روايات

رواية غوثهم الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والخمسون

رواية غوثهم البارت الثاني والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثانية والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
النورأشرق فى الوجود جميل.
و الصبح للكسب الحلال سبيل.
يسعى العباد إذا أهل بنوره.
للرزق فى أمن به موصول.
و الصبح من آيات ربى خالقى.
و على وجود الله فهو دليل.
جعل الصباح لكدنا و لسعينا.
و السعي فى أضوائه مقبول.
نور الصباح على الوجود هدية للخلق.
حين يهدى الصبح اشراق سناه
يسكب الطل رحيقاً من نداه
موقذاً بالنور أجفان الحياة.
_”النقشبندي”
__________________________________
سبحان الخالق مقلب القلوب
الذي جعل قلبًا مثل قلبي زاهدًا يغدو لضوء قمرٍ عاشقًا
وسبحانه من جعل العَينِ تُطرف بها
ولم تقوى على النظر إلا لَها..
وسبحان مَن كتبَ للقلب الزُهدِ عن الحُب وكل ما سوى،
ليصبح عند عينيها مسحورًا وكأنه فيهما هَوىٰ،
فقلبي يُحدثني وبرغم كل كُربةٍ إنكِ عِند خُطاكِ داخل أرضنا ستكونين كما حلول الربيع،
فحتى وإن ذوقنا بالأمسِ المُر،
فمؤكد سيأتي نهارٌ نعيشه ونحنُ نحيا بِحلو الحياة…
فأنا مَعُكِ وإن كنتُ مَطروف العَينِ
أتساءل خطايا بدونك سترسى إلى أين؟.
<“فُرصة ذهبية، لكني بشرتي تتحس من الذهب”>
_لأ متقوليش كدا إحنا اللي آسفين بنيجي عليكِ ومخليين عينك وسط راسك، بس إن شاء الله مش هتتكرر تاني.
_إن شاء الله.
قالتها له بتوترٍ عجيب فيما لاحظ هو ذلك لذا فَجر قنبلته الأخيرة ضاربًا بكل القرارات عرض الحائط حين هتف بما لم يتوقعه أحدٌ حتى هي ذات نفسها:
_تتجوزيني يا “نِـهال” ؟؟.
اتسعت عيناها حتى أوشكتا على الخروج من محجريهما، وتثبتت حركة بؤبؤيها وفرغ فاهها بصدمةٍ كُبرى، جعلته يُضيف من جديد:
_طب فاضية علشان أجي أطلب إيدك ولا وراكِ تحضير؟.
طريقته الغريبة في تقديم عرضه وتوقيته الأغرب وكل شيءٍ يفعله هذا الشخص الغريب يبدو أنه فقد عقله أو ما شابه ذلك، هل يُعقل أن يتقدم للخِطبة هنا في المدرسة؟ وفي الصباح، من الأساس إذا كان في المساء أيضًا هل كان يُعقل، وقفت تحدث نفسها أمامه في حين أنه فقط ينتظر الجواب أو لربما نتيجة ما تفوه به العقاب؟
رفرفت بأهدابها كأنها تُجلي عينيها حتى تتأكد مما تراه وتمسعه، هذا العرض الغير متوقع بتاتًا منه في هذه اللحظة وقد لاحظ هو رد فعلها فاقترب منها خطوة أخرى يفصل المسافات بينهما وهو يسألها بثباتٍ:
_موافقة ولا لأ؟.
اندفعت تسأله بتعجبٍ شديد القوة حتى اتضح هذا في لهجتها:
_أستاذ “أيـهم” حضرتك واخد بالك بتقول إيه ؟ جواز إيه دا اللي حضرتك بتعرضه عليا ؟؟ أومال لو مش عارف اللي فيها بقى ؟ عن إذنك.
كادت أن تلتفت وتوليه ظهرها لكنه قطع الطريق عليها ووقف أمامها ينطق بنبرةٍ أجمد:
_عارف كل حاجة ومفيش حاجة هتفرق معايا، بس أنا عاوز اتجوزك علشان عاوزك معايا، علشان تكوني مع “إيـاد” علطول ومن قبله أنا كمان.
التفتت توليه ظهرها بتخبطٍ أصاب مشاعرها في هذه اللحظة حتى الرفض لم تقدر عليه، وكأنها كانت تنتظر هذا الشيء منه حقًا !! رفع صوته أعلى عن السابق قليلًا وهتف يخبرها بما بعثر ثباتها على أخره:
_طب أنا عرفتك قبل ما أروح للحج.
التفتت في هذه اللحظة بحركةٍ بدت عنيفة رغمًا عنها فوجدته اختفى في لمح البصر وكأنه سرابٌ يسير كما الهواء دون أن يُصبح ملموسًا، أصابها الذهول من هذا الحديث ثم توجهت نحو غرفة المُعلمين تجلس بها وهي تشعر أن قلبها أوشك على المغادرة من محلهِ، سُرِقَ منها سكونها وبعثر ثباتها لكن ما هذا !! هناك فرحة غريبة ترفع ذراعها في الهواء لكي تلوح وتُخرِج نفسها بداخلها وللحظةٍ تذكرت زيجتها السابقة والمعاناة التي عاشت بها فأصبحت من الداخل كما يُقال “بين نارين”.
خرج “أيـهم” من المدرسة ونظر في ساعة يده وقد تأكد أن والده في هذا التوقيت توجه إلى محل عمله وحينها تأكد أن خطوته لم يجب أن تتأخر عن هذا، يتوجب عليه أن يُخبر والدها ويطلب يدها لكي تُنير بيتهِ بتواجدها كما كانت أملًا أحيا ما مات بداخله في تجربةٍ سابقة.
__________________________________
<“اختيارك خاطيء ونتيجته مُرضية”>
في مقر العمل صباحًا بشركة “الراوي”.
كانت “رهـف” في محل عملها بالمكتب الذي يُخصها وقد انهمكت كثيرًا فيما تفعله حتى أنها تقريبًا نست الوقت إن كان صباحًا أو مساءً، ولم تنتبه إلا لصوت طُرقات فوق باب مكتبها جعلتها تسمح للطارق بالدخول وقد دلف من لم تتوقعه هي حيث وجدت أمامها “نـادر” وهو يسألها بسخريةٍ:
_ممكن أدخل ؟؟ ولا هتضربيني بالمكتب فوق راسي؟.
زفرت مُطولًا وأشارت له كي يلج لها وهي تقول بسخريةٍ:
_اتفضل، خير إن شاء الله.
جلس أمامها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_جاي أسلم عليكِ علشان أنتِ واخدة جنب لوحدك وبصراحة مش لاقي حد أستفز فيه غيرك، قولت أنتِ أولىٰ بقى.
رفعت حاجبيها بسخريةٍ وقد ضحكت بخفةٍ رغمًا عنها فوجدته يقول لها بنبرةٍ أهدأ بعدما وجد اللين بدا واضحًا عليها:
_طب أنتِ عارفة إنك ليكِ غلاوة خاصة عندي وبما إنك قاعدة لوحدك والبيه مش هنا قولت أجي أشوفك واتكلم معاكِ
زفرت هي بقوةٍ ثم حدثته بنبرةٍ جامدة تُدافع عن رفيقها الأخر بقولها:
_مالكش دعوة بيه لو سمحت، اسمه “يـوسف” بعدين خير جاي تقولي إيه وسايب الكونتيسة بتاعتك ؟ روحلها قولها اللي أنتَ عاوزه، وسيبني وسيب “يوسف” في حاله.
زفر مُطولًا ثم قال بنبرةٍ يائسة بحديثٍ ليس له علاقة بما هتفته هي:
_أنا مش مبسوط يا “رهف” ومش عارف أكون مبسوط، مفيش حد فاهمني ولا حد حاسس بيا، ما صدقت الفترة الأخيرة أصلح علاقتي بماما و “شـهد” وأنتِ طول عمرك أخت ليا فمش حابب يكون فيه أي حاجة بينا تخليكِ تزعلي مني، ممكن؟.
زفرت بقوةٍ في وجهه وبدت عليها الحيرة ثم تركت محلها واقتربت من مقعده تجلس مقابلةً له وهي تقول بحيرةٍ ازدادت أكثر بعد حديثه:
_عارف !! ساعات بحسك طيب وغلبان بس معمولك غسيل مخ وساعات بحس إنك ندل وحقير، الحاجة الوحيدة اللي مخلياني أبص في وشك هي إنك سمعت كلام باباك وخالك، بس أحب أقولك إنك مظلوم في علاقتك بيها، خصوصًا إن هي مش وفية ليك، بتحبها بجد !! إزاي؟.
تحدث هو بعدما زفر بضيقٍ بعبرعن مدى استيائه:
_أول جوازنا كانت مصدومة وكرهاني وعلاقتنا غريبة ومتوترة أوي وأنا كل اللي كان عليا كان لازم أعمله علشان كرهي لـ “يـوسف” وساعتها أنا كان لازم اكسب “شـهد” بس لما خدنا على بعض وبقى بينا عشرة وقدرت هي تتقبل وجودي أنا بقيت مبسوط، حد ليا لوحدي بيحبني أنا، حسيت إنها بتديني حاجة مخدتهاش قبل كدا، بعدها قربنا من بعض أكتر وبقيت بفرح معاها، يمكن علاقتي بيها بدأت غلط بس مش بأيدي بقى.
قلبت فمها بتعجبٍ وهي تطالعه وتطالع علاقته المُعقدة بزوجته، تشعر أنها وضعت بين خانتين، خانتان أشد صعوبة من بعضهما، وقبل أن تتحدث تقترح عليه بحديثها فُتِحَ الباب وطلت منه “شـهد” التي رفعت حاجبيها وهي تتشدق بنزقٍ تستفسر منه:
_أنتَ هنا ؟ غريبة.
انتبه لها “نـادر” وكذلك “رهـف” التي قالت بسخريةٍ:
_هو فيه حاجة هنا أغرب منك؟.
حرك “نـادر” رأسه نحو المُتحدثة فيما دلفت “شـهد” تقول بتهكمٍ ردًا على “رهـف”:
_والله أنتِ أدرىٰ، على الأقل إحنا هنا كلنا عيلة في بعض، محدش غريب عننا غيرك أنتِ، بس يا ترى بقى فاتحة مكتبك ليه يا أستاذة “رهـف” ؟ علشان الاستقبال؟.
وقف “نـادر” يقول بنبرةٍ جامدة يمنعها من التكملة بهذا الأسلوب الذي يطوي بداخله حديثًا فهمه هو:
_”شـهد” !! كدا مينفعش لو سمحتي أنا جاي أشوفها واتطمن عليها وعلى طنط، لكن طريقتك معاها كدا غلط.
أشارت “شـهد” عليها وهي تقول بنبرةٍ عالية:
_دي بتلف وتدور كتير على فكرة، كل مهمتها انها تكره الناس فيا وتخليهم كلهم مش طايقني، علطول حاطة مقارنة بيني وبينها.
ذُهِلت “رهـف” منها ومن طريقتها وحديثها الذي وصفته هي بالتَبجحِ، تتهمها بما تفعله هي لأنها تعلم ضعفها في الدفاع عن نفسها وفي رد الحُجة بحُجةٍ أقوى لكنها لم تصمت حينما وجدتها تزداد في تبجحها وأضافت ببسمةٍ ساخرة تستعيد حقها المسلوب:
_معلش بقى يا “شـهد” واضح كدا إنك مش كفاية لأي حد علشان كدا كلهم بييجوا ليا أنا، Sorry بس دي قلوب وراحات، مش بإيدينا يعني نتحكم فيها، عن نفسي مكتبي مفتوح للكل حتى أنتِ شخصيًا اعتبريني Therapist “مُعالجة نفسية” في الشركة هنا وبرضه مكتبي مفتوح.
زفرت “شـهد” بحنقٍ في وجهها وتركت المكتب وغادرته فيما اعتذر لها “نادر” بقوله مُتأسفًا لها:
_أنا أسف يا “رهف” معلش هي تلاقيها مضغوطة شوية، متزعليش منها وخليها عندي أنا دي.
تحدثت بثباتٍ يَتنافىٰ مع ضُجرها منه:
_حصل خير يا “نـادر” اتفضل أنتَ علشان ورايا شغل.
خرج من المكتب وتركها بملامحٍ مُستاءة بينما هي نظرت في أثره بضجرٍ ثم عادت لمكتبها تحاول الإنخراط في العمل لكن بدون جدوى حتى إنها تنهدت بضيقٍ ثم وضعت رأسها على المكتب فوق ذراعيها تهرب من واقعٍ مُزعج يَعجه ضجيحٌ مُزعجٌ مثله وهي أضعف من هذه الصراعات كلها.
__________________________________
<“أنا دومًا وأبدًا هُنا..لأجلك أنتِ”>
قرب الأهرام المصرية في محافظة الجيزة
وقف “يوسف” في الكافيه الخاص به يطالع المكان من شُرفته الزجاجية، سفح الأهرامات بدا شامخًا والشمس الخاصة بالدفء يتمازج معها نسمات هواء باردة تُلطف الأجواء مع بدايات فصل الخريف المظلوم من الناسِ وهو أكثر الفصول جمالًا.
تنهد مُطولًا وهو يتذكر جلسته معها أمسًا وكيف استأنس بجوارها، كيف يتم نعته بالغريب في حين انها أكثر غرابة؟ في أوج لحظات ضعفها تظهر قوتها، وفي أشد بؤسها يظهر الأمل على مُحياها، عيناها تسرد قصة وطنٍ سُلِبَت منه الحُرية لكنها قادرة على أسر كُل حُرٍ مثله، هذا القلب الذي خان العهد، أخبره أنه أمام عينيها كان يتوجب عليه خيانة كل عهدٍ سواها هي فقط…”عـهد”.
عاد بذاكرته إلى شروق الشمس حينما هجم على نومها كابوسٌ فتك بها أثناء نومها ليكون الأصعب منذ أن عاهدت هذه الكوابيس ليلها وقصته هي عليه بالكامل حينما أتى لها بعدما فشلت والدتها في التعامل معها.
[في فجر اليوم قبل شروق الشمس]
نزلت “عـهد” من سطح البيت
بعدما كتبت الجُملة على السبورة المُعلقة ورد عليها هو بألطف صيغة حوار بينهما، في بعض الأحيان تكون الكلمات مثل نسمة هواء عابرة على جسدٍ ألهبته حرارة الشمس، وهذا هو ما تفعله رسائلهما الغير منطوقة.
دلفت لفراشها ببسمةٍ حالمة بعد مقابلتها معه وكأنها كانت تحتاج لرؤيته ولحديثه لكي يُطمئنها كما فعل هو، ليس مُجرد شبيهًا فقط، بل هو ساكنًا، أين سكن وكيف سكن تهربت هي من الجواب، حتى يحين موعد المعرفة، لذا عادت بجسدها للخلف تضع رأسها على الوسادة لكي تنام أخيرًا بعد يومٍ قتلها ألف مرةٍ في كل مرة.
بعد مرور ساعتين من غوصها في ثُباتٍ عميقٍ بدأت تتعرق وجبينها يتندىٰ وضربات قلبها تتسارع بحدةٍ لم تتحملها هذه المضخة الضعيفة، قلبها يؤلمها وجسدها شُلت حركته وهي ترى في كابوسها عائلة والدها تكالبوا عليها وعلى أسرتها الصغيرة يسددون لهن الضربات و “يوسف” يركض في محاولةٍ لإنقاذهن و حينها ظهر “سـعد” من العدم يقطع عليه السُبلِ في الإقتراب ثم طعنه بسكينٍ حادٍ في بطنه وحينها انتفضت تصرخ باسمه هو من فراشها تبحث عنه بعينيها.
وصل الصراخ لغرفة والدتها التي ذهبت لها ركضًا فوجدتها في عالمٍ أخر، نوبة الهلع أصابتها من جديد وهي تردد اسمه بغير هوادة وكأنها تطلبه أو هكذا فهمت والدتها التي أخرجت هاتفها تطلب رقمه وكان هو في غصون ثوانٍ مُلبيًا لندائها وحضر في الحال لتتركه معها بمفرده.
كانت هي تبكي على الفراش وهو يطالعها بنظرةٍ حزينة، رؤيتها في هذه الحالة تجعله حائرًا ومهزوزًا، نعم هو يعلم أن الكوابيس مزعجة لكن تُرى ما هذه الكوابيس التي تراها هي حتى تفيق كل ليلةٍ بهذا الشكل ؟ أقترب منها على الفور وقد تعمد أن يتحدث حتى يصلها صوته ويُطمئنها وقد هتف بقوله:
_أنا هنا أهو، فوقي علشان خاطري، فوقي وشوفي بنفسك إني هنا معاكِ وعلشانك، فوقي يا “عـهد”.
استطاع بدفء نبرته أن يستحوذ على انتباهها مما جعلها تنتبه له وحركت رأسها نحوه تستقر بعينيها الدامعتين على ملامحه تتبينها وسألته بتشككٍ وكأنها تاهت بين واقعها وكوابيسها:
_أنتَ هنا بجد ؟
حرك رأسه مومئًا لها مما جعلها تبكي من جديد فجلس هو بجوارها وضمها إليه ومسح على رأسها وهو يقول بنبرةٍ أعربت عن جَمْ حزنه لأجلها:
_والله أنا هنا، بس أنتِ مش عاوزة تصدقي، مش واثقة إني هكون هنا وقت ما تحتاجيني، وفي أي وقت خلاص بقيت هنا، خوفك ملهوش مبرر غير إنك مش واثقة إني معاكِ، مع إني والله بكل حالي معاكِ يا “عـهد”.
ابتعدت عن عناقه تطالعه بعينيها الدامعتين وهي تقول بنبرةٍ باكية تدافع عن نفسها من تفكيره فيها:
_ أنا واثقة فيك والله ، بس هو اللي ضربك في الحلم، ضربك بالسكينة علشان كدا خوفت عليك منه، خوفت يكون دا اللي حصل بجد علشان أنتَ مبقاش ينفع تـ……
توقفت عن الاسترسال بعدما انتبهت لنفسها ولصوتها الذي تحشرج بالكامل فيما لاحظ هو صمتها لذا سألها بنبرةٍ رخيمة بعدما توقفت عن التكملة وخاصةً حينما أخفضت رأسها:
_قولي يا “عـهد” ؟؟ مينفعش إيه ؟ أنا سامعك.
حينها لم تجد بُدًا من الإنكار لما تحمله في قلبها، هي في أضعف لحظاتها وهو يمدها بالقوة لذا طالعته بعينين دامعتين تود الإفصاح عن كثيرٍ حملته في قلبها له، له هو وفقط دونًا عن سائر الناس ومعشر الرجال وحينما طالت نظراتها له وهو ينتظر منها التحدث وجدها تنطق بنبرةٍ مُحشرجة وهي تضغط على كفه بأناملها المرتجفة وهي تهتف بتوسلٍ أكثر من كونه طلبًا:
_مش عاوزاك تمشي، مبقاش ينفع تمشي وتسيبني لوحدي.
حديثها هذا هو النقيض لسابقه حينما أخبرته بالرحيل، بصورةٍ غير مُباشرة أخبرته عن حاجتها له فيما ابتسم لها بعينيه فور وصول الحديث له، أدهشته بقولها وبما نطقته ولم يتوقعه هو خاصةً أنها كانت ترفضه منذ بداية هذه العلاقة، وقد نطق بنبرةٍ هادئة لكن أثرها بلغ لرسالته حين احتوى كفيها بين كفيه وهتف:
_وأنا مبقاش ينفع أمشي، ولو مشيت رجلك هتبقى على رجلي قبل ما أتحرك خطوة واحدة.
بثها جُرعة طمأنينة هائلة استقرت في نفسها فورًا وقد اتضح هذا من خلال انبساط ملامحها حتى رفع هو كفه يُزيح عن وجهها خُصلاتها الثائرة ثم قام بجمعهم حينما مد يده يلتقط مشبك الشعر ثم قام بوضعه في خصلاتها ورتب هيئتها وهي تبتسم له فوجدته يغمز لها وهو يسأل بمراوغةٍ:
_الحج “محفوظ” كان بيعمل كدا؟.
كانت تبتسم له حتى تحولت البسمة لضحكةٍ خافتة جعتله يبتسم هو الأخر ويمعن نظره فيها للمرةِ الأولى، جمالها البسيط أبهره، كانت ترتدي منامة بيتية سوداء اللون لائمت بشرتها كثيرًا وخصلاتها السوداء المرتخية بفعله مع خُصلتين تعمد هو تركهما على صفحتي وجهها، فوجد نفسه يشرد أكثر من هذا بكثيرٍ في حياةٍ طبيعية معها.
خرج من شروده فيها حينما صدح صوت هاتفها يُنبئها بموعد الفجر فرفع كفه يمسح عينيها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يطلب منها:
_يلا قومي فوقي كدا وصلي الفجر وأنا هروح قبل ما خالي ييجي يصحيني، على فكرة أنا بصلي من صغري أنا وعدت أبويا مسيبش فرض، قومي يلا.
حركت رأسها موافقةً وقبل أن يتحرك من جوارها أوقفته وهي تقول بلهفةٍ:
_شكرًا علشان أنتَ هنا.
ابتسم لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة ردًا على جمال حديثها:
_لو تكمليها بقى وتقولي اسمي نبقى خالصين.
أضافت بخضوعٍ له وكأن كل أفعالها له أصبحت طواعيةً منها عن طيب خاطر بدون ذرة إجبارٍ واحدة:
_شكرًا علشان أنتَ هنا يا “يوسف”.
توسعت البسمة أكثر حتى انفرجت شفتاه وظهرت أسنانه فلم يمنع عن نفسه عما أتى بفكره وفعله حينما مال عليها يهمس بنبرةٍ خافتة:
_حبيب عيون “يوسف”.
يا الله، هذا اللقب الذي استوطن داخل قلبها منذ أول مرةٍ يُلقيه عليها بهذه النبرة وهذا القُرب كيف لها أن تصمد وهي فتاةٌ بعيدة كل البُعدِ عن المشاعر من هذا النوع؟؟ بينما هو استغل غيابها عنه ثم لثم وجنتها بحركةٍ خاطفة جعلتها تشهق تلقائيًا ليتركها هو ويغادر إلى حيث أتىٰ.
[عودة إلى هذا الوقت]
خرج “يوسف” من شرودهِ مبتسم الوجه على فعله الوقح، مُجرد قُبلة خاطفة اختلسها من إحدى وجنتيها جعلته يشعر بهذه الفرحة، فماذا إذا أصبح سائر الليالي بأكملها تكون في رفيقته بها؟ تنام بين ذراعيها وينعم هو بقربٍ يجعله يتأكد أنه وصل أخيرًا لمحطة الوصول المُرادة.
يبدو أن كل الأمور تعلن عصيانها له لذا فهم أن يتوجب عليه فعل المزيد لأجلها، هي أعطته الإشارة وهو عليه أن يستغلها، ثمة شيءٍ بداخل هذا القلب ينمو وينضج لها، هي من الأساس في عالمٍ أخر يوازي سائر الناس وياليتها تمد كفها تسحبه لداخل عالمها، عالمٌ كان سببه خيانة العـهد.
أخرج هاتفه ثم قام بفتح تطبيق الواتساب وقام بفتح خاصية تجديد القصص ووضع مقطعًا موسيقيًا في تعبيرٍ غير مباشر حيث كانت الكلمات كما الآتي:
_”وعيونك سود ياما أحلاهم
قلبي متولع بهواهم
وصارلي سِنتين بستناهم
حيرت العالم في أمري
قدك المياس يا عُمري
يا غُصين البان كاليسرِ”.
وضع المقطع عبر تجديد القصص في تطبيق الواتساب ثم أضاف أسفله جُملة كتبها ودونها بعدما اقتبسها من كلمات الأغنية:
_آه والله صارلي سنتين بستناهم.
تنهد بعمقٍ وقبل أن يخرج من التطبيق لاحظ أن “قـمر” قامت بتجديد حالتها في نفس التطبيق فضغط على القصة حتى وجدها قامت بالتقاط الشاشة للمنشور الذي دونه “أيـوب” وكتبت أسفله بمزاحٍ تخيله وهو يقرأ جملتها بصوتها هي:
_أيوة أنا اللي طرفت عينه.
ضحك بسعادةٍ كُبرى لأجلها، فرحتها تُعني فرحته ولأجل الحق “أيـوب” هو مصدر السعادة لشقيقته، نعم الرجل في زمنٍ قلت به الشيم الأصيلة والخِصال الكريمة، وقد جمعهما “أيـوب” مع بعضهما ليكون أصعب معادلة يقف المرء حائرًا أمام حلها، فكيف تُخالف الهوى وكيف تفرح أن قلبك هوىٰ؟ ويبدو أن “أيـوب” توصل للحل.
خرج “يوسف” من محله يتوجه لمكانٍ أخر بتوجب عليه أن يذهب إليه، يتوجب أن يكون هناك لكن هذه المرة ليس لأجلهِ كما المعتاد بل لأجلها هي.
__________________________________
<“فرصة جديدة لكن أخيرة، هيا قم باستغلالها”>
وصل “أيـهم” إلى بيت والد “نِـهال” صباحًا
بجملة تهوره اليوم سيفعل التهور الأكبر، يطلب يدها من والدها حتى لا يرفضه بأي حُجةٍ في غِنا تامٍ عنها وقد وصل إلى هناك و جده يجلس في محل عمله فدلف له يُلقي التحية بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاضي يا حج؟.
انتبه له الأخر ولم يقدر على إحراجه تقديرًا لوالده لذا وقف يقول بنبرةٍ هادئة مُرحبًا به:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، اتفضل يا بني نورت.
البدايات مُبشرة تمامًا مثل صباحٍ تملئه الغيوم لشخصٍ ينتظر فصل الشتاء على أحر من الجمرِ، لذا ابتسم له ثم جلس موضع إشارة الأخر له وما إن جلس وقرأ حيرة النظرات وعدم قدرته على السؤال قال بنبرةٍ هادئة اتسمت بالثبات:
_أنا جاي لحضرتك بشكل مباشر علشان أطلب منك أيد الأستاذة “نِـهال” ويشرفني إن حضرتك تقبل طلبي واللي حضرتك تؤمر بيه أنا موافق عليه.
لم يتفاجيء الرجل بحديثه هو من الأساس توقع هذا الشيء وأراد أن يكون صريحًا معه في هذه اللحظة لذا أجبر شفتيه على الابتسام وهو يقول برزانةٍ عكس هياج طبعه:
_بص يابني دا شيء يشرفني، وأنا أحترم الراجل اللي ييجي دوغري ويدخل البيت من بابه زي ما عملت دلوقتي، ولو كنت عاملتك وحش قبل كدا فدا علشان أنا راجل ابن سوق وكبير فيه كمان، بس بعملتك عدلوا عليا واتمسكتلي إني راجل خايب، ومتزعلش مني أنا صعيدي ابن صعيدي يعني مخي مقفل، بنتي مكانش ليها حظ في جوازتها الأولى، واتوجعت فيها كتير مع تفاصيل هي تحكيها لو حابة، فلو جاي وقاصد النية خير في جوازك من بنتي يبقى تحطها في عينك، تاني حاجة بقى، بنتي عندها مشكلة في الخِلفة يعني بصريح العبارة أنتَ عرفت أهو.
ابتسم “أيـهم” له بوقارٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_بنتك في عيني وقيمتها فوق راسي، وبعدين أنا مش شايف حاجة غلط إنها تطلق، طالما مش مرتاحة معاه خلاص، محدش يقدر يجبرها على حاجة، موضوع الخِلفة أنا ربنا رزقني بابن وعارف يعني إيه غلاوة الضنا، علشان كدا أنا هعمل اللي عليا كله وهسعى لحد ما ربنا يراضيها وتخلف إن شاء الله أدفع كل اللي عندي بس تكون مبسوطة، بس أعتبر دي موافقة مبدائية منك؟.
ابتسم له الأخر وقال بنبرةٍ هادئة:
_موافقة نهائية، روح هات العطار الكبير وتعالى.
انبسطت ملامحه وانفرجت شفتاه عن بعضهما بضحكةٍ أزالت توتره وعبوس ملامحه وما إن رفع رأسه نحو الباب وجد “نِـهال” تقف على باب المكان ويبدو أنها استمعت لحديثهما، وحينها تحرك هو يقول بنبرةٍ هادئة لكنها مراوغة:
_الحج موافق، عندك أنتِ إعتراض؟.
همت أن ترد عليه فوجدته يقول بمزاحٍ:
_طب على بركة الله أنا برضه قولت السكوت علامة الرضا، السلام عليكم اشوفكم على خير إن شاء الله، هكلمك يا حج.
رمشت ببلاهةٍ وهي تنظر في أثره يرحل بهيبةٍ غريبة على عكس طباعه المرحة التي رأتها هي بعينيها فيما ضحك والدها وتيقن من حديث “عبدالقادر” وعادت جملته تتجدد في سمعه وهو يقول:
_كلها أسبوع بالكتير وابني هييجي يطلب أيد بنتك، لو رفضت ساعتها أنا هزعلك وبلاش تخلي العطار يزعل منك، وسيبك من أخواتك اللي فاكرينك بنك دول، لو حصلك حاجة هياكلوا بناتك، اتقي الله ربنا هيسألك عنهم.
خرج من شروده على ابنته التي رفعت حاجبيها باستنكارٍ شديد لاستكانة ملامحه مما جعله يحمحم بخشونةٍ مُستعيدًا رُشده ثم هتف بثباتٍ:
_جهزي نفسك يا عروسة، أنا موافق.
أكبر عقبة في طريقها أزيلت تمامًا وبقت العقبة الأصعب وهي الماضي الأليم، لكنها تود لنفسها فرصة أخرى تحيا من جديد بعد كُربةٍ أماتت بداخلها شخصًا كانت تحبه، اليوم هي كمن ضُرِبَ فوق رأسه، لذا صعدت إلى الشقة مباشرةً وجدت شقيقتها تجلس بجوار ابنتها وحينها قالت بنبرةٍ ضائعة:
_”نَـوال” أنا عاوزاكِ دلوقتي.
تحركت شقيقتها معها وجلست معها في الغرفة تسألها عن أحوالها وعن سبب ضياعها فوجدتها تخبرها بما حدث اليوم وتخبرها بعرض “أيـهم” عليها وبحديثه مع والدها الذي وافق هو الأخر، أخبرتها بكافة الأشياء حتى فرحت شقيقتها كثيرًا وسألتها بحماسٍ يُنافي قلق الأخرى:
_ومالك زعلانة ليه؟ دا أنا هموت من فرحتي بيكي، طلع جنتل أهو وقرر يصلح كُل حاجة، مالك يا فقر أنتِ؟.
بكت “نِـهال” وهي تخبرها بمخاوفها تجاه هذه الزيجة:
_خايفة، خايفة من كل حاجة، خايفة اتعشم يحصل زي اللي حصل وخايفة من كلام الناس لما يلاقوني بتجوز تاني، وخايفة يزهق من كتر الدكاترة والتحاليل، خايفة بعد كدا يجبرني على حاجة زي اللي قبله، أنا مش عارفة أتخيل حاجة حلوة تخليني مخافش.
مسحت شقيقتها دموعها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول بث الطمأنينة داخل قلبها وهي تقول:
_بالراحة على نفسك يا حبيبتي، واضح من كلامك أنه راجل عاقل وفاهم كل حاجة مش زي الحيوان اللي كنتي على ذمته، بعدين أنتِ قولتي إنك بترتاحي لما تدخلي بيتهم، أخته وابنه حتى أخوه الشيخ اللي قولتي عنه، كلهم ناس سمعتهم معروفة أنا من صغري بسمع عنهم كل خير، يبقى ليه تستخسري في نفسك الفرحة؟ مش يمكن دا عوض ربنا ليكِ؟ وأنتِ عوض ليه ولابنه اللي بقى مرتبط بيكِ؟ بصي أنا هقولهالك بصراحة، محدش بيشيل هم حد، كل واحد همه نفسه وبالذات البنات طالما اتجوزت أهلها يكرهوا رجعتها ليهم تاني، متزعليش مني يعني بس عيشتك هنا مقفلة على نفسك دي عجباكِ؟ كل خطوة محسوبة عليكِ حتى علاقتك بالعيل الصغير، يبقى خلاص اللي يجيلك بالغصب خده بالرضا، وافقي وأدي نفسك فرصة عوضي اللي فاتك فيها، وصلي استخارة زي ما عملت كدا.
حركت رأسها موافقةً وأغلقت جفنيها تُحد من نزول دموعها وقد لاحظت شقيقتها حالتها هذه فسألتها بمزاحٍ حتى تُخفف عنها:
_قوليلي بصحيح أنتِ استخرتي ربنا في جوازتك الأولىٰ؟
هزت الأخرى رأسها نفيًا تُعطيها الجواب حتى قالت الأخرى بمزاحٍ وهي تطيح برأسها:
_هي كانت من أولها جوازة شمال.
ضحكت “نِـهال” من بين دموعها فيما احتضنها شقيقتها وهي تضحك هي الأخرى ثم مسحت على ظهرها بمحبةٍ خالصة، نصفها الأخر كما تُدعى، أقرب الناس لقلبها وأكثرهم علمًا بما عانته الأخرى كما أن “نِـهال” تعلم مأساتها في بيت عائلة زوجها لكن اللطيف في الأمر أن زوجها دومًا في صفها.
الأخوة في بعض الأحيان أجنحة تجعل المرء مُحلقًا فوق السماء حتى وإن كان ذراعاه مبتورين، و”نِـهال” منذ بدء المصائب تتتابع فوق رأسها وشقيقتها هذه تقف في صفها أمام الجميع حتى والدها.
__________________________________
<“لأجلكِ تُفنى الدُنيا في عيني، فقط كوني أمام عيني”>
الرَجل عادةً قوي العزيمة والإرادة
عدا أمام المرأة التي يُحبها تصبح هي مديرة الحركة والمتحكمة في العزيمة والإرادة أيضًا، وتحديدًا إذا كان رجلًا يصعُب السيطرةِ عليه مثل “إيـهاب الموجي” الذي يقف الآن في محلٍ خاص ببيع ألعاب الأطفال بمختلف أنواعها ومن السبب في تواجده هنا !! زوجته العزيزة “سـمارة”.
وقف بمللٍ يُراقب المكان بعينيه ويتابع زوجته التي سارت في المكان تنتقي منه الأشياء لأجل الطفلة الصغيرة المفروضة عليه كما كان يفكر، انتبه لها وهي تشير له لذا تحرك من محله يقترب منها فوجدها تسأله بحماسٍ وهي تُخيره بين شيئين بدا له كأنهما متطابقين:
_إيه رأيك ناخد ليها دي ولا دي؟.
وزع نظراته بتساوٍ بينهما وسألها بحيرةٍ أكبر من حيرتها:
_هما الاتنين مش واحد أصلًا ؟؟.
حركت رأسها نفيًا وشرحت له بتفسيرٍ وهي تشير على كلتيهما:
_لأ يا أخويا مش واحد، دي لعبة عرايس ومطبخ ودي لعبة عرايس وفساتين، نجيب إيه ليها أحسن؟؟
زفر مُطولًا ثم قال بقلة حيلة لكنه لم يتخطى طيبة قلبها وحنانها على الطفلة الصغيرة التي منذ أن رأى هذا الجانب بها وهو أصبح أكثر سعادةً عن السابق:
_أنا كنت هبعت حد يتصرف ويجيب صممتي تجيبي بنفسك وجيت علشان مينفعش أسيبك لوحدك هنا، إنما أختار دي مش بتاعتي وصعبة عليا، اختاري يا “سـمارة”.
قامت بأخذ الأثنتين وهي تعانده بقولها:
_أنتَ اللي قولت أهو، أديني أختارت.
رفع حاجبيه بذهولٍ بحركةٍ تلقائية فيما وضعتهما هي في عربة التسوق وقد سارت تنتقي من بين العرائس ما يناسب الصغيرة وسار خلفها هو يتابعها بعينيه حتى التفت خلفه تجاه الألعاب الخاصة بالصبية الصِغار وابتسم بحنينٍ حينما تذكر ماضٍ بعيدٍ عنه لكنه لم ولن ينساه حيث:
[منذ عدة أعوامٍ كثيرة]
ليلة وقفة العيد الصغير انتشرت الألعاب النارية في المكان ورائحة الكعك الساخن تفوح من المخابز المزدحمة بالأهلِ والسكان لكي يقومون بتسوية الكعك ومشتقاته وحينها كانت والدته تقف عند المخبز حتى قامت بتعبئة منتجاتها وبحثت بعينيها عنهما ورفعت صوتها عاليًا تنادي عليهما فوجدت “إسماعيل” يركض وفي يده مُسدس وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_بصي يا ماما، جيبته بفلوسي.
تطلعت إلى ما كان يمسكه وسألته باستنكارٍ:
_بس فلوسك مش كفاية يا “إسماعيل” جيبته منين؟.
أتى في هذه اللحظة “إيهاب” يخبرها بقوله:
_العيال كلها ماسكة مسدسات وهو لأ، هما مش أحسن منه حطيت فلوسي على فلوسه وجيبتله واحد، دي عديتك أهيه متطلبش حاجة مني تاني.
أومأ “إسماعيل” موافقًا فيما سألته والدته بحزنٍ لأجلهِ:
_طب مش كنت تقولي؟ بكرة الصبح هديك فلوس علشان تجيب واحد ليك زي أخوك، أبوك سحب اللي في البيت كله منه لله.
مد يده في الكرتونة التي تمسكها وقال باقتناعٍ يتنافى مع صغره وتفكير طفلٍ في عمره لكن الحياة أجبرته على هذا في عامه الثامن من عمرهِ:
_مش عاوز حاجة ياستي أنا كبرت خلاص، هاخد بحقهم كحك، عملتي بعجوة ولا لأ؟؟.
أغرورقت عيناها بالدموعِ وأومأت بحزنٍ لأجل صغارها وهي تقف عاجزة أمام فرحتهما دون أن توفر لهما حتى أزهد الأثمان وهما كما غيرهما في هذا العُمر يتمنون مافي يد الصِغار.
[عودة لهذه اللحظة]
خرج من قوقعة تفكيره على صوت زوجته وهي تسأله عن العرائس المناسبة للصغيرة فقال بنبرةٍ مُحشرجة بعدما زاره الحزن:
_هاتي اللي تجيبيه، أنتِ كنتي بتحبي إيه ؟
ابتسمت بسخريةٍ وهي ترد عليه بما يرفع قدر حزنه عليها مع حزنه على نفسه وعلى شقيقه:
_يا أخويا هو أنا يعني عمري شوفت الحاجات دي؟ بقولك خدامة في البيوت وأنا عندي خمس سنين، يعني أتولدت امرأة عاملة.
تحدثت بسخريةٍ جعلت الضحكة تُعانده رغمًا عنه وتظهر على محياه تشق طريقها لإزالة العبوس عن ملامحه وقد وقع بصره على العرائس من جديد وحينها أقترب منهم وقام باختيار واحدة والتفت لها وهو يسألها باهتمامٍ:
_حلوة دي ؟؟ تفتكري هتعجبها؟.
حركت رأسها موافقةً وقالت بحماسٍ بلغ أشده:
_حلوة أوي وشكلها حلو والله يا أخويا البتاعة دي شبه البت “جـودي” قشطاية زيها.
وضعها في عربة التسوق ثم سحب واحدة أخرى وسألها عن رأيها بقوله:
_إيه رأيك طيب في ديه؟ دي ذوقي أنا.
ابتسمت وأخذتها منه تتلمسها بكفيها معًا وقالت بنبرةٍ سعيدة لأجل اهتمامه بالصغيرة:
_حلوة أوي تعيش وتجيب، هتعجبها أكتر خلي بالك.
ابتسم لها وقال بنبرةٍ قوية رغم هدوئها:
_بس دي علشانك أنتِ، مش علشان “جـودي”.
تلاشت بسمتها وتعجبت من قوله لذا رددت خلفه باستنكارٍ:
_دي !! علشاني أنا ؟.
أومأ لها موافقًا وأضاف مؤكدًا بعدما أخذ دُبًا من رفٍ أخرٍ يضعه بيدها:
_ودا علشانك برضه، عجكبوك يا عمنا ؟.
ترقرق الدمع بعينيها وهتفت بنبرةٍ مبحوحة من البكاء:
_بس كدا كتير، كتير عليا أنا كبرت خلاص.
اقترب منها يمسح دموعها وهتف بعدما ابتسم لها وكأنه وُقِعَ أسيرًا هُنا:
_مفيش حاجة تكتر عليكِ، بعدين يعني أنا على رأي عمك “عبدالباسط حموده” لما قال خُد مني قلبي أديهولك وببلاش، وأديني قلبك أشتريه وفلوسي كاش، أنا راجل نزيه واشتري لحظة حلوة معاكِ تصفيلي فيها بالعُمر كله.
ابتسمت بسعادةٍ بالغة قرأها هو في نظراتها وكأن قلبها يجاور أذنها و قد ذهب تصلد مشاعره معها وجموده وأصبح يتحدث ببراعةٍ عن مشاعره حتى وإن لم يكن شاعرًا لكنه يُجيد التحدث عن أهميتها في حياته، هو ممتن لكل صدفةٍ جمعته بها ولذرات الطريق التي جمعتهما سويًا، هذه العشوائية الشعبية تفعل به الأفاعيل الغريبة، تجعله كرجلٍ يشعر أنه مثل أبيها وزوجها وحبيبها ورفيقها، أتى لها هاربًا من دنياه، فأصبحت له الدنيا بكل ما فيها.
__________________________________
<“أهلًا بِكَ أيها النور لقد حاوطنا في غيابك الظلام”>
الأعين دومًا تفضح صاحبها،
حتى وإن أبكمًا فهي تنطق بدلًا عنه
كان “سراج” في المشفىٰ يُتابع شئون “عـادل” ويعاون شقيقته”زيزي” وابنته العائدة من غُربتها “نـور” برغم تجنبها له وللاقتراب منه وبرغم توخيه للحذرِ لكن عيناه خانته عشرات المرات وهو يتطلع عليها، يستصعب أمر كونها أمامه وهو يبعد عينيه عنها، يستصعب فكرة أن الظلام حاوطه وقد ظهر النور من جديد لكنه كان غريبًا عنه.
وقف في الخارج فوجدها تخرج من الغُرفة ولحظها المتعسر أن عمتها ذهبت إلى شقتها تبدل ثيابها وتأتي بثيابٍ أخرى لشقيقها غير التي أتى بها إلى هُنا، ولم تتوقع أن يبقى جالسًا في الرواق الرخامي بمفرده لكنها تجاهلت وجوده وجلست على المقعد أمام الغرفة بعدما غفى والدها نتيجة الدواء الموضوع له بداخل المحلول الطبي.
لاحظها “سـراج” وانتبه لفعلها فاقترب يجاورها وقد لاحظ جسدها الذي أجفل حينما أقترب منها وكأنها حقًا تخشاه مما جعله يسأله بنبرةٍ جامدة:
_”نـور” !! أنتِ خايفة مني؟.
حركت رأسها نحوه تطالعه بعينين دامعتين ثم هتفت بتأكيدٍ تجاوبه على ما أستفسر عنه:
_آه، خايفة منك ولو فيه حاجة مخلياني متقبلة وجودك هنا يبقى بابا اللي أنا مديونة ليك إنك لحقته غير كدا لأ، ومتحلمش بأكتر من كدا، ولو لسه مستني مني حاجة روح لحد غيري أحسن، حب حد تاني يا “سـراج”.
ابتسم بسخريةٍ وهتف بوجعٍ يخبرها عن حاله في غيابها عنه وكأنها ضغطت بحديثها فوق أحد جروحه الغائرة التي لازالت مفتوحة وجرحها مُلتهبًا:
_ياريت كان بأيدي، أنا كل ما أجي أحب حد ألاقي نفسي بحبك أنتِ من تاني، بس أنا عذرتك، أنتِ محبتينيش أصلًا.
رفعت عينيها نحوه تسأله بقهرٍ عن اتهامه لها:
_أنا !! أنا يا “سـراج” اللي محبتكش؟ أنا اللي روحت رميت كل حاجة بينا ومعملتش خاطر ليك؟ يا أخي يخربيت أبو دا حُب لو هيوصلنا للي وصلناله، أسكت أحسن، أسكت.
نظر أمامه يزفر مطولًا بينما هي حاولت أن توقف دموعها لكن الأمر كان أصعب من قدرتها، بكت بقهرٍ حينما تذكرت كيف في ليلةٍ واحدة بحدثٍ واحدٍ انقلبت حياتها رأسًا على عقبٍ، ليلةٌ من قدر صعوبتها سماها القلب من فرط جروحه
“ليلة دامية”.
[منذ ما يقرب الثلاث سنوات]
كانت تقود سيارتها بحماسٍ كبير تقوم بِـ عد لحظاتها الحلوة المنتظرة التي شارفت على شهرٍ تقريبًا لكي تكون زوجة حبيبها وفي بيتهِ، صدح صوت هاتفها في السيارة فقاومت بالرد على عمتها وهي تهتف بسعادةٍ بالغة:
“أيوة يا عمتو، أنا روحت شوفت الأوضة طلعت حكاية زي ما طلبت بالظبط، فاضل بس الإضاءة تركب في المراية وكدا نبقى خلصناها وأوضة الأطفال جهزت، إنما أوضة “جـودي” عند “سراج” هناك مش هنغيرها، بس أنا مبسوطة أوي.
ردت عليها عمتها بقولها الهاديء الذي ظهرت به الفرحة:
_يا روح عمتو ربنا يسعدك ويتمم كل أمورك بخير، المهم تعالي على هنا علشان بابا هييجي وتقعدوا معايا، أنا قولت أهو وحاولي تجيبي “جودي” معاكِ بحبها أوي.
هتفت الأخرى بأسفٍ تخبرها بقولها:
_مش هينفع والله أصلًا “سراج” بقاله ٣ أيام مش فاضي ولا بيرد عليا غالبًا عنده شغل وكدا “جودي” هتكون عند عمو “نَـعيم” بس أنا قربت أهو خلاص معلش الفترة دي تعباكِ معايا بس أنتِ مامتي يعني.
أغلقت معها عمتها المكالمة بعدما عاتبتها بحديثها فيما انتبهت الأخرى لطريقها حتى اعترضت سيارةٌ أخرى طريقها ظهرت من العدم أو لربما من اللاشيء حتى أُجبِرَت على التوقف لكن بخوفٍ كبيرٍ خاصةً حينما نزل من السيارة أحد الأشخاص الذين يتضح عليهم أنهم من أصحاب الجنسيات الأجنبية ثم أقترب من السيارة التي كانت نافذتها مفتوحة من الأساس:
_أزيك يا عروسة ؟ مش أنتِ العروسة برضه؟.
بحثت عن صوتها لم تجده بحثت عن حركة جسدها المشلول وأيضًا لم تجده فيما فتح “ماكسيم” باب السيارة وسحبها من مرفقها حتى تأوهت هي بألمٍ من حركته العنيفة فوجدته يقول بسخريةٍ:
_هو السبب قولتله نكمل الشغل مع بعض مرضيش، حذرته أني هقولك مهمهوش أي حاجة، “سـراج” حبيبك نصاب وتاجر آثار كبير وهو اللي مخلصلي شغلي هنا.
رغم خوفها منه وتفاجئه بهويته إلا أنها هتفت بثباتٍ ترد عليه بِحُجةٍ أقوىٰ:
_أنا عارفة عنه كل حاجة على فكرة وكل دا وهو صغير إنما بطل كل حاجة معلوماتك قديمة أوي هنبقى نعزمك في الفرح ما أنتَ قولت أنا العروسة بقى.
ضحك الأخر بهيسترية اتضحت في طريقته وفي انفعالات جسده بينما هي انقبض قلبها منه حتى أوقف الضحكات وقال بتشفٍ بها:
_يا حرام ؟ متعرفيش إنه بقى معايا ؟ ورجع تاني لشغله في الآثار مش بس كدا ؟؟ دا كمان سحب صاحبه “إسماعيل” معاه، ندل أوي “سـراج” دا لو مش مصدقة تقدري تقوليلي هو كان فين من ٣ أيام ؟ هقولك أنا كان معايا، بنطلع آثار من نزلة السمان،
Sorry, I,m So Sorry
خدعك بسببي، حتى روحي اسأليه مش هيكدب عليكِ.
نزلت دموعها بينما هو وضع في كفها هاتفًا سبق وفتحه على فيديو تسجيلي لاتفاقه مع “سـراج” ثم أشار لها على تاريخ جلستهما التي كانت منذ أربعة أيام قبل اختفائه عنها، وحينها كانت الطعنة الصعبة في قلبها وأصعبها كانت متجسدة بهيئة اعترافه لها بما فعله من جُرمٍ.
[عودة لهذه اللحظة]
ارتفع صوت بكائها حينما تذكرت الليلة التي دمرتها كُليًا، دمرت فرحتها وحماسها، خان هو وعده لها وآلت بها الظروف إلى هُنا تجاوره في محله وكأنهما لم يعرفا بعضهما بعضًا، تجمعهما الطرقات سويًا والقلوب عليهما طاغية في عنادها، انتبه هو لصوت بكائها فكره نفسه أكثر حينما تأكد أن البكاء سببها هو لا غيره، يبدو أن النور في حياته كان مؤقتًا والأن يتوجب عليه أن يُصادق الظلام.
__________________________________
<“خبرٌ سعيد يُزف في ديارنا”>
أراد “أيـهم” أن يجمع كل أفراد أسرته مع بعضهم
وللأسف طريقته جعلت الشكوك تساورهم والقلق يحاوطهم حينما اجتمعوا مع بعضهم في حديقة البيت فدلف هو لهم حتى سأله “أيـوب” بتعجبٍ:
_ها !! خير، سيبنا كل حاجة ورانا وجينا.
كان “عبدالقادر” يعلم كل شيءٍ لكنه آثر التجاهل وكأنه يعلم لمرته الأولىٰ خاصةً حينما تحدث “أيـهم” بثباتٍ واهٍ حاول رسمه على ملامحه إبان قوله:
_عندي ليكم خبر حلو، يعني إن شاء الله يكون حلو.
انتبهوا له وقبل أن يُكمل حديثه اندفعت “آيات” تُخمن حديثه بقولها المُتحمس:
_متقولش !! ناوي تجيبلي المكتبة اللي بطلبها منكم.
ضحك “أيوب” على طريقتها وكذلك “عبدالقادر” فيما رفع “أيـهم” طرف شفته العُليا يسألها بتهكمٍ:
_وهي لو مكتبة لسعادتك إحنا إيه اللي هيفرحنا، اقعدي على جنب يا بت، خليني أعرف أرمي الكلمتين، اسكتي يا هطلة.
سكت يُبرمج الحديث على طرف لسانه ثم هتف من جديد:
_أنا طلبت أيد “نِـهال” من والدها ووافق.
شهقت “آيـات” بملء شدقها ودون أن تنتبه ضربت “أيـوب” في صدره من فرط فرحتها حتى رفع هو صوته قائلًا بحنقٍ:
_إيـه يا “آيـات” ؟؟ الله يهدي اللي يزعلك يا شيخة، سحبتي الهوا من المكان وضربتيني، المرة الجاية هناكل نجيلة؟؟.
ارتفع صوت الضحكات وتذمرت هي في جلستها من سخريتهم عليها حتى ضمها “أيـوب” إليه يُراضيها كعادته بينما والدهم سأل باستفسارٍ:
_فهمني عملت إيه ؟؟.
غمز له ينطق بمراوغةٍ مُشيرًا إلى حديثهما أمسًا:
_عملت الصح.
رفع “عبدالقادر” حاجبيه بملامح مبتسمة فيما أضاف هو مفسرًا:
_أنا استخرت ربنا بليل وقومت من النوم مرتاح وحاسس إني لازم أخد الخطوة دي، أنا مش صغير علشان أقعد مستني الظروف تتهيأ، بصراحة أنا محتاجها معايا، والأهم مني، هو ابني، ابني اللي متعلق بيها لدرجة أنا بعجز أني أفهمها.
تحدث “أيـوب” مُستحسنًا فعله:
_عليك نور ودا عين العقل، ربنا ييسرلك أمورك، وأهم حاجة ابنك يعرف وتهيئله الدنيا كلها، هو لازم يفهم إن فيه حد هييجي مكان مامته، لازم تفهمه الدنيا هتبقى عاملة إزاي علشان دا طفل، يعني تفكيره غيرنا وفهمه غيرنا، تمام ؟؟ لو عاوزني ممكن أقوله بس هي ردها إيه ؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ وهتف بيأسٍ:
_شكلها مخضوضة أو مضروبة فوق راسها، إيه رأيكم أروح أخطفها وأعرف منها أسهل ؟؟.
ضربه “عبدالقادر” بالعصا في كتفه حتى ضحك له الأخر ثم أقترب يجاوره وهو يقول مستفسرًا بنبرةٍ ضاحكة:
_مبسوط صح؟.
_أنا برضه ؟ المهم أنتَ يا أبو “إيـاد” بس شكلك اللهم صلِّ على حضرة النبيﷺ.
عاد “أيـهم” للخلف يسأله متعجبًا:
_ماله شكلي فيه إيه ؟.
تدخل “أيـوب” يهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_مزنهر، شكلك مزنهر يا أبو “إيـاد”.
ارتفع صوت الضحكات عليه مرةٍ أخرى مما جعله يضحك وسطهم بسعادةٍ، لكنها لازالت ناقصة بدون رأي ابنه الصغير على الرغم من تخمينه لرأي ابنه لكنه يريد أن يتأكد بنفسه ويتطلع لرؤية فرحته قبل نفسه حتى.
__________________________________
<“القمر في بعض الأحيان يأتِ لنا”>
عاد لمحل عمله ومن كرم الخالق عليه رُزِقَ بالكثير من العمل جعله ينقل المواد من محله لداخل عربة النقل وهو يقوم بمساعدة العُمال كعادته بدلًا من أن يترأسهم، وما إن تحركت السيارة ووقف ينفض التُراب عن كفيه وقد ظهر قمره في وضح النهار حتى ابتسم هو لها بينما هي دلفت له تقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جاوبها مُبتسمًا:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
هو مش كان بييجي بعد الغروب؟
بقى يظهر بالنهار كدا عادي ؟؟ سبحان الخالق.
تضرج وجهها بحمرةِ الخجل فسألها هو باهتمامٍ حينما انتبه لها ولما تمسكه بيدها:
_أنتِ رايحة فين كدا ؟
انتبهت لموضع إشارته حيث عجلة التسوق المعدنية فقالت مُفسرةً بنبرةٍ هادئة:
_رايحة أجيب حاجات من السوق بس علشان متقعش مني هحطهم هنا وقولت بصراحة أعدي أسلم عليك.
أقترب منها يقول بهدوءٍ مُستحسنًا فعلها:
_يا خير ما فعلتي والله، اقعدي بقى والحاجة هتيجي لحد عندك، استني.
تلاشت بسمتها وتعجبت مما يقول بينما هو تقدم بجسده لخارج المحل ثم أشار لمساعده الذي أقترب منه يسأله بلهفةٍ:
_أؤمرني يا أستاذ “أيـوب” ؟
ابتسم له ببشاشةٍ ورد عليه كعادته بقوله:
_الأمر لله سبحانه وتعالى، استأذنك بس تروح تجيب الحاجات اللي هقولك عليها، لو مش هتقدر عرفني وأنا متقبل والله.
عاتبه الشاب بنظراته ثم هتف متراجعًا بودٍ:
_هات الورقة يا أستاذ “أيـوب”، أنا لا يُمكن أستخسر فيك حاجة كفاية روحي رجعتلي تاني بسببك.
وقفت “قمر” تراقب حُب الناس له وتأكدت أن تأثيره بالغ الأثر على الجميع وليست هي فقط، كل من يراه يحبه وكل من يحبه يود اقترابه، وهي !! هي أسعد الناس أجمعهم بحصولها عليه.
انتبهت له وهو يشير بكفهِ أمام عينيها حتى قدمت له الورقة المكتوب بداخلها الطلبات، وبعد رحيل الشاب أمسك “أيـوب” كفها يسحبها خلفه ثم أشار لها حتى جلست على المقعد بينما تحرك هو وفتح الثلاجة الخاصة به يُخرج منها عصير “الليمون بالنعناع” الذي يُحبه هو، فيما ابتسمت هي وقالت بسعادةٍ:
_شكرًا، جه في وقته بصراحة.
جلس مقابلًا لها وقال بنبرةٍ رخيمة:
_كنت لسه هكلمك أتطمن عليكِ، أنتِ كويسة صح؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت تؤكد إيجاب ما يستفسر عنه:
_آه الحمد لله، أنا كويسة علشان النعم كتير حواليا، وعلشان أكتر اتنين أتمنيت ربنا يجمعني بيهم بقوا معايا، فطبيعي أكون فرحانة وكمانـ….
توقفت عن الاسترسال وهي تطالع ملامحه فيما حرك رأسه مستفسرًا وكأنه يسألها عن التكملة وحينما سكتت سألها بحيرةٍ من هذا الصمت المفاجيء وكأن أجهزتها توقفت عن العمل:
_بسم الله الرحمن الرحيم !! الحجارة خلصت ولا إيه ؟؟ كملي يا “قـمر” كنتي هتقولي إيه ؟؟.
ضحكت له وهي تقول بتيهٍ غريبٍ عليها تشرح له ما حدث فيها أمامه:
_أصل أنا مش مستوعبة أني لوهلة كدا هنا بكلمك عادي وهطلع عادي من غير ما ضميري يأنبني، مش مدركة أنه بقى عادي أبصلك وإنك بقيت ليا بعدما كنت بس بدعي بواحد زيك، توهت !! وأنا بكلمك توهت.
ابتسم بعينيه لها واقترب بجسده للأمام يقول بصوتٍ رخيمٍ دون حتى أن يُحيد عينيه عنها:
_ وأنا دوري إنك كل ما تتوهي أكون معاكِ، دوري أني أمدلك أيدي وعاوزك تمسكي بايدك كويس علشان نساعد بعض في طريق لذته وإحنا سوى فيه، أنا مش ملاك بجناحين بس بحاول والله، أوعي تخافي وأنا معاكِ، علشان بأمر الله أنا ناوي أبذل كل جُهدي ليكِ.
أخفضت رأسها بخجلٍ منه لوهلةٍ ثم رفعت رأسها تقول بضياعٍ وكأنها تخشى ما تتفوه به:
_أنا مستغربة أني بعدما كنت باجي أراقبك من بعيد وأتلكك علشان أشوفك بقى ينفع أراقبك عادي واتغزل فيك، أنتَ عسول أوي ووشك طيب، وقلبك جميل، بص كلك على بعضك كدا محتاج ندعي للوالدة على جودة التربية والإنتاج.
ضحك “أيوب” بصوتٍ عالٍ من صراحتها وعفويتها وكأن الكلمات تُلقى على سمعهِ للمرةِ الأولىٰ، فيما سألته هي بتعجبٍ من ضحكاته:
_هو أنا قولت حاجة غلط، بتضحك ليه.؟
هدأ من ضحكاته وقال مفسرًا سبب الانخراط في الضحكات بهذه الطريقة بقوله:
_بضحك علشان أنا كنت راسم صورة تانية خالص عن شخصيتك، يعني علطول جد وشخصية صارمة مبتضحكش، فبصراحة مصدوم من العفوية اللي طبعك بيتصف بيها، بس بصراحة كدا أحلى يعني، كان ليا حق عيني تطرف بيكِ.
خجلت من جديد بينما هو أمسك العصير يمد يده لها بهِ ثم هتف بصوتٍ دافيءٍ بعدما أمسكت منه الكوب:
_ألف ه‍نا، ربنا يرويكِ من أحواض الجنة ويرزقك شرب المياه من كف الحبيب المصطفى ﷺ.
أرتجف قلبها من محله وهتفت بنبرةٍ مُحشرجة:
_يا رب، أنا وأنتَ ربنا يجمعنا سوى في الجنة مع بعض.
__________________________________
<“فلنبدأ من جديد كأننا لم نتواقح من قبل”>
من عام كتب الكلمات التي اقتبسها من كتابات
“غسان كنفاني” عبر صفحة الفيسبوك الخاصة به، وقد أشار حينها لصديقه “يوسف” معه وكأن الكلمات تصفهما سويًا حيث دونَ:
_”لقد قطع على نفسه عهدًا بأن لا يطلب شيئًا من أحد قط
إنه لا يستطيع أن يحتمل خذلانًا جديدًا
حتى وإن كان خذلانًا تافهًا”
ظهر هذا المنشور بتاريخ العام السابق فقام “إسماعيل” بنشره من جديد ليظهر على حسابه الشخصي وحساب “يوسف” أيضًا وأثناء جلوس “ضُـحى” في عملها تتفحص هاتفها أثناء استراحتها وسط النهار ظهر لها المنشور فوضعت قلبًا عبر الكلمات دون أن تنتبه لمن كتبها ثم قامت بمشاركتها عبر حسابها الشخصي ترى نفسها في هذه الكلمات، أصبحت تساند نفسها لا تنتظر من الأخرين الوقوف بجوارها.
بعد مرور ثوانٍ تقريبًا من مشاركتها للمنشور، وجدت رسالة من حسابٍ لم تعرفه وقد كتب لها ما يثير استفزازه:
_لو سمحتي أنا عاوز البوست بتاعي اللي خدتيه رجعيه.
عقدت مابين حاجبيها وفتحت الرسالة ليظهر لها اسمه باللغة الإنجليزية “Esmaeel Elmogy” وقد ضغطت على صورته ليظهر لها فوق الخيل والصورة الخلفية وضعها لخيله، شهقت بدهشةٍ ثم استعادت جزءًا من ثباتها وكتبت له بسخريةٍ:
_روح اشتكي لبابا يا ظريف، مش قولت سمج.؟.
وصلته الرسالة وقرأها هو ثم كتب لها بنفس الاستفزاز الذي توقعها به:
_وأنا قولت مطرقعة محدش صدقني، على العموم خلي البوست زكاةٍ عن صحتنا، مسامح علشان خاطر “يوسف”.
أغلقت الرسالة وخرجت منها وهي تُغمغم بحديثٍ بدا مُبهمًا بسبب تطفله فوجدته يزيد من مقدار عصبيتها حين دلف حسابها الشخصي ثم وضع علامة الإعجاب على المنشور هذا ومن سابقه حتى قالت هي بحنقٍ:
_لايك أزرق !! يا وقعتك السودا ؟؟ أنا عندي تشتمني أسهل من القرف دا، يا رب ميطلعش نُرم، مش هستحمل.
على الجهة الأخرى كان “إسماعيل” يُراقب حسابها الشخصي مبتسم الوجه، هذه المجنونة التي فعلت كل هذا وجعلته ينتبه لها دونًا عن غيرها، أصابت تجاهله في مقتلٍ واستطاعت أن تلفت نظره لذا ضحك رغمًا عنه وقال بصوتٍ مسموعٍ لنفسه:
_أنا برضه قولت مطرقعة.
__________________________________
<“الماضي يواجهه وهو كعادته كان ضعيفًا”>
قرر أن يخطو هذه الخطوة تلك المرة لأجلها،
ولم يكن القرار سهلًا عليه بتاتًا، صارع كثيرًا حتى يأتي إلى هُنا، دار وجاب الشارع بسيارته وخاصةّ منطقة
“وسط البلد” المفضلة له أراد أن يترك نفسه هناك وسط الشوارع القديمة خاصةً مع نسمات الشتاء الباردة التي طفقت تعلن عن نفسها، من يصدق أن الشوراع ذات يومٍ تكون هي الملاذ الآمن لطفلٍ صغيرٍ في عمره.
أوقف سيارته أمام هذه البناية القديمة وسط شوارع وسط البلد، بناية بُنية اللون عتيقة الطراز القديم، تسرق لُب من يمر أمامها وتستوطن بداخل من زارها، “يوسف” هنا يأتي من جديد ليكون صاحب كل جديد، وقد توجه إلى الشقة المعنية وطرق باباها القديم حتى فتحه له صاحب البيت الذي قال مدهوشًا من رؤيته أمامه، وقد كان رجلًا يكبره بأربعة أعوامٍ تقريبًا:
_”يوسف الراوي” !! مش معقول.
ابتسم له وهو يقول بهدوءٍ:
_وحشتني يا “جـواد” عندك مكان لمجنون جديد؟
احتضنه رفيقه مُربتًا فوق ظهره والآخر كان يمتن له كثيرًا بهذا العناق، يبدو أنه كان سببًا في كثيرٍ من الأشياء التي ستتضح اليوم حتى وإن لم تكن بأكملها.
دلفا مع بعضهما للداخل فانتبه “يوسف” للمكان الذي ظل كما هو مُحتفظًا بشموخه مع مرور الوقت والأيام، وقف في شرفة المكان يطل على شوارع المدينة وسط شرفةٍ يملؤها الزرع الأخضر والإضاءة الذهبية، أقترب منه “جـواد” يجاوره في وقوفه وهو يسأله بثباتٍ:
_ها !! جيت ليه؟ أوعى تقولي لسه مش قادر تتخطى.
سحب نفسًا عميقًا وهتف بسخريةٍ:
_اتخطى !! اتخطى إيه يا “جـواد” ؟ قولي بجد إزاي أخرج من كل دا عادي، إزاي أفضل ثابت في مكاني شامخ ورافع راسي زي الجبل؟؟ طب تعرف إن أمي طلعت عايشة هي وأختي ؟.
ذُهِلَ “جـواد” وسأله باستنكارٍ شديد لحديث الأخر:
_إيه ؟؟ بتقول مين؟
ابتسم “يوسف” بوجعٍ وأخبره من جديد:
_أمي وأختي عايشين، والبيه كان خاطفني منهم، البيه اللي دمر كل حاجة فيا وقتل “يوسف” اللي اتربى على أيد “مصطفى الراوي” عمي اللي رماني في مصحة المجانين واللي سجني، طلع خاطفني من أمي وسايبها تتعذب، مش أنتَ دكتور أمراض نفسية ؟؟ أقسم بالله أنا اكتر إنسان سليم نفسيًا هتقابله في حياتك، علشان المريض اللي بحق هو اللي اتسبب في أذى الناس نفسيًا.
زفر “جـواد” بثقلٍ ثم أخبره بلهفةٍ وكأنه يخشى عليه من الماضي خاصةً إذا لم يتحكم هو في ألمه:
_طب جاهز تقولي كل حاجة ؟؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف بلامبالاةٍ:
_لأ مش جاهز، أنا مش جاي علشاني أصلًا، أنا جاي علشان مراتي، هي محتاجة أكتر مني.
سأله “جَٕواد” باستهجانٍ بالغٍ خوفًا من فعله الذي يخشاه هو ذات نفسه ويخشى تهوره:
_مين ؟؟ “شــهـد” ؟؟
_لأ، “عــهد”.
كان هذا جوابه المختصر مُندفعًا في تبرير سبب تواجده هُنا، لقد صارع الماضي وقرر لأجلها أن يواجهه من جديدٍ لأجلها هي، وكأن حياته منذ ظهورها فيها وهو التزم هذه الجُملة وصادقها منذ أن اقترنت حياته بحياتها، أصبح هناك لأجلها واليوم يزور هذا المكان أيضًا لأجلها هي.
__________________________________
<“وجهه كله خير، لكنهم يريدونه في الشر”>
نزل “مُـنذر” من بيته بعدما أخذ الأوارق الخاصة بـ “أيوب” وقد ركب سيارته لكي يتوجه إلى “ماكسيم” ويقابله حتى أوقف سيارته في منطقة المُقطم وخرج منها يمد يده له بالورق وهو يقول بثباتٍ:
_دي كل حاجة عاوزها عنه، هنا، عاوزه ليه بقى؟.
ضحك “ماكسيم” وقال بنبرةٍ فرحة:
_عاوزه علشان دا وش الخير، أي حاجة هتقف قصادي زي ما بتقف في فتح المقابر ومنعرفش نفك الرصد، أكيد واحد زي “أيـوب” عنده حلول، إنسان صادق ونيته صافية ومش طماع أكيد يعني هيفيدنا، خصوصًا إن “إسماعيل” أصلًا لازم يكون معاه حد زي “أيـوب” واللي حكتهولي عنه، يعني…أنا بجمع الناس اللي عاوزهم علشان أخد اللي أنا عاوزه، فهمت ؟؟.
حرك رأسه مومئًا له وهو يتفهم حديثه، بينما الأخر فتح الملف ونظر فيه يقرأ اسمه الذي جعله يقف مدهوشًا حينما قرأ اسم زوجته”قمر مصطفى الراوي”، قرأ الاسم مرة وثانية وثالثة وحاول ربط العلاقة بين الشابين ليفهم أن هناك عصفورين سوف يتم صيدهما بحجرٍ واحدٍ فقط، الحجر الذي يمثل خزينة الذهب لديه.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى