رواية جحر الشيطان الفصل الأول 1 بقلم ندى ممدوح
رواية جحر الشيطان الجزء الأول
رواية جحر الشيطان البارت الأول
رواية جحر الشيطان الحلقة الأولى
“ما زال للعشق بقية”
كانت ليلةٌ شاتية، شديدةُ البرودة، الظلام يلفُ غرفتها برداء حالك السواد، صدح منبه هاتفها كما وقتته مع إنتصاف الليل، فتحت أجفانها بتقاثل، ومدت كفها من أسفل الغطاء برجفة من برودة الجو وأوقفت رنينة، تنهدت وهي تخرج رأسها من اسفل وسادتها، تحركت من على الفراش ليهاجمها البردُ القارص فضمت نفسها بذراعيها وهي ترتعش، لكنها لن تضع البرد يغدا حائلاً بينها وبين قيام ليلها، أسرعت لتشعل الأنوار ولفت أنتباهها أثر الغيث العالق على زجاج نافذتها المُغلق،فـ أسرعت نحوه،و إتسعت حدقتيها وهي تصرخ في حماس وتصفق بكفيها، ثم نظرت من خلال النافذة للأمطار الهابطة كـ السيل، مدت كفها تستقبل الأمطار بأغتباط شديد بعدما فتحت خصاص النافذة، وأغمضت عينيها وبدأت في الدعاء، فتحتهم في فزع ما أن تناهى لها صوتُ الرعد الصارخ، فـأغلقت النافذة وهي تتنفس الصعداء، ولم تلبث إلا وقد توضأت وعقب وضوئها بسطت سجادتها وشرعت في صلاتها، وبينما هي تقرأ وردها مَن القرآن إذ بـ الباب يُفتح ويطل منه أخيها الصغير هامسًا بصوتًا مرتجفٌ من البرد :
– السلام عليكم، حبيبتي ممكن أدخل؟
تألقت بسمة رائعة على ثغرها وهي تومأ مؤكدة:
– تعالى يا خالد يا حبيبي.
جلس خالد جوارها وتسائل :
– أنا لسه صاحي اهوو، هصلى هنا عندك ماشي؟
أومأت خديجة بعينيها، وقالت :
– صلي يا حبيبي براحتك.
استوى “خالد” مُنتصبًا، وكبر مُصليًا، في حين أسترسلت “خديجة” قراءة وردها.
أنهى خالد صلاته وراح يتلو ورده في صوتًا رخيم، يبثُ الراحة للقلوب، وما أن أنتهى حتى ألتفت إلى “خديجة” بوجهًا مُشرق وتنهد قائلاً في حبور:
– خديجة غريب قيام الليل!
عقدة خديجة حاجبيها في عدم فهم، وهي ترمقه في حيرة، فتبسم هو ضاحكًا، وقال :
– غريب عشان بيكون الجو فيه بارد أوي والإنسان ميقدرش يقعد من غير غطا ولا يتحرك، إلا المصلين، فهما بيتوضوء ويصلوا وميحسوش ببرد ابدًا، سبحان الله إزاي رغم البرد ده ألا أن أول ما بصلي بحس بدفا غريب.
طافت بسمة مُشرقة على وجه خديجة، وقالت في راحة:
– إنه دفء الإيمانُ يا خالد.
خطف خالد قبلة سريعة من وجنتها وهو ينهض، وقال :
– شكرًا يا حبيبتي لأنك معايا، هروح أنام شوية قبل الفجر عشان المدرسة.
اومأت خديجة برأسها وهي تلوح له بكفها مودعة، ثُم رفعت كفيها داعيةٌ له.
“رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”. [البقرة – 201].”
عاد الصغار باكرًا من المدرسة، بسبب سوء العاصفة التي هبت فجأة، مُعلنة عن أمطار غزيرة، استقبلتهم خديجة لتأخذ أروى وتبدل لها ملابسها التي بُللت كُليًا، ثُم جلست على فراشها في غرفتها بعدما أنتهوا الصغار من تبديل ملابسهم، والإتيان إليها، جلسوا حولها الصغار من كل جانب،فـ رددت بصرها بينهم، و تمتمت ببسمة كـ ضوء الفجر :
– تساءلتم عن المطر، والآن سأقص لكم عن فضله، ونعمته.
أنصت لها الصغار في حماس واهتمام.
في حين تابعت خديجة والبهجة تنبضُ في كلماتها :
– المطر نعمةٌ من الله يا أحبابي، وخير، وبركة، ورحمة، كم أن الدعاء فيهِ مُستجاب، وإذ نُزل المطر يجب أن ندعوا كما قال الحبيب ﷺ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيبا نافعا. رواه البخاري في الصحيح.
– أيّ مَطَرًا نافعًا للعبادِ والبلاد
– هاجت ريحٌ شديدة، أدى على أثرها، تأرجح خصاص النافذة وتخبطها، فأنتفض الصغار وهم يلتصقون بـ “خديجة” التي ضحكت لرعبهم الذي تجلي على ملامحهم بانطلاق، ثُم نهضت لتغلق النافذة جيدًا، وعادة لتتدثر بجوارهم بالغطاء.
“رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”. [البقرة – 201].
غابت النجوم متوارية خلف الغيوم، وأختفى القمر مخبوءً سامحًا للسماء بأن تُنزل غيثها كما تشاء، ولُفت السماء بـ رداء حالك السواد، الجو جميلاٌ هادئ، زخات المطر لها إيقاعٌ خاص بالأفئدة التي ترويها قطراته، أمتزج الهواء الرطب مع ضحكات الصغار والكبار ناشرًا البهجة بالآرجاء، كانوا يللهو أسفل المطر بفرحةٌ غامرة، منهم السعيد، ومنهم من يوارى أحزانه وأوجاعه خلف بسمةٌ لطيفة، وضحكةٌ عالية لتستَّر بين ثناياه صرخات وآهات الفؤاد، وقفت خديجة فاتحة ذراعيها تستقبل زخات المطر غير مبالية بملابسها التي بُللت تمامًا، قهقهت بصوتـًا عالٍ وهي تؤشر للصغار :
-اي رآيكم؟ مش مبسوطين؟
رددوا الصغار في سعادة وهم ينثروا المياه على بعضهم بعضًا :
– اوي أوي أوي يا خديجة.
أقتربوا منها وأمسكوا بأكفف بعضهم، ليرسموا لوحةٌ دائرية، ثُم بدأو يدرون تغمرهم الفرحة.
وقفت لمار في شرفة حجرتها تطالعهم ببسمةٌ صافية، تتأملهم بقلبٌ راجيًا من الله أن يحفظهم، ولم تلبث أن رفعت كفيها و وجهها إلى السماء، وقالت بعينان ذارفة بالدموع :
– اللهم أرحم من ضمهم القبر دون إنذارٍ و وداع، من خطفهم الثرى سريعًا، أفسح قبورهم، وأنرها بنورك، وارحمهم يا أرحم الراحمين، وأغفر حوباتهم وأسكنهم جنتك يا رحيم، واحفظ ليّ أحبتي من عبث الأيام وكدرها، ولا تأذني في أحدٍ منهم، يارب.
أخفضت بصرها وهي تستند بكفيها على سور الشرفة تتأمل صغارها بأعيُن تتوهج فرحًا وقلبًا يفيض راحة وهدوء.
حادت عيناها إلى مكه التي تنظر لآبناءها بنظرات تملوءها الحسرة والحزن، فتنهدت في ألم، ثم رددت بصرها إلى أسماء فتبسمت في خفوت وهمست بوجع :
– أمتى تفوقكِ قبل ما تضيعي كل الحلو اللي فـ إيديكِ؟.
مالت قليلاً لتنظر إلى سجى فـ لمعة عينيها بهجةً وحبور، وفترت شفتيهَ عن بسمةٌ رائعة وهمست بأعيُن تفيض دمعًا:
– أدامك الله لقلبي يا قرة عيني.
ظلت تتأمل بسمتها في حب ممزوج بالحزن في آنٍ واحد، يا ليتها في أمكانها أي شيء تفعله لها.
يا ليت بأستطاعتها أهدائها عينيها لترَ بهما؟
غطت وجهها بين كفيها وهي تجهشُ باكية، صغيرتها وُلِدت كفيفة وستظل هكذا، لا يمكنها أن ترَ النور، وأن تنظر إليها.
أحست بكف يُوضع على منكبها، وصوتٍ حاني تهيم بهِ محبةً يُردف مهونًا :
– ليه الحزن والدموع دي يا حبيبتي؟!
سجى بتشوف بقلبها مش بعنيها يارتنا زيها.
رفعت لمار بصرها إلى أخيها الحبيب يوسف وتبسمت بصفا وهي تكفكف دمعها، فتنهد يوسف وهو يرنوا مقتربًا ناظرًا مثلها إلى سجى :
– سجى مين قال أنها مش بتشوف وهو ياسين ابني مش عنيها اللي بتشوف بيها، هما الاتنيين بيكملُ بعض والله ربنا يديم المحبة بينهم.
آمنت لمار على دعاءه في صدق :
– آمين.
ثم ألتفتت له قائلة في دهشة :
-اي ده فين نصك التاني ؟
آتاها صوت فيكتور الواقف على أعتاب الغرفة مازحًا :
– ماذا تريدين من نصفه الآخر يا فتاة.
لوت لمار ثغرها في غيظ، وأردفت :
– ولا حاجه يا خويا، اصل مستغربة لقيته جنبي من غيرك.
ضحك يوسف بصوتًا مكتوم، يبدوا أن لمار ستظل تغار عليه من فيكتور إلى الأبد، في حين دس فيكتور كفيه في جيبي بنطاله وقال في تعالي :
– كفاكِ غيرةً يا صغيرة.
تهجم وجه لمار وهي تتصنع الجدية، هاتفة بسخط :
– أن لم تكف عن مناداتي بصغيرتي يا سيد فيكتور حينها لا تلومني على ما سأفعله بك، حسنًا؟
قهقه فيكتور بإنطلاق، وغمز لها :
– حسنًا حسنًا.
هز يوسف رأسه في يأس منهما، وقال وهو يخبط على كتف لمار:
– تعالي نقعد شوية، حبيية بتحضر لنا الشاي.
أومأت لمار ولحقت به، وجلسوا جميعهم يدردشون حتى أتت حبيبة وقدمت لهم الشاي، لم يمض طويلاً وأنضم إليهم كلا من “سجى، مكه، أسماء” نهضت لمار فور رؤيتها لـ سجى لتمسك بكفها برفق حتى أجلستها وجلست بجوارها، تسائل يوسف في قلق :
– هما العيال لسه برا؟ كدا هيخدوا دور برد شديد.
همت مكه بإجابته، ألا أن قاطعها صوت خديجة المقبل وقد أبدلت ملابسها:
– لا كُله دخل يا دكتور يوسف متقلقش.
جلست خديجة على ذراع مقعد يوسف وهي تحاوط عنقه، ليتمتم هو :
– دكتورة المستقبل، يا ترى هيكون في عمر لحد ما تتخرجي واشوفك دكتورة واسلمك لأبن الحلال.
أبتعدت خديجة محدقة به في غيظ وضربته على كتفه صارخة فيه بجزع :
– والله هزعل منك، ربنا يطول في عمرك، و يديمك ليا وتعلمني لحد ما ابقى دكتورة شاطرة كدا زيك.
ضحك يوسف بخفة آمنًا على دعاءها، فحاد بصره إلى لمار التي كانت تسلط بصرها إليه في حدة وقالت بهدوء، عكس ما يعتمل صدرها من خوف :
– هو في ايه كل شوية تقول يا ترى هيكون في عمر؟ ليه؟ هو أنت عايز تسبنا.
نفى يوسف برأسه ومال على اذنها هامسًا، وهو يضم كتفها إليه :
– لا يا ستي ولا تزعلي انا مش هموت ولا هسيبكم.
“رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ”.
خرج حذيفة من دورة المياة وهو يجفف خصلاتة بالمنشفة التي حول عنقة، عاري الصدر، بِنطال قُطني فقط, صُدم حينما رَ أسماء تفتش بهاتفة وتتشمم بملابسه، فما أن أحست بوجوده، آنذاك تركتهم من يدها وهي تقول في تلجلج :
– حذيفة؟! أنا كنت …؟
صمتت لا تدري ما تتفوه به، فتبسم هو بخفة، وقال مازحًا ، لا يخفف من برودة الموقف :
– مالك يا بنتي ايه شفتي عفريت؟
توجه لخزنة ملابسه بوجهًا جامد ما أن ولاها ظهره، يشعر بقلبه قد خُلع من شكها به، لهما سبع أعوام سويًا وما زال الشك يعتمل صدرها، يأتي من عمله فتفتش في هاتفة وملابسه، يبدوا أنها لن تتغير وستظل تشكك به!
تبسم بوجع يُدمى الفؤاد، وتنهد في تعب، رغم حبه، رغم عشقه، رغم تغيره وقربه من الله، ما زالت تشكك به، ماذا يفعل إذًا؟
إلى متى سيتحمل؟
إلى متى ستصمد علاقتهم؟
لا يمكن أن يظل يشد بمفرده حتى تظل متماسكه لكن هكذا لن تصبح روابط الألفة بينهم ذات وثاقٍ غليظ.
أرتدى تشيرته وجلس على الأريكة منشغل الذهن، فباغته الصغار “ملك، مالِك” وهم يقفزا عليه صائحون في أشتياق، ليبادلهما العناق وهو يقول :
– حبايب قلبي عاملين ايه؟
أجلسهما على قدميه وقبَل وجنة كلاٍ منهم، لترد ملك:
– الحمد لله
– الحمد لله
قالها مالك هو الآخر ليتسائل حذيفة:
– بتذاكروا حلو ولا لأ؟
اومأ الصغار سريعًا قائلين :
– بنذاكر يا بابا.
فرك حذيفة رأسه وهو يقول برفع حاجب :
– أمال ايه اللي سمعته ده هااا؟
تسائل مالك في تعجب وهو يهز كتفيه في حيرة :
– سمعت ايه؟
تصنع حذيقة الغضب هادرًا في غضب :
-يعني مش عارفين عملتوا ايه؟!.
نظرت ملك إلى مالك وقد رفعت قفها بجوار اذنها لتحركها بحركة دائرية متقلبة وهي تهمس في خفوت ظنًا منها أنه لا يصل إلى حذيفة :
– هو بابا اتجن؟
اومأ مالك مؤكدًا :
– شكله كدا.
اتسعت عينا حذيفة في صدمة وقال وهو يتركهم ارضً :
– أنا مجنون يا ولاد الـ….
بترت كلماته قول أسماء وهي تتخصر :
– يا ولاد اي يا حذيفة كمل.
غمز لها حذيفة قائلاً في مشاكسة:
اسماء.. اسماء
صفق حذيفة بكفية وهو يدندن أسماء ولحق به الصغار مصفقون وهم يصيحوا :
– هيييييييه.
وصل حيثُ تقف وهي تناظرهم في زهول، فإذا به يُدغدغها لتتعالى ضحكاتهم ويحذو الصغار حذوه ويشاركوه، تلوت اسماء بين أيديهم وهي تحاول الأفلات، ركضت وهم خلفها حتى سقطا فوقها وهم يدغدغوها تحت صرخاتها المستغيثة، سقطوا جميعهم ارضً بجوارها في نوبة ضحك عالية، فما أن هدأ حتى اعتدل حذيفة وهو يقبل رأس صغاره هامسًا بحب :
– ربنا يديم لمتنا وفرحتنا وضحكتنا كدا على طول.
هب الصغار في فزع صارخون وهم يركضوا خارج الشقه بعدما أوقعوا حذيفة ارضًا ، قالا:
– خديجة هتقتلنا يلا بسرعة.
تألم حذيفة وهو يستوي جالسًا ممسكًا بظهره في ألم ويقول:
– ايه دا اي اللي حصل؟ ومين هيقتل مين؟
نظر إلى أسماء التي كانت تضع كفها على فمها تمنع صوت ضحكاتها في غيظ وهتف في سخط :
– اضحكي اضحكي، عيالك كانوا هيكسروا ظهري بسبب خديجة.
ثم نظر أمامه متذمرًا.
“رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”. [آل عمران – 16].
دلف ياسين ببسمةٌ مشتاقة إلى الداخل بعدما أغلق باب شقته، عيناه تبحثان عن حبييته وصغيرته الاتين إشتاق لهن كثيرًا جدًا، اتاه صوت سجى الهامس من داخل غرفة أبنتهما :
– أنا هنا يا ياسين.
أسرع خطواته نحو الغرفة، وجدها كادت بالخروج لأستقباله، فضمها لصدره ملثمًا جبهتها بشغف هامسًا بقلبٍ فاض حنين إليها :
– وحشتيني أوي.
لامست سجى وجهه بكفيها في رقة وهي تهمس ببسمةٌ تتألق على ثغرها :
– وأنت كمان وحشتني اوي، اتاخرت ليه كدا؟
أمسك ياسين بكفيها في رفق وقبلهما وهو يردف :
– غصب عني يا نور عيني.
إتسعت إبتسامة سجى وهي تنزع كفيها من كفيه وتحاوط ظهره، وتسند رأسها على صدره، قائلة في تفهم :
– عارفه إنه غصب عنك، بس أنت بتوحشني يا نور عيني.
لثم ياسين أعلى رأسها معتذرًا وهو يشدد من ضمها في سكينة، وراحة، مُطبقًا أجفانه، غشاهما الصمت قليلاً قبل أن يقول ياسين في نبرة حزينة ما يدور في خاطره :
– أحيانًا كتير بيكون نفسي إنك تكوني مفتحه عشان تشوفيني، أوقات بشتاق لعينك تشوفني، هو أنتِ عايشة معايا إزاي كدا؟
ذُرفت عينا سجى الدمع آثر حديثه المؤلم، وأبعدت رأسها قليلاً عن صدره وسندت بكفيها وهي تهمس بصوتًا متهدج من البكاء :
– مين قلك أني مش بشوفك؟ مين… مين قلك اني مش بشبع من ملامحك؟ مين قلك أن الحب بيكون بس لما العين تعجب بالجمال؟ الحب يا ياسين دا غريب اوي!
حبيتك عشان أنتَ أماني، حياتي، حبيتك عشان لاقيتك حنين، وبتهتم بيا، حبيتك عشان أنتَ العين اللي بشوف بيها الحياة دي، حبيتك عشان بشوف بيك كل الجمال يا جمال حياتي.
وإن كنت لا أرَ هل هذا يعني إني لا أراك؟
ألم يراك قلبي يا ياسين؟
ضمت وجهه بين كفيها، ودموعها سيلاً على وجنتاها، ودنت منه أكثر وهمست في هدوء :
– أنا أرَاك بقلبي يا ياسين، لقد علمت أن المحب يرَ حبيبه بقلبه، لا بعينة، وأنا قلبي هو الذي يراك، ورغم أشتياق عينايّ لمرآهما وجهك، ألا إني ليست حزينة لفقدناهم لقد أعتدت على ذلك، فـ الأحبه تلتقي بالأرواح وترَ بالقلب.
وإن فُقد البصر فـ الاحبة ترَ بالقلب والروح، فـ إذ الأرواح ألتقط هل يهم الشكل والمظهر ؟
ثم أمسكت بكفية في حنو، وأسترسلت وهي تضمهما إلى قلبها :
– بتمنى أشوفك أنت وأروى وماما وبابا واخوتي وأهلي، والدنيا، كتير بتمنى اشوف النور، بس أنا راضية الحمد لله، إذا كنت أنت عوضي في الدنيا على صبري فــــ أنا حبيت الإبتلاء ده.
تبسم ياسين وما أن هم بضمها مرة آخرى حتى اتاهما صوت أروى وهي تدنو في فزغ منهما :
-ماما… بتعيطي ليه ؟!
رددت بصرها بين والدها و والدتها وقالت في عتاب بعدما سلطت نظرها على ياسين :
– أنتَ بتزعل ماما ليه ؟ وخلتها تعيط!؟ أنا زعلانة منك.
أنهت جملتها وهي تعقد ذراعيها بوجهًا عابس، فرفع ياسين حاجبيه في غيظ وردد في خفوت :
– ماشي يا بنت ياسين.
باغتها بحركة سريعة، وحملها ليقزفها عاليًا ثم يتلقفها بكفيه وظل هكذا لعدة دقائق وهو يُغمغم :
-أنتِ يا بت مالك داخله شايطه فيا كدا ليه؟! ازعل ماما مزعلهاش أنتِ مال اهلك؟
كانت صرخاتها تصم أذنيه فما ان يتلقفها بين ذراعيه حتى تضحك بطفولة، فرددت ما أن توقف عن راميها للأعلى، وبدأ يقبلها مشاكسًا :
– إزاي مال أهلي يعني؟! مش انتوا أهلي؟
إتسعت حدقتي ياسين في دهش وهو يردد :
– يخربيتك، متقعديش مع خديجة تاني، يلا من هنا!
وضعها ارضً لتلوى أروى فمها قائلة :
– طيب ماشية.
ضحكت سجى لمشاكستهم المستمرة، ثم علا رنين هاتفها، لتبتسم تلقائيًا بصفا وهي تردد في شوق :
– زين.
زفر ياسين بغيرة وتمتم في خفوت:
– يوووه بيرن ليه ده؟
في حين صاحت أروى وهي تركض إلى الهاتف :
– عمووو زين….
أسرعت الصغيرة لتجيب على المكالمة والتي كانت فيديو ليطالعها وجه “إسلام، وَ وليد” وهما يصيحون في سعادة:
– أروى، عامله ايه؟ وخالتو سجى عاملة ايه؟
أجلست اروى والدتها برفق التي أرتدت نقابها سريعًا وجلست بجوارها لتجيب سجى بفرحة :
– الحمد لله يا حبايب قلبي، أنتوا طمنوني عنكم عاملين ايه؟
جاءها صوت زين الضاحك وهو يطل بوجهه على شاشة الهاتف من خلف ابناءه :
– عفاريت وربنا يا سجى!
_ بس يا زين هزعل منك متقولش على حبايبي كدا؟
تزمر إسلام، وقال :
– قوليلوا يا خالتو، إحنا برضوا عفاريت؟
هزت سجى رأسها برفض وهي تنفجر ضاحكة، ليجذب زين منهم الهاتف وهو يبتعد عنهم، ويتسائل في جدية وهو يطالعها بمحبة:
– طمنيني عنك يا حبيبتي عامله ايه؟
اجابة سجى في نبرة مُعاتبة :
– بخير الحمد لله، هان عليك تأخدكم وتسافر كدا ومتجيش يا زين، سنة بحالها مشوفكش؟
تنهد زين في ألم، وقال :
– متزعليش والله الشغل مخليني مش عارف اتحرك ولكن بإذن الله هننزل قريب أنتِ وحشتينا كلنا اصلاً، ياسين عامل ايه؟
أومأت سجى قائلة في إشتياق :
– ياريت تيجوا في أسرع وقت عشان وحشني، هستناكم ماشي، ياسين كويس الحمد لله بيسلم عليك….
قاطع حديثها قُل عائشة وهي تضم زين من كتفه وتتسائل في سعادة :
– سجـــــــــــــــــــى عاملة ايه وحشاني؟
ضحكت سجى بحب وهي تردد في حنين :
– عائشتي وحشتيني اوي والله، بردوا كل الغيبة دي؟
– هننزل قريب والله!
ثم سحبت الهاتف من يد زين هاتفة :
– هات التلفون يا عم اكلم أختي.
ثم أبتعدت تحت صدمته وهي تقول :
-بت يا سجى أخبارك كل اللي عندك اي؟ وخاصةً القردة خديجة؟
ردت سجى في إغتباط :
– الحمد لله كلهم بيسلموا عليكِ.
صمتت عائشة في توتر، لا تدري هل تُسئل عن وعد وتغيرها الذى طرأ فجأة؟ أم تلوذ بالصمت حتى عودتها؟
فاقت من تخبط أفكارها على صوت سجى الهامس :
– قولي يا عائشة مالك يا حبيبتي؟ في حاجة؟
هزت عائشة رأسها في حيرة، وقالت في تردُد:
– مش عارفه أقولك ايه؟
_قولي، قلقتيني؟
تنهدت عائشة بقوة، وقد أتخذت القرار بأخبارها بما في جعبتها، فـ قالت :
– سجى … وعد حاسه انها مش بخير برن عليها مش بترد، ودي اول مرة، فكلمت رحيم وقال أنها مش طبيعية بس هي بخير، ادها التلفون تكلمني قالتلي أنتِ مين! وعد صوتها واللي حكاه رحيم يدل انها مش بخير حاولي تخلي ياسين يعرف مالها هما كانوا قريبين من بعض.
أومأت سجى وقد تملك القلق فؤادها همت أن تجيب فقال ياسين الذى أستمع لحديثهم صُدفةً :
– متقلقيش انا هتصرف متقلقيش بس أنتِ كل حاجة بخير.
شكرته عائشة وظلا يتحدثان سويًا، حتى صاح الصغار معترضون، يريدون حديث أروى وخالتهم، فتركت لهم عائشة الهاتف على مضض، ودار بينهم حديث طويل، مشبع بالبهجة.
أغلقت عائشة معهم ليضمها زين من الخلف وهو يسند رأسه على كتفها هامسًا في حب :
– عائشتي… متقلقيش وعد هتكون بخير بإذن الله، وعد مني هننزل قريب مصر.
ألتفتت له عائشة ببسمة تُزين ثغرها ورددت بأعين مضيئه بعشقه :
– طول ما أنت جنبي أنا مستحيل أقلق من حاجة.
تأملها زين مشدوهًا، حتى صدح صوت بكاء الصغيرة، لتهرع إليها عائشة، ويضرب زين كفٍ بكف في قلة حيلة، شعر بيد تضرب قدمه لينظر للأسفل رَ وليد ليقول في غيظ :
– عايز يا عم مش أنت وأختك؟!
لوى وليد ثغره،وقال مقترحًا :
– بدل ما أنت قاعد لوحدك تعالى نلعب احنا التلاته واللي يغلب يطلب من التاني اي حاجة؟
في قلة حيلة أومئ زين و وافق.
“رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء”.
دخل رحيم إلى حجرته وهو يرمق وعد في حزنٍ شديد، جلس ليفك رباط حذائه ثم بسط كفيه حلى حافة الأريكة في تعب مما بذله من مجهود في الأراضي الذراعية، لف برأسه للخلف جهة وعد الجالسة، على الفراش مُشخصه بصرها في الفراغ أمامها، كإنها في عالم ثاني، تحطم فؤاده لعجزه لعدم معرفته ما بها، مؤلم رؤية من تحب يحي كـ الجثه التي فقط تتنفس؟
مؤلم أن تكون عاجزًا عن إنقاذ أحبتك.
مؤلم أن ترَ من لك يتألم وأنت لا تدري ما به.
فلا أنت قادرًا على تطيب روحه ولا قادرٍ على مداوة ألمك.
رؤيته له هكذا كانت تميته، لا يستطع ألبتًا، مرآها بتلك الحالة، التي تقلع قلبه عن مكمنه، تقدم إليها في تمهل، وجلس بجوارها، وعجبً أشد عجب، ما زالت على حالها لم ترمش بعيناها ولم تخطف حتى نظرةً إليه، وعد التي كانت تستقبله بحفاوة، باتت حتى نظرةً لا تلقيها إليه، آه فقط لو يعلم ما بها؟ ما أصابها؟ ما يتعبها وجعلها بتلك الحالة، التي لم يرَ لها مثيلٌ قبل. يتألم ويعاني وطأة الحرمان هو.
ضم كفها بين كفيه وهو يهمس محاولاً جعلها تتحدث معه :
– وعد … حبيبتي، عاملة ايه طمنيني عنك؟
لم يصدر منها اي ردة فعل، فأطبق أجفانه في عذاب وكأن النار أضرمت في فؤاده تكاد تجعله رمادًا، فتح احفانة فجأة وقال في حماس :
– بت يا وعد عاصم موحشكيش؟ ابنك حبيبك اللي مكنتيش بتنامي غير في حضنه، موحشكيش؟
أطرق رأسه في خزى وتمتم في خفوت ودموعًا على وشك الأنهمار :
– عاصم بقي مكتئب دايمًا قاعد لوحده من وقت ما بقيتِ كده؟ حصلك اي؟ ايه اللي أنتِ فيه؟ تعبانة؟ فيكِ اي بس؟
أمسك بوجهها بين كفيه لترمقة بنظره سريعة تائهه كأنها لا تعلم من هو؟ ومن هي أيضًا؟ وحادت ببصرها مرة اخرى لجدار الغرفة وكأنها صنم لا تسمعه.
أحس رحيم إنه لا فائدة ترجى منها، فهوت دمعه من عينيه فمسحها سريعًا وهو ينهض ليطمئن على أبنه.
لم يمض طويلاً وأقبل طفلاً لا يتعدى السبع أعوام ركضًا وأرتمى في أحضانها هامسًا في شوق :
– أنا جيت من المدرسة يا ماما، وحشتيني.
لم تبادله وعد العناق، لم تنظر إليه حتى، كأنها صنم متحجر لا يرف له جفن، أبتعد عاصم ونظر إلى وجهها الجامد الذي ينظر للفراغ، وتمتم وهو على شفا البكاء :
– أنتِ مبقتيش تحبيني يا ماما؟
هوت دموعه هويًا إلى وجنتيه وهو يغلق جفنية في شدة، ظنًا منه إنها لا تحبه ولا تريده، لا يدري أن المسكينة والدته وليست بوالدته!
وأنها لا تدري شيء مما يدور حولها، لا تشعر ولا تتكلم، أسيرةً هي في عالم مخيفٌ مظلم، مجبورةٌ عليه قسرًا.
يا ليت يمكنها التحرر من قيود هذا الظلام!
نهض الصغير من على الفراش وبسبب غشاوة الدمع على اجفانة تعثرت قدمه في سجادة الغرفة ليقع على وجهه، مما أدى لشق صغير في جبهته وكان ينزف على آثره، تألم عاصم بشدة وهو ينظر إلى والدته مناديًا، عما قليل كانت ترفرف بأهدابها كأنها تنتبه للصوت، كانت تشعر أن الصوت بعيد يسحبها من عالم بعيد ولكنها تتبعته، لتنظر تلقائيًا إلى عاصم، ونهضت عن الفراش بفزع لتحمله على قدمها، تزامنًا مع دخول رحيم ركضً فوقف مصدومًا، لا يصدق أن وعد أخيرًا تحركت، إتسعت حدقتيه في بَهَت شديد حينما نظرت إليه وهي تحمل عاصم، ونادته قائلة :
– رحيم …مالك واقف كدا ليه؟
تعالى شوف عاصم ماله؟
اومئ رحيم تلقائيًا، ولم يلبث ان ضمد الجرح لابنه، الذى أستكان بحضن والدته التي تضمه في، قلق وحنان، ورفق، أعتدل رحيم في وقفته وغمغم في تيه :
– وعد… أنتِ حاسة بينا؟
أمسك وجهها الذى أبدى زهولًا من حديثه، وتمتم :
– أنتِ كويسة؟ حاسة بحاجة تعبانة؟
حدجته في حيرة من امره وهي تتسائل :
– أنت اللي مالك في ايه؟
تركت الصغير، لتقف أمامه قائلة وهي تتحسس جبينه :
– أنت سخن ولا مالك؟ ايه الكلام الغريب ده؟ ما انا زي القرد قدامك اهوو.
جذبها رحيم من مرفقها مُعتصرًا آياها داخل أحضانه وهو يقبل وجهها في عدم تصديق، يحمد ربه أنها عادت إليه.
قد يأتي الأمل لدقائق معدودة ويولي بعدما يطعنًا ويذيقنا مرارة الحرمان، أن يكون الحبيب معك وليس بمعك مؤلم للغاية!
لم يمر كثيراً وإذ بـ وعد وهي تدلف للحجرة بعدما عدت طعام لطفلها وقعت أرضً وأنزلقت الصنية من يدها لتصبح شظايا كـ قلب رحيم تمامًا الذى تهشم وهو يهرع إليها، حاولت النهوض بمعاونته ولكنها كانت تسقط ارضً في كل مرة، وكأن قدميها قد عُقدا بأغلالٍ من نار، اقترب عاصم باكيًا، ليحملها رحيم بعدما أغمضت عينيها فاقدة للوعي ويغادر بها إلى المستشفى بعدما أخبر غفيره أن يهتم بالصغير…
“رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ”.
طلت خديجة من نافذة غرفتها مغمضةً العينين تستنشق الهواء في ارتياح، ثم نظرت للأسفل لتبصر الصغار جالسون على العشب يُذاكرون في اهتمام، فتوهج وجهها باسمًا وقد حسمت آمرها على النزول، ولم تلبس أن كانت تقترب منهم جالسة بجانب الفتيات قائلة:
– ربنا يوفقكم يارب وينجحكم ويشرح صدوركم.
آمن الصغار على دعاءها، وعادوا لدروسهم كُلاً منهم منشغل في كتابه، فما أن يقف معهم شيء يذهب إلى والدته لتساعده، فـ حين أقتربت خديجة من أروى مغمغمة وهي تناظرها في حب :
– تعالي نذاكر سوا يا حبيبة قلبي.
ألتفتت لها أروى برأسها وهي تومأ في سعادة هامسة :
– يلا.
رفعتها خديجة لتجلسها على قدميها وبدأت تذاكر لها وهي تمعن النظر لملامحها التي أكتسبتها من والدتها سجى، نفس الملامح، وذات الهدوء والرقة، قضى الوقت حتى فرغوا جميعهم متنهدٌ
فـ أقترب الصغار ليطوقوا خديجة من كل جانب، حفوها في حلقة دائرية، لترفع خديجة حاجبها في دهش، ويمناها تمسح على رأس أروى في حنو :
– اي ده؟! في ايه؟!
أسرع مالك مُجيبًا في كلمات تنبضُ بالحماس :
– خلصنا مذاكرة ومش ورآنا حاجة، في اى رأيك تقوليلنا حديث وتشرحيه لينا، او تسئلينا، اي حاجة أنتِ حباها؟
سر قلب خديجة، لحماسهم ومبادرتهم لمعرفة احاديث الحبيب ﷺ فقلبت بصرها بينهم، وأثناء ذلك لاحظت أطراق خالد شاردًا في حزن، فـ تسائلت في تعجب :
– مالك يا خالد زعلان ليه ؟!
رفع خالد رأسه إليها وتمتم في هدوء وهو يهز كتفيه :
– مفيش حاجة مش زعلان!.
حدجته خديجة في نظرة مستنكرة، وقالت في أمر:
– مالك يا خالد بتفكر في اي؟
ردد خالد بصره على ابناء أعمامه ثم اذرد لعابه ونظر إليها قائلاً :
– هما ليه سموني خالد؟ في أسماء كتير أحلى، يعني ايه اصلاً خالد دي؟
أحست خديجة أن ثمة من تلاعب بعقل أخيها، فـ أغمضت عينيها وهي تهمس في شغف :
– خالــــــــــد … هو في أحلى من اسم خالد؟! اسم لوحدة كفيل لاي حد شايله يجعله فخور!
لوى خالد شفتيه محتجًا :
– دا ليه؟
فتحت خديجة عينيها في بطئ وهي تقول في شوق، وذكرت حنين تطوف بخلدها، وقلبًا رفرف مشتاقًا، وروحًا لمساتها نسمات الصحابة العطرة بذكراهم وهمست وهي تستنشق الهواء في سكينة :
– هل أخبرتك قبلاً عن خالد بن الوليد سيف الله المسلول.
رنا خالد ببصره في أهتمام وهو يهز رأسه:
– لا.
تجلت في عيون الصغار نظرات الأهتمام، فـ أنصتوا بقلوبهم قبل أذانهم وهم يتربعوا في أسترخاء وانتشاء متلهفون لكلماتها، فـ أسترسلت خديجة بنظرة متوهجة نورًا:
– خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين.
لقد تخلدت البطولة بذكرة خالد بن الوليد، كان شجاعًا، مغوارًا، تقف إزاء فروسيته حائرًا من شجاعته، كان لا نظير له، وفي يوم مؤتة حول هزيمة المسلمين إلى نصر مبين، آنذاك سقط ثلاثة ليوث من الصحابة الكرام “زيد بن حارثة، و جعفر بن أبى طالب، و عبد الله بن رواحة” وهنا قاد خالد الجيش وبعبقريتة أنقذه من الإبادة وتم النصر على يديه، يقول الرسول وهو ينعي أبطال مؤتة الشهداء : ” أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ،ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا .. ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ” : ” ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه ” .رواه أحمد وصححه الألباني
صمتت خديجة هنيهة تتأمل وجوه الصغار التي تنصت لها في اهتمام، بثغور فارهه وأعيُن مُحدقة، وتابعت وهي تأخذ نفسًا عميقًا من النسائم التي هلت عليهم :
– لقد كان خالد جنديًا عاديًا تحت قيادة القواد الثلاثة الذي جعلهم الرسول على الجيش، والذينَ استشهدوا بذات الترتيب” زيد، ثم جعفر، يليه عبد الله ” فما أن سقط الليوث الثلاث،سارع الى الراية ( ثابت بن أقرم ) فحملها عاليا وتوجه مسرعًا الى خالد قائلًا له خذ اللواء يا أبا سليمان ) فلم يجد خالد أن من حقه أخذها فاعتذر قائلا لا ، لا آخذ اللواء أنت أحق به ، لك سن وقد شهدت بدرا )فأجابه ثابت خذه فأنت أدرى بالقتال مني ، ووالله ما أخذته إلا لك )ثم نادى بالمسلمين أترضون إمرة خالد ؟) قالوا نعم )فأخذ الراية خالد وأنقذ جيش المسلمين ، يقول خالد قد انقطع في يدي يومَ مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة لي يمانية )
وحُقق النصر على يديه، كما أنه هدم العُزّي بأمر من الرسول
سُر خالد سرورًا جمًا لأن أسمه على اسم هذا البطل المغوار الذى حقق النصر يوم مؤته بعد مصرع قادتها الثلاثة، وتسائل في أهتمام وقد أختلط في عينيه بريق اللهفةً والحبور :
– ذيديني حديثًا عن بطلنا يا خديجة، كيف أسلم سيف الله؟
إتسعت أبتسامة خديجة وهي تناظره في بهجة وهبت رياح الشغف بداخلها لتتمتم وهي تتعايش في قصةُ خالد وتتنفس من عبيره وأريج ذِكراه الذى هب :
– أسلم خالد متأخرًا بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، وذلك بعد أن علم بسؤال نبي الله ﷺ عنه، حين دخل مكة لأداء عمرة القضاء، أستشعر ما في ذلك من تقدير وتكريم وسُر كثيرًا بذلك واذداد رغبة في الإسلام.
“دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة في عمرة القضاء فسأل الوليد عن أخيه خالد ، فقال أين خالد ؟)فقال الوليد يأتي به الله )فقال النبي :-صلى الله عليه وسلم- ما مثله يجهل الاسلام ، ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ، ولقدمناه على غيره )فخرج الوليد يبحث عن أخيه فلم يجده ، فترك له رسالة قال فيها بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فأني لم أرى أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعقلك عقلك ، ومثل الاسلام يجهله أحد ؟!وقد سألني عنك رسول الله، فقال أين خالد — وذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه — ثم قال له : فاستدرك يا أخي ما فاتك فيه ، فقد فاتتك مواطن صالحة ) وقد كان خالد -رضي اللـه عنه- يفكر في الاسلام ، فلما قرأ رسالة أخيـه سر بها سرورا كبيرا ، وأعجبه مقالة النبـي -صلى اللـه عليه وسلم-فيه ، فتشجع و أسلـم مع عثمان بن طلحة وعمرو بن العاص” يقول خالد عن رحلته من مكة الى المدينة وددت لو أجد من أصاحب ، فلقيت عثمان بن طلحة فذكرت له الذي أريد فأسرع الإجابة ، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا ، فلما كنا بالسهل إذا عمرو بن العاص ، فقال مرحبا بالقوم )قلنا وبك )قال أين مسيركم ؟)فأخبرناه ، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم ، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة
( أول يوم من صفر سنة ثمان “
وأقدم خالد إلى الرسول وأسلم وبايع الرسول يقول خالد ” قلت للرسول: استغفر لي كل ما أوضعـت فيه من صد عن سبيل اللـه )فقال إن الإسلام يجـب ما كان قبله )فقلت يا رسول الله على ذلك )فقال اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيلك )وتقدم عمرو بن
( العاص وعثمان بن طلحة ، فأسلما وبايعا رسول الله
اذداد حماس خالد أكثر، وإذ به يقُول بكلمات تبضُ بالحماسة واللهفة :
– أخبريني يا خديجة من صنيع فعل خالد؟!
تنهدت خديجة في إرتياح وتمتمت في هدوء :
– حارب خالد رضي الله عنه أهل الردة حينما بلغه عنهم مقالة الرسول ، ثم مضى إلى اليمامة وقاتل مسيلمة الكذاب الذى كان يدعى النبوة، وغزا العراق، وشهد حروب الشام مع المسلمين، لقد فتح خالد دمشق، وحارب فارس والروم وأبلى بلاءً حسنًا، انتصر خالد بحذاقته في كل معركة وقد كان حقًا كما قال الرسول خالد سيف من سيوف الله.
فـ عن أبي هريرة رضى الله عنه أخرجه الترمذي.
قال نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فجعل الناس يمرون، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا؟ فأقول: فلان، حتى مر خالد، فقال: من هذا؟ قلت: خالد بن الوليد، فقال: نِعْمَ عبد الله هذا سيف من سيوف الله.
صمتت خديجة مليًا بعينين ممتلأتا بالدمع، وقالت في بسمة حالمة :
– الحديث عن خالد لا ينتهي أبدًا، يحتاج لملايين من الصفحات، بطولاته ستظل خالدة على مر الزمان، وشجعاته ستظل لا نظير ولا مثيل لها.
ثم ضحكة ضحكة خفيفه وتمتمت في تهدج وهي تكبح دموعها :
– كان خالد يأمن الجيش قبل أن يخوض القتال، فأمر النساء بأن يمسكن السيوف وامرهم بالوقوف خلف صفوف المسلمين وقال لهن من يولي( هاربا ، فاقتلنه ) فقد كان يخشى ان يفر هاربًا احد افراد جيشه من هم حديثي العهد بالإسلام، اما وفاته.
وهنا وأنفجرت خديجة باكية في تأثر أليم، موجع وغمغمت في بكاء، جعل أعيُن الصغار تذرف الدمع :
– مات خالد على فراشه، وهو الذى كانت حياته كلها فوق صهوة جواده تحت صليل السيوف، هو الذى غزا مع الرسول، وقهر الردة، وحارب فارس والروم، وفتح العراق، والشام، قال خالد حينما شعر بدنوا اجله “لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم .. ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء “.. !
ومات من قال عنه الصحابة الرجل الذي لا ينام ، ولا يترك أحدًا ينام )
مات و ودعته امه قائلة:
أنت خير من ألف ألف من القو م اذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع ؟ فأنت أشجع من ليث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد .. ؟ فأنت أجود من سيل غامر يسيل بين الجبال
غطت خديجة وجهها بين كفيهَ تبكي حزنًا وشوقًا للقاء رسول الله وصحابته وأهله.
رفعت وجههَ في تذكر وقلبت بصرها في وجوه الصغار الذى غشاها الدمع وتمتمت باسمة تلتمع بعينيها وهي تكفكف دموعها :
– نسيت أخباركم عن قلنسوة خالد، لقد سقطت منه يوم اليرموك فأضنى نفسه والناس بحثًا عنها، فلما عوتب في ذلك قال” ( إن فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله وإني أتفائل بها وأستنصر )
ثم رددت رافعة كفيهَ و وجهها إلى السماء :
– اللهم أرحم خالد ابا سليمان وأرضي عنه هو و الصحابة أجمعين.
آمن الصغار لدعاءها وشكرها خالد ممتنًا وقد ذاد قلبه حبً وفخرًا بأسمه.
“ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا”
غشىٰ ضوء الصباح أرجاء الأرض مُعلنة عن يومٍ جديد بأحدثٌ جديدة، خرج الصغار من المنزل جميعهم عند وصول الحافلة التي ستقلهم إلى المدرسة، وبعد ركوبهم أنطلقت الحافلة إلى وجهتها، ولكن في منتصف الطريق صدت سيارة سوداء طريقها ليقف سائق الحافلة تلقائيًا، وهو يشرئب برأسه من النافذة صائحًا فيمن تلك السيارة التي تقف معترضه طريقة :
– يا عم أنت اتحرك في حد يقف الوقفة دي؟
هم بالترجل ولكن عاد جالسًا ما أن خرج رِجلاٌ مُلثمون كُثر من السيارة وأندفعوا تجاه الحافلة مُشهرِ سلاحهم، صاح الصغار صارخون في رعب ملأ أفئدتهم، وأرتجفت أجسادهم في خوف، بنظره واحده من احدى المجرمين كتموا أفواههم فزعًا وهم يحملقوا بهم في رعب، مد احدى الملثمين كفه للآخر وهو يقول في حِدة :
– هات الصورة.
ناوله الآخر أحدى الصور ليمعن النظر فيها لهنيهة،قبل أن يرفع رأسه ناظرًا بتمعن إلى وجوه الأطفال، ثم أشار بسبابته إلى “خالد، حمزة، مالك، مُعاذ” وقال آمراءً الرجال:
– هما دول هَتوهم بسرعة!
إتسعت أعين حمزة وخفق قلبه ولكنه وقف دافعًا الرجل عنه، وصاح فيه :
-أبعد كدا عني، وملكش دعوة بأخواتي!
صاحت المُدرسة التي كانت ترتعش خوفًا :
– انتوا عايزين اي سيبوا العيال؟!.
رمقها احدى الملثمين بنظرة مخيفة جعلتها تنزوى على نفسها في حين كان احداهما خدر السائق، اما باقي الأطفال فقد وضعوا كفوفهم على أفواههم ولم تكف اعينهم من ذرف الدمع، في لحظة مباغتة كانوا الملثمين يخدروا الصغار، تليها اتجهوا إلى الفتيات، لتختبئ أروى في ملك التي ضمتها لصدرها وهي تحملق في الرجال في صدمة وفي لحظة كانوا يخدروهم وحملوهم للسيارة، أخرج احدى الملثمين ورقة مطوية أهداها للمُدرسة التي كان قلبها يرتجف خوفًاويبكي عجزًا :
– الورقة دي تديها لأهل العيال دي.
مدت المُدرسة كفها بيد مرتشعة، ليقترب منها الملثم بوجهه وهو يستند بكفيه حاولها، قائلاً في صوتٍ كـ الفحيح :
– واياكِ بقك ينطق بحرف من اللي شفتيه لحد.
اومأت المُدرسة تباعًا في عشوائية، ليرحل الملثم صاعدًا امام وقود السيارة وأنطلق في سرعة جنونية، لينفجرَ الصغار في الصياح وتسرع المُدرسة إلى السائق المغيب عن الوجود، وراحت تلطم وجهه وهي تنادى عليه بلا فائدة، لذا أمسكت قرورة ماء لتنثر القليل على وجهه فـ بدأ رويدًا رويدًا في استعادة وعيه، فما أن فاق حتى أخرجت هاتفة لتسرع بالإتصال بـ أسماء التي أجابة فورًا قائلة :
– استاذة مريم أخ……..
قطعة كلماتها انفجار المُدرسة في البكاء وهي تقص عليها ما حدث.
في آوان ذلك، كادت خديجة بالدلوف إلى مدرستها الثانوية، حينما وقفت أمامها مباشرةً سيارة سوداء وفُتح بابها وظهر منه مُلثمان هم احداهما بأمسكها، ففاقت خديجة من صدمتها لتتراجع للخلف في عنف، فما أن رآت الأسلحة بأيديهم حتى قلقت على المارين حولها إذ فرت من أمامهما، فرفعت كفها موقفة من مد يده لسحبها، فترجل في هدوء لتصعد هي دون أدنى معافرة تعلم جيدًا أنها لا جدوى منها، فما أن أستقترت حتى أنطلقت السيارة، فـ أسدلت أجفانها وهي تردد “لا إله إلا الله” ليطمئن فؤادها، ويسكن من رعبه القائم، أخرج احداهما شريطة ليربط عينيها تحت أستسلام منها تام.
يتبع……
إحنا لسه في البداية مدخلناش في الجد هاااا؟
اللي جاي دمار يا بوي..
حديث خديجة في الدين هيكون بالفصحى عشان محدش يتلخبط، رأيــــــــــكم بقا؟
من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللَّهُ عليهِ عشرَ صلواتٍ ، وحُطَّت عنهُ عَشرُ خطيئاتٍ ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ. صحيح الألباني صلوا على الحبيب” اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد “
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)