روايات

رواية غوثهم الفصل التسعون 90 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التسعون 90 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التسعون

رواية غوثهم البارت التسعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة التسعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الخامس_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
“نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية..
طفلُ الملوك هنا، كطفل الحاشية!!
ونغادر الدنيا ونحن كما ترى
متشابهون على قبور حافية !!
أعمالنا تُعلي وتُخفض شأننا
وحسابُنا بالحق يوم الغاشية !!
حورٌ، وأنهارٌ قصورٌ عالية
وجهنمٌ تُصلى ونارٌ حامية !!
فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغى
ما دام يومُك والليالي باقية !!
وغداً مصيرك لا تراجع بعده
إما جنان الخلد وإما الهاوية”
_”أبو العتاهية”
__________________________________
قد يخونني الحديث..
وتظلمني المدينة، ويقسو عليَّ العالم بأسرهِ،
وربما تتخلى عني الحروف حينما أود الإفصاح عما يموج بداخلي، لكن أنتِ وعيناكِ لم يعرف كلاكما الخيانة، فمن سواكِ يعلم مابداخلي حتى أنا؟ واليوم حينما وقفتُ أمامك عاجزًا حتى عن إنصاف نفسي؛
لم أجد مُنصفًا لي بهذا العالم غيرك أنتِ…
ومنذ هذا الحين، لا تهمني قسوة المدينة..
أو خذلان الحروف، وأو تخلي الجميع عني،
وأصبح لا يهمني غيركِ أنتِ..
وأعلم أنني رُبما أكون جبانًا في نظركِ
لكن كل الحقيقة هي أن القلب يخشى عليكِ من كل ساكني المدينة، حتى من أرادوا الحصول عليكِ أنتِ،
فعليكِ توخي الحذر من سكان هذه المدينة،
فتلك المرة لن أكون أنا هُنا..
<“بريء براءة الذئب من دمِ بن يعقوب”>
ربما يعيش المرء طوال حياته قويًا..
فقط لأجل الهروب من الخذلان ونظرة الإشفاق، وربما يتهرب في القوة من الضعف الذي يسكنه، لكن وحدها نظرة الخذلان حينما تنقلب عليه المدينة رأسًا على عقبٍ هي ما تظهر كل القهر الموجود بداخلهِ، وقد أنقلب كل شيءٍ في غضون دقائق حينما قام رجال الشرطة بسحب “يـوسف” من عقر داره إلى الخارج وسط صرخات أمـه وركض “قـمر” خلفه وهي تحاول اللحاق بهم وصولًا إلى مدخل البيت وهي تصرخ باسمه وحينها وجدت منقذها في وجهها يدلف البيت بهيبةٍ قوية ووقف في وجه الضابط يسأله بنبرةٍ جامدة:
_على فين ؟ واخده ورايح بيه على فين؟.
في هذه اللحظة ركضت “عهد” من أعلى الدرج خلف “غالية” التي أقتربت هي الأخرى من ابنها تبكي أمام الجميع بنفس وقت تحدث الضابط هاتفًا بثباتٍ بالغٍ:
_معايا أمر ضبط وإحضار المتهم.
ألقاها وهو يستعد للخروج من البناية فيما حرك “يـوسف” رأسه نحو “أيـوب” وكأنه يستغث به من خلال نظراته وحينها تولى “أيـوب” دور الدفاع عنه وهو يسأل بنبرةٍ جامدة:
_وبتهمة إيه إن شاء الله؟ بعدين متعرفش إن المكان هنا ليه كبيره ومش أي حد يدخله؟ حتى لو الحكومة نفسها؟.
ابتسم الضابط بزاوية فمه ثم هتف بعنفوان جليٍ وكأنه أصبح قاضيًا وأصدر حكمه على البريء بقوله:
_محدش فوق القانون، البيه متهم في قضية قتل، حاول يقتل ابن عمته القبطان “نادر سامي السيد” هاتوه يلا، وعن إذنك يا كبير.
ألقى كلمته الأخيرة بسخريةٍ بعدما أدهش الجميع وعلى رأسهم “عـهد” بهذا الحديث وتحرك وهو يشمل “أيـوب” بنظراته فيما هتف “يـوسف” بثباتٍ يحتمي خلفه من الضعف الذي يسكنه وطفق يعلن نفسه عليه خاصةً حينما وجد ذويه بهذه الهيئة التي رفعت مقدار حزنه:
_خلي بالك منهم يا “أيـوب” أنا رايح وعارف إنك هنا.
أتصلت الأعين ببعضها وفي هذه اللحظة القلب أظهر القوة والعين صرخت من القهر بسبب ضعفها وقلة حيتلها، كان المشهد في غاية الألم حيث تم سحب “يـوسف” من قِبل رجال الشرطة و”أيــوب” يحاول اللحاق به أو معرفة عدة تفاصيل بنفس لحظة وقوف “قـمر” باكيةً بجوار أمها التي ظلت تصرخ باسم ابنها وهي تبرئه من هذه الجريمة حتى أقتربت منها “عـهد” تُساندها باكيةً هي الأخرى وحينها تحركت العربة الزرقاء من أمام البيت و”يوسف” البريء بداخلها وحينها هرول “أيـهم” نحو شقيقه يهتف بلهفةٍ:
_روح أنتَ خليك مع مراتك وحماتك، وأنا هروح وراه وهكلم “چورچ” أو “تَـيام” يلا متقلقش بس شوف الدنيا عندك يا “أيـوب”.
بدا وكأنه عمل كما جهاز الإنذار ينبه عقل شقيقه ويخرجه من حالة دهشته هذه أو ربما سرقته من نفسه فيما ألتفت “أيـوب” إلى حماتهِ وأقترب منها وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما جلس على عاقبيه في مواجهتها:
_بطلي عياط ووعد مني ابنك هيرجعلك، إن شاء الله ربنا يديني القوة إني أرجعه أو حتى آكد ليكِ إنه هيرجع، عمري وعدتك وخلفت وعدي معاكِ؟.
سألها بنبرةٍ آملة في الحصول على الجواب وحينها رفعت هي عينيها الباكيتين له تنفي حدوث مثل هذا الشيء وأنه دومًا يصدق في الوعد حينما يقطعه بل يفعل ما يتوجب عليه فعلهِ، وخصوصًا لأجل الآخرين، هذه هي الحقيقة أنه لم ولن يخذلها بل هو الوحيد الذي يمكنها أن تتوسله لذا دفعتها فطرتها الأمومية إلى مسك كفه وكادت أن تقبله وهي تترجاه حتى سحب هو كفه بعيدًا وظل يستغفر ربه ليجدها أضافت بنبرةٍ باكية خالطها القهر:
_أبوس إيدك تخليك معاه، “يوسف” لسه تعبان منهم، ابني بيكون في حضني وماسك فيا من خوفه وقهره وعمايلهم فيه، أبوس إيدك يابني خليك معاه، هيدوسوه وهو ميعملش كدا، ابني طول الليل نايم في حضني لحد فجر ربنا، هاتولي ابني، هاتــولي ابـني..
صرخت بكلمتها الأخيرة وقد ازداد البكاء أكثر في صوتها وحينها ضمتها “قـمر” وهي تمسح على ظهرها وحينها لم تقو “عـهد” على إخفاء عبراتها أمام الجميع بنفس القدر الذي جاهدت به لإخفاء تلك العبرات عنهم في محاولةٍ منها لرسم القوة في حين أن الهشاشة تسكنها هي وتسيطر عليها، بينما “أيـوب” فكان كما يقال إنه وضع بين نارين وكلًا منهما أشد قسوةً عليه وهو الضعيف في كلتا الحالتين.
أما عن هذا البريء فقد جلس في سيارة الشرطة بحالٍ جاهد ليخفيه حيث أتضح الخوف بداخلهِ أن يكون هو المتهم في هذه القضية بنفس لحظة براءته براءة الذئب من دم بن “يعقوب” لذا كره نفسه وكره خوفه الذي ظن أن سبل كليهما لن تتقابل من جديد وأنه القوي بين ساكني هذه المدينة، لكن في حقيقة الأمر مدينة رأسه أكثر ضجيجًا من ضجيج المدينة هذه بكل مافيها.
__________________________________
<“الغبي وقع في أرض الأقوياء”>
كعادته يأتي دومًا ليفرق الجماعات ويهدم اللذات التي يحيا المرء فيها بعد كُدحٍ طويلٍ، وقد ظهر هذا الغبي مثل الإعصار المفاجيء يقتلع الأشجار من جذورها وهو يرفع صوته ويهدد “نَـعيم” الذي وقف أمام الشباب وكأنه قائد يقود الجيش الأقوى في هذه الحرب على أرض معركته، بينما الأخر طالعه بحقدٍ ما إن أبصره بتلك القوة وقد ظل الأخر يهدده ويرفع صوته حتى قاطعه هو قائلًا:
_لو خلصت هبل ونمرة الأراجوز بتاعتك دي ورينا عرض كتافك، ولا أقولك هزلنا كتافك يمكن تكون واخد على الطريقة دي؟ أنتَ عارف كويس أوي إني معملش كدا، علشان ابنك ضعيف ومش ذنبه إنك أبوه للأسف، فأنا يوم ما هاخد حقي منك هقف عيني ف عينك وأقولك إني عملت كدا، وهييجي يوم ابنك يقف في ضهري هنا وأنتَ تتحايل عليه يجيلك وساعتها أنا هخليه يطردك بنفسه دا إذا كان حي.
كان المكان عبارة عن النظرات الكثيرة الممتلئة بالحقد والكراهية والنفور وخاصةً من “تَـيام” و “مُـنذر” وكعادة “نَـعيم” كان قويًا ، ثابت لم يؤثر به أي شيء، يتحدث بكل جرأة دون أن يخاف أو يُجمل حديثه، لا يبالي كثيرًا بمن يتحدث أمامه، هو الطرف الأقوى كعادته ومهما حاول الضعف أن يرافقه يجد دومًا القوة تُصادقه، وقد تولى هو مهمة الرد عليه بدلًا من الشباب خوفًا عليهم من تهورهم وفي هذه اللحظة هتف “سامي” من جديد يهدده قائلًا:
_لو ابني جراله حاجة ومفاقش، أنا هاجي هنا في بيتك وأولع فيك وفيهم يا “نَـعيم” ابنك رجعلك وخلاص خلصنا وقفلنا الحكاية، ألحق خده هو وابن أخوك في حضنك وأفرح بأخر أيامك معاهم، وابني هيقوم منها، بس حبيبك هيروح فيها، وريني بقى هيخرج منها إزاي.
رغم تبجحه إلا أن الحشد الواقف لم يفهم معنى الحديث لكن أول من التقط المقصد كان “نَـعيم” الذي هوى فؤاده أرضًا من الخوف حينما أدرك أن الخطر أصبح يحاوط “يـوسف” وقد تحرك “عبدالقادر” في نفس اللحظة نحو “سامي” وقبض على تلابيبه وهو يتوعده من بين أسنانه بغيظٍ قائلًا:
_أنا طول عمري راجل مجدع وابن أصول مقلش مع أي حد، بس أنتَ متعرفش يعني إيه أصول وعمرها ما خبطت على باب بيتكم تتف في وشكم حتى، أخفى من وشي بدل ما أخليك تحصل ابنك والخارجة تبقى خارجتين، أظن أنتَ بسببي زي الفار في جُحرك محدش يعرف عنك حاجة أصلًا، فأمشي وروح شوف ابنك عمل إيه وحل عننا وخليك جاهز في أي وقت علشان تدفع التمن.
حينها أبعد “سامي” كفي “عبدالقادر” عنه ثم شمل الجميع بنظرة خاطفة ليتأكد أنه دومًا يخطو في المكان الخطأ ليتضح له حجمه الحقيقي أمام قوة هذا الحشد، وقد أتى إلى هنا عن عمدٍ لكي يلقي تهديده الفارغ ويشغل بالهم ويعكر صفوهم وما إن رحل حينها صدح صوت هاتف “عبدالقادر” برقم “أيـهم” الذي اندفع في المكالمة يخبره بنبرةٍ عالية:
_يا بابا أنتَ فين؟ “يـوسف” اتقبض عليه وأنا ماشي ورا العربية طالع وراه أهو و “بيشوي” و “چورچ” هيحصلوني على هناك، الظابط قال إنه منهم في الشروع بقتل “نادر” ابن عمته، و “يـوسف” لوحده أهو.
تلك المرة هوى فؤاد “عبدالقادر” هو الآخر وزاغ بصره في وجه الشباب وطالع أثر رحيل “سامي” وحينها أدرك المقصد هو الأخر وحرك رأسه للشباب يهتف بنبرةٍ خاوية وفارغة بسبب الحديث الذي وصله:
_”يـوسف” اتقبض عليه بتهمة محاولة قتل “نادر” ابن “سامي” يعني وجوده هنا كان ليه سبب وهو إنه بعطلنا أو يتأكد إن “يـوسف” مش هنا، طب والحل إيه ؟.
نزل الحديث على الجميع مثل وقع الصدمة القوية التي شابهت نزول الصفعة على وجوههم، بينما “نَـعيم” أشار لـ “إيـهاب” الذي حرك رأسه موافقًا وفهم ما يتوجب عليه فعله بهذه اللحظة وقد ألقى الأول أمره للبقية قائلًا:
_خليكوا كلكم هنا، أنا والحج ومعانا “إيـهاب” هنروح، ومحدش يتحرك أو يمشي من هنا، أظن “تَـيام” و “مُـنذر” فاهمين قصدي، أرجع ألاقيكم هنا محدش يتحرك منكم، أنا هسيبهم أمانتك يا “إسماعيل” أنتَ و “سراج”.
أومأ الإثنان له بموافقةٍ فيما تحرك هو مع “عبدالقادر” نحو الخارج وحينها وقف الشباب مع بعضهم في حالة ذهولٍ سيطرت عليهم لكن “مُـحي” رغمًا عنه انشغل باله بوقوف شقيقه أمامه نصب عينيه لكن المسافات مفروضة بينهما، وحينها حرك “تَـيام” عينيه نحوه وأبتسم له ظنًا منه أنه يكره تواجده هنا، كلاهما وقع أسيرًا في ظنونه المُعاكسة لواقع مشاعرهما ومعهما “مُـنذر” الذي حرك رأسه يطالع نظراتهما لبعضهما لكن “سـراج” قطع هذه الظنون حينما هتف بتعجبٍ من جمودهما أمام بعضهما:
_مش أخوك جالك أهو !! وكنت زعلان إنه مرضاش ييجي من الأول ولا حس بيك؟ أهو قدامك ما تكلمه ولا لازم يكون أخت علشان تكلمه؟ ماهو بقى عندك أهو.
عاتبه “مُـحي” بنظراتهِ بينما “تَـيام” صاحب القلب البريء خطى الخطوة الأولى لشقيقه ثم أقترب منه وباغته بعناقٍ فاجيء الإثنين حتى “تَـيام” نفسه الذي اندهش من قوة عناقه لشقيقه وكأنه طوال عمره عاش يحفظ الحب بداخله لهذا الجزء الصغير الذي يرجع أصله له هو ومنه، بينما الآخر رفع ذراعيه يعانق شقيقه وكأن بهذا العناق الدافيء امتلأ الفراغ الذي يسكنه ورغمًا عنه نزلت عبراته وهو يهتف بنبرةٍ شبه باكية:
_أنا محتاجك أوي، أوي وعاوزك معايا.
ألقى حديثه وهو يشدد العناق لشقيقه الذي مسح على ظهرهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة ظهر فيها أثر ابتسامته:
_أنا اللي محتاجك ومحتاج يكون عندي أخ، والحمدلله إنه أنتَ أخويا علشان من قبل ما أعرفك وأنا بحبك أصلًا وربنا حط في قلبي القبول ليك، حتى “مُـنذر” رغم إنه عامل زي اللي طالع من هوليوود كدا بس حبيته برضه.
ابتسم لهما “مُـنذر” بينما “إسماعيل” وقف جواره يهتف بخجلٍ من نفسه أو ربما لازالت الصدمة تلجمه وتتحكم في ردود أفعاله:
_أنا آسف إني مقصر معاك، بس والله أنتَ اللي واخد جنب عني كأنك ما صدقت إنك مش ابن عمي أوي مني، رغم إن كدا إحنا بقينا أقرب للبعض، علشان أنا عمري ما أعتبرت إني راجل من عيلة “الموجي” أنا طول عمري متشرف إني ابن “الحُصري” ويمين بالله أنا مفيش حاجة ناحيتك اتغيرت غير إني حبيتك أكتر.
أبتسم له “مُـنذر” وكأن ما يصدر عنه فقط هو الإبتسام لكنه أوسع بسمته هذه حينما رفع ذراعه يضم كتف “إسماعيل” وهو يقول بنبرةٍ هادئة ثابتة الإنفعالات:
_وأنتَ وحشتني أوي يا “حوكشة”.
هتفها بمزاحٍ طفيفٍ جعل “إسماعيل” يبتسم بصفاءٍ له في لحظة صفاء تمر عليهما من جديد لكن ما تشارك بينهم جميعًا هو الخوف على “يـوسف” الذي شغل بالهم وفي هذه اللحظة بدأ “سراج” في استغلال معارفه عن طريق المكالمات الهاتفية لعله بذلك يصل إلى أي شيءٍ يُسعف الجميع وأولهم “يـوسف” نفسه الذي من المؤكد أنه في أشد الحاجة إلى العون والغوث وبقية الشباب يحاولون معه لكن أوامر “نَـعيم” هي التي توقف حركاتهم.
__________________________________
<“يكيدون للمرء الناجح بسبب فشلهم”>
في المشفى الاستثماري…
كان “نادر” في غرفة المشفى وقد تم وضعه على عدة أجهزة موصولة بجسده العاري مُباشرةً، والعديد من الأسلاك تم وضعها على صدرهِ ومواضع النبض في جسده، الكدمات تظهر عليه بشدة والجروح في وجههِ وأثر الحادث لم يُكتَشف بعد، وحقًا نجى بأعجوبة لكي يحيا هذه الحياة مُجددًا وتم وضعه تحت الملاحظة الطبية فهو لم يتجاوز مرحلة الخطر بعد..
وقفت “شـهد” تراقبه من خلف زجاج الغُرفة المُطل عليه وهي تتيقن أن ما فعلته هو الصواب، لقد قامت بتقديم البلاغ تتهم فيه “يـوسف” بمحاولة قتل زوجها بما إنه كان هناك وقت حدوث الحادثة، وحينها شعرت أن نيرانها أنطفأت وحصلت على حقها المسلوب، خاصةً وهي ترى زوجها بهذا الوضع الذي يجعلها مُشتتة، تخشى العديد والعديد وللأسف لم يكن في هذه المقدمة، وقد ازداد الأمر سوءًا حينما أخبرهم الطبيب أنه دلف في غيبوبة لم يعرف مداها..
جلست “فاتن” على المقعد وهي تبكي كعادتها، إمرأة سلبية كل ما تفعله في حياتها هو البكاء وفقط، تبكي لأجل كل شيءٍ دون أن تتخذ سبيلًا غير هذا السبيل الذي يسير فيه الضعفاء، تبكي على ابنها وعلى ابن شقيقها وكأن مخاوفها التي عاشت طوال عمرها في أسرها تحققت بأكملها في طرفة عينٍ وهي تخسر ابنها وابن شقيقها، ظلت تبكي وهي تحاول الدفاع عن “يـوسف” أمام مسئول التحقيق بهذه القضية لكن زوجها وزوجة ابنها أيضًا أعترفوا وأقروا ضد “يـوسف” بأنه مرتكب هذه الجريمة..
علا صوت بكائها وازداد نحيبها وقد اسمتعت لها “شـهد” فتحركت تجلس بجوارها وهي تقول بنبرةٍ خاوية كأنها آلية مُبرمجة:
_هيقوم إن شاء الله، صدقيني هيقوم علشان هو أكيد مش هسيبينا ويمشي، أنا وأنتِ محتاجينه أوي، من غيره هنتبهدل مع الكل وهيدوسوا علينا، لازم تقفي علشان تقدري تجيبي حقه من اللي عمل كدا.
كانت “فاتن” إبان ذلك تسند رأسها على ظهر المقعد الحديدي خلفها لكن ما إن استمعت لصوتها أعادت رأسها من جديد وحركتها للأمام نحو “شـهد” وهتفت بنبرةٍ مستنكرة نبعت عن ذهولها:
_أنتِ عاوزة إيه تاني؟ مش خلاص بتاخدي اللي عاوزاه؟ جوزك أهو بيموت وأنتِ هترتاحي منه علشان تقدري تفضي لإتهامك براحتك، جاتلك فرصة أهو إنك تخلصي من “نادر” وتحققي انتقامك في “يـوسف” روحي منك لله، أنا بكرهك وبكره أشوفك حتى، علشان أنتِ عارفة إن “يـوسف” ميعملهاش، عمره ما يقتل حد.
بحديثها الذي هتفته وبالحقيقة التي قامت من خلالها بتعرية “شـهد” جعلتها تصرخ في وجهها هربًا من الحقيقة التي صدمتها مثل ضربة السوط على جلدها قائلةً:
_لأ يقتل، لما يغير منه ويستكتر عليه كل حاجة ممكن يقتل، لما يكون مقتنع إن “نـادر” واخد منه حقه يقتل، ولما يشوف إن “نـادر” أحسن منه يقتل، يقتل علشان هو مجنون وتصرفاته مش طبيعية، لما يكون غير مؤهل للتعامل وكان في مصحة عقلية تصرفاته مش موزونة يبقى يقتل، أنتِ نفسك عارفة إنه ممكن عادي يعملها لو مقدرش يسيطر على نفسه، بس بتكدبي علشان عارفة إن حقيقة زي دي هتوجعك أوي إن ابن أخوكِ المُبجل قتل ابنك يا طنط.
حديثها مثل مرض السرطان يتفشى بسمه في الخلايا دون أن يكتشف خبثه، هي تتحدث بهذه الطريقة لتؤثر على الأخرى مستغلة عواطف أمومتها ومشاعرها المتألمة لأجل ابنها في التحدث بتلك الطريقة التي جعلت الأخرى تتذبذب خشيةً من الإقرار بهذه الحقائق، وفي هذه اللحظة أتت “مادلين” التي استمعت لحديث تلك الخبيثة وهتفت بنبرةٍ جامدة وهي تمسك كوبي المشروب الدافيء:
_أنتِ مريضة، وكل مرة بكتشف إن الفلوس والأصل مش كل حاجة، لأن الفلوس والأصل دا معلموش حاجة ليكِ تخليكِ بنت متربية، دا وقته؟ كلامك زي السم اللي جواكِ وللأسف لولا “نـادر” واللي هو فيه كان زماني حطاكِ تحت رجلي دلوقتي، ولو فيه حد مجنون وتصرفاته مش طبيعية بجد هو أنتِ، وخلي بالك بقى علشان “يـوسف” مش هيطول جوة، وهيخرج برضه، لأنه معملش حاجة، دا خيالك المريض هو اللي بيتمنى كدا علشان تكوني حققتي انتقامك وتعلي أكتر وهو يضيع، بس اللي متعرفيهوش إن ربنا نجده منك وابتلى “نـادر” بيكِ علشان أفعاله وسلبيته تستاهل واحدة زيك.
برقت “شـهد” بعينيها ورمقتها بغير تصدق فيما جلست “مادلين” بجوار الأخرى وهتفت وهي تتجاهل النظر إليها كأنه مجرد حثالة تقف في زاوية المكان:
_أحسنلك تغوري من هنا يا تقفي ساكتة من غير ولا نفس أحسن، علشان لو سمعتلك صوت أنا هجيبك تحت رجلي، كفاية عملتك السودا النهاردة أنتِ و “سامي” بيه، يا رب يخرج ويربيكم مع بعض.
شعرت “شـهد” أن الجدال في هذا الوقت معها لن يُجدي نفعًا، بل هي مجرد تفاهات في وقت غير وقتها، وقد أنزوت بعيدًا عن الأنظار وهي تضم كلا ذراعيها إلى قفصها الصدري، تهرب من النظر إليهما ومن نظراتهما نحوها، لكن ما يشغلها في هذه اللحظة أن تتم تبرئة “يـوسف” من هذه القضية وينتصر عليها مُجددًا.
__________________________________
<“ربما أكون مُخطئًا لكني لم أصبح قاتلًا”>
الأمر الذي يجعل المرء دومًا في محض افتراء..
هو جرأة وشجاعة صاحب الإتهام حينما يُلقي اتهامه دون أن يتأكد مما يفتري به على الآخرين، ربما أنه طبع في سائر البشر منذ وجود الأنبياء على هذه الأرض، لكن الأمر حقًا يتسبب في قتل المرء بالبطيء، لكن وبرغم كل ذلك الأسى إلا أن الأمل دومًا يظهر في الطريق، فكما تبرأ “يـوسف” عليه السلام من الاتهام، سيتم تبرئة “يـوسف” البريء وخروجه من الظلام، ربما هي مِحـنة شديدة يتبعها مِـنحة جديدة.
وصل “يـوسف” إلى قسم الشرطة بصفته المتهم الرئيسي في هذه القضية وتم وضعه في غرفة الحجز وهو يسير مُنصاعًا خلف الأوامر دون أن يجادل أو يناقش أو حتى يعترض، صمته جعل الشك يتحول إلى يقينٍ أنه فعلها حقًا، هدوئه وسكوته جعلا الضابط يتهكم عليه ساخرًا بنظراته كونه قرأه بصورة صحيحة منذ أن قابله وعلم أنه المتهم بتلك القضية، بينما “يـوسف” فكعادته كان رجلًا كل صفاته تتنافى مع بعضها، حيث ظهر الصمت عليه والهدوء فين حين أن رأسه أعلنت الحرب عليه، وبدت كما لو أنها ساحة معركة يعج بها النقع إثر صوت حوافر الخيول بالأرضِ، ثم العُجاج نتيجة هبوب الرياح القوية، ثم صوت السيوف حينما تُسحب من جرابها…
بدأت الأصوات تعلو داخل رأسه لتصبح الغوغاء بداخلها لا تُحتمل، فقد أصبحت رأسه تشبه مدينة مزدحمة في ساعات الظهيرة والمكان يملئه السكان إما سيرًا على الأقدام أو السيارات المصفوفة خلف بعضها بعرض الشارع العمومي، هذا الشعور المقيت الذي يلازمك في فصل الصيف حينما تسير في ضجيجٍ لا يتوقف البتة بل يزداد أكثر وأكثر مع صوت أبواق السيارات العالية والأصوات المتبادلة في نقاشات محتدة، وأنتَ هنا حائرٌ بين كل شيءٍ، لكن هذا الغريب الذي يجلس منزويًا في أحد أركان محبسهِ لم يملك الخيارات بل كل شيءٍ فُرِضَ هُنا عليه.
أغمض عينيه وهو يحاول إيقاف الأصوات بداخلهِ بين اللوم والمعاتبة وبين الإتهام والقاء اللوم عليه وكل شيءٍ لم ينصفه حتى نفسه، نفسه اللوامة التي ألقت عليه كافة الإتهامات وكأنها تتربص له بالمرصاد حتى تعلن عليه الحرب، وحينها اجتمع ماضيه مع حاضره ليقضيا عليه فسحب نفسًا عميقًا وحاول إلهاء عقله في أي شيءٍ غير الواقع الذي يعيشه وحينها ألقى لعقله صورة عائلته و “عـهد” لعله بذلك يُسكت الجميع لكن عقله صارعه حينما ألقى إليه صورة والده وحينها وفقط نزلت عبراته من مقلتيه الخائنتين وهتف بنبرةٍ منكسرة أعربت عن وجعهِ:
_ابنك تعب أوي يا “مصطفى” تعب أوي أوي.
نبس هذه الجُملة بنبرةٍ خافتة تزامنًا مع نزول دموعه ولأول مرة يبكي منذ عدة شهور حتى كاد ينسى كيف يبكي المرء، لكنه أغمض عينيهِ يخفي خلف جفونه البكاء متمسكًا بقوةٍ واهية لم تعد فيه من الأساس، بدا وكأن مدينته القاسية أعلنت عليه الحرب دون أن تخبره حتى بموعد الحرب ليجد نفسه في ساحة العراك والطبول تدق فوق رأسه.
في الخارج وقف “نَـعيم” برفقة “عبدالقادر” ومعهما وقف الشباب وفي هذه اللحظة وصل “بيشوي” مع “چـورچ” سويًا وتولى “چـورچ” مهمته في إلقاء الأسئلة عليهم لفهم الأمور كيف آلت إلى هنا، فهاهو تم إلقائه بقسم شرطة المنطقة ومن ثم بعدها يتوجه في صباح الغد إلى مبنى النيابة العامة لمباشرة التحقيق معه…
مرت دقائق أخرى كان خلالها “چورچ” يتحرك في المكان مُكملًا عملية البحث عن التفاصيل، وبصفته يملك هيبة فرضها في مجال المُحاماة على الجميع استطاع أن يصل لهذا المكان وحينها دلف الزنزانة إلى “يـوسف” الذي فتح عينيه على صوت الحارس قائلًا:
_”يـوسف مصطفى الراوي” تعالى.
فتح “يـوسف” عينيهِ على الصوت وتحرك بجمودٍ حتى وصل إلى “چورچ” الذي هتف بلهفةٍ أعربت عن عجالته:
_بص علشان مش معايا وقت، طبعًا أنتَ معملتش كدا، ودي حاجة أنا وكل اللي برة متأكدين منها، مش أنتَ يا “يوسف” صح؟.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة دون أن يتحدث، هو فقط سكت والتزم الصمت وكأن طاقته نفذت كُليًا من الجدال في شيءٍ عقيمٍ لن يُجدي نفعًا، وحينها هتف الآخر يُملي عليه تعليماته بقولهِ:
_طب دلوقتي اللي بيتهمك “شـهد” مرات “نـادر” و “سامي السيد” فيه أي عداء بينك وبينهم يخليهم يورطوك أو يلبسوك القضية دي يا “يـوسف” ؟.
ألقى السؤال عليه وتوقع أن يكون الجواب محايدًا أو حائرًا لكن كعادة الآخر فاجئه حينما أقر بقولهِ الذي صدمه وجمده:
_أنا مش عامل معاهم غير عداوات أصلًا، اللي حصل دا فرصة جتلهم على طبق من دهب، وهو إنهم يخلصوا مني، بس صدقني والله مش أنا، منكرش إني روحت هناك بس أنا مش هقتل ابن عمتي يعني حتى لو اتمنيت دا ألف مرة.
تنهد “چورچ” وهتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنه بها:
_طب أنا معاك هنا بنفسي، بكرة المفروض هتترحل على النيابة العامة علشان التحقيق معاك، وهحضر برضه التحقيق، مش عاوزك تقلق طالما معملتش حاجة غلط خلاص ثق فيا، وثق في نفسك دي أهم حاجة، ولو على البلاغ فهو كيدي مش أكتر، ولحد دلوقتي مفيش دليل واحد ممكن يخليك مُدان في الجريمة دي.
أومأ “يـوسف” في صمت فيما هتف الأخر يجاوب على السؤال الذي قرأه في عينيهِ دون أن يلقيه على سمعه:
_متقلقش، كلهم برة، الحج “عبدالقادر” و الحج “نَـعيم” كمان و “أيـهم” و “بيشوي” و معاهم واحد اسمه “إيـهاب” كلهم برة علشانك، متقلقش وكل حاجة هتعدي.
تعجب “يـوسف” من حديث الأخر وجوابه على السؤال فيما ابتسم له “چـورچ” وودعه إلى الخارج بعدما رمقه حارس الزنزانة بنظرةٍ جعلته يتحرك نحو الخارج مُسرعًا فيما عاد “يـوسف” لمرقده من جديد وسط عشرات البشر في تلك الغرفة الأسمنتية الظلماء صاحبة الرائحة الكريهة، غرفة تجعل الجميع هُنا سواسية كلهم سيان سواء إن كان ظالمًا أو كان مظلومًا…
وحينها صدح صوت أحد الشباب يُغني وسط العديد من الرجال المحكوم عليهم بالحبس المؤقت في هذه الغرفة وقد تباينت أحوالهم مابين الجاني الحقيقي مرتكب الجريمة وبين المجني عليه هنا وهو المظلوم أساسًا:
_سألت نفسي كتير…
مرسيتش يوم على بر،
أنا اللي فيا الخير ولا اللي فيا الشر..
سألت نفسي كتير…
مرسيتش يوم على بر،
أنا اللي فيا الخير ولا اللي فيا الشر..
مليان عيوب ولا؟.
خالي من الذنوب ولا؟..
ولا إيـــه؟؟.
انتبه له “يـوسف” فوجد الشاب ملامحه تظهر عليها علامات استفهام حيث بدا بهيئةٍ تنافي البقية هنا وخاصةً صوته الذي أكد هذه المعلومة أنه ربما تكون هذه هي مهمته الغناء أو يعمل في أحد الأماكن الخاصة بذلك ليجده تابع الغناء بما كان كما الملح على جرح “يـوسف”:
_ولا أنا جوايا ومش داري الاتنين في بعض؟.
و٥٠٠ حاجة وملهمش دعوة ببعض..
ولا أنا جوايا ومش داري الاتنين في بعض؟
و٥٠٠ حاجة وملهمش دعوة ببعض..
زفر “يـوسف” من جديد وهو يسأل نفسه من بداخله هو الذي أوصله إلى هُنا؟ من منهم تحكم في مصيره حتى يتم وضعه في صورة القاتل؟ هذا الذي حارب لأجل أن يكون مثل باقي الناس ينعم بالسلام لكن العالم تكالب عليه ليلقيه بداخل الحرب وحينها لاحظ صوت الشباب يزداد ألمًا وهو يغني من جديد:
_أنا مين وفين أنا إيـه؟.
مفروش طريقي بورد؟
ولا الزمان دا أنا فيه أضعف
واحد على الأرض؟.
أنا مين وفين أنا إيـه؟.
مفروش طريقي بورد؟
ولا الزمان دا أنا فيه أضعف
واحد على الأرض؟.
أغمض عينيه وترك رأسه تلقي عليه الأسئلة التي أصبح يجهل جوابها حتى انتابته حالة تشبه حالة اضطراب الهوية حينما يجهل المرء نفسه ومن حوله وعالمه بل إنه في بعض الأحيان يسأل نفسه من هو ومما يتكون وبماذا يشعر وكيف وُجِدَ هُنا؟ العديد والعديد من الأسئلة ينكرها بعدما ينكر نفسه.
__________________________________
<“تُعرف الرجال في الشدائد من صنائع المعروف”>
تولى “أيـوب” مهمة حماية هذه العائلة وخاصةً حينما عاد “عُـدي” من العمل وعلم بخبر القبض على أخيه وقد عاد “فضل” أيضًا إلى بيته ليجد شقيقته في حالةٍ آلمته وذكرته بما حدث في السابق حينما تم اختطاف “يـوسف” منها وهو في بداية أعوام عمره ليتكرر الموقف من جديد ويتم اختطافه من بين ذراعيها لكن هذه المرة وهو الرجل صاحب الثلاثين عامًا…
حينها أراد “أيـوب” أن يتولى المهمة الثانية وهي أن يتحرك هو للحصول على براءة “يـوسف” وقد شعر بالراحة لوجود “فـضل” ومعه “عُـدي” وحينها حرك رأسه نحو “قـمر” التي جلست بجوار “عـهد” و “ضـحى” تضم الاثنتين بقوةٍ وهي تدعمهما في أوج لحظات ضعفهما وحينها وقف “أيـوب” على مقربةٍ منهن وأخفض رأسه للأسفل يغض بصره عنهن وهتف بنبرةٍ قوية:
_أنا دلوقتي كدا هقدر أتحرك لوحدي وأروح أشوف صرفة علشان خاطر “يـوسف” مش عاوز من حد فيكم يتحرك من هنا، ووعد لحد آخر نفس فيا هرجع بيه إن شاء الله وأرجعه ليكم هنا تاني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
استمعت له “قـمر” ورفعت عينيها الباكيتين له وحينها لم يتحدث هو بل قطع الوعد بنظراتهِ أنه سيعود له بشقيقها وحينها حركت رأسها موافقةً تؤكد له ثقتها به ثم تحركت تضم “عـهد” التي ظهر الضعف عليها وهي تحاول أن تظهر بصورة الفتاة القوية أمام الجميع لكن على العكس تمامًا لم يظهر ذلك، بل الضعف هو ما ظهر عليها وكأنها فتاة صغيرة تركها والدها وأفلت يده عنها وسط مدينةٍ لم تعرف أيًا من ساكنيها..
تحرك “أيـوب” صوب “غالية” الجالسة على الأريكة تبكي بصمتٍ حتى تورمت عيناها من كثرة البكاء وكأنها فوهة بركان على وشك الإنفجار وحينها لاحظ “أيـوب” ذلك وهي تضغط على قبضتيها كأنها تجاهد أن تبدو ثابتة بقدر الإمكان ونظرًا لعلمه بمدى خطورة هذا الوضع أقترب منها يجلس على رُكبتيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_قولي إيه مزعلك؟ اتكلمي متخبيش حاجة جواكِ، قولي وكلنا سامعينك، عاوزة إيه غير “يـوسف” يكون في حضنك؟ أنا هحاول أجيبه والله حتى لو أضطريت لآخر نفس فيا هجيبه علشان أنا عارف إنه مظلوم، إبنك مش ظالم.
أعطاها الإشارة لكي تنفجر وحينها صرخت في وجهه وهي تقول بنبرةٍ عالية أعربت عن قهر إمرأةٍ وحيدة بدت مثل القطة في عرين الأسود وهي تخرج ما في جبعتها:
_ولــما هـو مش ظالم بيحصل فيه كدا ليه؟ لما هو مش وحش ومش بيعمل حاجة وحشة مش بيرحموه ليه؟ خدوه مني ومن حضني ليه؟ حرموه من أمه وحكموا عليه باليُتم وعليا بالموت ليه؟ لما هو مظلوم ليه ابني كل شوية يتوجع كدا؟ ذنبه إن أبـوه حبني وحبه؟ ذنبه إن دي عيلته؟ ذنبه إيه في الدنيا عــرفوني؟ كارهين راحته وراحتي ليه؟ هيقتل؟ ابني يقتل؟ ويقتل مين؟ ابن عمته اللي أبوه كان روحه فيها؟؟ يا أخي ملعون أبوهم في الأرض عيلة جبابرة كلها، مش راحمينه وهو عيل ولا راحمينه وهو شاب ولا وهو راجل !! هيرحموه إمتى؟ لما يموت ؟ يــا رب بــرد ناري منهم وأشوف النار ماسكة فيهم، ربنا يحرق قلوبهم بحق حرقة قلبي على الغالي، يــا رب أنا تعبت، تعبت بسبب تعب عيالي، تعبت والله….
خفتت نبرتها وهي تبكي بمنتهى القهر وحينها ضمها “فضل” ماسحًا على ظهرها وهو يُهدئها من هذه النوبة بينما الفتيات نزلت دموعهن ومعهن “أسماء” أيضًا التي ظلت تبكي على حال رفيقة عمرها بينما “أيـوب” ازدادت النيران بداخلهِ، لقد اكتفى من هذه العائلة وحينها دون أن يدرك نفسه أو كيف تحول خرج من البيت والآن نحن على استعداد للقاء “أيـوب” جديد يسيطر على إمام المسجد…
وصل الوقت إلى منتصف الليل وتخطى ذلك أيضًا وحينها خرجت نساء عائلة “الراوي” من المشفى نظرًا لعدم وجود قاعدة في المشفى تسمح بوجود عائلة المريض أثناء تواجده في غرفة الإنعاش، ونظرًا لإمتلاء المشفى بالعديد من الناس المرضى ومعهم ذويهم، لكن “عاصم” و “سامي” أستطاعا بالمال الحصول على غرفة واحدة لهما سويًا ليكونا على مقربةٍ من “نـادر”..
وصلت “فاتن” إلى هناك بجسدٍ مُرتخي نتيجة تلف أعصابها بسب البكاء على ابنها وبسبب حديث الأطباء الذي لم يُطمئنها وبسبب غيبوبة ابنها الذي استسلم لتلك الحالة بعد جلسات الصدمات الكهربائية التي ساعدت في عودة النبض لقلبه من جديد، ومعها دلفت “شـهد” التي توجهت لغرفتها مباشرةً تختلي بنفسها بعيدًا عن الاثنتين، وحينها جلست “مادلين” بجوار الأخرى تضمها وهي تطمئن عليها وتحاول معها حتى تتناول الطعام وفي هذه اللحظة صدح صوت باب البيت بطرقاتٍ عنيفة جعلت جسديْ كلتيهما ينتفض إثر قوة الطرق وحينما فُتِحَ الباب بواسطة العاملة في البيت دلف “أيـوب” مباشرةً إلى الداخل…
كانت صدمة في هذه اللحظة حينما دلف هو البيت في ذلك الوقت وقد رآته “فـاتن” التي تركت موضعها ووقفت أمامه فوجدته يقف في مواجهتها وهو يقول بنبرةٍ عالية وكأنه تبدل حتى لم يعرف هو نفسه في هذه اللحظة:
_أنا نفسي أفهم فين حبك ليه؟ فين خوفك عليه اللي بتذليه بيه كل ما يتكلم؟ أنا مشوفتش حد زيك أذاه في الدنيا دي، أنتِ مصدقة إنه يقتل ابنك؟ يقتله ليه؟ ما كان الأولى يقتل جوزك وعمه والاتنين ألعن منه ١٠٠ مرة، إزاي مقدرتيش تدافعي عنه قدامهم؟ إزاي جالك قلب تسكتي؟ أنا مش قادر حتى أصفالك من جوايا، وهفضل طول عمري أعذره على أي حاجة يعملها علشان كتر خيره إنه استحمل كل دا منكم وساكت.
رمى حديثه لها ليزداد شعورها نحو الآخر بالذنب وازداد معه بكائها بينما هو زفر بقوةٍ ورفع صوته يسألها بنبرةٍ عالية:
_أنتِ كل ما حد يكلمك تعيطي؟ مرة واحدة خدي خطوة جد في حياتك، جوزك بيضيع مستقبل ابن أخوكِ اللي كله بيشهد إن روحه كانت فيكِ، عارفة يعني إيه شاب زيه مهندس ليه سمعته يتقال إنه قتال قُتلى؟ عندك إيه تقدري تساعدينا بيه؟.
توقفت عن البكاء وهتفت بنبرةٍ مختنقة وكأنها تنبس بهذا الحديث وهي تجاهد لخروج صوتها من بين شفتيها:
_موبايلي وأنا بكلمه علشان يروح يجيب “نـادر” ورسالة مني بعتهاله بس هو مردش عليها، شافها بس، دي الحاجة الوحيدة اللي معايا إني كلمته يروح يجيب “نـادر”
ابتسم بسخريةٍ لها وهتف متهكمًا ثم أنهى حديثه بنبرةٍ أخرى كأنه يهددها بكل صراحةٍ لم تسبق هي وتعهدها منه أو تسمعها عنه:
_دا لو دليل يبقى دليل يدينه إنه كان هناك فعلًا، حتى لو أنتِ اللي بعتاه فدا مش مبرر يخليه يطلع منها، على العموم أنا عارف إيه اللي هيحصل ولو اللي أنا بفكر فيه حصل زي ما حصل قبل كدا إن حد يهددك بحاجة تخليكِ تديني “يـوسف” وفاكرة كدا إنك بتحميه أقسم بالله لأقلب البيت دا فوق دماغ الكل، والقرابة اللي بيننا أعتبريها شغالة بس لحد ما “يوسف” يخرج ولأخر مرة هفكرك إن خوفك كل مرة بيوديه في ٦٠ داهية، بس المرة دي مش هزار، عقلك في راسك وحكميه صح.
ترك المكان ورحل بينما هي أرتمت على الأريكة بجسدٍ هوىٰ مثل الورقة التي تسقط من أحد الطوابق العالية تتراقص في الهواء لحين يستقر جسدها أرضًا، وحينها هتفت “مادلين” بنبرةٍ جامدة:
_بصراحة معاه حق، “فاتن” أنتِ مش صغيرة علشان تخافي كدا وتضطري إنك تاخد قرار متهور يضيع حياة الكل، من الأول استسلامك هو اللي مودي الدنيا دي في داهية، لو مرة واحدة بس رفعتي راسك لفوق تشوفي من بعيد كان زمانك خدتي قرار واحد صح، بس أنتِ باصة تحت رجلك ومش عاوزة تاخد قرار واحد صح، عاوزة تمشي يومك وخلاص وبكدا أنتِ في أمان، يوم وهيعدي خلاص مش مهم بكرة شكله إيه، المهم إن يوم يعدي بسلام بس يوم بعد يوم فيه اتنين حياتهم باظت، “يـوسف” بسببك أترمى في إصلاحية وبعدها سجن بعدها مصحة بعدها سجن تاني أهو، وقصاده “نـادر” بقى سلبي وضعيف وشخص علطول ملهوش مالكة، عاوز يعيش والسلام مش مهم يعيش إزاي، وبرضه بتضيعي الاتنين من إيدك أهو، على رأي الشاب اللي كان هنا، عقلك في راسك تعرفي خلاصك.
أنهت الحديث وتركتها بمفردها وكأن الجلوس معها يصيبها بالتوقف عن التفكير السليم وكأنها عدوى تنتقل إلى الجميع وهي تنشر سلبيتها المفرطة عليهم دون أن تتصرف بشكلٍ صحيحٍ
في غرفة المرافقين بجوار غرفة “نادر” نام “عاصم” على الأريكة الكبيرة وترك الفراش للآخر يتسطحه وحينها صدح صوت هاتف “سـامي” الذي ظل مُستيقظًا دون أن يعرف النوم سبيلًا لجفونه وحينها جاوب على المكالمة بلهفةٍ ليجد “ماكسيم” يهتف بنبرةٍ هادئة ظهر فيها طبعه البارد:
_طمني ابنك عامل إيه دلوقتي؟.
أنزعج “سامي” منه فهتف بجمودٍ ردًا عليه:
_في أوضة الرعاية ودخل في غيبوبة، بس عرفت منين؟.
سأله وكأنه انتبه لتوهِ أنه رغم غيابه علم بما حدث وحينها هتف الآخر يزهو في نفسه كعادته النرجسية المُحبة لطباعهِ:
_هو أنا علشان غايب عن مصر أبقى أعمى عن اللي بيحصل فيها؟ بس حلوة فكرة إنك تتهم “يـوسف” دي أهو على الأقل يتربى شوية يمكن نحتاجه بعدين، أتمنى بس تكون محضر لعواقب أفعالك يا “سـامي” وأنا محضرلك مفاجأة حلوة أوي الليلة دي.
انتبه “سامي” للجملة الأخيرة دونًا عن بقية الحديث وحينها سأله بتهكمٍ يواري خلفه بوادر إنفعاله في وجه الآخر:
_أنتَ معندكش دم !! مفاجأة إيه وابني بيموت كدا؟ بعدين مش واخد بالك إن فيه مصيبة سودا تانية وهي إن “نَـعيم” لقى ابنه؟ وكله بسبب الزفت “جـابر” عمري ما شكيت لحظة فيه أو حتى خطر في بالي، لأ ومش بس كدا دا “عبدالقادر” كمان حط أيده في أيد “نَـعيم” يعني كدا مش ناقص غير إن “مصطفى” يطلعلي من القبر وتبقى كملت، أنا مش هفضل في التوتر دا كتير، يوم ما هحس بخطر هموت “عبدالقادر” و “نَـعيم” وأخلص منهم وأخلص الكل.
ضحك “ماكسيم” ساخرًا بنبرةٍ عالية كرد فعل على حديث “سـامي” ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة وفاترة وكأن ما يحدث في غاية الطبيعة حينما قال:
_غبي أوي، بجد أنا بتسغرب غبائك دا إزاي مخليك مكمل حياتك عادي كدا؟ دا أنا بشفق عليك، لو عاوز توقع أي حد بص على الأساس اللي مخليه مسنود، هتعمل إيه لما تموت “عبدالقادر” أو “نَـعيم”؟ ولا هتستفاد أي حاجة، إنما الشباب مركز قوة كبيرة، الاتنين قوتهم في الشباب، فأنا علشان كدا عاملك مفاجأة تمهيدية للي جاي، ولو خايف منهم يفوقوا عليك، أكسر واحد في “يـوسف” و التاني في “أيـوب” والليلة دي سيبها ليا أنا.
تعجب “سـامي” من حديث الأخر حتى بدت الكلمات مُبهمة أمامه وقد ظهر ذلك في تعابير وجهه المشدود بحيرةٍ حقيقية فيما أنهى “ماكسيم” المكالمة أخيرًا بعدما ألقى حديثه الذي هدد بحدوث كارثة شارفت على القدوم هذا وإن لم تكن أقدمت بالفعل وأصبحنا في إنتظار أثرها وأثر توابعها..
__________________________________
<كلمة تُحيي المرء من جديد ورؤية مثل رؤية هلال العيد>
رحل الجميع من قسم الشرطة وظل “يـوسف” حبيسًا بداخل هذا الحبس المؤقت لحين ينتقل صباحًا إلى مقر النيابة العامة، الأمور حاليًا متوقفة على التحقيق وحديث كل الأطراف سواء المُدعي أو المُدعى عليه، وعبء الإثبات. بكل آسفٍ يقع على المُدعي وهو “سامي” الذي لم ولن يتوانى في إدانة “يـوسف” حتى وإن أضطر للإفتراء عليه، لكنه القانون إذا أصدر القاعدة يسير العالم بأكملها خلفها، وهي أن “البينة على من أدعىٰ”…
في بيت “العطار”
وصل “عبدالقادر” وابنه إلى البيت ليجد “نِـهال” في إنتظارهما وهي تحمل “إيـاد” بين ذراعيها بعدما استسلم لسلطان النوم، وحينها وقفت بالصغير على ذراعيها وهي تسأل بلهفةٍ قلقة:
_حصل إيه طمنوني؟.
جلس “عبدالقادر” على الأريكة وهو يتأوه من ألم جسده بسبب كثرة تحركه اليوم وحينها هتف بنبرةٍ منهكة:
_لسه يا “نِـهال” منعرفش حاجة ومحطوط في الحبس لحد بكرة يترحل على النيابة علشان التحقيق معاه، هما دلوقتي متحفظين عليه، ومحدش عرف يشوفه للأسف، ولا حتى أي حد غير “چورچ” علشان هو محامي، ومش عارف “أيـوب” اختفى وراح فين، بس الحمدلله إنه قريب مننا هنا لحد الصبح، المحضر اتعمل بإقامته هنا.
حركت رأسها موافقةً وانتبهت لـ “أيـهم” وهي تسأله بتعجبٍ:
_طب مش عندك صاحبك دا الظابط اللي كان ساعة الموضوع بتاع “سـعد”؟ كلمه كدا يمكن يتصرف أو يساعدكم، الحجز دا بيحصل فيه مصايب كتيرة أوي.
طالع وجهها بآسفٍ وهو يقول بصوتٍ مُتعب:
_أنا للأسف كلمته بس هو في مأمورية برة، واللي هناك واحد رخم مناخيره في السما كنت هلطش معاه، بس لميت الدنيا علشان “يـوسف” مش أكتر، عمومًا يعني هما شادين علشان الظابط الجديد بيرسم الدور لحد ما يظبط أموره وبعدها كل حاجة هترجع تاني زي ما كانت.
حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ فيما سألها حماها وهو يحرك رأسه في المكان بحثًا عن ابنته بعينيهِ:
_أومال فين “آيـات”؟.
ابتسمت له وهي تُطمئنه بقولها الهاديء:
_”تَـيام” كلمها من شوية وقالها إنه في بيت باباه مستنيه يرجع وهي لما عرفت كدا فرحت شوية وبعدها دخلت تصلي، وحاولت تكلم البنات بس محدش رد وقالت إنها هتروح تشوفهم كلهم بكرة الصبح إن شاء الله.
أومأ لها “عبدالقادر” ثم تحرك من المكان يدخل غرفته بينما “أيـهم” زفر مُطولًا وحينما لاحظته هي هتف هو بنبرةٍ هادئة:
_أنا تعبان أوي ومش هعرف أنام علشان “أيـوب” الله أعلم راح يهبب إيه، فلو أمكن تعمليلي كوباية قهوة تفوقني يبقى ألف شكر يا “نِـهال” معلش هتعبك.
ابتسمت هي له ثم وضعت ابنها على الأريكة ودثرته بشالها الصوفي ثم وقفت أمامه تعاتبه بقولها:
_مفيش تعب منك ليا يا “أيـهم” هعملك القهوة ونام أنتَ وأرتاح شوية ولو حصل حاجة أو “أيـوب” كلمك هصحيك، بكرة أصلًا الخميس إجازة رسمية، يلا خد “إيـاد” في حضنك علشان ميصحاش مخضوض لوحده.
أومأ لها موافقًا ثم حمل ابنه بين ذراعيه يمسح على ظهره وهو يتذكر نفس مشاعره في المرات التي تم فيها إعتقال “أيـوب” وإلقائه في المُعتقل وكيف تنوعت أشكال العذاب بداخل هذا المعتقل وكيف تعرض شقيقه للعذاب النفسي، وحينها أدرك أن الوجع يتساوى مع أهل المُبتلي أيضًا بل قد يزداد وجعهم من خوفهم عليه.
__________________________________
<“عاد الغائب حبيب القلب، روح الفؤاد”>
في منطقة نزلة السمان…
عاد “نَـعيم” مع “إيـهاب” والاثنان ظهرت عليهم خيبة الأمل حينما عادوا خاويين الوفاض في رؤية “يـوسف” وحينها توجه “إيـهاب” إلى شقته مباشرةً بعدما استأذن من كبيره الذي قدر تعبه طوال اليوم ومحاولاته لأجل رفيقه، وحينها جلس “نَـعيم” في فناء البيت الرملي وهو يشعر بالذنب تجاه “يـوسف”، وحينها أتى أحدهم ولمس كتفه من الخلف وقد حرك هو رأسه من فوق كتفهِ ليجد “تَـيام” أمامه وحينها ترك مقعده بلهفةٍ مما أدى إلى سقوط المقعد وهتف بذهولٍ:
_أنتَ هنا؟ أنا قولت إنك هتمشي.
ابتسم له “تَـيام” بأسفٍ وهتف بخجلٍ من نفسه وكأنه تذكر كيف كان رد فعله في غاية القسوة حينما اتضحت الحقيقة:
_مقدرتش أمشي قبل ما أشوفك، يمكن أنا محتاج شوية وقت بس أتقبل كل حاجة حصلت في يوم وليلة بس أنا مش قليل الأصل علشان أنكر إن جوايا حاجة ليك، أنا طير حُر معنديش وسط، يا أبيض يا أسود، وأنا للأسف بحاول والله، وعاوزك منك تعذرني، جايز أنتَ متقبل كل دا لأنك كنت عارف ومستني، بس أنا اتفاجئت باللي حصل فأكيد أنا مخضوض، بس متزعلش مني والله غصب عني.
أبتسم له “نَـعيم” ونزل الدمع من عينيهِ يهتف بنبرةٍ جاهد لجعلها ثابتةً دون أن تخونه وتجعل البكاء يرافقها:
_أنا عيشت عمري كله مستني بس ألمح طيفك من بعيد ويقولولي ابنك أهو عايش مرتاح ومبسوط والله يابني ما طلبت أكتر من إن قلبي يتطمن بوجودك أنتَ وشوفتك من بعيد، وكفاية إنك هنا وجيت لوحدك وجيبت اللي منك معاك، متقلقش أنا مش زعلان وسايبك براحتك.
حرك رأسه موافقًا وقد ابتسم له بإطمئنانٍ حينما تأكد أنه لم يغضب منه ثم سحب نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ متوترة للغاية بسبب حديثه القادم:
_أنا مضطر أمشي علشان..
علشان أمي..أقصد يعني الست “نجلاء” لوحدها وأنا وهي مش متعودين إنها تبات لوحدها، فأنا آسف يعني بس أنا لسه…
زفر مُطولًا وسكت بعد ذلك بينما والده ابتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة رسم عليها البسمة لكي يزيل عنه التوتر لكن رغمًا عنه مشاعره المتأججة ظهرت في الكلمات وهو يقول:
_شوف؟ أنا عارف ومقدر كل حاجة وعارف إن صعب عليك في يوم وليلة تفتحلي دراعاتك وقلبك، غصب عنك وعني هيفضل فيه حاجز بيننا، وربنا برحمته هيألف بيننا، وأنا مش طماع، كفاية إنك عارفني وبتحاول علشاني، روح علشان ميصحش تفضل لوحدها، بس مش هتروح لوحدك هخلي حد يوصلك بالعربية ومش هتعارض معايا.
ابتسم له “تَـيام” وتابعه وهو يتحرك نحو أحد الشباب يطلب منه أن يقوم بتوصيل ابنه إلى حارة “العطار” من جديد وفي هذه اللحظة خرج “مُـنذر” من مكان الخيول وما إن رأى ابن عمه أقترب منه وسأله بنبرةٍ خافتة:
_عرفته إننا هنمشي؟.
أومأ له موافقًا وحينها عاد لهما “نَـعيم” وقد انتبه لوقوف ابن أخيه مع ابنه وسأله باهتمامٍ عن وقوفه هنا:
_رايح فين؟ أوعى تقول إنك هتمشي؟.
حرك رأسه موافقًا دون أن يتحدث وحينها تدخل “تَـيام” يتحدث بوعدٍ قطعه لوالده وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_الأحسن إننا نروح مع بعض هناك علشان أكيد “يـوسف” موضوعه دا هيحتاج إني أكون هناك وممكن أحتاج “مُـنذر” معايا، فبعد إذنك يا حج هنمشي وبكرة هنجيلك.
أومأ “نَـعيم” بقلة حيلة وكعادته خشى أن يفرض نفسه عليهما حتى لا يفلتا من يديه كما حدث مُسبقًا، لكن نعت ابنه له بهذه الصفة تؤلمه، لما لم يخبره بهذه الكلمة المُحببة لقلبه؟ وقد غرق في تفكيره وهو يرى تحركهما من أمامه وقد تم الوداع شفهيًا بينهما دون عناق وكأن الحواجز تفرض نفسها عليهم، بينما “تَـيام” لاحظها في ملامح والده، قرأ تعابيره المتألمة فتوقف عن السير وانتبه له “مُـنذر” وتوقف هو الآخر وحينها تحدث “تَـيام” مُناديًا على والده بقوله الذي صارع لإخراجه:
_ بابا..
هذه الكلمة تفوهها أخيرًا لتحيي والده من جديد وقد تسمر “نَـعيم” محله إثر تلقي سمعه هذه الكلمة وحينها هتف الآخر بنفس التوتر مُكررًا كلمته من جديد:
_تصبح على خير يا بابا.
بدا وكأنه يتدرب على هذه الكلمة لتخرج منه بهذا التوتر والاهتزاز وحينها التفتت له “نَـعيم” مبتسمًا فوجد ابنه يشير للآخر لكي يتحدث فلم يكن أمام “مُـنذر” سوى أن يقتبس عبارة الآخر قائلًا بنفس التوتر أيضًا:
_تصبح على خير يا عمي.
ألقى العبارة ثم التفت ينظر أمامه وكأن التعامل مع البشر أصبح جديدًا عليه وكأنه رجل الكهف المظلم الذي عاش بعيدًا عن التعامل الآدمي، فكيف تكون المجاملات في هذا العالم؟ لقد أعتاد على تلقي الأوامر وإعطاء التعليمات، وبالطبع الحديث المعسول والكلام العاطفي هي أشياء جديدة عليه وعلى عالمه، بينما “تَـيام” شجعه بعينيه ثم سار بجوارهِ ولازال “نَـعيم” يطالع أثر الإثنين معًا بوجهٍ مبتسمٍ وهو يحمد ربه على وصوله لهذه المرحلة معهما وكأن القليل منهما يساوي الكثير من كل شيءٍ…
__________________________________
<“لقد عُرفت بالقوة وطيب القلب معًا”>
رُبما يكون العالم أخطأ حينما ظن أن القوة والطيبة مجرد صفتين لا يمكن أن يجتمعان في شخصٍ واحد، فإذا ترك أحدهم العنان لعقله في التفكير سيعلم أن تحكم المرء في طيبة قلبه لن تخرج إلا من قويٍ لم يلجأ للطرقات المعروفة بالضعف..
وقد بدل “أيـوب” كل خططه وأخذ طريقًا غيره يتمنى من المولى أن يُكلل بالنجاح حيث أنه عاد لبيت “يـوسف” وأخذ عدة أشياء منه طلبها من “قـمر” التي جهزت كل شيءٍ على الرحب والسعة دون أن تعلم السبب، لقد تسلحت بالكثير من القوة اليوم وهي تقف مع والدتها وتعاون “عـهد” التي ظلت تحارب مخاوفها، وقد لاحظت تواجد “أيـوب” وفهمت أنه سيذهب إلى زوجها لذا تحركت نحو الدفتر الموضوع على الطاولة وخطت بداخل ورقة منه خطابًا ثم أعطته لـ “أيـوب” وهي تقول بنبرةٍ مهتزة:
_لو هتشوفه أديله دي من فضلك.
حرك رأسه موافقًا لها ثم أخذها ووضعها في جيب بنطاله بينما “قـمر” سحبت المصحف الصغير الموضوع على الطاولة وسحبت المسبحة الإلكترونية الخاصة بها وأعطتهم لزوجها وهي تقول بنبرةٍ هادئة أثر عليها البكاء:
_أديله دا لو عرفت، لو المصحف مش نافع، خد السبحة وربنا يهون عليه، وقوله “قـمرك” مستنيك وعارف إنك راجع من تاني، وشكرًا مقدمًا.
ابتسم “أيـوب” بعينيه لها ثم تحرك من المكان بعدما آخذ الأشياء المُـرادة وخرج من البناية بأكملها راحلًا للآخر وقد وقف يتابع سيارته الممتلئة بالعديد من المُعلبات لعل هذه الطريقة تساعده في الوصول لمراده آملًا في المولى الكريم أن ييسر له أمره، وقد وصل حقًا إلى قسم الشرطة في منطقته ونزل منه وأنزل الحقائب والمعلبات ليجد في الخارج أمين الشرطة العسكرية فاقترب منه مبتسم الوجه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، معاك “أيوب عبدالقادر العطار” إمام المسجد في المنطقة وابن الحج “عبدالقادر” صاحب وكالة الرُخام، أنا ابنه الصغير.
ابتسم له الرجل وهتف بنبرةٍ ترحيبية بتواجده هنا:
_يا خبر أبيض؟ يا باشا دي الحارة كلها بتاعتك، منورنا، بس خير إن شاء الله فيه حاجة أو مصلحة ليك هنا؟ لأمؤاخذة يعني أنا لسه جاي من قيمة ساعة كدا لو يخصك حاجة أؤمرني وأنا عيوني ليك.
استبشر “أيـوب” من المقدمات خيرًا وحينها هتف بنبرةٍ هادئة أكثر من السابق وكأنها استقرت من الاهتزاز:
_الأمر لله سبحانه وتعالى، أنا جايب أكل رحمة ونور لأمواتنا وأموات المسلمين وقولت إن هنا أنتوا سهرانين كتر خيركم ودا شغلكم وربنا يرزقكم ويديم ستره عليكم، بس أنا ليا طلب، أخويا جوة في الحجز وهيترحل بكرة، عاوز بس أدخله وأدخل معايا الأكل ومعايا مصحف ربنا يقرأ فيه، لو عاوز تفتش براحتك دا حقك، بس أنا والله غرضي طيب، وصدقني أنا لو راجل وحش كنت خرجت فلوس كتير وأديتها ليك وتدخل بيتك فلوس حرام، بس أنا مش هعمل كدا، أنا مش راشي، أنا هدعيلك ودي أحسن مليون مرة من فلوس حرام تصرفها في بيتك، وإن شاء الله ربنا ييسرها وزي ما هتفك كرب مسلم ربنا يقدرني وأخدمك زي ما أنتَ عاوز.
طريقته وحديثه تسببا في حيرة الرجل لكنه نظر لوجه “أيـوب” ثم إلى القسم الفارغ من الجميع عدا عساكر تقف عند المفترقات بسلاحها تقوم بحراسة المكان وحينها طلب منه بطاقته الشخصية يتأكد من هويته وما إن تيقن من ذلك عاد له وهو يشير بالدخول وحينها ابتسم “أيـوب” وأخذ الطعام يعطيه للعساكر مُعرفًا عن نفسهِ وكأن اسمه كان كافيًا حتى أن بقية الشباب كانوا على معرفةٍ كافية بِـه ومنهم من تتلمذ على يديهِ في المسجد وتعلم أمور دينه وحينها أقنع أمين الشرطة بالدخول للزنزانة وبعد فترة طويلة من الإلحاح وافق الأخر أخيرًا…
وصل إلى الداخل حيث غرفة الزنزانة ومعه الطعام للجميع وقد دلف الغرفة الموضوع بها “يـوسف” ووزع على كل الموجودين بصمتٍ، لكن رائحته ورائحة المِسك الطيب يعلمها “يـوسف” جيدًا حتى أنه شعر بتواجده لكنه ظنها حجة واهية من عقله لكي يطمئن أن “أيـوب” أصبح هُنا، وحينها فتح عينيه وهو يشعر بتعامد ظل أحدهم عليه ليجده هنا حقًا يطالعه من علياءه وقد هتف اسمه بذهولٍ:
_”أيـوب” !! أنتَ هنا بجد؟.
ابتسم له الآخر ثم أقترب منه يجلس بجوارهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_لأ كدا وكدا، جيت ياعم بجد.
أبتسم له “يـوسف” بغير تصديق وحينها هتف “أيـوب” بزهوٍ في نفسه بسبب وصوله إلى هنا وجلوسه بمحاذاته:
_هو أنتَ لوحدك هنا اللي ليك طُرقك؟ إحنا جامدين برضه بس كله بما يُرضي الله، واخد بالك؟ مش واسطة وعضلات؟.
ضحك “يـوسف” أخيرًا له فيما سحب “أيـوب” حقيبة الطعام ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا وعدتهم إنك هتاكل، كُل يلا علشان تاخد بقية حاجتك، سمعة والدتك بتقول إنك كنت جعان وعاوز تاكل، يلا بسم الله.
لمعت عيناه ببريقٍ نبع عن ذهوله بسبب “أيـوب” الذي ربت على كتفه يحثه على تناول الطعام ثم أخرج المصحف الشريف والمسبحة ومد يده بهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أمسك دول من قمرك، بتقولك قمرك مستنيك وعارف إنك راجع، أظن يعني هي جابت أحسن حاجة في الدنيا كلها، محدش هيطمن قلبك غير كلام ربنا والذِكر الطيب.
من جديد اندهش “يـوسف” ومد كفه على استحياءٍ يلتقط المُصحف والمسبحة الإلكترونية وهو يبتسم له وحينها ابتسم وهو يتذكر وجه شقيقته وكأن طيفها وحده يملك طيب الأثر في نفسهِ، أما “أيـوب” فأخرج الخطاب الخاص بـ “عهد” ومد كفه به وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_دا من المدام، طلبت مني لو وصلتلك أجيبه هنا.
حينها رفع رأسه مُجددًا نحو “أيـوب” لتتلاقى النظرات ببعضها معًا ثم أخذ منه الورقة بخوفٍ بالغٍ، خشى أن يرى في هذه الورقة ماهو أصعب من تواجده هنا، لكنه حسم أمره وفتحها فعلى كلٍ رؤية ما بداخل الورقة أرحم من صراعٍ قد يفتك به فتكًا، وحينها فتحها ووجد بداخلها ما يُحيي المرء بعد موته ويرد للجسد الروح من جديد:
_كيف حالك أيها القوي الغائب؟..
أعلم أن هذه المرة ربما قد تكون نفذت طاقتك..
لكني أعلم أيضًا أنكَ وبرغم كل شيءٍ لازلت قويًا، وهذه المرة قد تشعر بشدة المِحنة لتصبح من بعدها مِـنحة من القوة، فكما صبرت وتحملت وتغربت في لوعةٍ ثم شاء المولى وأنقلب كل شيءٍ إلى رحمةٍ، أيضًا سينقلب الأمر من مجرد البلاء إلى العطاء،
ولحين ذلك ولحين يشاء الخالق عودتك
أنا هنا في إنتظارك…
في إنتظارك حتى يمل الصبر مني…
وحتى كل المفترقات تكرهني…
أنا هُنا وكلي يقين يملأ قلوب كل العاشقين..
أنا هُنا في إنتظارك ولن أقبل إلا بالبقاء جوارك..
فعُد لي أيها القوي، لتعد معك الفرحة لدارك..
عُد لتعود مدينتك مُضيئة لأن الظلام أطفأ لمعة أضوائك..
ابتسم “يـوسف” من جديد ونبض قلبه تلك المرة بعنفٍ وكأنه يتمنى الهرب من حرب رأسه لينعم بالسلام جوارها، هذه التي كما وصفها هي رحمة من الخالق مَنَّ عليه بها لتليق هي به، وكأن هي وحدها من خُلقت تستحقه وهو يستحقها، وحينها لمعت عيناه ببريقٍ يتلألأ مثل نجوم السماء وكأنها أزالت عن كاهلهِ مهمة ثقيلة، حتى صعبت عليه التنفس، لكن في هذه اللحظة جلس أحد الشباب الذين حضروا اليوم وفتح سلاحه وهو يستعد للقادم وقد أتى إلى هنا لأجل وظيفة مُحددة أصبحت وظيفتين، فياترى ماهي الوظيفة التي أتى إليها وهو يجلس كما الصياد ويرى أمامه بدلًا من الفريسة الواحدة فريستين؟..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!