روايات

رواية غوثهم الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع والخمسون

رواية غوثهم البارت التاسع والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة التاسعة والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل التاسع والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
إن هذا القُرآن يكفيه فخرٌ أنه
رحمةٌ قضتها السماء..
جاء بالحق…جاء بالحق
للقلوب ضياء..
فتلاشت من نورهِ الظلماء
جاءكم بالهدى كتابٌ كريمٌ
جاءكم بالهدى كتابٌ كريمٌ
عربي البَيْان فيه الدواء.
_”النقشبندي”.
__________________________________
_عُرِف دومًا عن الغريب أنه عزيز النفس
يخشى أن يُهان…
لم يقوْ على الذُلِ ولا تقدر نفسه على طلب السؤال، قد يسلك كل الطرقات ويعيش في غُربةٍ، لكنه أبدًا لن يهين نفسه لمن لا يُغنيه عن السؤال؛ لكن…
لكن هذه المرة بدل كل طُرقاته وتخلى عن غربته ونزع من رأسهِ فكرة الغَياب، حتى أنه بدون أن تُغنيه أنتِ لجأ لمسلكك وخضع للسؤالِ، فأين من كرمك عليِّ وعلى قلبي الجواب؟ لكن دعيني أولًا أكررها عليكِ من جديد واسألكِ وأنتِ أكرم من رد سائلٍ والبُخلِ بالجواب، فهل إذا طلب منك قلب الزاهد المسكين أن تحفظيه في كنفك من غدر الغياب، وألا تُعيديه كما كان غريبًا بدون أحباب، فهل من قلبكِ ما يُريح البال؟
أم أنكِ كما الأبكم تعجزين عن إعطاء الجواب..؟.
<“خشبة المسرح نحن، نتراقص بالممثلين”>
حرك “ماكسيم” رأسه نفيًا بطريقةٍ درامية تمثيلية بوضوحٍ ثم هتف يسأله بسخريةٍ:
_لولا إني عارف إن “نـادر” ابنك كان زماني قولت إن هو، بس الغريب بقى الواد راح فين رغم إني عارف إن عيلة أصحاب البيت راحوا ملقوش الواد هناك، فقولي كدا بصراحة الواد فين يا “سـامي”.
فهم “سـامي” أنهم يعلمون كل شيءٍ عن ماضيه لذا قرر أن يتعامل بنفس الطريقة التي كللتها الصراحة حين هتف بنبرةٍ هادئة نجحت في توتر الأخر وهو يستفسر منه بقولهِ:
_لو على الواد يا سيدي اعتبره في الحفظ والصون، بس متنساش إنهم كانوا اتنين مش واحد، يعني ابن “نَـعيم” وابن “شَـوقي” أخو “نَـعيم”، فأنتَ قولي فين ابن “شَـوقي” وأنا هقولك فين ابن “نَـعيم” ؟؟ إيه رأيك يا صاحبي؟.
العديد والعديد لم يُكشف بعد، والأبواب حتى الآن لم تُفتح على مصراعيها، هي فقط تواربت ليظهر من خلفها فقط إطار الصورة التي لم تظهر بأكملها، لذا نحن فقط في الانتظار لحين تُفتح الأبواب على مصرعيها أو ينفجر الجحيم في وجوهنا، أو لربما يكون انفجر الجحيم في وجه صاحب الجنسية الإنجليزية وهو يستمع لهذه الكلمات وقد ظهرت الدماء في وجهه بعدما تدفقت إليهِ، وجهه الأبيض أصبح خليطًا من الألوانِ فيما ابتسم “سـامي” بتهكنٍ وهتف بأسلوبٍ تمثيلي يماثل طريقة الأخر:
_إيـه ؟ اتصدمت ولا اتكهربت؟ فاكرني معرفش حاجة ؟ قريبك الله يجحمه مطرح ما راح قالي على كل حاجة، كانت دماغه خفيفة أوي يدوبك كل لقمة حلوة وحبس بازازتين استيلا مصري قالي كل حاجة، راح فين بقى ابن “شوقي” اللي هو أصلًا مكانش يعرف عنه حاجة؟.
لم يُصدق “ماكسيم” أن يكون هناك من هو الأقوى في شخصهِ منه هو ذات نفسه، لم يتصور أن يكون “سـامي” على هذا القدر من الألاعيب الرخيصة، لذا قرر أن يستعيد صدارة القوة حين هتف:
_طب وأنتَ يلزمك ابن “شـوقي” في إيه ؟.
قلب “سـامي” شفتيه بسخريةٍ وهتف ردًا عليهِ:
_يمكن علشان لما “نَـعيم” ييجي يسألني على ابنه وياخد حقه مني بعدما خليت أخوه يخطفه من حضن أمه، ساعتها أقوله اللي وزك عليا أنا، خاطف ابن أخوك، وأكيد هيستخدم ابن أخوك ضدك، ويخليه لعبة في أيده يقدر يكسرك بيها، أو يمكن علشان أنا اللي دليت صحاب البيت على مكان “شـوقي” لما دبحوه؟.
ازدادت دهشة “ماكسيم” من حديث الأخر الذي أتضح عليه ثباتٌ يقتل أي خيالات قد تسول للأخرين باستغلاله، وسأله مستنكرًا بغرابةٍ كُبرى لم يتوقعها هو:
_أنتَ !! أنتَ اللي بلغت عن صاحبك؟.
هز رأسهِ مومئًا ثم أضاف مُفسرًا سبب فعلهِ بقولهِ:
_آه أنا، علشان كان غبي وهيضيع كل حاجة مننا، عاوز يرجع لأخوه ويحكيله كل حاجة ويتأسفله، قال إيه صعب عليه الواد، علشان كدا روحت عرفت أخوات صاحب البيت طريقه وفهمتهم أنهم لقوا الآثار بجد، ساعتها بقى دبحوه، وقبلها كنت هربت مراته بالواد ابن أخوه اللي زمانه مات من العياط والجوع، أو هي رمته في أي حتة.
كان “ماكسيم” في أوج لحظات سعادته وهو يرى استرسال الأخر في الحديثِ معه، لذا أقترب منه يسأله بثباتٍ:
_طب سيبك من كل دا، أنتَ متعرفش الواد فين؟.
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ وبملامح مصطنعة ثم سأله بنفس الطريقة:
_سيبك أنتَ من كل دا، الواد ابن “شـوقي” فين؟ وإزاي وصلكم ؟ وياترى بقى حد عارف إنكم خدتوه ولا لأ ؟.
رد عليه يجاوبه بنفس الطريقة الفاترة:
_الله يرحمه زمانه مع ابن عمه بيلعبوا مع بعض في الجنة، أبوه طلع ندل ومرضاش يتحمل مسئولية أمه بعدما اتجوزها في السر، طبعًا دي غير البت اللي أنتَ هربتها، “شـوقي” اتجوز بنت جارهم في السر ولما حملت مرضاش يعترف بالواد وساعتها قالها أنه ملهوش دعوة وهي فهمته إنها سقطت وخدت منه فلوس وساعتها طلقها وهي جاتلنا، بما إننا كنا كباره وبيسمع كلامنا وخافت تروح لأخوه يفضحها، وواحد من رجالتنا اتجوزها قصاد الفلوس، للأسف ماتت وهي بتولد هو ربى الواد شوية حلوين بعدها رماه.
تصنع “سـامي” المآساة في نظراتهِ وقال بنفس الدراما المصطنعة في أسلوب تحدثه:
_ياعيني، الناس بقت وحشة خالص يا “ماكسيم” يا أخويا، يلا في كشحة، خلينا في المهم، عاوزني في إيه، إحنا مش جايين هنا نفتح حضانة ونفتكر مين ابن مين ومين راح فين، والله لولا الملامة كنت اديتكم “يـوسف” تشغلوه معاكم، قلبه ميت وبيجيب من الأخر.
أبتسم الأخر وقال مؤكدًا على ما تفوه به الأخر:
_هييجي، “يـوسف” وحبايبه واللي يخصوه هييجوا كلهم، بس كله بالهدوء، أنا لو جيبت رجالتي هنا هيتشك فيا، فلازم أكون طبيعي ومكون معاهم صداقات تخلي العيون بعيد عني، وعاوزك معايا، نرجع مع بعض تاني ندور على الآثار قبل ما الحكومة تلاقيها، وقصاد كل دا، هندور على متحف الوادي تحت الأرض، وساعتها التاريخ هيمجد اسامينا لما نعمل اللي أهل مصر فشلوا فيه.
رفع “سـامي” حاجبيه مستنكرًا جملته وقال بنبرةٍ جامدة يوقفه عند حدهِ:
_لأ عندك أهل مصر مين اللي فشلوا دول؟ هما بس مش مقدرين قيمة اللي عندهم، وميقدروش يسكتوا عن حقهم، يعني لو طلعوا عليك وعرفوا إن أنتَ اللي بتسرق تاريخهم وتبيع عيالهم وتتاجر فيهم، هياكلوك بسنانهم أكل.
على بُعد خطواتٍ منهما وقف “مُـنذر” يتابعهما بعدما راقب خطوات “ماكسيم” وابتسم بسخريةٍ عند استماعه لحديثهما من خلال الجهاز الذي وضعه في سيارة “ماكسيم” يرسل له الحديث بينهما، لم يتعجب مما سمعه، لقد كان على علمٍ مُسبقٍ بكل هذا، لكن أن يستمع بنفسهِ هذه نُقطة أخرى فيصلية وقد ابتسم باتساعٍ أكثر وهو يقوم بتسجيل هذه اللحظة، والقادم معهم كثيرًا.
__________________________________
<“لقد سبق ونطقها قلبي، والآن يخشاها من جديد”>
أنا وجناحاي نُحلق في السماء،
أنا قلبي كِدنا أن ننسىٰ العناء، أنا وقلبي نُغني معًا والطير دومًا يميل للغناءِ.
كان هذا قول “عـهد” التي قضت اليوم كاملًا بصحبتهِ، اليوم ترى منه الجانب اللطيف الذي دومًا تشعر هي بهِ عند حاجتها إليه، اليوم أظهر لها الطفل الصغير الذي يحتضنه بداخلهِ وأخرج منها الطفلة الصغيرة التي كادت أن تنساها هي، دارت معه المكان وتجولته ليكتشف منهما الجانب المتوارىٰ الذي يخفيه عنه الأخر، وقد اكتشفت هي حبه للألعاب الإلكترونية وهوسه بها، واكتشف هو حبها للأكواب صاحبة الرسومات الكرتونية، حتى سألها مستنكرًا بسخريةٍ:
_مجات !! بتحبي المجات يا “عـهد” ؟.
طالعته بحنقٍ أرسلتها له نظراتها وهي تسخر منه بقولها:
_مش أحسن ما أكون بتاعة ألعاب الفيديو وأقف زي العيل الصغير علشان أكسب ؟ محدش أحسن من حد، بعدين أنا مش هشتري هما غاليين أصلًا، أنا بتفرج بس علشان بحب شكلهم أوي.
أبتسم هو بعينيه ثم أمسك كفها ودلف المعرض الخاص بالصناعات اليدوية، كان المكان من الداخل عبارة عن مصنوعات يدوية، حقائب وكتب مراسلات، ورود بُنية، وأفرع زهور صغيرة، إضاءات متنوعة خاصة بالتزيين، كل المكان كان عبارة هدايا ومعروضات، وقفت هي تراقب المكان بعينيها حتى اقترب الشاب الذي يعمل بالمكان وما إن تعرف عليه رحب به بحفاوةٍ شديدة وهو يقول بنبرةٍ عالية:
_أقسم بالله ما كنت مصدق إن دا أنتَ، وحشتني يا “يـوسف” من ساعة ما فتحت المكان وأنتَ غايب ومش بتيجي، دا أنا فتحت واحد تاني أهو.
ربت على كتفهِ وقال بآسفٍ له بعدما ابتعد عن عناقه:
_أنا آسف والله، بس الظروف حكمت بكدا عليا، المهم أنا جيت من تاني وهتلاقيني عندك هنا كتير أوي أوي لغاية ما تزهق مني، المهم أنا عاوز حاجات كتير لكذا حد بأعمار مختلفة، بس مش أنا اللي هختار، مراتي هي اللي هتختار.
قام الشاب بإعطاء التوصية عليه ثم ترك لهما حرية الإختيار حتى سألته هي بتعجبٍ وبنبرةٍ خافتة أقرب للهمسِ:
_شكلك مشهور هنا، كلهم بيحبوك.
ارتسمت السخرية على ملامحه وجاوبها بنبرةٍ بها ضحكة مكتومة يخفي خلفها ضحكاته الساخرة:
_فيه مكان ممكن أخدك عليه وهناك لو لقيتي نملة بتحبني أنا هديكِ فلوس، أنا باخدك المكان اللي أنا بحب نفسي فيه، لو عاوزك تكرهيني هاخدك أنا المكان اللي تكرهيني فيه.
أخفت عينيها عنهِ ثم استعادت ثباتها من جديد وقالت تراوغ هذه المرة بقولها:
_بس أنا مش عاوزة أكرهك، خليني كدا متقبلاك، ويلا قبل ما الوقت يتأخر أكتر من كدا لو سمحت، عندي شغل بكرة وشخصيتي دي قربت تخلص.
رفع حاجبيه لها ثم سخر منها بقولهِ وهو يقلد طريقتها:
_عندي شغل بكرة !! يا خبر الساعة عدت ١٢ أنا لازم أروح، خارج مع السندريلا أنا !! لسه بدري.
قلدت طريقته في التحدث حتى أضافت بضجرٍ تستفسر منه:
_وهي السندريلا أحسن مني يعني؟.
حرك رأسه نفيًا ثم أضاف بنبرةٍ ضاحكة ردًا عليها:
_لأ هي السندريلا كانت عسولة كدا برضه؟.
ضحكت رغمًا عنها فيما وقعت عيناه على أحد الأكواب التي سرقت نظره لذا أشار بعينيه نحوها حتى حركت رأسها هي الأخرىٰ ليقع بصرها على أحد الأكواب يعتلي طرفه زهرة باللون الوردي وحُفِر عليه من الخارج كلمة “مُـذهلة” بنفس لون الزهرة، ابتسم لها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_دي علامة خدي بالك، ناقص بس اشتريه.
بعد مرور الكثير من الوقت خرج معها من المكان بعدما جلب لها الكوب الذي يُشبهها، وكذلك انتقى لشقيقتها “وعـد” لعبة كبيرة الحجم، وأيضًا لشقيقته حقيبة هدايا و لـ “ضُـحى” أيضًا، ثم خرج بصحبتها من المكان يحمل الحقائب ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_فيه أخر مكان هنروحه سوى، ولا السندريلا حضرت؟.
طالعته بسهامٍ حادة تحذره من سخريته عليها فيما قام هو بفتح باب السيارة ثم وضع بها الهدايا وفتح لها الباب المجاور له وهي تقول بغير تصديق:
_كمان !! بتفتحلي الباب ؟.
حدثها بطريقته المعتادة التي تخلو من المجاملات:
_مرة من نفسك، موعدكيش تتكرر تاني.
لا تعلم كيف صمتت وكيف تغاضت عن ردها عليه وكيف سكتت له حتى جاورها هو ثم قام بربط حزام الأمان لها واعتدل في جلستهِ، تعجبت كثيرًا منه ومن تصرفاته المتناقضة لكنها لم تغفل عن سعادته منذ أن أخبرته باكمالها الطريق معه، لقد تبدل كُليًا، أصبح أكثر مرحًا وأكثر بساطة وكأنها رفعت الحجاب عن الطفل الذي يخفيه بداخلهِ، شردت به وبهدوئه الذي تناقض تمامًا مع الطفل الذي كان معها بالداخل، يبدو أنها فعلت الصواب حينما اختارت طريقه للتكملة ويبدو أنها أجادت الخيار هذه المرة.
أما هو فانتظر القادم على أحر من الجمرِ المُشتعل الذي يحاوطه، يريد مسابقة الزمن إلى هُناك حتى ينتهي من كل مخاوفه، أراد أن يظهر ما يُسره في قلبهِ، أراد أن تكون هذه الليلة هي الأفضل في حياته، لقد اعتاد دومًا على الصراحةِ في كل علاقاته والآن هو أمام العلاقة الأهم في حياتهِ لذا أخذها إلى المكانِ الذي توجب عليه أن يأخذها إليه.
بعد مرور ساعة تقريبًا من القيادة وتعد هذه المسافة هي الأكبر في تحركهما اليوم، حينها أوقف السيارة في مكانهِ المُفضل، أوقفها عند الجنة التي هرب فيها من نار الدنيا، أول مكانٍ يأويه بعد خروجه من المصحة العقلية وأول مكانٍ وجد نفسه فيه مع ذكريات عائلته وأول مكانٍ علم بحبه لها وقد يكون أول مكانٍ يُكلل القادم لأجلها وما فعله لأجلها…
تعجبت هي من الفراغ الذي وقعا فيه ومن المكان الذي أخذها إليه ولم تنكر أن أجراس الخوف دقت على أبواب عقلها لتحذرها من شيءٍ تجهله هي، وجدته ينزل من السيارة وقد خشيت أن تكون بدونهِ هذه اللحظات لذا فتحت باب السيارة ونزلت منها بسرعةٍ كُبرى حتى طمئنها هو بقولهِ:
_أنا هنا، متخافيش يا “عـهد” أنتِ معايا..
حركت رأسها تطالع المكان بعينيها التائهتين أو لربما تراقبه وتتفحصه حتى وجدته يقبض على كفها ثم تحرك بها نحو الباب الخشبي القديم الذي يُشبه البيوت القديمة التي لازالت عتيقة الطراز المصري، وقد وضع فوقه الإضاءة التزيينية، وقد كرر كلمته عليها حتى يُطمئنها بقولهِ:
_متخافيش، والله ما فيه حاجة ممكن تأذيكِ.
ردت عليه هي بصوتٍ مهتزٍ تُنفي ظنونه تجاه خوفها:
_مـ….مش خايفة…. أنا بس مستغربة.
هز رأسه مومئًا ثم فتح الباب وأشار لها أن تتقدمه، وما إن طالت استجابتها لحركته حينها دلف هو أولًا وهو يَجُرها خلفه حتى تأمن للمكانِ كما آمنت له، هنا !! وقعت في زمانٍ أخر حرفيًا المكان هنا عبارة عن عالمٍ يوازي العالم الخارجي الذي يعيش فيه سائر البشر، الأثاث تم صنعه من الزجاجات البلاستيكية، ومكتبة الكتب قام بصنعها بالكتب القديمة وزينها بأوراق الزرع، الإضاءات صنعها بالمصابيح القديمة التي زينها وأضاف عليها جُملًا كثيرة، كل التُحف الفنية القديمة وضعها هنا، التلفاز القديم الذي يُشبه ذاك الموجود في المتاحف، الجرامافون الخاص بتشغيل الموسيقى قديمًا، صور الخيل والزهور وكل شيءٍ تُركَ من قبيل الذِكرى قام هو بالاحتفاظ به هُنا.
راقبت كل ذلك بعينيها المذهولتين حتى أقترب منها يقف خلفها وقال بنبرةٍ هادئة رخيمة:
_بما إنك هتكملي معايا الطريق يبقى لازم تعرفي حاجات مهمة عني، المكان دا أول مكان أحبه في حياتي، محدش يعرف عنه حاجة غير الحج “نَـعيم” والشباب بس، أنتِ أول واحدة بعدهم، كل حاجة هنا بتاعتي، وكل الحاجات دي أنا اللي عاملها بأيدي، كنت باجي أخرج طاقتي كلها هنا، ولسه فيه حاجات كتير مش باينة ليكِ، تيجي معايا تشوفيها؟.
سألها بنبرةٍ لا تعلم هي إن كانت رجاءً أم كانت طلبًا أم إنه يتوسل لها أن توافق، هذه النبرة التي لم تقوْ هى على الرفضِ أمامها بل التفتت له وهزت رأسها موافقةً بدون وعيٍ، هي فقط وافقت على حديثه الهاديء الذي أصابها بالخدرِ محل وقوفها، فيما قام هو بفتح الباب الثاني العازل للجزء الأخر الذي يحمل الصور الملتصقة على الحائط، وقع بصرها أولًا على صورة “فـيروز” وأسفلها الجملة التي سبق وكتبها لها:
_لا تسأليني كيف استهديت كان قلبي لعندي دليلي.
ابتسمت له وتأكدت أنه ربما يكون مهووسًا بها، وقد وقع بصرها على الحائط الأخر الذي حمل صورة “وردة” وكتب أسفلها كلمات الأغنية التي سبق وغنتها هي، ثم الحائط الأخر الذي حمل صورة “ميادة الحناوي” واسفلها كلمات الأغنية الخاصة بها، حركت رأسها لتستقر عليه فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة خيم عليها الحزن في كلماته حين هتف:
_ كنت بشوف نفسي في كلامهم، مرة الحب كان فعلًا مالي بيتنا، ومرة الدنيا اللي غدرت بيا، أول مرة أرسم فيها كانت هما، بعدها الصورة دي اللي فيها أبويا وأمي و “قـمر”، دي كانت آخر حاجة باقية من “يـوسف”.
لمعت عيناها بالعبراتِ الحزينة لأجل الحزن المُتضح في نظراته، حتى حركت رأسها نحو الحائط القبل الأخير لتجد فيه صورة أمه وصورة “قـمر” في كبرهما ومعهما والده قام هو برسم هذه الصورة بالورود الصناعية والأقمار المُضيئة الصغيرة وكتب أسفلها بخط يده:
_”عاد الونس يا قمرنا الغايب،
رجع بِضَيك ومعاه كل الحبايب”
تعلقت هي كُليًا بهذه الصورة حتى أضاف هو مفسرًا بنبرةٍ عاد لها الأمل من جديدٍ، وقد ظهر ذلك حين قال بنبرةٍ هادئة:
_كنت علطول حافظ كلمة الأبنودي لما قال:
“ضاع الونس يا قمر غايب،
بعدك ماليش أي حبايب”
بس لما لقيت أول الطريق لـ “قـمر” لقيت معاها كل حاجة، لقيت أمي ولقيت خالي ولقيت “عُـدي” اللي طول عمره كان صاحبي، ولقيت البيت رغم إن حيطانه ضاعت بس كان موجود في وجودهم هما، ومع كل دا لقيتك أنتِ كمان يا “عـهد” لقيتك وأنتِ شبهي، وساعتها كل الحبايب كانوا معايا بجد.
تلك المرة نزلت دموعها بعدة مشاعر غريبة عليها، لا تعلم إن كان يقصد ألمها بحزنه وما تعرض له أم يقصد أن يخبرها بمشاعره، وفي كل الحالات هي فقط تستمع له، تريد مشاركته في كل شيءٍ، لقد وسبق وفعل كل شيءٍ لأجلها، وعليها هي أن تشاركه أبسط حقوقه، اليوم تراه بصورة طفلٍ صغير يتحرك بحرية في المكانِ.
أقترب منها يقف مقابلًا لها وقال بنبرةٍ أظهرت كل الأسى وكأنه يكشف عن نفسه لها بدون أي خوفٍ أو خجلٍ أو حتى هربًا منها، بل كما اعتادته دومًا، كان صريحًا معها حين قال بصدقٍ أملاه عليه قلبه:
_أنا سيبت حُبك يحركني وأشوف هيخرج مني إيه، قولت أسيب نفسي ليكِ وأنا واثق إنك مش هتأذي قلبي، والنتيجة كانت هنا برضه.
أشار برأسه على الحائط الخلفي الذي توليه هي ظهرها، وقد ذُهِلت من حديثه وفرحت، وأرادت أن تستمع إليه كثيرًا حتى تمل هي من كثرة حديثه، لكن كالعادة صمت وتحرك نحو الحائط الذي أخفاه بقماش أسود يشبه ذلك المُستخدم في جلسات التصوير، لم تعلم لما قام باخفاء هذا الحائط ولم تعلم لما هذا الحائط تحديدًا أشار عليه حتى وجدته يزيل القماش عنه وحينها فقط شهقت تلقائيًا وفرغ فاهها بذهولٍ، لم تتوقع أن ترى ما رآته هي، بينما هو وقف بجوار الحائط ثم وزع النظرات بينها وبينه ليفهم ما تشعر هي به.
كان الحائط مطليًا باللون الأسود كُليًا، وقد رسم فوقه صورتها هي بالخيوط البُنية وأضاف معها ورقات الشجر الأخضر، ثم أضاف على خصلات شعرها في الصورة الزهور البيضاء الصغيرة، اللونان الذي سبق وأخبرها أنهما يشبهونها كثيرًا قام بجمعهما في صورتها، كانت لوحة فنية بكافة المقاييس نبعت عن موهبة أخرجها من محجرها الحب وقد أضاف أسفلها يصف مشاعره وحال قلبه حين كَتَبَ:
_لَقدْ سَبقَ وقَطع القَلب العَهد،
لكنه خائنٌ وخَان هذا العَهد؛ ولأجلكِ أنتِ فقط..
ومَنْ غَـيركِ لأجلهِ يُخان العهد؟ بل أيضًا يُخان ألف عهد، فحتىٰ وإن لاحقتنا أنا وقلبي من الدنيا الخسائر، فيكفينا أننا حظينا بِكِ أنتِ من كل الدنيا يا “عـهد”.
نزلت دموعها وسألته بنبرةٍ مُحشرجة وكأنها عجزت عن استيعاب ما قام بفعلهِ لأجلها أو لربما يكون هذا المشهد خياليًا من أحد أحلامها:
_دي أنا ؟؟ عملتها علشاني أنا؟.
هز رأسه مومئًا لها ثم أقترب بخطى ثابتة من وقوفها وقال بنبرةٍ رخيمة يُعبر بكل صراحةٍ عما يحمله في قلبه ويخفيه عنها ويسره عنها، وقد لمعت عيناه ببريقٍ خاصٍ عند الحديث عما يحويه بداخلهِ لها:
_دلوقتي بس فهمت أنا ليه قابلت “شهد” علشان لما اقابلك أنتِ أفهم اللي بيحصل، أفهم إن اللي بيننا مكانش حب، أنا عاوز دلوقتي أروح أقولها شكرًا يا “شهد” إنك مشيتي وشكرًا إنك سيبتيني، وعاوز أقولها إنها خدمتني خدمة العمر يوم ما فضت اللي بيننا علشان…..
علشان سواء دلوقتي أو بعدين أو حتى في أي زمن هقابلك فيه كنت برضه هحبك…
وحاليًا أنا برضه بحبك….
أنا حبيتك يا “عهد”، أنا وكل الزحمة اللي جوايا اترتبنا بوجودك أنتِ لما لقيناكِ، أنا بحر مراكبه كلها رسيت عندك أنتِ…وكركبة ودوشة دماغ دايمًا بتسكت عندك أنتِ
وأنا…أنا بحبك أنتِ يا “عـهد”.
اختلطت مشاعرها وتباينت ردود أفعالها مابين البكاء والحزن والحب والضحك والسعادة، كل الأحاسيس التي قد يختبرها المرء في حياتهِ تشعر هي بها في لحظتها هذه، وقفت تبكي أمامه بغير تصديق حتى فرق بين ذراعيه وهو يطلب منها بأملٍ ازداد بداخل قلبه أن قلبها أكرم من أن يُرد طلب قلبه:
_تعالي…تعالي يا “عـهد”.
ركضت له تحتضنه وهي لازالت تبكي، تبكي بفرحةٍ على عدم خذلانه لها، لقد خشيت أن يأتي اليوم الذي يذهب عنها بعيدًا ويترك مسئوليتها وحمايتها، لم تتوقع منه كل هذا، بينما هو شدد عناقه لها، تلك المرة أخرج أنفاسه المسجونة بقفص صدره، خشى أن ترفضه وتخشى التواجد معه، خشى أن تلحقه الهزيمة الكُبرى منها، لقد كان كتمان حبها بداخل قلبه أثقل من الوفاء بالعهد القديم، لذا ابتعد عنها يحتضن وجهها وهو يقول بنبرةٍ فرحة بعدما زاحمت الضحكة ملامحه:
_أنا دلوقتي بس عندي استعداد أنسى كل حاجة، عندي استعداد أخد الفرحة والقوة مني وأديهم ليكِ أنتِ، قبلك مفارقش معايا حد ودلوقتي أنتِ اللي فارقالي، أنا المرة دي هقطع عهد جديد، هتعهد قدام ربنا على نفسي إني طول ما أنتِ معايا فمفيش حاجة هتخليكِ تزعلي، لا هييجي يوم تمشي فيه ولا هييجي يوم أفلت أيدي من إيدك، قولتي إيه؟.
ابتسمت له من بين دموعها وطوقت عنقه بزراعيها تحتضنه، غريبٌ مثله لم يحتاج لأي حديثٍ، بل يحتاج لذراعين يقوما بضمهِ، ذراعان يكونا له مثل الملتحد يحتمي بداخله من قسوة الأيام وما إن حاوطها هو بذراعيهِ وجدها تقول بنبرةٍ كللها الحماس بالرغم من أن صوتها كان مُختنقًا:
_وأنا موافقة أكون معاك في اللي جاي كله، طالما أنتَ مش هتمشي، أنا كمان مش هسيب وأمشي، علشان زي ما قولتلك مبقاش ينفع تمشي وتسيبني، الدنيا مش مضمونة، ولحد دلوقتي مفيش فيها حاجة تطمني غير وجودك يا “يـوسف”.
ردت له نفس الشعور من جديد، السعادة التي أغدقها فيها اليوم، أعطتها هي له على هيئة كلماتٍ جعلت عينيهِ تنطق بكل فرحٍ حتى ضمها من جديد وهو يقول بصوتٍ ظهرت فيه الراحة حين هتف بكل حُبٍ لها:
_حبيب عيون “يـوسف”.
استقرت هي بين ذراعيهِ تبتسم بخجلٍ وسعادةٍ، أرادت أن تنطق هي الأخرى لكنها عجزت، لم تقوْ على الرد بل اكتفت أن تبقى هُنا بقربهِ، يحتويها بين ذراعيه بحمايةٍ لم تأخذها من أقرب الأقربين إليها، حماية ثُلثها تلخص في الونس، والثُلث الثاني كان في الإطمئنان، والثلث الثالث كان هو الأمان، الأجساد كانوا لبعض كما الجيران، والقلوب لبعضهما كما الخِلان.
__________________________________
<“الغيوم رحلت، والشمس سطعت”>
في صبيحة اليوم الموالي لسابقه:
اختلفت نهاية اليوم السابق، كل شيءٍ كان يختلف تمامًا على الجميع، منهم من قضى ليله ساهرًا ومنهم من قضاه حائرًا ومنهم من قضاه نادمًا، لكن في نهاية الأمر لقد انتهى وولىٰ، ليأتي الصباح الجديد كما الشمس التي ظهرت بعد الغيوم، كانت حينها “قـمر” تجلس في غرفتها بعدما استيقظت في موعدٍ تأخر عن موعد استيقاظها بسبب تعبها بالأمس في الترحال مع “أيـوب” وقد تذكرت الهدية الفُخارية التي قاما بصنعها معًا وتذكرت أيضًا حديثه معها بالأمسِ وهما يتسامران سويًا في شوارع المُعز، حين قال لها يكشفها أمام نفسها:
_على فكرة أنتِ شبه الشتا أوي، فيكم من بعض.
انتبهت له تسأله بعينيها عن حديثهِ ومقصده لتجده يُضيف مُفسرًا بنبرةٍ هادئة يُطلق عليها تشبيهًا أكثر من مُصيبًا في إحراز هدفه حين قال:
_أنتِ بالظبط زي ونس شمس الخريف، ونفس وجع ضياع قمر الشتا، النهاردة بس خدت بالي من كل دا، إنك الاتنين في بعض، والناس اللي زيك قلبهم أبيض أوي، حلو إني كل يوم بكتشف فيكِ حاجة جديدة، طلعتي اتنين في واحد أهو.
ضحكت على جملتهِ الأخيرة فيما أضاف هو يسألها بمزاحٍ قصده عن عمدٍ:
_قوليلي بصحيح هو أنتِ نيسكافيه اتنين في واحد؟.
طالعته باستغرابٍ شديد من عينيها تستفسر منه بصمتٍ عن مقصدهِ فوجدته يُضيف بمراوغةٍ ضاحكة تتنافى مع طبيعة شخصهِ:
_أصلك اسمك “قـمر” وأنتِ منورانا أنا وقلبي زي الشمس.
رفرفت بأهدابها عدة مراتٍ بصدمةٍ جلية جعلته يضحك رغمًا عنه ثم أضاف ببراءةٍ حقيقية تعبر عن مدى نقاء قلبه:
_أنا حاولت أظبطها والله علشان متبقاش قلشت مني، نبقى نعوضها في حاجة تانية بقى، شكلها صدمتك.
هتفت هي بلهفةٍ ردًا عليه لتمحي ظنونه:
_لأ خالص هي خلوة ودمها خفيف بس أنا متوقعتهاش منك بصراحة، بس قولي قصدك إيه أني شمس الخريف وقمر الشتا، حاسة إن الجملة عميقة أوي وأكبر من استيعابي.
توقف عن السير ثم وقف يُطالعها وهو يقول بنبرةٍ هادئة صادقة تبدلت عن الأولى التي مازحها بها حين قال:
_شمس الخريف بتبقى عاملة زي الهدية للناس، رغم إن فيه لسعة برد بس الشمس دي بتظهر قبل الضهر بشوية كدا تحرك أي حد، تلاقي الناس بدأت تتحرك وتنزل وتخرج وتتونس ببعض، وفجأة يظهر الليل بقمره، قمر الشتا دايمًا ضايع وحزين، علشان رغم جماله بس الناس كلها بعيدة عنه، كله مقفل وبيحمي نفسه من البرد وسايبينه لوحده، النهاردة أنا شوفتك الاتنين دول، عمالة تضحكي معايا وتهزري وتتريقي على اللي فات كله، بس هو وجعك، باين إنك زعلانة وباين إنك منسيتيش، بس أوعدك أنا لو ربنا أراد ليا أكمل الطريق دا معاكِ، هخليكِ تنسي كل حاجة مزعلاكي.
خرجت من شرودها مبتسمة الوجه ثم مسحت على وجهها وعينيها ثم قالت بنبرةٍ هادئة تُحدث بها نفسها:
_ بس والله أنا نسيت كل حاجة لما لقيتك.
دلفت في هذه اللحظة “ضُـحى” لها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_إيـه ياعم !! محدش خرج مع حبايبه غيرك يعني؟.
ضحكت لها “قـمر” ثم اعتدلت في الفراش وهي تقول بنبرةٍ حماسية ضاحكة ردًا عليها:
_لأ بس محدش خرج مع “أيـوب” غيري، دي تفرق لو سمحتي، بعدين أنتِ كنتي فين امبارح؟ قولتي هخرج مع صحابي، روحتي فين يا “ضُـحى” أوعي يكون عريس جديد عاوزة تطفشيه بحركاتك دي.
ابتسمت لها بسخريةٍ ثم أعادت ظهرها للخلف وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة تواري خلفها السخرية:
_لأ خالص، هو فيه حد هيبلي نفسه بيا؟ المهم يعني أنا عملت مصيبة سودا امبارح ومحدش هيغطي عليا غيرك لو عرفوا، لأن مش أي حد فيهم هيستوعب أنه كان غصب عني، وإني اتغابيت، ها ؟!.
سألتها “قـمـر” بعينيها وقد ظهر الترقب عليها وكأنها تخشى أن تكون فعلت مصيبة من المصائب العديدة التي تفعلها دون أن تُلقي لها بالًا حتى بدأت “ضُـحى” تسترسل في حديثها عن يوم أمسٍ وعن ذهابها لمكان عمل “إسـماعيل”، لم تخفي عنها أية تفاصيل بل أخبرتها بكل شيءٍ منذ ذهابها إلى هُناك حتى هذه اللحظة، وأضافت من جديد تحذرها بقولها:
_عارفة لو حد يابت أنتِ سأل ولقيتك بتعكي؟ أنا هحرمك من دولابي لمدة شهرين، لما حد يسأل هتقولي إنك أنتِ اللي قولتيلي أروح هناك علشان المكان بتاع “يـوسف” وباين إن الكافيه شيك والصور فيه حلوة، أوعي تعكي يا “قـمر”.
رفعت “قـمر” أحد حاجبيها وهي تسألها بتكهنٍ وكأنها تعلم مُسبقًا بالجواب الذي تخفيه الأخرى عنها وقد استفسرت منها بقولها:
_وهو أنتِ يا “ضُـحى” ملقيتيش في كل الأماكن اللي صورها حلوة غير المكان اللي فيه “إسـماعيل”؟ صُدفة دي يا روح أمك؟ ولا قصداها؟ قولي متكدبيش عليا.
تفاجئت “ضُـحى” من حديث أختها وقالت بطريقةٍ ساخرة تبعد عنها الشُبهات أو لربما أكدتها بهذه الطريقة حينما رفعت كفيها للأعلى وهي تقول بنبرةٍ عالية:
_أنا !! إلهي يا رب لو بكدب عليكِ أعدم البت “علياء” العصفورة اللي بتنقل كل الأخبار في الشغل، إلهي يا رب “ميار” اللي كانت خطيبة “عُـدي” تترفد من شغلها لو كنت بكدب عليكِ.
ضحكت “قـمر” رغمًا وقد ضحكت الأخرى بوجهِ مُشرقٍ ثم قالت بنبرةٍ أهدأ من السابق:
_بصراحة !! كنت قاصدة، معرفش ليه، بس قولت هروح المكان أشوفه يمكن يكون هناك، تفتكري هو فعلًا مُهتم بيا ولا أنا اللي نفسي في كدا ؟ أنا مش هقدر أتقبل فكرة إن أكون بديل تاني يا “قـمر”، “علاء” سايبلي وجع مخليني عندي هلاوس، أنا مبقيتش بصدق حد، بقيت مش عاوزة حد، بس حاجة جوايا كدا مخلياني أركز مع “إسـماعيل”، تحسيه تقيل وراسي كدا وفي نفس الوقت ابن بلد، غير كدا مش بيهمه أي بنت حواليه ويفضل يبص ويركز، يا رب يطلع مهتم مطلعش أنا اللي متخلفة.
أقتربت منها “قـمر” تمسك كفيها وقالت بنبرةٍ رغم وجود المزاح بها والسخرية إلا إنها كانت هادئة وهي تهتف:
_رغم إنك ندلة كنتي علطول بتحبطي فيا ساعة “أيـوب” بس أنا هطلع أجدع منك وقولك صدقي قلبك، طالما حس بحد يبقى أمشي وراه، أصل القلب دا مراية للعين، ساعات العين بتغفل عن الشوفة، بس القلب هو اللي بيقولها، ومين عارف مش يمكن تكون خطوبتك قريب عليه؟ تخيلي من بعد “علاء” النتن دا تاخدي “إسـماعيل” ؟ دا أم “علاء” نفسها ممكن تتجلط فيها.
ضحكت لها “ضُـحى” ثم احتضنتها وهي تقول بنبرةٍ حماسية وقد عاد لها الأمل من جديد:
_والله لو حصل وطلع نيته خير مش بتاع لعب، هاخده وأعمل الخطوبة في شارع أم “عـلاء” وهتصور في حارة “ميار” المعفنة، اسكتي دا أنا فيه حبة كدا هموت وأكيدهم.
في الأعلى كانت “عـهد” تجلس أمام التلفاز ببسمةٍ بلهاءٍ زينت وجهها، ليلة الأمس كانت الأفضل على الإطلاق، لقد توهمت أنه كان حُلمًا حتى رأت الصور بعينيها في المكانِ، لقد قام بصنع جلسة تصوير لأجلها في المكان بأكملهِ، لم تُصدق نفسها حينما استيقظت صباحًا بدون أي كوابيس مزعجة، بل زار هو أحلامها ليصدق لها حديثه السابق حينما أخبرها أن كوابيسها ستصبح أحلامًا بكل تأكيد، صدح صوت هاتفها برقم الطبيبة مما جعلها تنتفض ثم أخذت أشيائها وقامت بضبط حجاب رأسها ونزلت من البناية بمفردها بعدما ذهب هو صباحًا لعملهِ، وما إن خرجت من البناية وجدت أمامها “سـعد” يظهر من جديد.
تجاهلته في بادئ الأمر وتحركت خارج مدخلها بكل ثقةٍ كأنها تخبره أنه لم يعد يملك التأثير السابق عليها في إيخافها، بل تخطته تمامًا أما هو فتحرك من مكانهِ يقطع عليها الحركة وما إن وقف أمامها رفعت حاجبيها بتأهبٍ حتى وجدته يضيف بنبرةٍ هادئة:
_أنا مش قصدي أزعلك دلوقتي، بس أنا عاوز أقولك أني هسافر، وإني خلاص هبعد عن هنا ومحدش هيشوفني تاني، خلاص أنتِ مش ليا يا “عـهد” ولا نافع تكوني معايا بالعافية، خلاص اتجوزتي حد تاني وشكلك مبسوطة معاه، ربنا يسعدك.
تبدلت ملامحها إلى الاستنكار والتعجبِ معًا، هذه حقًا هي الأحلام، ما يقوله هذا البغيض أقرب إلى الأحلامِ، وحينما رأى هو الاستنكار في نظراتها قال بنبرةٍ هادئة غلفها بالحزن وأتقن دوره حينما أضاف:
_عارف إنك مش مصدقاني، بس خلاص هستفاد إيه يعني؟ ربنا يسعدك ويرزقني ببنت الحلال، وعلى فكرة أنا قربت أخطب برضه، بنت طيبة وغلبانة بس مش زيك يا “عـهد” علشان أنتِ مفيش منك.
توترت وتخبطت أمامه لم تصدق أنه تغير بهذه السهولة ولم تصدق أيضًا أنه يكذب، هل هو برع في إتقان التمثيل لهذه الدرجة؟ أم أن هي التي لازالت تتوهم لكنها لم تُسيء الظن فيه ربما يكون تغير حقًا، فبالأمسِ عاهدت شخصًا جديدًا في شخصية “يـوسف” والآن ربما يكون تغير هذا هو الأخر لذا أضافت بنبرةٍ هادئة ردًا عليهِ:
_والله يبقى كتر خيرك، ربنا يسعدك في حياتك وتراعي ربنا في بنت الناس اللي معاكِ، متستعجلش وربنا هيراضيك، عن إذنك.
تحركت من أمامهِ وهو يبتسم لها حتى أختفى أثرها تمامًا من أمامهِ لتتلاشى بسمته وقال لنفسهِ مُرددًا بتلذذٍ واضحٍ حينما شارف مُراده على الإتيانِ له:
_هيراضيني، بس بيكِ أنتِ.
التفت يجلس على المقعد بجوار محلهِ من جديد وهو يعلم في قرارة نفسهِ ما ستقوم هي بفعلهِ، يعلم تمام العلم أنها ستخبر زوجها العزيز بحديثهِ وحينها سيؤكد هو له ما أخبرها عنه، هذا الذي لن يقبل الهزيمة يقوم بتحضير مفاجأة كُبرى ستقوم بقلب كافة الموازيين لصالحهِ حتى أن زوجها بنفسهِ سيبحث عنه لكي يتوسله.
__________________________________
<“نحيا في أنفسنا عهدًا جديدًا عساه يدوم”>
قد تكون حياة المرء متوقفة على لحظةٍ واحدة،
لحظة فقط يحياها تكون بكل العمر المار عليهِ، الألم يغدو أملًا، والصعب يبقى سهلًا، والأسير يُصبح حُرًا، لحظة واحدة نحياها بكل العهود السابقة علينا، أراد “يـوسف” أن يخبر الناس كيف يكون شعور الفرح وكيف يكون قلب المرء حينما يحب، وكيف كلمة واحدة تُبدل الشعور كُليًا، فسبحان الله واضع الشعور ونازعه من أصلهِ، موافقتها للبقاء معه وقبولها بهِ زوجًا لها جعلته كمن يخرج من سجنهِ بعد سنواتٍ ظُلِمَ فيها وأراد أن يختبر الحُرية، لم تعترف له بصراحةٍ أنها تحبه لكنه قرأها في عينيها واستشفها في تمسكها بعناقهِ.
جلس في الشركة منذ الصباح مع صعود الشمس ولم يعلم من أين أصبح مُلتزمًا بهذه الطريقة؟ أتى قبل الجميع وأنهى عملهِ المتراكم أيضًا ؟! وجلس هنا بمللٍ ينتظر قدوم “رهـف” التي دلفت مكتبه تقول بسخريةٍ:
_هما إزاي مبخروش مع دخولك هنا !! إزاي تخطوا إنك جيت هنا عادي بدري وخلصت شغل قبل الكل، دي “مـادلين” اللي ظابطين عليها الساعة هنا اتأخرت.
رفع عينيه لها يطالعها بملامح مُنبسطة ثم أعادها من جديد على الورق الموضوع أمامه يقوم بترتيبه ثم قال بنبرةٍ هادئة يتجاهل حديثها:
_اتفضلي يا آنسة يا عديمة المسئولية، خلصت شغلك كمان أهو، روحي بقى أطبعيه وجهزيه وشوفي ردهم هيكون إمتى، بس خلي بالك ردهم هيكون بِلُغة غالبًا مش مفهومة، يعني الترجمة من جوجل مش هتنفع لأنها هتبقى حرفية، يعني اعتمدي على حد شاطر يترجم لينا، مش ناقصة تلاكيك فارغة.
حركت رأسها موافقةً فيما قالت بلهفةٍ حينما تذكرت:
_بقولك إيه ؟! ممكن “عُـدي” قريبك هو اللي يترجم ؟ هو ما شاء الله ممتاز ومش بياخد وقت، غير كدا ترجمته professional جدًا، يعني كأنه زيهم، ابعتهم ليه يترجمهم؟؟.
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة بعدما اقتنع بحديثها:
_أنا أكيد معنديش مانع هنا، بصي الرد هيوصل بليل وأنتِ تترجميه وتوصليه لـ “مادلين” بس أهم حاجة بقى يِترجم صح، هبتعتلك رقم “عُـدي” وتتواصلي معاه، هو مش هيقولك حاجة، وهيكون شاطر كمان، وأي حاجة فيها ترجمة خليها معاه هو أحسن، تمام ؟.
هزت رأسها مومئةً بإيجابٍ له ثم أخذت الملف منه وتجهزت للرحيلِ وقد تقابلت مع “مـادلين” التي ابتسمت لها تُحييها ثم دلفت مكتبه وهي تقول بنبرةٍ خبيثة لكنها برغم ذلك كانت مرحة كأنها تمازحه:
_صباح الخير؟ أنا مصدقتش لما قالولي إنك هنا، على العموم أنا مش جاية أعصبك بس هقولك إن “سـامي” بيلعب في حاجة خاصة بورق الشركة، والأكيد أنه قاصد الضرر ليك، بس مش مهم هراجع كل حاجة وراه، المهم بقى أنا عاوزة أشوف مراتك.
ضيق جفونه لوهلةٍ بتعجبٍ جعلها تُضيف بحماسٍ:
_عاوزة أشوف البنت اللي قدرت تخليك تغير رأيك، عاوزة أشوف مين القمر اللي ملت عينك أخيرًا بعدما كنت قولت مستحيل يعملها تاني، إن كنت نسيت هفكرك، أفكرك؟.
سألته بتكهنٍ وهي تشير للخلفِ باصبعها مما جعله يبتسم رغمًا عنه وأدار وجهه للجهة الأخرى بضيقٍ زائفٍ يتنافى مع سعادته حتى أضافت هي بسخريةٍ الحديث الذي أخبرها بهِ سابقًا:
_خليكِ فاكرة أنا قاطع على نفسي عهد، واتقل حاجة بتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد، فمتحطيش أمل أوي في موضوع أني أحب تاني، مش دا كان كلامك؟.
حرك رأسه لها من جديد ولازالت ملامحه منبسطة وقد جاوبها بنبرةٍ هادئة ردًا على حديثها الساخر الذي تعمدت هي أن تُذكره به وقد ابتسم حينما عاد طيفها يسري أمامه من جديد:
_كان كلامي صح بس دا قبل ما أشوفها، بس هي بقى خارج المقارنة مع أي حد تاني، مش شبه حد وملهاش شبيه، وحتى لو سبق وقطعت العهد وحتى برضه لو أتقل حاجة هتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد، فياريت كل اللي يُمر على قلبي يبقى زي مرور “عـهد”.
ابتسمت له بحماسٍ شديد وظهرت الضحكة على ملامح وجهها، لم تصدق أن هذا هو “يـوسف” ذاته، لم تصدق انبساط ملامحه ولا تصدق حديثه عن أي فتاةٍ بهذه الطريقة، أين جبينه المضموم بعبوسٍ وأين وقاحة حديثه؟ لقد تبدل كُليًا، أما هو فخرج من شروده فيها على صوت عمه الذي صدح في الخارج يوبخ أحد الموظفين وحينها ابتسم بسخريةٍ وهو يقول مشيرًا نحو الخارج:
_روحي وطي البوتجاز، جوزك بيشيط برة.
هبت هي من محلها مهرولةً نحو الخارج بقلقٍ من صوتهٍ الذي عبأ المكان بأكملهِ فيما زفر “يـوسف” مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ مسموعة حينما أفسد “عـاصم” لحظته بتواجده حتى وإن لم يكن نصب عينيه:
_يا أخي مفيش داهية تاخدك عند أمـك تريحنا من صوتك.
أمسك حاجته ثم فتح باب مكتبه وما إن وجد عمه يرفع صوته في الخارج وبجواره “سـامي” الذي ابتسم بسخريةٍ وهو يطالع “يـوسف” الذي تجاهل الحشد المُجتمع وقرر أن يلج خارج الشركة لكن صوت عمه أوقفه بقولهِ:
_البيه رايح فين؟ هي تِـكية ولا إيه ؟.
توجهت الأبصار نحو “يـوسف” الذي توقف عن السير ثم التفت له يقول بملامحٍ مُبتسمة ومُنبسطة:
_بتكلمني أنا !! لو أنا فأحب أقولك أني هنا من قبلك وقبل أنكل “سـامي” وخلصت كل اللي ورايا، إيه هقعد أمسحلكم الشركة ولا إيه ؟ فضناها سيرة خلاص يا شباب كل واحد على شغله الراجل مش هيفضل يعصب نفسه هنا، فاكرينها شركة ولاد رقاصة ولا إيه ؟ دي شركة محترمة، هنقف نردح لبعض؟.
جاهد البقية لكتم ضحكاتهم على سخريته فيما وجه هو حديثه لـ “سـامي” الذي بدا وجهه مُحتقنًا بغيظٍ من حديثه المتواري خلف كلماته:
_معلش يا أنكل أبقى وصيله على كوباية لمون على حسابي أنا، بس أوعى تهبط وتشربها أنتَ، شكلك بتهبط بالوراثة زي ماما الله يرحمها.
خرج كما دلف بنفس الراحة المرسومة على ملامحهِ، نفس الثبات ونفس الثقة عادا له من جديد لن يسمح لهما بسرقة راحته منه، هو من الأساس أتى إلى هنا بسبب السعادة التي عاشها بالأمس، هل يسمح لهما بسرقة راحته كما اعتادوا دومًا، لذا قرر أن يذهب إلى عمله الثاني يتابع الكافيهات الخاصة بهِ، المكان الذي يجد راحته فيه ويشعر بالانتماء إليه كونهِ قام بإقامته بنفسهِ.
في منطقة الزمالك تحديدًا ببيت “الراوي”.
كانت “فـاتن” تجلس في حديقة البيت تتصفح الهاتف الخاص بها بعدما فرغ البيت من الجميع عدا ابنها وزوجتهِ، كالمعتاد لن تخرج الفتاة المُدللة من غرفتها في هذا التوقيت، لذا دلفت من جديد لردهة البيت لتجد ابنها جالسًا على الأريكة يتصفح الحاسوب الخاص به وحينها سألته بتعجبٍ:
_أنتَ قاعد هنا ليه؟ وفين مراتك؟.
رفع عينيه بمللٍ وقال بفتورٍ ردًا على سؤالها:
_فوق في الأوضة.
عقدت حاجبيها باستنكارٍ لطريقته في التحدث عن زوجته واقتربت منه تجاوره وهي تسأله بنبرةٍ هادئة لكن التعجب ظهر بها حينما سألته:
_هو أنتوا متخانقين مع بعض ولا إيه ؟.
أغلق حاسوبه ثم قال بنبرةٍ جامدة يؤكد إيجاب سؤالها:
_آه، شدينا شوية امبارح، أنا خلاص زهقت عمال أحايل وأهادي في الأخر أنا مش بلاقي النتيجة اللي عاوزها، علشان كدا اتعصبت عليها شوية إمبارح وجيت على هنا.
ربتت على كتفه وهي تتحدث معه بنبرةٍ هادئة وقالت:
_طب هي عملت إيه ؟ يمكن تكون فهمتها غلط، أكيد أنتَ اتعصبت من غير أي سبب عليها، قولي بس يمكن يكون فيه حل لزعلكم دا.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة لكن الحزن لم يُفارقها وهو يقول بأسىٰ:
_مفيش حل، علشان هي معمية بحد تاني، عايشة على كل حياته وذكرياتها معاه، مفيش مكان بتختاره غير لو كان ليها فيه ذِكرى مع “يـوسف” ومفيش حاجة بتختارها غير لو كانت ليها علاقة بـ “يوسف” واضح كدا إن زي ماهو قال، اتكتب على قلوب الحبايب تجمعنا مع بعض، سواء أنتِ أو هي، تصدقي أنا غلطان أني سيبت شغلي وجيت هنا !!.
قامت هي باحتضانهِ فورًا وهي تقول بنبرةٍ أظهرت لهفتها عليهِ:
_لأ متقولش كدا علشان خاطري، دا أنا ما صدقت جيت تاني، البيت صعب من غيرك، لو فيه حاجة مزعلاك عرفني وأنا أحلهالك، بس بلاش تزعل نفسك كدا، قولي نعمل إيه علشان متكونش زعلان كدا؟.
ابتسم رغمًا عنه وقال بيأسٍ من شعوره بالجوع:
_أنا جعان بصراحة، بس عاوزك تعملي الفطار بنفسك، لو عملتيه أنا هقف معاكِ، وهساعدك كمان.
ابتسمت له ثم قامت تسحبه معه وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة ردًا على طلبه المُجاب منها قبل إتمامه من الأساس:
_بس كدا !! وأحلى فطار لعيونك كمان، كفاية إنك معايا.
دلفت به المطبخ بسعادةٍ قد تكون نستها تمامًا، لو أمكن الأمر لكانت أخذت ابنها وهربت به من هذا البيت الذي قضى على كل أحلامها، البيت الذي جعلها تفقد كل ما تُملك وبما في ذلك قلب “يـوسف” وحُب “نـادر” وبين هذا وذاك فقدت نفسها بينهما، لقد ضاعت من نفسها وضاعت منها أجمل الأوقات التي تأخذها هي بالسرقة من الزمن.
وقفت “شـهد” في الخارج تتابعهما بعينيها وهو يقوم بتجهيز الفطور مع والدتهِ التي كانت تهتم به كما لو كان طفلًا في أول أعوام عمرهِ، زفرت بقوةٍ ثم التفتت حتى تعود من جديد لغرفتها وقد عزمت الأمر على مصالحتهِ، من الأساس هي تشعر بالذنبِ تجاهه وفي نفس التوقيت تنصاع خلف هواها، لم تنكر أن زوجها في كل حينٍ يُفضلها على نفسهِ حتى، وهي تقوم بقيادة دلالها عليه وهي تعلم تأثيرها جيدًا عليه كرجلٍ، لذا جلست في غرفتها من جديد ترتب أمر مصالحته.
__________________________________
<“الحياة شجرة جذورها الماضي وحاضرها الفروع”>
في بيت “العطار”
كان البيت هادئًا وفارغًا بسبب جلوس “إيـاد” بجوار “نِـهال” التي بدأت رعايتها به مُبكرًا حيث جلس بحقيبة المدرسة الخاصة به وبدأ يستذكر دروسه معها، لقد أخذ حقه وحق والده فيها، أما هي فكانت تحاول بقدر الإمكان أن تعتاد على البيت وأهلهِ، أرادت أن تكون منهم كما أخبرها “عبدالقادر” منذ سويعات قليلة وأكدها “أيـوب” الذي أخبرها بهدوءٍ:
_إحنا كلنا هنا مع بعض واحد، أي حاجة تحتاجيها تحت أمرك كلنا، وأنا هنا أخ ليكِ أي حد يزعلك منهم قوليلي، هقف في صفهم أكيد يعني مش محتاجة كلام.
حينها ضحكت له فيما انسحب هو وتركها وذهب لعملهِ، وقد خرجت من شرودها على صوت زوجها الذي نزل لتوهِ من الأعلى بعدما ارتدى ثيابه لكي يذهب إلى عمله هو الأخر، وقد رفعت عينيها له وابتسم هو لهما حينما وجدها بجوار صغيره ترعاه، حينها ابتسم لهما ثم أقترب لثم جبين الصغير ثم لثم جبينها هي الأخرى وألقى عليهما التحية، وبالطبع عجزت عن الرد حينما خجلت بسبب فعلهِ، فيما جلس هو أمامهما يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا استغربت لما صحيت ملقيتش حد منكم فوق، بس إيه الهمة والنشاط دي؟ يا بختك يا ابن المحظوظ بتذاكر ها.
فهمت هي مقصده، فيما قال “إيـاد” بنبرةٍ ضاحكة يُعانده:
_طب على فكرة بقى لما نخلص هنعمل حاجة حلوة أنا وهي و “آيـات” مع بعض، وجدو عرف هو كمان وهييجي ياكل معانا ولو لحقت مش هديك منها.
فرد “أيـهم” كفيه أمامهما ونطق بسخريةٍ ردًا على صغيرهِ:
_يا فرحة أمي بيا !! كنت فاكر نفسي طرف تالت في العلاقة دي طلعت مضروب طرفين في وسطين وطاير مع الأُس !!.
ضحكت رغمًا عنها على سخريتهِ وضحك “إيـاد” وهو يسأله بمزاحٍ تعمده فلم يكن تلقائيًا:
_هي دي حاجة في العلوم ؟؟.
التفت “أيـهم” يسحب المقعد الخلفي حتى يُهدد ابنه فيما ركض “إيـاد” من المكان وهو يضحك بهربٍ من والدهِ الذي ضحك رغمًا عنه، أمـا هي فانتهزت فرصة تحرك الصغير وقالت بلهفةٍ:
_أنا عاوزة أقولك شكرًا إنك مقدر موقفي، يعني بقالي هنا يومين وأنتَ مش راضي تجبرني على حاجة غصب عني، عارفة أني مليش مُبرر بس والله أنا عارفة إنك….
أوقف استرسال حديثها حينما ابتسم لها بملامح مُنبسطة وراحة اتضحت على ملامحهِ حين هتف:
_مش عاوزك تزعلي نفسك ولا عاوزك تقلقي، فيه أمور مينفعش فيها أي حاجة غير العقل، وأكيد مفيش راجل محترم هيفرض نفسه على ست، أنا عاذرك وعاذر اللغبطة دي، برضه في أسبوعين كل حاجة تمت وأكيد الوضع غريب عليكِ، وأنا مقدر، اعتبرينا في فترة تعارف بس على أوسع شوية، وأنا والله مش زعلان، زي ما قولتلك كفاية إنك معايا هنا، أنا رايح الشغل عن إذنك..
وقف لكي يستعد للرحيل بعدما طمئنها بحديثهِ لتسأله هي بتعجبٍ السؤال الذي خطر ببالها لتوهِ دون أن تخفيه عنه بل أظهرته إليه:
_هي إزاي كانت عايشة معاك هنا وجالها قلب تمشي؟.
صدمته بسؤالها الذي لم يتوقعه هو ولم ينفك عن عقلها، لقد تحدث معها في فترة التعارف عن طليقتهِ لكنه لم يتخيل أن تفاجئه بالسؤالِ وما إن التفت لها وجدها تحرك كتفيها وهي تُضيف بنبرةٍ ربما تكون تائهة أو متعجبة:
_يعني أنا كان ليا أسباب قوية تخليني ما أصدق الفرصة جاتلي علشان أمشي وممكن أقولك عليها لأني واثقة إني لو عرفتك مش هتلوم عليا زي ما الكل لامني، لكن هي بقى إزاي عندها طفل زي “إيـاد” وراجل زيك وقدرت تمشي؟.
ابتسم بسخريةٍ حينما هتف بوجعٍ من ألم الذِكرى التي آلمت قلب صغيره قبله هو بذات نفسهِ:
_علشان صوابعك مش زي بعضها، فيه ناس بتعرف قيمة الحاجة لما تروح منها، وترجع تندم وتزعل وتعض أيدها من الندم بس ساعتها بقى كل دا مش هينفع ولا هيرجع اللي فات، لأن وقتها هنكون لقينا نفسنا ولقينا اللي كان ضايع مننا، فهمتي حاجة؟.
حركت رأسها موافقةً له فابتسم هو لها ثم رحل من البيت بعدما وجد الطمأنينة تستقر في عينيها، ينجح دومًا في إزالة عبء آلام الأخرين أما هو تسكنه الآلام وتستوطنه الذِكرى، عاش يدفع ثمن أخطاء الماضي ولم يكن فقط ماضيه بل ماضي الآخرين معه، صبرًا يا “أيـهم” لن يدوم ظلامك ولن يطول ليلك، من المؤكد ستشرق شمسك من جديد، لم تسنح لكَ الفرصة حتى الآن ولم تشاء الرياح أن تأتي بما تشتهيه سُفنَك لذا صبرًا..
هكذا حدث نفسه وهو يسير إلى محل عملهِ وقد وجد شقيقته بجوار “وداد” ومعهن “مِـهرائيل” أيضًا وخلفهن كان يسير “بيشوي” الذي تحدث في الهاتف لكنه لن يغفل عنهن مما جعل “أيـهم” يسأله بسخريةٍ:
_إيـه ؟؟ ماسك أمن سوق حارة “العطار” يا رايق؟.
انتبه له الأخر وقال بسخريةٍ ردًا عليهِ:
_لأ يا خفيف كان فيه عيل واطي بيعاكس ضربته وقولت أمشي وراهم لحد ما يخلصونا، وبعد كدا ابقوا خرجوا حد تاني غيرهم مش ناقصة مصايب هي.
ضحك “أيـهم” بسخريةٍ وهو يقول بنبرةٍ لازالت ضاحكة:
_ألا هي الشهامة دي لله وللوطن؟ ولا علشان شجر الزيتون بتاعك نزل الحارة؟.
رفع “بيشوي” حاجبيه ثم هتف بسخريةٍ هو الأخر:
_أنتَ مالك يا حِشري؟ بتتدخل في التفاصيل ليه؟ بعدين إيه اللي نزلك مش البيه عريس برضه؟ فيه عريس يسيب بيته وينزل كدا ؟؟ عيب يا جدع متصغرناش.
أتى “تَـيام” في هذه اللحظة وهو يقول مُهللًا بنبرةٍ ضاحكة:
_إيه دا !! عريسنا بنفسه ؟ دا أنا قولت فيها أسبوع لحد ما نشوفك تاني، طلعت راجل مجدع مش بتاع قعدة في البيت.
ظهر الغموض على الأخر وطفق يعلن عن نفسهِ على نظراته وهو يقول بهدوءٍ غريب:
_أسكت دا أنا محضرلك مفاجأة !! أقسم بالله لا تخليك تطير من الفرحة لدرجة إنك هتشيل من راسك أي حاجة مهما كانت في بالك، وأولها بقى !! الرحرحة يا ابن “نـجلاء”.
لاحظت “آيـات” وقوفه بجوار شقيقها وتلقائيًا ابتسمت له حينما استقر هو ببصرهِ عليها، كانت الشمس تتعامد عليها وهي ترتدي الخِمار البيج الذي لائم هدوء ملامحها، البسمة التي أرسلتها له جعلته يسافر عبر الزمن إلى زمانٍ أخر يبعد عن سائر البشر حتى أنه لم ينتبه لحديث شقيقها إلى أن وجد “مِـهرائيل” أمامه تصد عنه الرؤية وهي تسأله بسخريةٍ:
_فيه يا حج يا أستاذ ؟؟ بص قدامك.
ضحك “أيـهم” وكذلك “بيشوي” أيضًا فيما نطق هو بضجرٍ يعبر عن مدى استيائه منها:
_قولت الحمد لله معنديش حماة، أقوم ألاقي في وشي دي وأختها عليا، باصينلي في العلاقة الوحيدة في حياتي ؟؟.
__________________________________
<“نحن والذكريات بمثابة الأهل لن نفترق أبدًا”>
في وسط النهار بعدما تحركت الشمس وشارف الليل على القدوم، وقف “إسـماعيل” في الخارج أمام الكافيه يتابع مع عربة البضائع القدوم إلى المكانِ، يسأل الرجل بضجرٍ الذي تأخر عن موعد قدومه:
_يا باشا أنا عارف بس ليه العطلة دي للكل وأنتَ قبلنا، اديني سايب حالي وواقف مستني سيادتك، اتفضل يا ريس ربنا يستر طريقك متجيبلناش الكلام بقى.
أغلق الهاتف في وجه الرجل وقد أتى “إيـهاب” عند ارتفاع صوتهِ وقال بنبرةٍ هادئة يطلب منه التريث بقولهِ:
_ما تهدا يا عم معصب نفسك ليه كدا، ما “يـوسف” اتصرف وحل الدنيا و “سـراج” قال فيه مشكلة بيحلوها، مش عارف أنتَ خلقك ضيق ليه ياض أنتَ ؟؟.
زفر “إسـماعيل” مُطولًا بضيقٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_أنا بتوتر لما حاجة في الشغل تمشي غلط، ومش عاوز حد يتكلم يا “إيـهاب”، بحب كل حاجة تبقى مظبوطة بالمللي، خير إيه اللي جابك وسايب شغلك، فيه حاجة؟.
حرك رأسه موافقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة يشير خلف حديثه إلى حال شقيقه:
_آه أنتَ حالك مش عاجبني، حاسس إنك بتعاند مع نفسك وخلاص، من الصبح زعيق وعصبية وصوت عالي رغم إنك مش كدا وطبعك علطول هادي، مالك يا “إسـماعيل” ؟ قولي إيه مزعلك كدا ومخليك متضايق.
كيف غفل عن قدرة أخيه في قراءة طريقته؟ كيف نسى أن “إيـهاب” دومًا يعلم ما يُخفيه حتى وإن كان عن نفسهِ؟ لذا هرب منه ومن نظراته التي أكدت حديثه وقد أقترب “سـراج” الذي أتضحا عليه الضيق والملل من انتظار عربة البضائع، حسنًا هذا هو السبب الظاهر لكن ما خفى بالطبع الجميع يعلمه، لاحظ “إيـهاب” ملامحه المقتضبة فسأله بتعجبٍ:
_خير ؟! مالك أنتَ كمان ومتقوليش الشغل.
حرك رأسه نفيًا ثم وضع السيجارة بين شفتيه يسحب هوائها داخل رئتيهِ ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
_الشغل وحياتي ودماغي ومصاريف مدرسة “جـودي” و “نـور” اللي هتسافر تاني، أهي مطحنة عايشين فيها بنتداس كأننا تراب على الأرض، على العموم أنا هقعد هنا مش هروح شقة المعادي ولا بيتي، وزي ما تيجي تيجي بقى، خلي “جـودي” عندكم بقى، ياكش حد ييجي يموتني ونخلص.
خرج في هذه اللحظة “يـوسف” لهم وهو يتحدث في الهاتف وما إن أتفق مع محدثه حينها قال بنبرةٍ هادئة ردًا عليهِ:
_تمام زي ما أنتَ ماشي كدا كمل طريقك، وتعالى.
نظروا له مع بعضهم في نفس اللحظة وقد أتى “مُـحي” في هذه اللحظة يقول بنبرةٍ عالية ومرحة عند رؤيته لهم مع بعضهم:
_فرسان الخريطة واقفين مع بعض؟ مين دا اللي أمه داعية ويفكر ييجي عليكم ؟ بالصلاة على النبي أربعة عالجد ياكلوا أي حد، وأي حد بعدكم يقف في وش السد.
ضحكوا على طريقتهِ فيما وصل “أيـوب” في هذه اللحظة يُلقي عليهم التحية بقولهِ بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ازيكم يا شباب؟
انتبهوا مع بعضهم لمصدر الصوتِ وردوا عليهِ التحية بعدما ونظروا لبعضهم بعضًا فيما قال “مُـحي” من جديد بنفسِ المرح مرةً أخرىٰ لينفي به سابق حديثه خشيةً من تواجد “أيـوب” معهم:
_نقطة من أول السطر، انزلولنا باللبن والتمر ترحيبًا بالراجل الوحيد المحترم في الوقفة دي.
__________________________________
<“لقد أراد لنا الموج أن نبتعد عن بعضنا”>
جلس في شقتهِ يستمع للمحادثة التي دارت بين “سـامي” و “ماكسيم” من جديد وهو يبتسم بسخريةٍ، لقد تأكدت كل ظنونه وتيقن مما وصله قبل قدومه إلى “مـصر”، تحديدًا أتى إلى هنا لهذا السبب، أتى إلى هُنا لتحقيق هدفه الغير معلوم من الجميع عداه هو، لذا أخرج هاتفه يتحدث مع “نَـعيم” بقولهِ الذي كان هادئًا إلى حدٍ كبير:
_أيوة يا حج، أنا هقابلك الليلة دي بس لما اتأكد إني في أمان، زي المرة اللي فاتت هعرفك، كدا كدا هو جاب بيت جديد وشاغل نفسه بيه، استنى مني مكالمة.
وافقه “نَـعيم” في الحديث ثم أغلق معه المكالمة، بينما “مُـنذر” ترك هاتفه ثم أمسك الدفتر والقلم اللاذي وضعهما هو بجواره ثم توجه ناحية الغرفة الموجودة في نهاية الرواق، وضع بداخلها كافة الأوراق والملفات والدلائل والصور أيضًا وفي وسطهم صورته، وحينها أخرج ورقة يكتب فيها بخطٍ كبيرٍ توسط هذه الورقة:
_”مُـنذر شـوقي محمد الحُصري”.
وضع الورقة على اللوحِ وسط الصور والورقات ووقف يتابعها بعينيه، ابتسم بسخريةٍ موجعة يسخر من حالهِ على الدنيا وحالها، من يُصدق أن مثله كُتُبتْ له النجاة مرة واحدة، ليموت بعدها ألف مرة في اليوم الواحد، من يُصدق أن زمن الرقيق والعبيد لازال مستمرًا حتى في وقتنا هذا، وهو !! لقد حدث فيه ما حدث لابن عمه والمتسبب الوحيد رجلٌ يُدعى والده، حسنًا هو هنا، لكن…
لكن من سيفتح الأبواب الموصدة غيره، إن لم يكن هو المفتاح الوحيد لكل بابٍ منهم ؟؟..
________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى