؟؟
نظر له “أيـهم” بتساءولٍ من نظراته دون أن ينطق باستفساره، فغمز له الأخر وقال بمراوغةٍ يثبت له أنه يفهم أصغر وأدق تفاصيله:
_أعمل الصح.
ضحك “أيـهم” رغمًا عنه بعدما عاندته الضحكة وظهرت على ملامحه فيما سحبه “عبدالقادر” إلى عناقه مما جعل “أيـهم” في هذه اللحظة يشعر بنفس مشاعر صغيره، شتات الفكر وتيه النفس وغُربة الذات، كل هذا أصبح يختبره في أيامه الأخيرة منذ التقائه بها والآن بين عناق والده سكن قليلًا وهو يرى نفسه صغيرًا ويحق له أن يكون هُنا في وقت تيهه.
في الخارج تحديدًا بالحديقة الخاصة بالبيت كان “إيـاد” يتحدث في الهاتف مع “تَـيام” وقد جاورته على الأرجوحة “آيات” التي كانت تضحك عليهما سويًا حتى رفع الصغير صوته وهو يقول:
_أقسم بالله هخلي جدو يضربك.
في هذه اللحظة خرج “أيـهم” من الداخل وسأله بتهكمٍ يسخر من ابنه بعد قوله:
_هو أنتَ طموحك تبقى بلطجي ليه؟ هتضرب مين؟
جاوبه الصغير بضجرٍ بعدما انتبه له:
_”تَـيام” عمال يقولي لما نتجوز مش هخليك تشوفها ومش هخليك تيجي غير بإذني ومش راضي يسكت، هقول لجدو أخليه ميتجوزش.
سحب منه الهاتف يتحدث مع الآخر وهو يقول مُوبخًا له بنبرةٍ تحمل السخرية والتهكم والحدة مع بعضهم:
_ما تكبر ياض يا هايف، عامل عقلك بعقل عيل صغير؟؟
رد عليه الأخر بحنق يُدافع عن نفسه بقوله:
_هو اللي عمل عقله بعقلي الأول واتصل يغيظني ويقولي أنا قاعد مع “آيـات” أنا حاضن “آيـات”، أبقى هموت على ماسكة أيد والبيه عمال يحضن براحته ؟؟.
ضحكت “آيـات” بخجلٍ وتضرج وجهها بحمرةِ الخجل من أخيها تود الهرب منه بينما هو ذات نفسه قال بتحدٍ له:
_طب كتر كدا علشان ميبقاش فيها رحرحة خالص، ولا هيبقى فيها رمي سلام حتى، واحمد ربنا أني أنا اللي بكلمك، علشان لو شيخنا الجليل كان هنا كان علقك.
انتبه “تَـيام” لقوله مشيرًا على أخيه فسأله بتعجبٍ:
_ليه هو فين لحد دلوقتي؟؟.
_عند مراته عقبالك.
جاوبه “أيـهم” بهذه الجُملة مما جعله يرفع صوته عاليًا:
_عقبالي يا رب، عقبالي أبقى بجح لدرجة تخليني أقعد عند أهل مراتي لحد دلوقتي، أنا مش بحسد، أنا بحسد وبحقد وبَغِل منه، مضيقها عليا وهو هناك مرحرح؟؟.
ضحكوا على طريقته فيما طلب هو إغلاق المكالمة وقد صدح صوت الهاتف من جديد برقم “نـهال” وحينما انتبه لهذا “أيـهم” استغل انشغال صغيره مع عمته التي كانت تداعبه وانسحب يجاوب على المكالمة بقوله:
_السلام عليكم، أنا “أيـهم”.
اتسعت عيناها بدهشةٍ أمام شقيقتها التي حركت رأسها مستفسرةً فيما أضاف هو بخجلٍ من فعله معها في بيته:
_أنا رديت بس علشان أعتذر لحضرتك عن طريقتي النهاردة معاكِ، بس هي كانت ضغوطات ومحبتش إننا نكون بنجبرك على حاجة أنتِ مش حباها، فأنا متأسف ليكِ مرة تانية.
ذُهِلَت “نِـهال” من حديثه فهي لم تختبر هذا النوع من قبل، كل الرجال الذين صادفوا طرقاتها لم يملكون ثقافة الإعتذار للنساء، وهذا لمجرد حديثه معها بطريقة جامدة يعتذر عن فعله؟؟ قديمًا كانت تتلقى الصفعات على وجهها وأنحاء جسدها وتنتظر فقط نظرة واحدة تُجبر بخاطرها، ماذا كان يحدث إذًا عند التقائها بـ “أيـهم” أولًا؟؟ من المؤكد كان حدث الكثير في حياتها.
لاحظ هو طيلة الصمت من قِبلها فسألها بقلقٍ:
_طب هو أنا قولت حاجة غلط ؟ واضح إنك زعلانة أوي أوي والله أنا مش قصدي بس محبيتش إنك تتحطي في موقف محرج مع العيلة تاني بسببنا، خصوصًا بعد أخر مرة.
هتفت بلهفةٍ أخرجت حروفها مُتقطعة من توترها:
_لأ إطلاقًا، أنا بس مستغربة الموقف، على العموم محصلش حاجة يا أستاذ “أيـهم” سوء تفاهم عدى على خير الحمد لله، وآسفة لو كنت اتسببت في أي إزعاج، لو ممكن بس تقول لـ إياد” أني نسيت الدفتر بتاعي وممكن بكرة بعد المدرسة اجي أخده؟؟
انتبه هو لما تسأل عنه فوجد دفترًا يبدو عليه أنه يخصها هي تم وضعه على الطاولة بمحله، حينها قال يقترح عليها:
_أنا ممكن أجي اجيبه ليكِ بكرة في المدرسة، يعني علشان متتعبيش نفسك بعد الشغل وعلشان أكيد هتحتاجيه بكرة.
توترت من اقتراحه كثيرًا لكنها وافقت فهي حقّا تحتاجه لأجل دورة الإشراف المفترض عقدها صباحًا في عملها لذا وافقت بإذعانٍ له ثم أغلقت معه الهاتف وهي تبتسم، تلك البسمة الغبية التي تُعاند لتعلن عن نفسها وتفضح أمر صاحبها وخاصةً حينما لاحظت “نـوال” ملامحها المُنبسطة رفعت حاجبيها معًا فضحكت الأخرى بسعادة مراهقة صغيرة ثم ارتمت عليها حتى ضربت الأخرى كفيها ببعضهما وهي تقول بيأسٍ:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، دي ضاربة رسمي.
ابتسم هو على الجهة الأخرى وهو يفكر هل دومًا يتوجب على الطيور أن ترحل أم أنها في بعض الأحيان تستقر؟؟ إن كانت الطيور قوية ومعاندة فهي أيضًا وفية وأصيلة، وهو عليه أن يتفنن في صيده خاصةً إذا كان الطير يهمه كثيرًا، لكن يجب عليه أن يتروى في فعله وألا يتهور كعادته.
__________________________________
<“أهلًا بِكَ أيها الضَيف، ماذا تفعل هُنا”>
فوق سطح البيت اجتمعت العائلة مع بعضهم ومعهم “مَـي” أيضًا التي منعها “عُـدي” من الحركة حتى لا تذهب إلى بيت عائلة زوجها، بينما هي بمجرد عودة ابنتها يبدو وكأن الروح عادت لها من جديد، جلست بجوارها تحتضنها ثم التفتت لـ “يوسف” تمتن له بنظراتها وهي تقول:
_ألف شكر يا “يوسف” تسلم من كل شر معلش تعبناك وتعبنا الناس معانا كمان، إحنا آسفين.
في هذه اللحظة تحدث “إسماعيل” بعدما أشارت عليه بقولها وهو يهتف بنبرةٍ هادئة يرفع عنها الحرج وشعور الإمتنان نحوهم:
_متقوليش كدا، “يوسف” أخويا والمدام مرات أخويا، يعني رقبتي سدادة المهم أي حد يفكر يزعلكم ملكوش دعوة إحنا موجودين في الخدمة دا الغريب حبيب الكل.
ضحك “يوسف” له وربت على فخذه وفي هذه اللحظة صعدت “قـمر” ومعها “ضُـحى” أيضًا تحمل كلتاهما واجب الضيافة للناس وقد تفاجئت “ضُـحى” بتواجده في المكان وهو أيضًا خاصةً وهي ترتدي إسدال الصلاة الفضفاض على عكس مقابلته الأولى معها، نظرت له هي بسخطٍ حينما تذكرت سخريته عليها ورفع هو حاجبه حينما تذكر طريقتها معه وقد انتبه “يوسف” لهما فقال بنبرةٍ هادئة:
_نورت يا “إسـماعيل” إيه رأيك في حارة العطار؟
نظر “إسماعيل” له ثم نظر لـ “أيوب” وهو يقول بنبرةٍ ودودة:
_كفاية إنها مكان الشيخ “أيـوب” دي لوحدها بالدنيا يا عمنا، السطح بس هو اللي حكاية ربنا يحفظه ويبارك في أهله.
تعجبت “ضُـحى” من حديثه وقالت بسخريةٍ تهمس لنفسها لكن أختها سمعت هذا الحديث حين هتفت:
_طب ماهو عنده ذوق أهو أومال كان جلنف معايا ليه؟
ضمت “قـمر” شفتيها مع بعضهما تكتم ضحكتها فلكزتها الأخرى في كتفها وقد صدح صوت هاتف “إسـماعيل” برقم شقيقه وحينها أخرج الهاتف يجاوب على المُتصل الذي قال بنبرةٍ هادئة:
_ها اتحركت ولا لسه، مش عاوز أنام غير لما تيجي.
قال بنبرةٍ يجاوب على سؤاله:
_جاي خلاص بالكتير ساعة أدخل أنتَ وهطمنك، قولي بس الحج فين؟.
أخبره “إيهاب” بعدما تثاءب بنبرةٍ مُنهكة:
_خد “مُـحي” وراح يتطمن على “عادل” زمانه جاي دلوقتي بس هو أتأخر دا قالي ربع ساعة وراجع تاني، متتأخرش بس أنتَ يلا.
أغلق المكالمة مع شقيقه فسأله “يوسف” باهتمامٍ:
_فيه حاجة ولا إيه ؟؟.
جاوبه بنبرةٍ عادية يخبره بما حدث سابقًا:
_لأ عادي، دا “إيـهاب” بيتطمن عليا آه صح، “عادل أبو الحسن” جاله أزمة قلبية وراح المستشفى، “سراج” لحقه بأعجوبة بعدما وقع في جنينة البيت لوحده، بس اتحسن يعني دلوقتي.
انتبه “أيـوب” للحديث فقال “يوسف” بنبرةٍ ضاحكة:
_عاوزك تجهز زير مُعتبر كدا دي أزمة قلبية يعني مش حاجة هينة، ولا إيه يا أسطى “أيـوب” ؟.
ضحك له “أيـوب” وقال بسخريةٍ هو الأخر ردًا على الأخر:
_إن شاء الله من عيني، أبقى هات معاك شوية بترول بقى في إزازة حلوة كدا، ولا إيه يا بشمهندس “يوسف” ؟.
كان يرد عليه بنفس طريقته مما جعل الضحكات تنتشر عليهما فيما نطق “إسماعيل” متأسفًا لهم لكي يرحل من المكان بقوله:
_عن اذنكم يدوبك هتحرك علشان متأخرش.
أوقفته “أسماء” بقولها تعاتبه:
_ما أنتَ قاعد معانا “عُـدي” زمانه جاي مع باباه دلوقتي هو بس راح معاه مشوار مهم تبع الشغل، خليك زمانهم جايين.
هتف بأسفٍ لها بعدما ازداد حرجه منها:
_والله شرف ليا أني استناهم يا أمي، بس مرة تانية دلوقتي يدوبك هتحرك علشان أخويا مستنيني ولازم أروح قبل ما الحج ييجي، المرة الجاية هاجي واقعد معاهم كمان.
هتفت “غَـالية” في هذه اللحظة بملامحٍ بشوشة:
_المرة الجاية هتكون عزومة حلوة تقضوا معانا فيها اليوم كله من الصبح لأخره، بما إنكم أخوات “يوسف” مش غرب عنه ولا إيه بقى ؟؟.
أكد لها حديثها برأسه ثم قرر أن يتحرك فتحدثت “غالية” بتلقائيةٍ لابنة شقيقها:
_لو معاكي المفتاح بتاع الأسانسير شغليه يا “ضُـحى”.
زفرت بقوةٍ ثم سبقته نحو الخارج وتبعها “إسماعيل” إلى الخارج حتى صعد المصعد وفتحته تشير له بآلية شديدة جعلته يقول بسخريةٍ:
_فيه حد يعامل ضيوفه كدا ؟ أنتِ لما جيتي عندنا عملنا كدا ؟؟ إكرام الضيف واجب، مفيش ذوق خالص؟؟
هتفت في وجهه بنبرةٍ جامدة تقطع استرسال حديثه:
_خــلاص يا عـم، أشيلك فوق راسي يعني؟ نورت يا عم الضيف، بتعمل هنا إيه بقى ؟؟ اتفضل أركب الأسانسير.
ذُهِلَ من طريقتها بينما هي تنفست بعمقٍ ثم حدثته بنبرةٍ هادئة على عكس السابق وهي تقول:
_معلش تعبناك معانا، نورت يا كابتن “إسماعيل”.
رفع كفه بجانب رأسه يشير بعلامة الجنون وهو يقول بسخريةٍ:
_أنتِ ؟؟ مجنونة صح؟..
ضيقت جفونها ثم رفعت قدمها تضغط على كف قدمه ثم تركته وضغطت على زر المصعد وهي تقول باستخفافٍ به:
_نورت يا كابتن، متبقاش تيجي المرة الجاية بيت المجانين دا، أحسن ياكلوك، يا سَمج.
_يلا يا مطرقعة.
كان هذا قوله حتى ضغطت على فكيها من فرط غيظها وتركته تتوجه نحو الداخل بينما هو رغمًا عنه وعن أنفه ابتسم، فتاةٌ غريبة مثل هذه يراها للمرةِ الأولى في حياته، تختلف عنهن جميعًا، لا توجد مثلها ولربما يوجد لكنه لم يراها والآن هو يراها أمامه، اتسعت ابتسامته أكثر وشعرَ بشيءٍ غريبٍ يساوره، هو من الأساس لم تلفت نظره الفتيات وكلهن سواءٍ، لكن هذه بارعة في خطفه، مشاغبة بدرجة طفلة واعية بدرجة آنسة كُبرى،تحولت بسمته إلى ضحكة خافتة حينما توقف به المصعد وخرج منه ويبدو أن هُناك شيٌ سُرِق منه لم يلحظه حتى الآن.
__________________________________
<“أنا هُنا وأنتَ هُنا، إذًا أنا والأمان هُنا”>
تحركت العائلة تِباعًا خلف بعضهم ومعهم “أيـوب” الذي فلت منهم بأعجوبة وهم يتمسكون ببقائه معهم، تحرك نحو محل عملهِ يُتمم على شئونه المُهملة طوال اليوم، بينما “يـوسف” ظل محله فوق السطح وقد صعدت له “عـهد” من جديد، لم تفهم لماذا ولم يعلم هو لما اطمئن حينما صعدت له، رفع عينيه نحوها فوجدها تقول بلهفةٍ:
_ممكن أقولك حاجة ؟؟
حرك رأسه موافقًا رغم تعجبه من طريقتها الغريبة والحزن البادي في نظراتها، فيما سحبت “عـهد” نفسًا عميقًا وقالت بصوتٍ مختنقٍ كأنها تحاول وقف البكاء:
_لو ناوي تمشي أمشي أحسن من دلوقتي، أمشي قبل ما أخد عليك زي ما خدت عليه في يوم وصحيت ملقتهوش جنبي، أمشي قبل ما أتطمن إن فيه حد بيطمني وأرجع أخاف تاني، أمشي علشان أنتَ جيت هنا غريب و الظروف بتجبرك تفضل هنا.
نزلت دموعه وهي تطلب منه الرحيل في حين أن كل مافيها يتوسله أن يبقى، لاحظ هو الصراع البادي عليها وأنها تتحدث بعكس ما تحمله داخل قلبها، تباين كلماتها أعرب عن تضارب مشاعرها لذا اعتدل في جلسته وأشار نحوه حتى أقتربت منه بعدما استعادت جزءًا من ثباتها، فيما حرك جسده حتى أصبح مقابلًا لها وسحب كفها البارد بين كفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أمشي أو مامشيش مش بأيدي ومش باختياري، أنا مش أناني علشان أمشي وأسيبك بعدما بقيت في حياتك، مش هعرف أخون إنك اتطمنتي ليا، أنا معنديش فعل قوي أو حتى كلام أقوله غير أني هفضل هنا أنا هنا علشانك، الحاجة الوحيدة اللي تخليني أمشي يا “عـهد” هي إنك تقوليلي أمشي، إنك تقفي قصاد عيوني تقوليلي أرجع مكان كنت، غريب زي ما أنتَ، غير كدا مش بإرادتي هقدر امشي.
رفعت عينيها نحوه وهي تقول بنبرةٍ مختنقة تعبر عن مشاعرها التي أختبرتها اليوم بسببهِ:
_عارف ؟ أنا كنت فكراك عني غريب، وإنك مجرد حد دخل الحياة زي أي حد وماشي تاني، بس…بس النهاردة أنا حسيتك هو، حسيتها في كل حاجة، حتى لما حضنتني، أنا آسفة إني علطول بحسسك إنك تقيل أو غريب، بس أنتَ مش كدا، الغريب في الموضوع إنك غريب عني، إنك مش مني بس أنتَ هو.
كانت تقصد والدها وبكت أمام “يوسف” الذي شعر بها وبحديثها وأدرك مقصدها ثم رفع كفه يمسح دموعها وقال بنبرةٍ هادئة رخيمة:
_أنا مش غريب عنك يا “عـهد” ولو غريب فأنتِ بقيتي الأرض اللي الغريب لقى فيها نفسه، ولو كنت غريب عن نفسي حتى فمش غريب عنك أنتِ.
كان صادقًا كعادته، عيناه دومًا صادقة كما قلبه الذي يحركه نحوها وكما لسانه الذي يهتف بصدقٍ يُخبرها أنه هُنا، عيناه الصافيتان ودفء كفه كل هذا جعلها تُحرك رأسها موافقةً ثم تركت موضعها واقتربت من اللوح الخشبي تكتب عليه جُملةً جالت بخاطرها:
_”أتيتُ إلىٰ ديارنا غريبًا عَنَّا،
فَأصبحَ كُل ما فِيها لكَ مملوكًا”
تحرك يقف بجوارها يقرأ ما كتبته هي ولم يُصدق أن الصدأ الذي تكون فوق قلبه حتى تيبست حركته ازالته هي بكلماتٍ صادقة مثل هذه، جملة بقدر بساطتها لكنها جعلت قلبه ينتفض من محلهِ، تُرى ما هو المملوك له هُنا؟ تطلع عليها لترمقه بسهامها السوداء تبتسم له وكأنها ترد له جميله بهذه الطريقة وللحق حديثها كفى ووفى دينه، أما هو فأخذ منها القلم يرد عليها بقوله:
_”أتيتُ إليكم وكنتُ غريبًا
ومَن المُفترض أن دياركم لي هي المَمر،
فتفاجئتُ بقلبي يَسكن هُنا وأتخذها له المقر”.
بكلماته عَبر هو الأخر عن حالته، لقد دلف البيت وكان غريبًا عن الجميع فاقدًا حتى لنفسه وهذه الديار للوصول إلى ما يريده كانت هي الممر، لكن هُنا وجد كل ما يخصه وأهمهم نفسه وأصبحت هذه الديار من بعد اقترانه بها هي المقر الدائم، تلاقت النظرات من جديد كما تلاقيا سويًا والنظرات تنطق بدلًا عنهما حديثًا يُشابه ذاك الذي نطقته القلوب في ساعات النهار وخاصةً قلبها الذي هتف:
_أنا هُنا وأنتَ هُنا، إذًا أنا والأمان هُنا.
ليرد عليه قلبها من خلال نظراته بقولها:
_لقد تلاقينا مع الشبيه هُنا، وجدتُ من يُطمئني هُنا.
__________________________________
<“فرصة لم تكن سعيدة، نحن من توهمنا ذلك”>
كل شيء قد يكون واردًا في هذه الحياةِ ويمكن لخيالك أن يتوقعه إلا أن يأتي اليوم الذي تجد أقرب الأقرباء لكَ عنك غُرباء، من كانت نظرتهم لكَ هي الحياة أصبحت تقتلك مثل السكين الحادة، كلما تلاقت نظرات “نـور” بـ “سراج” يحاول أحدهما الهرب ناهيك عن نظرات الجالسين التي تعلم ما يدور من صراعاتٍ بينهما.
دلف الطبيب في هذه اللحظة بكل عمليةٍ يفرضها عليه عملهُ وفي يده التقارير الطبية وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حمدًا لله على سلامتك يا “عـادل” بيه، خضتنا كدا كلنا عليك؟؟ على العموم بكرة إن شاء الله تقدر تخرج من هنا بس ياريت تتابع النظام بتاع حضرتك وتلتزم بجلسات الأكسجين بتاعتك وأي مجهود عليك بلاه خالص.
هز رأسه مومئًا فيما تحدثت “نـور” تسأله بلهفةٍ قلقة:
_طب والأزمة دي هتكرر تاني؟.
تطلع إليها الطبيب يخبرها بأسفٍ:
_لو مهتمش بنفسه للأسف هتتكرر بس إحنا الحمد لله في تحسن كبير، المفروض يراعي بس نفسه ويبطل يضغط عليها، لأن القلب مينفعش معاه استهتار، على العموم ألف سلامة وبكرة آخر النهار يقدر يخرج، عن إذنكم.
وقف “نَـعيم” في هذه اللحظة بعد خروج الطبيب يقول بنبرةٍ هادئة من وجهه المُبتسم وملامحه البشوشة:
_طب نستأذن إحنا بقى علشان حضرتك ترتاح شوية وإن شاء الله متكررش تاني، ربنا يديم عليك الصحة.
وقف “مُـحي” هو الأخر ونظر لـ “سراج” الذي تحرك مقتربًا منهما وقال بنبرةٍ هادئة يوجه حديثه لوالد الفتاة:
_أنا كدا مضطر استأذن، بكرة هاجي أتطمن عليك وأوصلك لحد البيت، ألف سلامة عليك ياريت تخلي بالك من نفسك.
وزع “عـادل” نظراته بينه وبين ابنته التي ارتبكت في الحال وتخبطت مشاعرها ببعضها، خاصةً وهو يستعد للرحيل من المكان، فيما تحرك الآخرون خارج الغرفة لتتحدث حينها “زيـزي” بشفقةٍ عليه:
_مسكين أوي “سـراج” شاف كتير ولسه بيشوف ومع ذلك بيحاول بكل طاقته، تعب معانا أوي وعمل كل اللي عليه وزيادة، ربنا مرزقش “عادل” بولاد بس كرمه بواحد زي “سـراج”.
زاد ارتباك الأخرى من حديث عمتها واقتربت من والدها تجلس على طرف الفراش بجواره ثم احتضنته وهي تفكر في الظروف التي آلت بها إلى هُنا بين ليلةٍ وضُحاها، في طَرفة عينٍ أتت إلى مصر بعد غيابٍ عنها دام سنتين وأكثر بعدما خططت لغيابٍ أكثر بكثيرٍ.
في الخارج وقف “نَـعيم” مع “سراج” يحدثه بقوله الهاديء الذي تتدلى منه الحكمة وظهرت جليةً في كلماته:
_عاوزك زي ما أنتَ ثابت كأنها مجاتش أصلًا، اللي عليك عملته وزيادة أوعى تخليك تضعف وتقلل منك، كلنا شاهدين على اللي حصل في غيابها، عاجبها أهلًا وسهلًا، مش عاجبها مع ألف سلامة، بكرة هكون مجوزك غيرها وتتمناك كمان.
ابتسم له “سراج” وهتف بنبرةٍ مُتعبة تُثقلها الهموم وتزداد فوق عاتقه خاصةً بعد ظهورها:
_أنا أصلًا معنديش طاقة أحاول، خلاص اللي عليا واللي بأيدي عملته، اللي فاضل يدوبك ألحق أصلح اللي باقي مني فيه، لكن غير كدا مش هقدر.
تنهد “نَـعيم” بثقلٍ ثم قال بقلة حيلة:
_طب يلا معانا، يلا علشان تروح ترتاح وتاكل لقمة أنتَ من الصبح مكالتش حاجة و “جـودي” عاوزة تشوفك.
أخبره بنبرةٍ هادئة وأسفٍ يُعلمه بالأمرِ قبل أن يرحل معه:
_بس أنا هرجع بيتي تاني علشان حاجتي وعلشان أقدر أجي المستشفى الصبح وأكون معاه، وقبل ما تعترض دي آخر حاجة وهختفي تاني.
تحركوا مع بعضهم لكن في سيارتين، السيارة الأولىٰ لـ “نعيم” وابنه والسيارة الثانية تخص “سراج” الذي تحرك بها لكي تعينه على مشاويره الباقية الخاصة بهذا المَشفى ومن يقبع بداخلها.
“في منطقة نزلة السمان”
كان “إيهاب” يُحارب نفسه وتبعه حتى لا ينام قبل عودة صحاب الدار، كان يجبر ذاته على التركيز مع “جـودي” التي كانت تلعب أمامه في فناء البيت الرملي و “سمارة” تلعب معها بين حينٍ والأخر حتى جاورته هي وضربته في كتفه بكتفها وقالت بنبرةٍ ضاحكة:
_ما تصحصح يا “عمهم” بتنام مننا ليه؟
تثاءب من جديد ثم وضع رأسه على كتفها وهو يقول بنبرةٍ ضائعة لكنها صادقة خرجت منه وكأنه في بين النوم والإيقاظ:
_عارفة ؟؟ لو مش أنتِ هنا كان زماني نايم وضارب الدنيا طناش أصلًا خصوصًا إن “إسماعيل” وصل خلاص، بس بحب شكلك وأنتِ مع “جـودي” أوي بحب حُبك ليها وفرحتك معاها، وبحبك كلك بعضك يلا مش خسارة فيكِ.
ضحكت على قوله وضحك هو أيضًا فوجدها تقول بحنقٍ:
_بتنشف ريقي علشان كلمة حلوة وفي الأخر طلعت تقولها وأنتَ بتنام ؟؟ حلو كدا عرفت طريقتك إيه بعد كدا هجيلك في كوابيسك أخليك تمشي تغنيها.
رفع رأسه يطالعها بنظرةٍ صادقة يرمقها بها حين ينطق مُعبرًا عن مشاعره وهتف بنبرةٍ رخيمة:
_أغنيها مرة واحدة ؟ على العموم مش محتاجة إثبات إنك الحاجة الوحيدة اللي خلت ابن “الموجي” يعصى نفسه ويمشي عكس كيفه ويخالف هواه، علشان بقى هاويكِ أنتِ.
ابتسمت له بملامح أشرقت مثل شروق الشمس لأجله هو، الطفل الصغير الذي تعذب كثيرًا في حياته يراها دومًا مثل الشمس الساطعة من بعد غيومٍ كثيفة غطت دربه، لذا رفع كفه يمرره على عينيها المُبتسمتين لأجله ثم قال بنبرةٍ هادئة يسألها:
_طب مش حرام على عيونِك يدوخوني كدا؟
أقتربت “جـودي” منهما تسأله بتعجبٍ:
_أنتَ بتقولها إيه ؟ عاوزة أعرف.
ضحكت “سمارة” على قول الصغيرة فيما هتف هو بصراحةٍ يخبر الصغيرة بما قاله دون كذبٍ أو تزييفٍ:
_بقولها مش حرام على عيونِك يدوخوني كدا؟
انكمشت ملامح الصغيرة وسألته بحيرةٍ أكبر من قدر فهمها لكلماته المُبهمة:
_وبتقولها كدا ليه ؟ أنتَ هيغمى عليك؟
حملها على قدمه يحتضنها بذراعيه وهو يقول مفسرًا بنبرةٍ ضاحكة:
_علشان أنا بحب عيونها فبقولها كدا.
حركت رأسها نحوه تصل نظراتها بنظراته وسألته بحماس طفلة صغيرة وتمازحه بقولها:
_طب أنا عيوني زرقا هتقولي إيه ؟؟
فكر قليلًا ثم قال بنبرةٍ هادئة يمازحها:
_هقولك مش حرام على عيونِك يغرقوني فيهم؟.
صفقت بكفيها معًا حتى وجدت سيارة خالها تصف وخلفها سيارة “مُـحي” فركضت من محلها فيما وقفا الإثنان حتى دلفوا الآخرون لهم وحمل “سـراج” الصغيرة بين ذراعيها يحتمي بها وكأنها هي أخر ما تبقى له في عالمه، بدلًا من أن تحتمي هي به، كان هو يحتمي بها بعدما هاجمته ذكريات مريرة أقوى من قدرة عقله على تحملها.
__________________________________
<“مَطروف العَين بها، لا أقوى سوى على النظر لها”>
جلس “أيـوب” في حديقة منزله الفارغة بعد عودته وقد وجدهم نائمين، حينها قرر أن ينعم بالجلوس في هذا الليل يقرأ في أحد الكُتب الخاصة بالفكر الإسلامي ومما يساعده في تطور دراسته، غاص في صفحات الكتاب وتعمق لكن هناك ما لفت نظره وربما أظهر خوفه، صوت قطرات الماء في دلوٍ فارغٍ، هذا الصوت يعرفه جيدًا، لوهلةٍ هجم عليه وحشٌ يتخفى بهيئة الذكريات التي تراوحت بين القريبة والبعيدة، أغلق الكتاب والتفت ينظر خلفه ليجد الدلو الخاص بصنور الحديقة، حينها أطلق زفيرًا قويًا واتجه له يُغلق الصنبور.
تزكر أيام إعتقاله وأيام محبسه الفارغة حينما كانت تستخدم هذه الطريقة في تعذيبه نفسيًا قبل أن يتلقاه بدنيًا، حينها حاول ضبط نفسه وتذكرتها أن هذا ماهو إلا ماضٍ ومر برحمة الخالق على قلبه، وتذكر أمر “قـمره” تلك التي طرفت عينه دونًا عن غيرها لذا سحب الهاتف دون تفكيرٍ يطلب رقمها حتى جاوبته هي بحماسٍ:
_ابن حلال، لسه كنت هكلمك أقولك صحيني للفجر أخي في الله علشان عاوزة انام أقسم بالله فصلت خلاص.
ابتسم رغمًا عنه وقال مستسلمًا ثم بدل حديثه بأخرٍ:
_حاضر، بس أنا كنت مكلمك علشان…علشان بصراحة عاوز أقولك إني عاوزك معايا يا “قـمر” عاوزك في بيتي، عاوز زي دلوقتي كدا لما أحس أني متلغبط أجيلك، معرفش ليه بقولك كدا بس أتمنى في أقرب وقت بيتي ينور بيكِ.
دق قلبها من مجرد التخيل فقط، فكرة أن يجمعها به بيتٌ واحد تشاركه فيه كل شيءٍ جعلتها تتحمس أكثر منه ذات نفسه، وأرادت أن تخبره بمدى فرحتها بهذا الحديث لذا هتفت بخجلٍ فطري لأي فتاةٍ في موقفها:
_بص هو أنا دلوقتي مكسوفة، بس بصراحة فكرة إن بيت واحد أكون معاك فيه دي أكتر حاجة أمان في الدنيا كلها، فكرة إن بعد الدوخة دي كلها وحياة غريبة مفروضة عليا أطلع نصيبك وتطلع نصيبي دي أكبر بكتير من أحلامي يا “أيـوب” فيا رب اجمعنا مع بعض بخير.
اطمئن وابتسم بمجرد تلقائية حديثها التي أخبرته عما تحمله في قلبها له، وهو أيضًا يحمل في قلبه كثيرًا لها لذا أغلق الهاتف معها بعدما دار بينهما حديثٌ عابر اطمئنا من خلاله على بعضهما فيما فتح هو صفحته الشخصية ثم كتب منشورًا بها يخصها هي:
_قالت العرب قديمًا:
“‏مَطرُوفُ العَيْنِ بِفُلانة”
أي: لا ينظُرُ إلّا لَها.
وقال الشيخ “أنس”:
المُحِبُّ إذا حُرِم الوصال مع حبيبه لو قاعد وسط ألف واحد يظلُّ مُستوحِش!
أي أنه في غُربة حتى وسط الناس
وقال الشيخ “كمال المرزوقي” حينما سُئل عن روحه:
_”عِندها لكنها لا تدري”.
ويقول “أيـوب” العبد الضعيف:
_حييتُ معكِ من بعد كل كُربةٍ ربيعًا
وكأن أرضي لما يَمسسها يومًا الخراب”.
أنهى كتابة هذا المنشور ثم ابتسم وقبل أن يضغط على زر النشر أضاف أسفل المنشور كلمة العرب التي توصفه:
_”مَطروف العين بضي القمر”.
نشر المنشور الخاص به وهو يبتسم بصفاءٍ، فكرة أنها أحب وطال من حبها تُشبه من عشق ضي القمر وصعد إليه يومًا، أما هو فعشق القمر بذات نفسه، الحُب الذي قرأ عنه في القصص الإسلامية من الصحابة وحينما تعلم الحب على طريقة أشرف الخلق ﷺ لم يحضر بذهنهِ حينها أن يحب ويعيش على أملٍ مثل أمل الحُب،
لكنها القلوب وفي الحُب من لهفتها
وأمام من تصفو له تذوب.
__________________________________
<“النهار الجديد بشمسه ظهر لنا، فلما الظلام؟”>
في صبيحة اليوم الموالي قبل صلاة الظُهر كان “تَـيام” في محل “بيشوي” يُتابع معه خروج الطلبات التي أرادها من المخزن حتى صدح صوت هاتفه وجاوب على الإتصال دون أن ينتبه لصاحب الرقم فوجدها ابنة خالته التي عاتبته بقولها على إهماله في تواصله مع أفراد العائلة ليقول هو بضجرٍ:
_معلش بقى يا “نيرة” والله مش فاضي والدنيا مشاغل، قريب هجيب أمي وخطيبتي وأجي، قريب إن شاء الله.
تعمد الاتكاء على كلمة خطيبته حتى يُلفت نظرها مما جعلها تُسرع في إغلاق المُكالمة معه، بينما “بيشوي” ضحك على طريقته وترك مقعده ووقف جواره يهتف وهو يوضح له تفاجئه بشخصيته:
_عارف ؟؟ أنا آسف يعني بس أنا ظلمتك كتير، يعني كذا مرة أقول الواد مش هيتحمل خطوبته من “آيـات” وهيزهق، كل مرة كنت بقول إنك هتفقد طاقتك خصوصًا إنها جد أوي في حوار الخطوبة الشرعية دي، بس فاجئتني، لقيتك راجل وبصراحة طلعت تستاهل “آيـات” متزعلش مني بس هي زي أختي ومتربية في بيتنا يعني اللي ييجي عليها أدوسه.
ابتسم له “تَـيام” وهتف بنبرةٍ هادئة وقورة على عكس طبعه المرح دومًا:
_علشان هي متستاهلش غير أني أكون استاهلها، مكدبش عليك ساعات بضعف، وبحتاجها وبحس أني عاوز أتكلم وأشاركها بس برجع أخاف، “آيـات” أنضف من أني أقل بأصلي معاها، أنقى من أني أعصي ربنا فيها وأجمل من أني أخليها تتنازل عن شخصيتها بسببي، عاوز أقولك إن أنضف حاجة عملتها في حياتي هي أني اتمنيت “آيـات” وربنا كرمني بيها، يبقى مش قدامي غير أني أحافظ عليها.
ابتسم “بيشوي” بفخرٍ نطقته نظراته وقد لمح “مهرائيل” تمر أمام محل عمله فترك رفيقه وهو يقول بمراوغةٍ:
_طب عن إذنك بقى علشان أروح أحافظ أنا كمان.
ضحك الأخر بقلة حيلة فيما تتبعها “بيشوي” حتى جاورها وسألها أثناء سيره بجوارها دون أن يوقف خطوات أيًا منهما:
_رايحة فين بدري كدا ؟؟ إحنا لسه بنستفتح.
جاوبته بوجهٍ مُبتسمٍ ببشاشةٍ:
_رايحة الكنيسة، هصلي وفيه حاجات هبعتها للأولاد هناك عملتها بأيدي الميس عاوزاها علشانهم، أنتَ رايح فين بقى؟
ابتسم لها وهتف بنبرةٍ هادئة تلقائية دون تجميل لحديثه:
_جاي أوصلك مش في مقام خطيبك؟ اعتبريني قاري فاتحة زي “آيـات” و “تَـيام” كدا ولا مش قد المقام يا “هيري”؟.
ابتسمت بخجلٍ ثم هتفت بنبرةٍ متوترة:
_قد المقام وزيادة كمان، بس الغريب بقى إنك معايا في نفس الخطوات والطريق، مين كان يصدق إن الطُرق تتلاقى مع بعضها بعدما كانت شبه مقطوعة.
نظر أمامه فوجد الكنيسة التي تقرب من بيوتهما كثيرًا لذا حينما استعدت للدخول قال هو بنبرةٍ رخيمة يعبر بكلماتٍ صادقة حينما طالعته بسهامها الخضراء تُظلل عليهِ من حرارة الشمس من خلال عينيها الضاحكتين:
_زي ما اتكتب للقلوب تتقابل وتتلاقى مع بعضها وهما ميعرفوش بعض، وزي ما العيون بقت تطمن للعيون التانية وهي مش منهم، وزي ما كل اتنين غُرب بقوا مع بعض كأنهم واحد في الأخر، سواء قصد أو من غير قصد، الطُرق اتلاقت وحبال الوصل اتمدت ببعضها.
تضرج وجهها بحمرةِ الخجل وفرحت عيناها بحديثه وقفز قلبها في محله فيما هتف هو من جديد مشيرًا برأسه نحو المكان:
_ادخلي يلا يا “هـيري” وخلي بالك.
حركت رأسها باستفسارٍ تغلفه الحيرة فوجدته يغمز لها وهو يخبرها بمراوغةٍ:
_من أشجار الزيتون.
التفت بعد كلمته ببسمةٍ تراقصت على شفتيه وعزفت على أوتار فؤاده أعزب الكلمات التي قرأها في حياته من وسط كل العاشقين الذين حُكِمَ عليهما الفراق قبل الذين كُتِبَ لهما التلاقي، أما هي فالتفتت بحماسٍ شديد عاد لحياتها بالتزامن مع دخوله هو، صاحب القوة الاعظم على الفؤاد أصبح الأن الملك في العناد، تحدى والدها وحصل عليها ليعلن أنه الحارس الأمين للأميرة القابعة بداخل القصر.
__________________________________
<“المرة الأولى وقعنا في الفخ، تلك المرة هو وقع فينا”>
قاد سيارته صباحًا وخرج إلى عمله يتابع شئونه ثم خرج إلى حيث عملها هي، أمسك دفترها التي تركته بدون قصد في بيته وأوقف السيارة هُنا أمام مكان عملها، كعادته يأخذ الحُجة من أي شيءٍ والغرض هو لقاؤها هي ذات نفسها، تلك المرة لن يقع بالفخ مثل المرة السابقة، لن يتهور مثلما فعلها سابقًا.
أخرج هاتفه يطلب رقمها حينما وصل لفناء المدرسة التي تعمل بها مُعلمة لغة إنجليزية، وقف يرتدي نظرات الشمس السوداء بهيبةٍ فارضة جعلت الأعين تتعجب من تواجده بهذا المكان بمفردهِ وخاصةً حينما نزلت “نِـهال” له من الأعلىٰ، حينها انتبه لها وانتصب في وقفته وهي تقترب منه ثم قالت بعدما أجبرت شفتيها على الابتسام له:
_أنا متأسفة على التعب دا، بس فيه إشراف كمان شوية ولازم يكون معايا، متأسفة جدًا مرة تانية.
خلع نظراته ثم مد يده بالدفتر وهو يقول بثباتٍ:
_لأ متقوليش كدا إحنا اللي آسفين بنيجي عليكِ ومخليين عينك وسط راسك، بس إن شاء الله مش هتتكرر تاني.
_إن شاء الله،
قالتها له بتوترٍ عجيب فيما لاحظ هو ذلك لذا فجر قنبلته الأخيرة ضاربًا بكل القرارات عرض الحائط حين هتف بما لم يتوقعه أحدٌ حتى هي ذات نفسها:
_تتجوزيني يا “نِـهال” ؟؟.
اتسعت عيناها حتى أوشكتا على الخروج من محجريهما، وتثبتت حركة بؤبؤيها وفرغ فاهها بصدمةٍ كُبرى، جعلته يُضيف من جديد:
_طب فاضية علشان أجي أطلب إيدك ولا وراكِ تحضير؟.
طريقته الغريبة في تقديم عرضه وتوقيته الأغرب وكل شيءٍ يفعله هذا الشخص الغريب يبدو أنه فقد عقله أو ما شابه ذلك، هل يُعقل أن يتقدم للخِطبة هنا في المدرسة؟ وفي الصباح، من الأساس إذا كان في المساء أيضًا هل كان يُعقل، وقفت تحدث نفسها أمامه في حين أنه فقط ينتظر الجواب أو لربما نتيجة ما تفوه به العقاب.
________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى