روايات

رواية غوثهم الفصل الثاني عشر 12 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني عشر 12 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الثاني عشر

رواية غوثهم البارت الثاني عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثانية عشر

“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
من سُنن الحبيب:
_من المستحب احتضانُ الحزين، واستدلَّ العلماء على ذلك، بموقف الرسول ﷺ مع جذعِ الشَّجرة الذي بكى من حنينهِ إلى النَّبي ﷺ؛ فسمعه الرسول ﷺ فمسح عليه واحتضنه.
ثمَّ قال ﷺ: «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ؛ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
_صلوا على حبيبنا الرسول ﷺ
____________________
_حينما نزلت الصفعة على وجهي لم تؤلمني هي بذاتها إنما ما ألمني بحق هو رؤية صاحب الكف الذي لطم وجهي بدون رأفةٍ، من ظننت في وجودهم النجاة هم نفسهم من ألقوني كما الغريق في المياه، تلك التي ظننتُ أنني مخلوق فقط لأجلها ومساراتي تقودني إليها كانت هي نفسها من قتلتني بنظرة قسوة من عينيها، أصبحت أسيرًا لحزني وبؤسي، أخبروني أين أجدني، أين أنا مني…أين نفسي ؟؟.
تلك الصدمة التي شلته وهو يراه أمامه بعد كل تلك السنين !! نسخة أخرى أقرب لوالده ناهيك عن جموده وقسوته وهو يقف أمامه ليثبت له أنه يختلف عن أبيه تمامًا، وقف “عبدالقادر” أمامه بعينين دامعتين فيما ظل الجمود ساكنًا في ملامح الأخر حتى نطق بنفس الطريقة الخشنة:
_هــمـا فـيـن يـا حــج ؟؟ اللي ليا هنا حياة كاملة، مش هتنازل عنها، قدر مشواري وموقفي وأظن إنك عارف كتير.
ضغط “عبدالقادر” على جفونه يخفي دموعه وتأثره فحقيقة كهذه تظهر أمامه بالطبع لها أثرًا كبيرًا عليه لذا اهتز جسده وعلا ضغط الدم في رأسه وقد لاحظه “أيهم” لذا أمسكه يقول بلهفةٍ وقلقٍ عليه:
_مالك يا بابا، أنتَ كويس ؟؟.
رد عليه بنبرةٍ خافتة أظهرت تيهه وضياعه:
_متقلقش…أنا بخير الحمد لله، وديني البيت بس أخد الدوا.
أسنده “أيهم” فيما وقف “يوسف” يتاعبهما باهتمامٍ حتى نظر له “عبدالقادر” بعينين لامعتين بصفاءٍ قلما وجده في أعين أحدهم له، فتحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ واهنة يقول:
_تعالى معايا يابني البيت نورني، الكلام مش هينفع هنا.
هَمَّ “يوسف” ينطق مُعترضًا فقاطعه “عبدالقادر” بعدما قرأ الاعتراض في نظراته بلهجةٍ سلحها بالقوةِ رغم ارتجافة أوصاله:
_لو ابن المرحوم فعلًا زي ما بتقول، يبقى تيجي معايا علشان “مصطفى الراوي” عمره ما رفضلي طلب.
عند ذِكر والده لمعت عيناه بدموعٍ حارقة ونطق آملًا في الحصول على مبتغاه:
_يعني أنا جيت عنوان صح؟؟
ربت “عبدالقادر” على كتفه مُبتسمًا وقد تأثر هو الأخر وظهرت اللمعة البراقة في عينيه، ولولا الهيبة البادية على كليهما لكانا بكيا سويًا في ذلك اللقاء الغريب الغير مُرتب له من الأساس.
بعد مرور دقائق في مندرة “عبدالقادر” جلس “يوسف” في انتظاره يدخن السجائر بشراهةٍ ويُطفئها في منفضة السجائر بعدما اخذه “أيهم” للأعلى حتى يعطيه دوائه.
دلف “أيوب” بجوار المندرة فلاحظ رائحة السجائر التي عبقت في أرجاء البيت، حينها سعل بشدةٍ ثم رفع صوته ينادي على “وداد” بقوله:
_يا ست “وداد” !!
أتت له من الداخل تقول بلهفةٍ:
_أيوا يا أستاذ “أيوب” خير إن شاء الله!!
سألها بملامح وجه مشدودة وكأنه يُبدي تذمره:
_ إيه ريحة السجاير دي بس ؟؟ مين بيدخن هنا؟؟
همست له بنبرةٍ خافتة بعدما اقتربت منه:
_دا الضيف اللي عند الحج، قاعد جوة مستنيه لحد ما ينزله مع الأستاذ “أيهم” وزمانهم نازلين.
عقد ما بين حاجبيه وهو يقول:
_ضيف ؟؟ طب اتفضلي أنتِ وأنا هدخل أشوفه.
انصرفت من أمامه بخنوعٍ فيما تحرك هو نحو المندرة بخطواتٍ هادئة وإبان ذلك كان “يوسف” جالسًا على المقعد يهز قدميه بانفعالٍ وتشنجٍ، فدلف “أيوب” يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتبه له “يوسف” فرفع رأسه يسأله بجمودٍ:
_أنــتَ مــين ؟؟
تشكلت السخرية على وجه “أيوب” ورد بتهكمٍ:
_والله أول مرة أشوف غريب بيسأل واحد في بيته يقوله أنتَ مين، جديدة دي بصراحة.
انتفض “يوسف” على الفور من محله يتفرس ملامح وجهه فمد “أيوب” كفه وهو يقول بوجهٍ بشوشٍ كعادته:
_معاك “أيوب العطار” الابن الصغير للحج “عبدالقادر”
وزع “يوسف” أنظاره بين كفه الممدود وبين وجهه ثم مد كفه يعانق كف الأخر وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_وأنا “يوسف الراوي” الابن الكبير للمرحوم “مصطفى الراوي”
رد عليه “أيوب” بودٍ:
_اتشرفت بمعرفتك….البيت نور بيك.
قبل أن يرد عليه “يوسف” في تلك اللحظة تحديدًا دلف “عبدالقادر” وبجواره “أيهم” وقد لاحظ كلاهما وقوف الاثنين مقابل بعضهما، فتنهد “عبدالقادر” وتشدق بحبٍ:
_كويس أنكم اتعرفتوا على بعض.
قال حديثه ثم دلف يرحب بضيفه العزيز حتى جلسوا جميعًا وكل ذلك “يوسف” يجلس متعجبًا من ثباته لكل هذه المدة حتى وصل إلى هذه اللحظة ولازال متمسكًا بزمام أمور عقله، على الرغم من جنون نفسه وحالته الصعبة في السيطرة على نفسه قبل أن يظهر الوجه الآخر منه.
ابتسم “عبدالقادر” وهو يقول بتأثرٍ:
_البيت نور بوجودك فيه، أنتَ نسخة منه بالظبط.
تحدث “يوسف” بلهفةٍ:
_يا حج أنا مش جاي علشان أعرف شبهه ولا لأ، أنا عاوز أعرف فين أمي وأختي، اللي قالي عرفني إنهم عندك وإنك هتحافظ عليهم، صدقني مش عاوز غيرهم، هما فين ؟؟
سأله باهتمامٍ جليٍ وهو يتفرس ملامحه:
_وهو مين اللي حكالك عن اللي حصل؟؟
رد عليه بنبرةٍ جامدة عند ذكرها:
_”حكمت” مرات جدي، ريحت ضميرها قبل ما تموت، قالتلي على اللي حصل زمان، وإن حياتي كلها كدبة، فتحت عليهم أبواب جهنم اللي هيشوفوها مني قبل موتها علشان لما ابعتهم ليها، يبقوا يصفوا حسابهم صح سوا.
لاحظ حديثه الشباب و والدهم، فتنهد “عبدالقادر” مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ حزينة:
_أمك فعلًا كانت هنا يابني، بس مشيت بأختك من بدري وسابت حارة العطار، بس أنا أقدر أوصلهم مع إن دا هياخد وقت.
اندفع “يوسف” يسأله بنبرةٍ خشنة:
_ازاي وهما أمانة عندك ؟؟ وازاي وهما عارفين أني عايش، يعني إيه مشيت يا حج؟.
رد “عبدالقادر” مُفسرًا بثباتٍ:
_علشان أمك مبطلتش تدوير عليك، أظن اللي حصل كله اتحكالك عليه و إزاي هما عرفوا يدوسوا عليها بعد المرحوم أبوك، مشيت لما تعبت من غيرك.
رفع كفيه يمسح وجهه ثم قال بنبرةٍ يائسة:
_طب أوصلهم إزاي ؟؟ أنا تعبت وماسك اعصابي بالعافية، واللي هيسكتني عليهم أني ألاقي أمي وأختي، علشان بعدها مش هرحم حد حتى لو بموتي، أنا ماسك نفسي قصادهم بالعافية، لو هو كان صاحبك بصحيح ساعدني اوصلهم.
رد عليه بنبرةٍ هادئة يُقدر حالته وسط نظرات الاستنكار من أبنيه:
_من غير ماتقول طالما ظهرت هقلب الدنيا لحد ما أوصلهم، أبوك كان أخويا وعمرنا ما سيبنا بعض، وإني أساعدك دي كأني بساعد ابني التالت، صحيح مصادفش ونتقابل وأنتَ صغير غير في أول عمرك بس ليا نصيب أشوفك وأنتَ كبير.
تنهد “يوسف” ثم مسح وجهه بعنفٍ فقال “عبدالقادر” يقترح عليه بدهاءٍ لعل وعسى يحدث مايريده هو:
_ممكن تيجي تقعد معانا هنا وتبقى معانا في حارة العطار، وأهو تكون معايا وأنا بدور عليهم يمكن نلاقيهم إن شاء الله.
نظر له “يوسف” بتخبطٍ اتضح في مقلتيه، فيما أشار “عبدالقادر بعينيه” لابنه الكبير “أيهم” فتحدث مُسرعًا:
_ اسمع مني حارة العطار كبيرة ولو زي ما بتقول عاوز تلاقي والدتك خليك معانا هنا، فكر فيها هتلاقي دا أنسب حل.
وقف “يوسف” ثم قال بنبرةٍ حازمة:
_هنشوف إن شاء الله، بس حتى لو من غيركم أنا هلاقي أمي وأختي، أنا عيشت عمري كله مبعرفش أسيب حقي، مابالك بروحي اللي غايبة عني ؟؟ عن إذنك يا حج.
أوقفه “عبدالقادر” قبل أن يلتفت ويغادر قائلًا:
_ وروحك دي علشان ترجع محدش هيعرف يعمل كدا غيري بس تكون قصادي ومعايا هنا، قولت إيه ؟؟
التفت يوزع نظراته عليهم ولم يدري لماذا تعلقت أنظاره بـ “أيوب” الذي رمقه بنظراتٍ ثاقبة فحرك عينيه نحو “عبدالقادر” يقول بزهوٍ:
_لما أقرر هرد عليك، بس أعمل حسابك أني مش هغيب عنك، أنا هكون هنا كل يوم و لو طلبت أني أقلب حارة العطار على دماغ الكل هنا علشان الاقيهم؛ هعمل كدا.
ابتسم “عبدالقادر” له بطيبةٍ وهتف:
_تحت أمرك يابني، الحارة بصحابها كلهم تحت أمرك.
تعجب من رده المُنافي لطريقته فيما أخرج “عبدالقادر” بطاقةٍ تعريفية بعمله وعليها رقمه ورقم أبناءه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أمسك يا “يوسف” دي ورقة فيها أرقامنا كلنا، خليها معاك، بس قولي مين عرفك طريقي؟؟ أكيد حد متأكد من مكاني.
رد عليه بإيجازٍ:
_”فاتن” أخت أبويا، مظنش إنك عارفها.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ ثم نطق مؤكدًا:
_صح….أنا فعلًا معرفهاش…بس أكيد هي عرفاني.
أخذ منه البطاقة ثم نطق بجمودٍ:
_عن اذنكم….مؤقتًا لحد ما أرجع تاني.
عاد مُغادرًا _مؤقتًا_ كما أخبرهم، فيما نظر في أثره “عبدالقادر” بغموضٍ قرأه ابناه في الحال، فهتف “أيوب” مُستفسرًا:
_أنا مش فاهم أي حاجة خالص، أمه وأخته مين؟؟ دول عندنا هنا في حارة العطار؟؟ ومين دول الحارة مليانة ستات كتير ببنات.
تنهد “عبدالقادر” وضرب بعصاه الأرض بحركاتٍ خافتة ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أمه واخته مش هنا أصلًا، بس أنا عاوزه تحت عيني.
تحدث “أيهم” بحيرةٍ:
_ايه الفيلم دا كله، بتعشمه ليه طيب؟؟.
نظر له “عبدالقادر” بثباتٍ يحاول إخفاء شيءٍ ما وقد نجح في ذلك وهو يقول بضجرٍ من كثرة الثرثرة:
_خلاص مش مهم سيبوا الجاي على ربنا وتوكلوا عليه، هو لطيف بعباده وأكيد اللي جاي خير.
أذعن له الإثنان بعدما قررا التغاضي عن هذه المواضيع الغريبة والتي لم يعرفها كلاهما، فيما غرق “عبدالقادر” في ماضٍ لم يكن بالقريب لكن أثره على القلب لازال باقيًا وملموسًا حتى نتيجته الحالية تشبهت بأبواب الجحيم التي فتحت عليهم ستدمر كل ما يعترض طريقها.
_____________________
جلس “يوسف” في سيارته على مقعد القيادة يتنفس بعمقٍ وقد عاد بذاكرته للخلف حيث مقابلته مع “حكمت” قبل وفاتها، تلك المقابلة التي قتلت الباقي من روحه أو لربما أحيته من جديد، لا يعلم لكن هناك أشياءٌ تغيرت بداخله ولربما تدمرت وكل ما يملكه فقط الصبر على الرغم من نفاذه _أساسًا_ لكنه حاول التسلح به.
(في لقاءه مع “حكمت”)
جلس على المقعد بجوار الفراش بدون إكتراثٍ لها حتى قالت هي بنبرةٍ واهنة:
_اسمعني علشان الباقي مش كتير ومعرفش أنا فاضلي قد إيه، ومعرفش فوقت علشانك إزاي بس أكيد ربنا رايد إنك تعرف بالحقيقة.
تبدلت ملامحه على الفور ليظهر الفضول في مُقلتيه وهو يتتبع ملامحها منتظرًا منها التكملة لتقول هي جملتها الصادمة:
_الحادثة بتاعة أبوك الله يرحمه فاكرها!!
أبتسم بتهكمٍ ونطق بنبرةٍ موجوعة:
_فاكرها ؟؟ وهي دي حاجة تتنسي؟؟ اليوم اللي دمر حياتي كلها وخلاني هنا يتيم لا أب ولا أم، إيه اللي فكرك بيه؟؟
تنفست بعمقٍ ونطقت بخوفٍ من القادم:
_بس إحنا كدبنا لما قولنالك إن أمك ماتت هي واختك في الحادثة، أمك وأختك مماتوش يا “يوسف”، أبوك بس اللي مات.
نظر لها بدهشةٍ ونطق بطريقته المعهودة:
_بصراحة طول عمري أسمع عن تخاريف الميت، بس أول مرة أشوفها، دي حاجة غريبة أوي ربنا يجعلها في ميزان حسناتك.
نبست من جديد بنفس التردد:
_أنا…أنا واعية لكل حاجة بقولها…. مش بخرف، أمك مماتش وأختك حية مراحتش معاهم الليلة دي، بس لما المحامي قال إن أبوك كتب كل حاجة باسمك أنتَ، “عاصم” وأنا اتجننا، مقدرناش نقبل بحاجة زي دي، إن حتة عيل صغير يبقى عنده كل الحاجات دي، كانت ضربة لينا، علشان كدا “عاصم” خدنا كلنا وهرب وأنتَ معانا علشان كنت عند عمتك اليوم دا ومروحتش معاهم.
توقفت تزدرد لُعابها وهو يجلس أمامها جسدًا بلا روح، فتابعت من جديد ببكاءٍ:
أبوك مات بس أمك طلعت عايشة وليها عمر تاني، وعلى ما خرجت من المستشفى كان عمك خلص كل حاجة واستلم جثة أبوك ودفنها، وساعتها قولنالك إن كل واحد بيتدفن عند عيلته، ساعتها كنت عيل وصدقت….على مافاقت عمك كان خلص كل حاجة وداخت ورانا وكل ما نعرف إنها قربت توصل نمشي بيك، وبقى عمك وصي عليك والمحامي ظبطله الورق…. أنا كنت عارفة كل حاجة وساكتة علشان الفلوس، للأسف فيه تفاصيل كتير مش هقدر أقولها علشان الوقت، بس أمك راحت أخر حاجة عند راجل صاحب أبوك بعدما….بعدما ما “عاصم” سلط صاحب بيت أهلها وطردها منه، راحت للراجل دا تستنجد بيه…ودي أخر حاجة اعرفها، روح هات حقك من عنده…. أمك وأختك عنده….عند الراجل دا.
بدأت في مرحلة التيه منه وهي ترمش بوهنٍ، فاندفع نحوها يسألها بنبرةٍ جامدة:
_أنتِ بتقولي إيه ؟؟ أنتِ كدابة، أكيد دي تخاريف موت صح ؟؟ مستحيل يكون الجبروت في قلوبكم كدا، مستحيل تكونوا حكمتوا عليا بكدا….قولي إنك كدابة.
رفعت كفها تضعه على وجنته تحدثه بنبرةٍ حروفها متقطعة:
_ارحمني…ابقى سامحني….يمكن….دا يخفف حاجة عني.
هزها بعنفٍ في يده وهو يصرخ فيها بقوله:
_وأنـــتِ مــرحمتـنـيـش لــيه ؟؟ هـــا !! عارفة كلامك دا معناه إيه ؟؟ إنك حكمتي عليا طول حياتي باليُتم ودلوقتي بتحكمي عليا بالاعدام، ماهو أنا هقتلهم…. أكيد هقتلهم، كل دا علشان الورث !! كنتوا خدوه بس سيبوهالي هي، ربنا رحمني وسابلي أمي وأختي، وانتم عارضتوا ربنا في رحمته بعيل يتيم ؟؟.
كان يهزي مع نفسه وكأنه سُجن في بئر حديثها، فشهقت هي بتقطعٍ شهقة الموت لتعلن عن مفارقة الروح لجسدها، فأمسكها يهزها بعنفٍ وهو يسألها بخوفٍ من رحيلها قبل إخباره:
_اســــمــه إيـــه ؟؟ الـــراجل دا اســـمه إيـــه ؟؟
خرجت حروفها مُتقطعة وهي تقول:
_عـ….عبد…. عبدالقادر….العطـ…ار….سامحني…يا “يوسف”.
اتسعت عيناه بهلعٍ بعدما فقدت روحها على يده هو في أكثر الأوقات التي يريد منها التواجد معه، تلك التي بغضها وكرهها الآن يتمنى فقط منها الافاقة لو لحظاتٍ تُثلج نيران روحه لذا صرخ بها وهو يهز جسدها بعنفٍ وقد رحل التفكير عن عقله:
_قـــومــي….مش هتمشي دلوقتي، قومي
لقد كان موتها محتومًا في تلك اللحظة بعدما أخبرته باسم ذلك الرجل ليبقى أخر ما تعلق بذهنه وعلق بسمعه.
(عودة إلى هذه اللحظة)
خرج من شروده يمسح وجهه بعنفٍ ثم قام بتدوير محرك السيارة ليرحل من الحارة على الوعد بالعودة من جديد حتى يلتقي بأحبته، وقد قرر العودة إلى مكانٍ أخرٍ يعلم جيدًا أن تواجده به يساعده في تنفيذ القادم.
________________________
جلس “عبدالقادر” بشرودٍ في محله وجلس مقابلًا له “تَـيام” يسرد عليه تفاصيل العمل لكنه وقع أسير الشرود وسلطة الماضي أمام عينيه وكأن بظهور “يوسف” من جديد عودة آلام الماضي لهم جميعًا، لاحظ “تَـيام” شروده لذا هتف بنبرةٍ متعجبة:
_يا حج !! أنا بكلمك مش سامعني ؟؟
رد عليه بتيهٍ بعدما انتبه لصوته:
_ها !! بتقول حاجة يا “تَـيام” ؟؟
تحدث بتعجبٍ يجاوب على سؤاله بسؤالٍ أخر:
_أنتَ مش معايا خالص يا حج، بقولك الحج “حافظ” طالب رخام أسود ورمادي، علشان وجهة برجين كاملين، فيه طلب كبير على اللونين دول، اجمع الموجود من المخازن ولا اشوف المصنع بتاعنا ؟؟.
تنهد “عبدالقادر” ثم هتف بنبرةٍ خافتة وكأن الموضوع لا يُعنيه من الأساس:
_اللي تشوفوا صح أعمله، شوف الأحسن ليك هنا.
حرك رأسه موافقًا ثم أغلق دفتره واقترب منه يقول بنبرةٍ مهتمة من خلال دفعته في الحديث بقلقٍ:
_يا حج فيه حاجة مزعلاك؟؟ حد ضايقك؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لأ يابني أنا بخير، متشغيلش بالك أنتَ.
لاحظ “تَـيام” اقتضاب ملامحه الضيق المُعتلي وجهه، ففهم أن الأمر يخصه ولربما تكون “آيات” رفضته لذا هتف بقلقٍ:
_هي الآنسة “آيات” رفضت أني أتقدم ؟؟
ابتسم “عبدالقادر” رغمًا عنه ونطق بسخريةٍ:
_وكلٌ يبكي على ليلاه ؟؟ لأ يا سيدي الموضوع ميخصكش، دي حاجة تخص واحد صاحبي من زمان، متقلقش.
حرك رأسه موافقًا وهو يجبر شفتيه على التَبسم فقال “عبدالقادر” له بعجالةٍ:
_بقولك إيه، روح البيت وقول لـ “وداد” تجيبلي الدوا علشان ضغطي مش مظبوط، يلا روح.
تحرك “تَـيام” من أمامه بلهفةٍ يتجه نحو البيت، فابتسم “عبدالقادر” وهو يعلم أنه سيستغل تلك الفرصة وقد قرر يثبت له أنه يثق به كما يثق بأبناءه، ثم عاد لشروده من جديد.
وصل “تَـيام” لبيت “عبدالقادر” ففتحت له “وداد” البيت وما إن ابصرته أمامها ابتسمت له وهي تقول بمرحٍ:
_البيت نور، خير يا حبيبي.
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_حبيبة قلبي يا “دودو” يا عسل، مبتجيش عندنا ليه؟؟
ردت عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_هاجي واشرب عصير على حسابك كمان، حلو كدا؟؟
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها، ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_طب هاتي علاج الحج، وهاتيلي حاجة اشربها وأنا قاعد في الجنينة مستني يلا يا “دودو”
حركت رأسها بيأسٍ وهي تضحك له ثم تحركت من أمامه فيما تحرك هو بخطواتٍ ثابتة نحو حديقة البيت يختلس النظرات كما السارق المُتمكن، يعلم أين هي تحديدًا لذا حرك رأسه نحو الأرجوحة فوجدها تجلس عليها بخمار رأسها كما عادتها حينما تجلس في حديقة البيت وذلك لانخفاض سور الحديقة مما يُسهل للمارةِ رؤية الجالس بالداخل.
ابتسم “تَـيام” بحبٍ وهو يراقبها تجلس على الأرجوحة وتمسك في يدها كتابًا اندمجت في قراءة صفحاته، فحمحم بخشونةٍ ثم اقترب منها يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رفعت عينيها من على الكتاب وحينما رأته أمامها فرغ فاهها وارتبكت من حضوره، فيما استأذنها هو بقوله:
_ ممكن أقعد معاكِ شوية بس ؟؟
لم تعرف بما تُجيبه، بينما هو سحب المقعد وجلس مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة وبدا الإحراج واضحًا عليه:
_أنا عارف إنك مش سمحالي أقعد هنا ولا حتى ينفع اقعد معاكِ من غير وجه حق، بس أنا لازم أتكلم معاكِ ضروري قبل أي حاجة وهروح أقول للحج أني قعدت معاكِ كمان.
اخفضت رأسها بخجلٍ تَغض بصرها عنه، فاندفع هو يسألها بدون تجميل للحديث أو برمجته في عقله:
_”آيات” أنتِ موافقة عليا ؟؟ يهمني أعرف رأيك منك.
تنهدت مُطولًا ثم رفعت رأسها تقول بخجلٍ:
_موافقة على إيه يعني مش فاهمة ؟؟
رد عليها بلهفةٍ بعدما حدثته وتنازلت عن صمتها:
_يعني الحج مقالش ليكي على طلبي، أكيد عرفتي.
تنهدت مُطولًا وقالت بنبرةٍ هادئة:
_قالي وأنا استخرت ربنا في الموضوع دا.
بدت ملامحه قلقة من القادم، لترد هي بسؤالٍ:
_بس أنا قبل ما أجاوب على طلبك، بس أنا عاوزة أعرف رأيك في الخطوبة الشرعية وفيا كبنت بتحاول تلتزم، موافق؟؟
رد عليها بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا شرف ليا طبعًا إن ربنا يكرمني بيكي.
اتضح الخجل على ملامحها واخفضت رأسها بخجلٍ من جملته العفوية هذه، فتصنعت الجمود وقالت:
_لو سمحت الاجابات تكون من غير مراوغة، بعدين هل أنتَ ملتزم ؟؟
رد عليها مُسرعًا:
_والنعمة الشريفة اللي “وداد” بتحضرها جوة دي بصلي الفجر حاضر كل يوم ورا أخوكي “أيوب” عمري ما فوت مرة واحدة.
ابتسمت رغمًا عنها ثم قالت بنبرةٍ هادئة توضح له:
_ربنا يتقبل منك إن شاء الله ويثبتك على طاعته، بس حرام تحلف غير بـلفظ الجلالة، سيدنا محمد ﷺ قال:
“من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت”
وقال كمان ﷺ:
“لا تحلفوا بأبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون”
وقال كمان ﷺ:
“من حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك”
سألها باهتمامٍ بعدما ذكرت قول النبي ﷺ أمامه:
_طب يعني إيه وضحي كدا ؟؟.
ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا اسمه كدا حلف بغير الله والحلف بغير الله لا يجوز، ومينفعش تقول مرة وعديها لأن الحلف بالله عبادة والعبادة لا تصرف لغير الله.
سألها باندفاعٍ يحاول تبريء نفسه:
_بس أنا مش نيتي كدا أو حتى أني افكر أشرك بالله.
ردت عليه بنفس الوجه المُبتسم توضح له بإردافٍ أكثر:
_مش محتاجة نية للأسف، مجرد صرفها لغير الله لا يجوز، يعني ينفع تسجد لحد وتقول أنا مش نيتي عبادة ؟؟ لأ طبعًا لأن دي عبادة خاصة بربنا سبحانه وتعالى.
سألها من جديد باهتمامٍ:
_طب حتى لو بحلف حد وبقوله وحياة حبيبك النبي محمد؟؟ أصل علطول بقولها وبحلف الناس كلها بيها.
حركت رأسها موافقةً واضافت بتأكيدٍ مردفةً:
_ آه مينفعش، لأن سيدنا محمد ﷺ بنفسه هو اللي قال مينفعش تحلف بغير الله، ولو خدت على الكلمة حاول تغيرها، مش هتتعبك يعني درب لسانك على الحلف بلفظ الجلالة بدل ما يكون فيها إثم عليك، وربنا يقدرك إن شاء الله.
لم يعلم لماذا ارتفعت ضربات قلبه وشعر بنفسه قليلًا أمامها وأمام التزامها ومعلوماتها في الدين الإسلامي، فلاحظت هي نظرته تلك وتبدل ملامحه، لذا حاولت إصلاح الموقف وقالت بنبرةٍ هادئة:
_نرجع لموضوعنا تاني، هتقدر تتقبل إن الخطوبة تكون بالتزام شرعي نتعرف فيها على بعض ؟؟
أجبر شفتيه على التَبسم ثم قال بنبرةٍ بدا عليها الإضطراب:
_أنا لو عليا راسي مرفوعة بمجرد معرفتك من بعيد، مابالك لما ييجي يوم ونكون فيه سوا مع بعض؟؟ بس الفكرة أني مش في نفس التزامك، يعني بصلي الفروض كلها بصوم عادي، بحاول يعني بس مش بنفس القدر بتاعك، حاليًا حاسس أني مش هينفع أكون معاكي، أو متأكد من كدا وكأن الفروق بينا عمالة تزيد أوي.
تفهمت ما يشعر به لذا قالت هي بلطفٍ:
_لأ بالعكس، أنا يدوبك نقطة من بحر كبير لسه عاوزة أوصله، بس مشكلتي أني عاوزة حد يشجعني نكمل الطريق سوا، “أيوب” أكيد هييجي يوم ويكون عنده حياته وبيته، أنا عاوزة حد نمشي الطريق فيه سوا مع بعض، موافق؟؟
أبتسم لها وهو يسألها وقد عاد أمله من جديد:
_يعني أفهم إنك موافقة عليا ؟؟
ابتسمت هي الأخرى وقالت بنبرةٍ هادئة:
_أنا الحمد لله صليت استخارة وشوفت رؤية حلوة أوي.
سألها باهتمامٍ تخالطه اللهفة:
_بجد ؟؟ طب حلمتي بإيه؟.
أردفت توضح له بنفس الهدوء:
_حلمت إنك جيت ليا في الحلم ومديت ليا إيدك وأنتَ زعلان وأنا فضلت واقفة أفكر لحد ما في الأخر وافقت وحركت راسي لقيتك بتشاورلي على مكان بعيد وعاوزني اروحه معاك، رغم أني كنت خايفة بس في الأخر وافقت وروحت معاك، بس مش عارفة إحنا رايحين فين.
اتسعت ابتسامته وهو يقول:
_بس أنا عارف، أنا عاوزك تيجي العالم بتاعي، عاوزك تنوريه بوجودك فيه وعاوزك تكوني الزوجة الصالحة اللي اتقال عنها:
_”فاظفر بذات الدين تربت يداك”
شرف ليا وللعالم بتاعي إنك تنوريه بوجودك فيه.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بوجهٍ مبتسمٍ:
_ربنا يقدم اللي فيه الخير إن شاء الله.
اعتدل واقفًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة رغم العبث الذي تشكل بنظراته وهو يتحدث:
_أمي علطول تقولي روح ربنا يلاقيك بالخير دايمًا، النهاردة أول مرة أخد بالي أني قابلت الخير كله وقعدت معاه كمان.
تحرك من أمامها فيما حاولت هي كتم بمستها الخجولة فوجدت ضربات قلبها تتصارع مع بعضها لتفوز هي في نهاية الأمر بضحكةٍ صافية جعلتها تسحب الهواء داخل رئتيها.
خرج “تَـيام” من الحديقة فقابلته “وداد” وهي تتصنع الأسف بقولها:
_يادي الكسوف، العصير خد وقت لحد ما جهزته.
رفع حاجبه بسخريةٍ وتحدث بتهكمٍ:
_يا شيخة؟؟ يعني مش الحج اللي قالك تقفي تراقبيني؟؟ بس شوفتي كنت مؤدب إزاي ؟؟ معملتش حاجة أهو، عاوزك تقوليله أني صليت هنا كمان.
لكزته في كتفه بغيظٍ منه وهي تقول بسخطٍ:
_عاوزني أكدب يا قليل الأصل ؟؟
علم أنها فعلت ذلك بحقٍ فارتفع صوت ضحكاته وقال بعدها بدهاءٍ:
_قفشتكم أنتِ وهو والله، عاوزك بقى تسيحيلي أني راجل متربي عشروميت مرة وعُمر العيبة ما تطلع من بوقي، ماشي يا “دودو” وابقى اتصلي بأمي عرفيها ها، خليها تفرح.
تحرك خطوتين ثم عاد لها بمشاكسىةٍ يأخذ الكوب من على الصينية وهو يقول بمعاندةٍ:
_هاتي دي أنا اولى بيها داخل على خطوبة ومواويل زرقا.
تحرك من أمامها خارج البيت بكوب العصير فقالت “وداد” بيأسٍ منه:
_الله يرحمه أبوك لو كان شاف خلفته بالهبل دا كان زمانه عملها من نفسه واتكل قبل شوفته للخلفة الهطلة دي.
______________________
عاد “يوسف” لبيت الزمالك من جديد فوجده متكدسًا بالناسِ لتقديم واجب العزاء من الجيران وعُمال الشركة، تنهد بضجرٍ يحاول كظم غيظه ثم وقف في الصف بجوار “نادر” للأسف لكنه قرر التصرف بطبيعته حتى لا يُثير شكوكهم، فيما تحدث “نادر” بسخريةٍ من وقوفه بجواره:
_غريبة يعني، إيه الحنية دي؟؟ واقف تاخد عزاها؟؟
تحدث “يوسف” وهو ينظر أمامه بضيقٍ:
_بس يا بابا، أسكت يا حبيبي واحترم عزا تيتة واسمعلك ربع يشفعلك شوية بدل ما أسمعه ليهم على روحك.
اغتاظ “نادر” من طريقته فهتف من بين أسنانه:
_هي كانت ستك ؟؟ واقف هنا ليه؟؟ ما تمشي.
نظر له “يوسف” بحاجبٍ مرفوعٍ فيما قال “نادر” من جديد:
_ولا واقف تاخد لقطة قدام الناس؟؟ الشغل دا هناك على الخيول بتوعك مش هنا، هنا أنا صاحب الليلة.
ابتسم “يوسف” وردد بسخريةٍ يقصد إهانة الأخر:
_ “قُل للحَمير وإن طالت معالفها
لن تسبق الخَيل في ركض الميادين”
رمقه “نادر” بغيظٍ تفاقم عن سالفه، فيما مال “يوسف” على أذنه يهمس بثباتٍ:
_رَيــح…ها رَيــح بدل ما أريحك أنا من الدنيا كلها.
تركه وتحرك للجهةِ الأخرى يقف مقابلًا له، فوجد “شهد” أمامه تجلس وسط النساء وتحديدًا بجوار عمته التي طالعته بخوفٍ تتذكر مقابلة الصباح بعد دفن والدتها.
(عودة إلى الصباح بعد مراسم الدفن)
أنتظر “يوسف” حتى دلفت “حكمت” قبرها وللحق لم ينكر فرحته وهو يراها داخل القبر لم يكن مجرد تشفٍ بها، لكنه تيقن أن ذلك هو الأفضل حتى لا يقتلها هو بنفسه، فيكفيه ما سُيقدم عليه لتحقيق انتقامه منهم جميعًا ليحرق قلوبهم كما تسببوا في إحراق قلبه منذ صغره.
وقفت “فاتن” في مدافن العائلة تتلقى العزاء من السيدات، حتى شعرت بكف أحدهم يسحبها من رسغها وقبل أن تسأل عن هويته أو تصرخ حتى وجدت نفسها أمام قبر “مُصطفى” أخيها في الأعين المخصصة بدفن الرجال بعدما اشترى “عاصم” تلك المدافن، فيما نطق “يوسف” بجمودٍ وعينيه قام بتخبئتهما خلف نظارته الشمسية السوداء:
_أنا جيبتك عنده هنا أهو علشان لو فكرتي تكدبي عليا أنا هخليكي تقعدي جنب أخوكي اللي جاي من عمرك كله، أمي وأختي فين ؟؟
اتسعت عيناها بصدمةٍ وكررت خلفه باستنكارٍ:
_أمك وأختك ؟؟ يعني إيه ؟؟
ضغط على رسغها حتى ألمها وقد تناسى تمامًا أنها عمته وكأنها واحدة من عابرات الطُرق يتصادم معها وهو يقول هادرًا من بين أسنانه:
_ يعني متحوريش عليا، أمك قالت كل حاجة قبل ما تموت وطلعت ناصحة، اعملي زيها أنتِ كمان وقولي أوصل لـ “عبدالقادر العطار” إزاي ؟؟
هتفت خلفه بعينين دامعتين:
_”عبدالقادر” !! إيه علاقته بأمك؟؟
نفذ صبره وقربها له أكثر وهو يقول بنبرةٍ جامدة ضاغطًا على رسغها:
_أنا صبري خلص ومفيش ذرة فيا فيها عقل، لو بايدي هموتك الليلة دي واخلص، بس أنا مستني اجيب اللي ليا، انطقي أجيب أمي منين ؟؟ أنتِ عارفة إنها عايشة.
حركت رأسها نفيًا وهي تذرف الدموع ثم نطقت بنبرةٍ موجوعة بعدما زادت قوة قبضته على يدها:
_يوسف….أنتَ بتوجعني…أيدي يا “يوسف”..
بكت وهي تترجاه حتى سألها هو بصوتٍ منكسرٍ وقد تلاشى جموده وظهر ضعفه أمامها وهو يقول بنبرةٍ متهدجة وقد أعلن البكاء عن نفسه:
_بوجعك ؟؟ وأنتِ موجعتنيش؟؟ مقهرتينيش ؟؟ حكمتي عليا معاهم أني يتيم وأنا ليا أم عايشة على وش الدنيا ؟؟ طب بلاش…أنا مصعيبتش عليكي ؟؟ مقولتيش مرة أني محتاجها ومحتاج حضنها، أنا عيشت عمري كله وسطكم مذلول مستني كلمة حلوة، ردي عليا، موجعتونيش وأنا وسطكم باخد بواقي ابنك ؟؟ موجعتونيش لما خدتوا مني كل حاجة حتى البنت الوحيدة اللي خلتني افكر استقر؟؟ مكسرتونيش لما اترميت في إصلاحية مرة وفي سجن مرة ؟؟ لو كدا بوجعك، اعتبريني بطبطب عليكي، علشان هوجعكم كلكم في اللي ليكم، وأنتِ أولهم علشان عداوتهم كانت صريحة، بس أنتِ كنتي زي الحية.
زاد بكائها وصرخت في وجهه وهي تلطم وجهها بكفها الحر:
_هددوني…والله هددوني إنهم هيرموك في الشارع، قولت تبقى قصاد عيني أحسن، قالولي إن عندهم مليون طريقة تخليك بعيد عني وكل مرة فضلتك على الكل، والله العظيم اختارتك أنتَ، كل مرة أجي أقولك اخاف أخسرك، أنا روحي فيك، أنا والله معرفش مكانها، و “عاصم” و “سامي” قالوا إنهم هيقولوا عليا اتجننت، كل الاختيارات قصادي كانت مقفولة.
نزلت دموعه وهو يصرخ في وجهها بانكسارٍ:
_أنـــتـوا إيــه؟؟ جَـــبابرة ؟؟ فاكرين نفسكم مين ؟؟ بتعارضوا رحمة ربنا ؟؟ أنا مش هرحم حد فيكم، الرحمة دي أبعد حاجة ممكن تشوفوها، قوليلي أوصله إزاي ؟؟ عنوانه فين ومتكدبيش عليا، أمك قالت إن أمي لجئت له بعد ما أخوكي قفل عليها السِكك كلها.
ردت عليه بنبرةٍ باكية وقد تيقنت أن الجحيم فُتحت أبوابه بيديه هو ليحرقهم بنيرانه:
_ساكن في حارة “العطار” اللي في ******* ماما و “عاصم” و “سامي” هما اللي عارفين مكانهم، أنا معرفش والله….علشان خاطري اديني فرصة وسامحني.
دفعها على الحائط خلفها ونطق بقسوةٍ تسلح بها ليقوى على مجابهاتهم:
_لما ربنا ياخدك زي أمك كدا أبقي قوليله يسامحك.
اقتربت منه راكضةً تصرخ باسمه فدفعها هو بيده ثم تحرك للخارج وقد اصطدم بـ “مادلين” وتجاهلها فيما لاحظت “مادلين” حالة الأخرى لذا اقتربت منها تحتضنها والأخرى تصرخ باسمه تود منه فرصةً لكن السيف قد سبق العزل وأنسالت الفرصة من بين يديها كما يَنسُل الخيط من النسيج المُتكامل ليصبح في نهاية المطاف أشلاءًا لم تنفع بشيءٍ،
لذا خرج من مقابر والده مرورًا بمقابر النساء خارجًا ليتجه إلى “حارة العطار” بحثًا عن ذويه.
(عودة لتلك اللحظة)
خرج من شروده بعدما اتصلت نظراته بها لتنكس رأسها للأسفل بخجلٍ و خزيٍ خاصةً وهو يرمقها بسهامٍ قاتلة من نظراته حتى أوشكت على الانصهار محلها بسبب قسوة نظرته.
انسحب هو من المكان وتوجه نحو حديقة البيت يدخن سيجارةً حتى وصله صوتها من الخلف تقول بلهفةٍ:
_أنتَ كويس ؟؟ كنت فين من الصبح ؟؟
التفت لها يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أخرج دخان سيجارته:
_أنا كويس يا “رهف” متقلقيش.
اقتربت منه تقول بقلة حيلة:
_كداب، قبل كدا قولتلي إن لما حد بيموت أنتَ بتتعب وبتفتكر موت عيلتك، ادعيلهم ربنا يرحمهم وتشوفهم في الجنة كلهم.
هتف بسخريةٍ موجوعة:
_اشوفهم بس في الدنيا وبعدين نشوف الجنة.
رغم تعجبها من حديثه إلا أنها تغاضت عنه وقالت بلهفةٍ وكأنها تذكرت لتوها:
_بقولك صح، الحج “نَـعيم” جالك هنا ومعاه شباب كدا باين تلاتة، وشدوا قصاد بعض وفيهم واحد قال إنك لو مظهرتش الليلة دي هيقلب الدنيا عليهم، قولت أعرفك تطمنه طالما عمال تغيب عنهم كدا.
تنهد بعمقٍ ثم قال بامتنانٍ:
_شكرًا يا “رهف” كويس إنك عرفتيني، أهو هروحلهم الليلة دي اطمنهم أنا قافل تليفوني من امبارح.
حركت رأسها موافقةً ثم قالت بضيقٍ:
_ست الحُسن سألت عنك، بس أنا بصراحة هزقتها.
ابتسم رغمًا عنه ثم ألقى سيجارته وأخرج هوائها من رئتيه ونطق بعبثٍ وهو يبتسم لها:
_لو جت سألتك عني تاني، قوليلها “يوسف” بيقولك أنتِ مال أمك.
ضحكت “رهف” وقالت بمرحٍ:
_لأ دي بتاعتك أنتَ بقى، أخلاقي موصلتش لكدا.
حرك رأسه موافقًا فوجد “شهد” تأتي من خلف “رهف” فسألته بنبرةٍ مهتزة تحاول خلق الأحاديث معه:
_طنط “فاتن” عمالة تعيط وتنادي عليك، أنتَ كويس؟؟
اقترب منها يقف مقابلًا لها ناطقًا بلامبالاةٍ:
_أنـتِ مـال أمـك يـا “شـهد” ؟؟
اتسعت عيناها بدهشةٍ من هول المفاجأة وقد ضحكت “رهف” في الخلف بتشفٍ بينما هو تركها ورحل من المكان فوقفت بتبرمٍ تشعر بالنيران وليس بسبب كلمته إنما من إحراجه لها أمام “رهف” وخصيصًا أن كلتاهما تكره الأخرى، فاقتربت منها “رهف” تقول بأسفٍ:
_مُصممة تحرجي نفسك قصادك، وهو عمره ما هيعاملك زي الأول، أنسي يا “شهد”
هتفت الأخرى بثقةٍ لا تدري من أين اكتسبتها:
_وهو عمره ما هيحبك يا “رهف” انسيه.
ابتسمت “رهف” بسعادةٍ وهي تقول:
_والحمد لله إنه محبنيش علشان أفضل متأكدة أنه أخ ليا في ضهري بدل ما أخسره زي ناس كدا، ولو متعرفيش حاجة عني فأحب أقولك أني محبيتش حد زي “حمزة” الله يرحمه، ودي حاجة اسمها إخلاص و وفاء على ما أظن بعيد عنك إنك تفهمي معناهم.
تحركت “رهف” من أمامها مرفوعة الرأس بشموخٍ بعدما استطاعت الرد عليها خاصةً أنها حاولت تفصل بينهما سويًا مُحتجة بأنها تحاول سرقة “يوسف” منها، بينما الأخرى زفرت بقوةٍ ثم خرجت خلفهما.
________________________
في شقة “فضل” كانت “قمر” تجلس على الأريكة حتى اقتربت منها “ضُحى” تقول بضجرٍ منها:
_بت !! ما توافقي على العريس، هنفضل جنب بعض كدا كتير ؟ طب واحدة حظها زفت والتانية تتعدل شوية يمكن يطلع ابن حلال، وافقي عليه خلينا نزغرط.
زفرت “قمر” بضيقٍ ثم قالت:
_مش عاوزاه يا “ضحى” مش موافقة عليه ومش مرتاحة.
ردت عليها “ضحى” بنبرةٍ جامدة تريد أن لا تتعلق أكثر:
_لأ أنتِ عاوزة حد تاني بعيد عننا أوي يا “قمر” اللي عاوزاه دا صعب أوي أنه يحصل، هو صغير يعني علشان ييجي يتقدم ليكي ؟.
هتفت “قمر” باندفاعٍ تقول:
_هو يعرف منين يا بنتي ؟؟ واحد فضلت سنتين بفكر فيه وهو مش كدا طبعه وصفاته مش كدا، ولو فكر فيا حتى أكيد مش هيكون بطريقة غلط، وأنا مش عاوزة اتجوز خلاص جالي عقدة من كل العلاقات.
علقت “ضحى” بعد حديثها مُصححةً:
_لأ أنتِ علقتي نفسك بحبال دايبة، نصيحة مني احسبيها صح علشان اللي زينا ملهمش غير اللي شبهم، شوفتي أهو لما بصيت لفوق حصل إيه؟؟ طلع واحد قليل الأصل، واللي زي “أيوب” دا أكيد صعب أوي إنك تكوني معاه، هيقفلها عليكي.
تنفست “قمر” بحدة ثم تحركت من مكانها بعدما تمكن منها اليأس فنظرت الأخرى في أثرها بقلة حيلة وهتفت:
_ربنا يجبر بخاطرك إن كان هو ليكي.
توجهت “قمر” للمطبخ نحو “أسماء” التي كانت منشغلة في إعداد الطعام لهم، وحينما دلفت لها سألتها بسخريةٍ وهي تقوم بتقليب الطعام:
_خير يا ضُرتي؟؟ جاية ليه.
هتفت بضجرٍ من حديث الاخرى:
_بنتك عكننت عليا عيشتي، بتقولي أني بحلم أحلام بعيدة، بس أنا والله مش شايفة غيره وبدعي ربنا يجمعني بيه، هو حرام ؟؟ أنا عاوزة أكمل الطريق اللي جاي معاه هو مش مع حد غيره.
تنهدت “أسماء” بقلة حيلة ثم التفتت لها تقول بوجهٍ مبتسمٍ وهي تتذكر الماضي:
_عارفة يابت زمان كنت هموت على “فضل” والناس كلهم عرضوني علشان كان شقي ولبط من يومه، بس أنا صممت وقولت دا يعني دا، وشوف أخرتها إيه ؟؟
سألتها “قمر” باهتمامٍ وهي تتفرس ملامحها المبتسمة:
_أخرتها إيه ؟؟ طمنيني.
لوت فمها يمنةً ويسرى بتهكمٍ وهي تقول:
_واقفة أطبخلكم أنتِ وخالك ياختي بلا خيبة.
ابتسمت “قمر” رغمًا عنها وسألتها باهتمامٍ:
_يعني فيه أمل ؟؟ صح .
حركت رأسها موافقةً بوجهٍ مبتسمٍ وهي تقول:
_قولي يا رب، هو أحن على قلبك من أنه يحرمه من مراده إلا لو كان مش خير ليكي و هيأذيكي.
______________________
جلس “بيشوي” في محله يسجل بيانات العملاء بأرقام هواتفهم وقد بدا منخرطًا فيما يفعله حتى دلف له شابٌ يقول بنبرةٍ هادئة:
_مساء الخير يا “بيشوي”.
رفع رأسه عن الملفات الموجودة أمامه وهتف بحماسٍ:
_أهلًا “يوساب” باشا لسه فاكر إنك ليك ابن خالة تسأل عليه؟؟ دا الدم عندكم بقى مياه ساقعة مشبرة.
أبتسم “يوساب” رغمًا عنه وهتف مُردفًا باحراجٍ:
_مشاغل وأنتَ عارف كويس أوي، شغل الجامعة مش سهل وأنا مركز فيه علشان أكون دكتور، دلوقتي معيد صغير للسكاشن وبكرة أكون دكتور رسمي.
حرك رأسه موافقًا بإعجابٍ وهو يقول:
_طول عمرك طموح ودماغك حلوة، اقعد بقى أشرب معايا كوبايتين شاي حلوين كدا ونشوف سر زيارتك إيه ؟؟.
جلس الشاب بعدما أومأ له موافقًا فطلب “بيشوي” الشاي من مساعده وعاد يسأل قريبه بوجهٍ بشوشٍ:
_ها قولي خير حصل حاجة ؟؟ محتاج حاجة؟؟
حرك رأسه نفيًا ثم سأله باهتمامٍ:
_”مارينا” مش بتروح التدريب بتاع الجامعة، وفيه حاجات مهمة هتفوتها، أنا قلقان لا تكون مش مهتمة بحاجة زي دي رغم أنها بتفرق في الشهادة بتاعتها.
ابتسم له “بيشوي” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_وإيه سر الاهتمام دا ؟؟ حضرتك كـ معيد بتهتم بكل الطلبة كدا يا “يوساب” ؟؟ ولا دي حالة خاصة بقى ؟؟
تنهد “يوساب” ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_هي أصلًا بتحب واحد زميلها يعني أنا مش في دماغها، بس اهتمامي علشان مستقبلها، إن كانت هي طايشة أظن المفروض حد عاقل يوعيها.
تنهد “بيشوي” بضجرٍ ثم قال بضيقٍ بدا واضحًا عليه:
_هي ممنوعة من النزول بسبب حوار كدا حصل أنا السبب فيه، المهم أنا هحاول مع أبوها وأخليها تنزل بس عاوزك تركز مع زميلها دا علشان حاسس كدا إني هحط عليه قريب.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار على عينيه قائلًا:
_عيني الاتنين يا كبير، كدا كدا نفسي اضره أوي.
ابتسم “بيشوي” بخبثٍ وهو يقول مؤكدًا:
_يبقى نضره، هو يعني حد بيدور ورانا ؟؟ دا حتى المثل بيقولك أنا وابن خالتي على اللي يفكر يجي جنب حاجتي.
ضحك “يوساب” بصوتٍ عالٍ ثم وقف وهو يقول بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:
_طب يا ابن خالتي أنا هروح أجيب “كرستينا” من الكنيسة عندها اجتماع هناك، علشان خالتك متصدعناش، بوسلي خالتي لحد ما أجي ابوسها أنا بنفسي.
_”يوساب رأفت”
ابن خالة “بيشوي” يعمل معيد في كلية العلوم، متوسط القامة قوي البنية، يهتم بمظهره كثيرًا، هادئ الطباع والصفات، يعتبر “بيشوي” الأخ الأكبر له، كما أنه يرجع له في أدق تفاصيل حياته، في العام السادس والعشرين من عمره، تولى دور المُعيد نظرًا لتفوقه دراسيًا وارتفاع تقديراته.
حرك رأسه موافقًا ثم ودعه وهو يبتسم له ليرحل الأخر بعدما أدىٰ رسالته ورحل وهو يعلم أن “بِيشوي” سيحل عقدة معضلته لتنفك تمامًا.
في شقة “جابر” كانت “مهرائيل” تجلس بجوار شقيقتها فأتت والدتهما تقول بسخريةٍ:
_هتفضلوا قاعدين كدا زي برطمانات المخلل في المطاعم؟
ردت عليها “مهرائيل” بقلة حيلة:
_ما انا مخنوقة من ساعة اللي حصل امبارح، و الاخت اللي جنبي عليها حظر وكل ما أنزل تقعد تنبر في المشوار، خلينا نشوف أخرتها إيه بقى.
دلف والدهما الشقة وهو يقول بضيقٍ:
_مساء الخير عليكم.
ردت زوجته فقط بينما صمتت الفتيات، فجلس هو أمامهن يقول بتهكمٍ:
_يعني قاعدين هنا عادي، محدش منكم نزل ولا حد راح حتى بيت العطار ؟؟ من إمتى يعني؟؟.
ردت “مهرائيل” بضيقٍ:
_رايحة كمان شوية، بس الشمس تمشي.
نظر للاخرى وهو يقول بقلة حيلة:
_الحظر بتاعك اتفك خلاص، شوفي بقى وراكي إيه.
نظرت له بعينين مُتسعتين فصدح صوت جرس الباب وتحركت “مهرائيل” تفتح الباب لتراه هو أمامها مبتسم الوجه وما إن أبصرها قال بمرحٍ:
_”هيري” بنفسها فتحت ليا ؟؟ دا أنا حظي من السما.
رفع “جابر” صوته يسألها عن طارق الباب وقبل أن ترد هي بارتباكٍ ملحوظٍ، رفع هو صوته يثير استفزازه بقوله:
_أنا يا حمايا محدش غريب، اتطمن.
ابتسمت “مهرائيل” بخجلٍ فغمز لها بمشاكسىةٍ حتى خرج له والدها يسأله بغلظةٍ:
_خير ؟؟ فيه حاجة؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
_ياريت تنزل بنتك الجامعة علشان متسقطش، هي ملهاش ذنب لو عاوز تحبس حد “مهرائيل” عندك أهيه أحبسها في البيت.
اتسعت عيناها بهلعٍ وهي تنظر له، فوجدته يكمل بخبثٍ:
_أصل أنا بغير عليها أوي، خليها عندك لحد ما أجي أخدها.
سحبها “جابر” للداخل ثم وقف أمامه يقول بنبرةٍ جامدة:
_دا بعينك يا ابن “جرجس” إنك تطول منها شعراية، بنتي مش ليك ودا أخر قولي، متتعبش نفسك على الفاضي، علشان مش هحط أيدي في أيد ابن “جرجس” على أخر الزمن.
زادت شراسة نظرات “بيشوي” واقترب منه يقول بنبرةٍ خافتة:
_الواد “مُسعد” اللي نصب عليك في مصلحة الرخام عندي في المخزن لو عاوز حقك منه تعالى خده، مش عاوزه خليه وهبقى أكمل عليه هدية جواز بنتك، اعتبره كدا زي ما الحج “عبدالقادر” بيقول، مهر العروسة، أصل أنا تربيته أوي، سلام يا حمايا.
تدرج وجه “جابر” بحمرة الغيظ واحتقن وجهه فابتسم “بيشوي” ثم قبل وجنته وقبل أن يرحل نطق بوقاحةٍ:
_ابقى وصلها لصحابها بقى.
رحل كعادته بعدما أثار حنقه وغيظه وأثبت له أنه دومًا في حاجةٍ إليه ولن يستطع التصرف بدونه ويحتاج لمن يوفر له الحماية وسط السوق لكن الأخر منعه كبرياءه من الاعتراف بذلك حتى لو لنفسه أن ابن عدوه اللدود هو نفسه من يحميه.
______________________
في منطقة نزلة السمان توقفت سيارة “يوسف” أمام مقر بيت “نَـعيم” ثم خرج منها وتوجه لداخل البيت حتى ركض له “إسماعيل” بلهفةٍ وهو يقول:
_يا عم فينك ؟؟ الحج قالب الدنيا عليك وروحنالك الزمالك.
تنهد بعمقٍ ثم هتف بنبرةٍ خافتة:
_أنا أهو للأسف حي مموتش.
عقد “إسماعيل” حاجبيه فاقترب منهما “مُحي” بلهفةٍ حينما رأه وقد تحدث بقلقٍ حقيقي عليه:
_قافل تليفونك ليه ؟؟ وكنت فين كل دا ؟؟
رفع حاحبه ينطق بسخريةٍ:
_هكون فين يعني ؟؟ أنا هنا أهو، قلقان عليا ولا نفسك تخلص مني أنتَ كمان ؟؟ يلا ماهي مجاتش عليك.
تحدث “مُـحي” باندفاعٍ بعدما أحرجه:
_بس أنا قلقت عليك بجد، ولأول مرة يهمني أمرك، عاوز تصدق أنتَ حر مش عاوز إن شاء الله عنك ما صدقت.
أدرك “يوسف” أنه أحرجه على الرغم من نظرة القلق المتضحة في نظراته، لذا زفر بقوةٍ واقترب منه يقول في محاولةٍ لتلطيف الأجواء:
_متزعلش مني، بس أنا تعبان وبقالي يومين منمتش، متقلقش أنا بخير.
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ فركض “نَـعيم” من الداخل يقول بلهفةٍ:
_أنتَ كنت فين يا بيه ؟؟ خلاص مالكش كبير يقلق عليك؟؟ يومين غايب عن عيني مش عارف عنك حاجة؟؟ وقافل الزفت اللي معاك دا ؟؟ أخرتها إيه؟؟.
تنفس بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ جامدة متجاهلًا حديث الأخر وقد صدمه بحديثه:
_تعرف إيه عن “عبدالقادر العطار” ؟؟
تبدلت ملامحه إلى الاستنكار وهو يكرر خلفه:
_”عبدالقادر العطار” ؟؟ مين دا أصلًا ؟؟
رد “يوسف” بنبرةٍ جامدة:
_دا تاجر رخام ومواد بُنا وعنده أمي وأختي.
وقع الحديث عليهم كما وقع الصفعة تلطم الوجوه بغير هوادة أو تأني، خاصةً أنهم يعلمون بوفاة أسرته بالكامل، فردد “نَـعيم” بدهشةٍ:
_أمك وأختك ؟؟ إزاي يابني مش ماتوا ؟؟
حرك رأسه نفيًا وهو يقول بوجعٍ:
_طلعوا عايشين وشكلهم اتمرمطوا أوي.
نظروا لبعضهم بدهشةٍ وقد ظن منهم أنه تعاطى بعض المواد المخدرة أو الخمور لكي يتناسى ألمه لكن ألمه أعلن العصيان ليظهر نفسه عليه بتلك الطريقة القاسية التي جعلته شخصًا غير الأخر وكأنه تبدل بنسخةٍ ثانيةٍ منه.
في الداخل خاصةً عند مقر بقاء الخيول وقف “إيهاب” يتابع العُمال أثناء تنظيفهم لاسطبل الخيول وبقيت معه “سمارة” تراه وهو يشير بأوامره للرجال وهي تبتسم بسعادةٍ كونها أصبحت له أخيرًا ومعه، فيما تحرك هو يجلس بجوارها وهو يسألها بنبرةٍ ضاحكة:
_بتضحك على إيه يا عمهم ؟؟
ارتفع صوت ضحكاتها أكثر ثم قالت بدلالٍ:
_مبسوطة وأنا شايفاك قصادي كدا منور الدنيا كلها و واقف شبه الفارس وسط الخيول دي كلها، دا طلع حلمي حقيقة أهو.
سألها “إيهاب” باهتمامٍ:
_حقيقة ؟؟ إزاي يعني ؟؟
ردت عليه بخجلٍ طفيفٍ كأي أنثى غيرها:
_مرة زمان شوفت فيلم كان فيه بطلة بتحلم بالفارس يجيلها على حصان وساعتها قولت وماله ما احلم أنا كمان، هي يابت أحسن منك يعني ؟؟ بس شوية ونسيت الحلم دا كله لحد ما لقيتك أنتَ، شبه الفارس اللي اتمنيته وأحلى وأحلى كمان.
انفلجت شفتاه ببسمةٍ صافية جعلتها تندفع وتسأله بحماسٍ:
_قولي بقى أنا شبه مين كدا ؟؟ أنتَ فارس وأنا إيه؟؟
فكر قليلًا ثم هتف فجأةً:
_أصيلة….أنتِ أصيلة يا “سمارة”
شهقت باستنكارٍ ورددت خلفه بتعجبٍ:
_المُهرة ؟؟ يعني يا أخويا بقولك أنتَ فارس تقولي أنتِ مُهرة، دا إيه الحِزن الأسود دا، يا أخويا طب قولي كلمة عدلة، الصامت بتاعك دا مضر بالصحة، غلط يا أخويا هتموت مكبوت.
بدت حانقةً وهي تحدثه فضحك هو رغمًا عنه وضرب كفيه ببعضهما وهو يقول بيأسٍ:
_لو صبر القاتل على المقتول مكانش اتمرمط في البوكس وكل أمين شرطة يعلم عليه، بس نقول إيه ؟؟
ضحكت وهي تسأله بنفاذ صبرٍ:
_قول بقى أنا إيه، شبه مين يلا يا عمنا؟؟
عادت ضحكته من جديد ترتسم على شفتيه ثم قال بنبرةٍ هادئة يوضح لها مقصده منذ البداية:
_أنتِ أصيلة زي المُهرة العربية، لو رخيت حبلها متسيبش صاحبها وتبقى على عشرته، ولو خيالها قِسي عليها تلاقيها مراعية حالته، المرتين اللي اثبتولي إنك مهرة أصيلة، أول مرة لما قفشتك في شقة البت إياها وكنت هموتك بأيدي، وتاني مرة لما اتحبست، كل يوم كنت بقول بكرة هتيجي تطلب الطلاق، بكرة هتيجي تقول مش هستحمل، بكرة تيجي تقول إنها مش هتضيع سنين عمرها علشاني، رغم إن دا حقك وعمري ما كنت هرفضه، بس كنت عشمان أخرج ألاقي حاجة حلوة تصبرني على المر اللي شوفته، وطلعت مختار مُهرة أصيلة على أبوها، شغلت القلب والعين وبقت عمهم هما الاتنين.
ارتفع صوت ضحكتها عاليًا ليضحك هو الأخر ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما طالعها بهيامٍ:
_إن شاء الله يومين كدا ونروح نجيبلك هدوم جديدة بطرح كمان، سيبتك أهو تدلعي براحتك، يبقى حقي اشكمك بقى.
ضربته بكتفها في كتفه وهي تقول بدلالٍ وإغراءٍ له:
_وماله يا سي “إيهاب” اشكمني براحتك، وأنا هتدلع عليك في بيتنا براحتي، عندك مانع ؟؟
رفع حاجبيه بغير تصديق وهو يضحك على جرأتها وهي تتدلل عليه، فحمحم أحد الصبية من الخارج يلفت نظرهما حتى رفع “إيهاب” صوته قائلًا:
_خير يا “ميكي” فيه حاجة؟؟
جاوبه من الخارج بنبرةٍ قوية:
_الحج “نَـعيم” بيقولك “يوسف” وصل برة.
انتفض “إيهاب” على الفور حينما استمع لذكر اسمه وقد لحقته “سمارة” نحو الخارج عند مجلس الرجال.
اقترب “إيهاب” يسأله بنبرةٍ خشنة:
_أنتَ كنت فين يالا ؟؟ فاكر نفسك طير حر ؟! مش فارق معاك قلقنا عليك ؟؟.
تنهد “يوسف” بعمقٍ ثم نطق بنفاذ صبرٍ:
_اقعد بس يا “إيهاب” أنا دماغي مش فيا لكل دا.
رفع “إيهاب” حاجبيه مستنكرًا ثم نطق باستخافٍ:
_يا شيخ ؟؟ طب أدبًا ليك سمعلي جدول الضرب يلا.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه فسألته “سمارة” ببلاهةٍ:
_إيه دا ؟؟ أنتَ علمته زي ما علمتني ؟؟ يا حلاوة!!
أشار له “إيهاب” أمرًا عليه حتى مسح “يوسف” وجهه ثم نطق بقلة حيلة:
_العرقبة، تعرقب المطوة في زاوية صح الواحد رجله متشيلوش تاني…..الخربشة خدش بسيط لعيل هلهولة شايف نفسه ميستاهلش تغوطها علشانه….. القاضية تعويرة في الوش صاحبها لو خدها وشه ملهوش قطع غيار….زيارة عشماوي دي من أبو أحمر علطول، هو هيروح القبر وأنتَ تلبس الأحمر، مرضي يا “عمهم”.
ربت “إيهاب” على كتفه بفخرٍ فيما تحدث “إسماعيل” مستفسرًا يسأله:
_طب والعمل يا “يوسف” ؟؟ هترجع أهلك إزاي ؟؟
نظر أمامه بغموضٍ وهو يقول:
_عينه كدبت، وأنا صياد في كدب العيون، علشان كدا هروح حارة العطار أفضل فيها هناك، ولحد أخر نفس فيا مش هسيب أمي وأختي.
نظر “إيهاب” بتعجبٍ لهم وكذلك زوجته، فيما استمرت النظرات الحائرة بين البقية بشفقةٍ عليه وعلى حاله.
____________________
جلس “أيهم” في شقته بعد عودته من العمل ومعه “إياد” الذي تحمم وبدل ثيابه ثم اقترب منه يجلس بجواره وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_أنا خلصت قبلك، لسه دا كله قاعد ؟؟.
تحدث “أيهم” يقلد طريقته:
_قاعد مستنيك تخلص علشان أشوفك لو عاوز حاجة.
ابتسم “إياد” ثم هتف بأسفٍ مصطنعٍ:
_طلعت ظالمك يعني؟؟ مش مهم فدايا.
حمله “أيهم” يجلسه على قدمه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_فداك أبوك كله يا واد، المهم أنتَ تكون بخير.
حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
_بخير أوي أوي، أنا عاوز أروح معاك المصنع كل يوم، الشغل هناك حلو أوي أحسن من هنا.
ربت على خصلاته المبتلة وهو يقول بخنوعٍ:
_حاضر كل مرة هروح فيها هناك هاخدك معايا، حاجة تانية.
حرك رأسه موافقًا واضاف مؤكدًا:
_بكرة الجمعة هنخرج سوا و “آيات” تيجي معانا هي كمان وبعدها نطلع السطح نخلي “أيوب” يدربني ملاكمة وأنتَ معانا وتلعبوا مع بعض قصادي.
تحدث “أيهم” بقلة حيلة أمام طلباته وكأنه لم يملك سوى الموافقة على ما يُمليه أمرًا له:
_حاضر يا أستاذ “إياد” هضرب “أيوب” وأخليه يضربني ونموت بعض قدامك ياكش روح ممدوح فرج اللي جواك دي تهدا شوية علينا.
اتسعت ضحكة “إياد” ونطق بحماسٍ:
_أخر حاجة بقى بسيطة خالص وهي انـ…..
بتر حديثه حينما تحدث “أيهم” بضجرٍ مصطنعٍ:
_ما خلاص يا “إياد” بقى العمر بيخلص وطلباتك لسه مخلصتش ؟؟ ريح شوية ياض.
هتف “إياد” ببراءةٍ:
_والله كنت هقولك هات حضن و بوسة.
ابتسم “أيهم” رغمًا عنه ثم ضم صغيره إلى عناقه وقبل جبينه وهو يقول بحبٍ بالغ الأثر في نفوس كليهما:
_دا أنا أشيلك العمر كله في حضني وأضلل عليك برموش عيوني كمان، بقولك إيه ياض، تيجي تستحمى معايا ؟؟
رد عليه “إياد” بنبرةٍ ضاحكة:
_ما أنا لسه مستحمي، هو كل شوية؟؟
وقف به “أيهم” يقول بسخريةٍ:
_يعني هو إحنا خسرانين حاجة؟؟ حد بييجي يحاسب على الشامبو ؟؟ يلا ياض تعالى.
قبل أن يعترض الصغير تصنع “أيهم” أنه يقوم بعضه في رقبته ليضحك الأخر بصوتٍ عالٍ وصل إلى القهقهات والاخر يشعر بسعادةٍ غامرة وهو يرى إنجازه في سعادة صغيره باديًا عليه بوضوح بعد الألم النفسي الذي تسببت به والدته.
________________________
في مكتب “عبدالقادر” داخل بيته جلس بشرودٍ يتذكر لمحات من الماضي الذي مر وقد ظن أنه دُفن كما تخمد النيران لكنه تفاجأ به يثير كما البركان الثائر من أسفل الأرض أو كما اشتداد لهيب النار بعدما خمدت قوتها وفاقت من جديد.
وصله طرقاتٌ على باب مكتبه فزفر بقوةٍ وقال:
_أدخل.
دلف “أيوب” له مبتسم الوجه وهو يقول كعادته:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حج.
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا حبيب قلبي.
جلس “أيوب” أمامه بعدما ابتسم له فتنهد “عبدالقادر” وقال بدهاءٍ بعدما قرأ نظراته:
_قول اللي عندك وأسأل وأنا هجاوبك.
تنهد “أيوب” ثم اندفع يسأله:
_الراجل اللي كان هنا الصبح، أهله عايشين فعلًا ؟؟
حرك رأسه موافقًا بحركاتٍ رتيبة، جعلت “أيوب” يطالعه بنظراتٍ غامضة وهو يقول:
_وليه مقولتلهوش ؟؟.
ابتسم “عبدالقادر” بتهكمٍ ثم ارجع ظهره للخلف يقول بسخريةٍ:
_واحد جايلي يقولي أنا ابن فلان الفُلاني عاوز أمي وأختي، أقوله أهلًا و سهلًا يا حبيبي، “غــالية” و “قــمر” أهم عايشين تعالى خدهم مبروكين عليك ؟؟
صُعق “أيوب” من وقع الاسماء على سمعه فاندفع يقول مستنكرًا بنبرةٍ جامدة أبدت دهشته:
_بــتقول مــين ؟؟.
ابتسم “عبدالقادر” بسخريةٍ وكأنه يخبره أن الموضوع لم يكن هينًا كما يتصوره هو، بل أن تبعياته خطيرة تحتاج إلى دراسة وليس مجرد تصرف أهوج يقع أثره على الجميع، بينما “أيوب” رمش ببلاهةٍ وكل ما يفكر به هو والده ذكر اسم مَن ؟؟

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى