روايات

رواية بك أحيا الفصل السابع عشر 17 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل السابع عشر 17 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء السابع عشر

رواية بك أحيا البارت السابع عشر

رواية بك أحيا الحلقة السابعة عشر

الفصل السابع عشر ج١ “مألوف!”
” سميرة السيد” تلك السيدة العجوز التي يبدو أنها قاست كثيرًا ومازالت تقاسي، قاست قديمًا بين أب وابن لم يتفقا يومًا وكانت بينهما نزاعات لم تنتهي إلا بموت الأول، نزاعات كانت تقف هي بينهما حائرة لا تعرف مع منْ تنحاز وضد منْ! فالأول زوجها والثاني ولدها، زوجها الذي لطالما رآها أم مستهترة وفشلت في تربية وتهذيب ولدها “حسن” على وجه الخصوص، وولدها الذي سأم من صمتها وسلبيتها في مواقفه مع أبيه، رغم اعترافه أحيانًا بأنه ليس بيدها حيلة، ولكن أحيانًا أخرى كانت نفسه توسوس له وتقسو عليها فيحمل في قلبه بوادر العصيان عليها هي الأخرى، وأما مؤخرًا وحتى الآن، تحديدًا( منذُ أربعة وعشرين عامًا حتى الآن) فهي تعاني من قسوة الفراق، تعاني من قلب يتمزق شوقًا وخوفًا على الغائب، ولا تعلم هل ستبقى هكذا البقية القليلة المتبقية من عمرها أم سيكون لقلب ولدها رأيًا آخر! هدأت في بكاءها قليلاً فمسحت دموعها وهي تردد بوهن وقلة حيلة:
_ ربنا يرد الغايب يا بنتي.
علمت أن جدتها تنهي الحديث في الأمر، ولكن فضولها أبى أن تتركه دون فِهم أكثر، فسألتها بحذر:
_ ناناة هو ليه سابكوا أصلاً؟ حد يسيب أهله كل الفترة دي؟
غامت عين العجوز بالحزن وعقلها شردَ لذكرى بعيدة، ذكرى كان يقف فيها ندًا لنِد أمامها، أصوات عالية من كليهما انتهت بصرخة أخيرة خرجت منها وهي تهتف بجملة شقت قلبها هي أولاً…
صيف عام ١٩٩٣…
سأمت من الجدال، واحتدَ النقاش بينهما، وأصواتهما باتت تُسمع من الجيران، ففاق كل هذا قوة تحملها لتصرخ بهِ منهية الجدال واجزاء جسدها تحفزت للغضب:
_ ورحمة ابوك يا حسن ما أنتَ متجوزها، ولو اتجوزتها متورنيش وشك تاني ولا تدخل بيتي واعتبرني موت، ايه قولك بقى؟
هدأ كل شيء بعدها، الأصوات، الأنفاس، حتى نظراتهما المشتعلة هدأت، مع قوله الذي خرج كأنه غير مبالي رغم الحريق المشتعل بداخله:
_ يبقى أنتِ الي اختارتي.
أمسكت بذراعه حين مرَ من جوارها قاصدًا غرفته وقد بدى أنه سيجمع أغراضه ليذهب، طالعته بنظره تائهة وقلب يصرخ بها لاعنًا ما تفوهت بهِ منذ قليل، تساقطت دموعها كالامطار وهي تسأله بعدم تصديق:
_ بقى كده يا حسن؟ بتختارها هي؟ هتسيب امك وبيتك عشانها؟ هي عمياك للدرجادي!
نفض ذراعه من قبضتها بقسوة وهو يهتف من بين انفاسه الغاضبة:
_ هي ملهاش ذنب، أنتِ الي خيرتيني، وأنا اخترت، عشان مش هسمح ليكوا تضيعوها مني مرتين.. مرة جوزك ودلوقتي أنتِ!!
رفعت كفيها تضرب صدرها بنواح وهي تهتف:
_ يابني دي اطلقت من جوزها الي كان صاينها ومهنيها عشانك.. باعته وغدرت بيه عشانك، ي…
قاطعها بنزق صارخ:
_ أنتِ قولتيها اهو، عشاني يبقى…
كان دورها هي هذه المرة في المقاطعة وهي تقول بينما تحرك ذراعيها مشيحة في كل الاتجاهات بعصبية:
_ يبقى هتسيبك عشان غيرك.. ليه مفكرتش في كده، تأمنلها ازاي دي؟
اغمض عيناه بتعب من الجدال في أمر منتهي بالنسبة له وقال:
_ هي مش كدة، هي سابته عشان بتحبني من قبل ما تتجوزه أصلاً.
_ وكلام الناس؟ يقولوا ايه، هيفكروا كنتوا متواصلين مع بعض وهي متجوزه، وكانت بتخون جوزها معاك.
“كلام الناس” تلك الجملة المقيتة التي كرهها من كثرة ما كان يرددها والده في كل موقف، والده المريض بهاجس “كلام الناس”، تلك الجملة التي ظن أنه لن يسمعها مرة أخرى مع موت والده، ولكن يبدو أن والدته قد انتقل الهاجس إليها من كثرة معاشرتها له!
كالثور الهائج تمامًا، كان هو بعد سماعه لجملتها لذا كان يصرخ بوجهها بشكل أفزعها وهو يقول:
_ يلعن**** كلام الناس، مش عاوز اسمع **** الجملة دي تاني، انتِ سامعة، اقولك انا هسيبلك *** البيت ده اشبعي بيه، وخلي الناس الي خايفة من كلامهم ييجوا يونسوكِ.
أفزعها صراخه عليها، وأدهشتها قسوته وطريقته الفظة معها، هل راعى حتى أنه يحدث والدته في انفعاله أو الفاظه البذيئة التي أطلقها؟ لا لم يراعي أي شيء، وهي ستضع حجرًا على قلبها ولن تمرر فعلته، هل قرر الرحيل؟ إذًا فليرحل لن تترجاه ولن تستميله ليبقى.
وبالفعل حين خرج بعد فترة يجر حقيبة كبيرة خلفه، شعرت أن الحقيبة تُجر فوق قلبها وليس فوق الأرضية الصلبة، ولكنها أبت أن تتراجع عن قرارها، فخرجت الكلمات من فاهها بقسوة ما تشعر بهِ وهي تصرخ بهياج:
_ في ستين داهية، لما تعرف ازاي تكلم أمك وتعاملها كويس ابقى ارجع، ابوك كان عنده حق، كان دايمًا يقولي عملنا ايه وحش في حياتنا عشان ربنا يبلينا بابن زيك يطلع عينا ويوجع قلبنا.. كنت بقوله متقولش كده ده شاب طايش زي باقي الشباب وبكره يعقل، بس دلوقتي بس عرفت انه عنده حق.
ومع آخر كلماتها كان يختفي من أمامها بعدما خرج من باب الشقة كأنه لم يسمعها، ولكن الحقيقة أنه سمعها بوضوح.. بوضوح لدرجة أنه كره سماع صوتها بعدها، هل باتت نسخة من أبيه؟ بئسًا لتغير الحال، هل هذه من كانت تدافع عنه، الآن باتت هي الأخرى تراه ابتلاء! حسنًا إن كان ابتلاء فسيبتعد كي يزيله عنها.. للأبد..
قسى وقسى قلبه عليها، ونسى قول الله تعالى:
«وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»
عادت من ذكرياتها الأليمة على صوت حفيدتها ينبهها، لتسرد لها ذكرى آخر لقاء بينها وبينه، وانتهت لتبدأ في سرد ملامسات المشهد الخفية:
_ مكنتش متخيلة انه هيغيب كل ده، كنت فاكرة انه هياخدله اسبوع ولا اتنين ولا شهر حتى ويرجع، عمري ما اتخيلت انه ميرجعش تاني فعلاً، لو كان رجع واتأسف كنت هجوزهاله والله، بس أنا عز عليَّ وقوفه قدامي وانه علىَ صوته عليَّ بالشكل ده عشانها، او حتى لو مش عشانها، وقوفه قدامي خوفني منه، معقول ده ابني الي ربيته! مقدرتش اتحمل طريقته معايا، سيبته يمشي وانا فاهمه انه هيرجع، لو كنت اعرف انه مش هيرجع والله ماكنت خليته يخرج من عتبة الباب حتى.
احتضنت جدتها بقوة حين اجهشت في البكاء مرة أخرى، لتشاركها بكائها بقلب منفطر عليها، واخذت تمسد بكفها على ظهرها بحنون وهي تقول:
_ اهدي يا ناناة عشان خاطري، ان شاء الله هيرجع في يوم.
نفت برأسها وهي بين أحضانها، ولسانها أقر بتلك الحقيقة المُرة وهي تقول ببكاءٍ:
_ مش هيرجع، لو كان عاوز يرجع كان رجع من سنين، انا بس الي بصبر نفسي وبكدب على حالي، لكن انا عارفه انه مش هيرجع.. ايه قساوة القلب دي يا حسن؟ وجعتي قلبي يا بني، وجعت قلب أمك عليك يا حبيبي.
لم تستطع “جاسمين” الصمود أكثر لتتعالى شهقاتها وتهاوت دموعها بانهيار وهي تستمع لحديث جدتها الموجع لقلبها… واستمر الوضع لأكثر من خمسة عشر دقيقة أخرين قبل أن تنجح “جاسمين” بتهدئها وجعلها تخلد للنوم بصعوبة.
__________________
عصر اليوم التالي…
واقفًا بالمطعم ينتظرها على أحر من الجمر، لا يصدق أنه بات قريبًا منها لهذه الدرجة، هل ستتاح له الفرصة ليتحدث معها اليوم؟ هل بات الأمر قريبًا هكذا؟ أنه لا يصدق أنه وجدها فماذا عن الوقوف أمامها ومحادثتها وسماع صوتها! انه هالك لا محالة!
_ مراد باشا انا محتاج افهم انتَ بتعمل ايه؟
رددها “طارق” الذي خرج من غرفة المكتب للتو، ليزجره “مراد” بنظرة حادة منه وهو يجيبه:
_ تعرف تروح تقعد على مكتبك وتسكت.
رفع حاجبيهِ بدهشة وهو يردد بعدم تصديق:
_ مكتب ايه؟ وايه الحكاية! نويت تتوب يعني وتغير نشاطك لشغل في مطعم؟ وحتى لو انا مال أمي ساحلني مع حضرتك ليه؟
علاقة العمل التي امتدت بينهما لثلاثة سنوات حتى الآن هي ما سمحت ل “طارق” بالحديث هكذا، رفع “مراد” جانب شفتيه ساخرًا وهو يسأله:
_ وايه لازمة حضرتك؟ بعدين عندك اعتراض ولا حاجة؟
ابتلع ريقه بارتباك طفيف من نبرة الأخير المُحذرة، ليهتف بضيق خفي:
_ ياباشا مش قصدي، انا كل الحكاية عاوز افهم عشان اعرف امثل الدور صح.
زفر بنزق قبل أن يشير بأصبعه لغرفة المكتب وهو يردد:
_ روح اقعد على المكتب، ولما البنت تيجي هتعمل معاها انترفيو كأنك صاحب المكان بجد، وبعدها هتقبلها وتقولها ان الشغل هيبدأ من النهاردة، وبعدها ملكش لازمة اصلاً، تمام!؟
هز رأسه بيأس واستسلام وقال:
_ تمام الي تشوفه.
تحرك للدلوف لتلك الغرفة لكنه توقف على قول “مراد” بتذكير:
_ متنساش، انا هنا شغال في المطعم.
التف له بغيظ من عدم فهمه لكل ما يحدث، وقال من بين أسنانه:
– ماشي..
ابتسم له “مراد” باقتضاب مستفز قبل أن يتجه للمطبخ الملحق بالمطعم.
ضرب “طارق” كفًا بالآخر وهو يغمغم بنزق:
_ يارب ارحمني من الجنان ده.
_ السلام عليكم.
انتبه لصوت فتاة رقيق يلقي السلام، ليلتفت لها فوجد فتاة ذات جمال بسيط ترتدي ثياب سوداء حالكة جميعها، حتى حجابها الذين زين وجهها، تنحنح في وقفته وهو يجيبها بهدوء:
_ عليكم السلام.
عقدت حاجبيها باستغراب وهي تنظر حولها قبل أن تسأله وهي تشير لغرفة المكتب:
_ هو استاذ مسعد جوه؟
سألها بعدم فهم:
_ استاذ مسعد مين!؟
_ صاحب المطعم، اصل انا عاوزاه في حاجة.
ذم شفتيهِ بأسف وهو يخبرها:
_ للأسف هو ساب المطعم، باعه يعني وانا اشتريته.
وفي لحظة احتل الحزن قسمات وجهها وهي تدرك أن فرصتها في الحصول على العمل قد ذهبت في مهب الريح، فاخفضت وجهها قليلاً باعين ملتمعة بالدموع وبنبرة بائسة رددت:
_ تمام شكرًا.
قطب حاجبيهِ مستغربًا رد فعلها ليسألها بفضول:
_ كنتِ عوزاة في ايه؟ يمكن اساعدك.
نفت برأسها وهي تقول بيأس بعدما تحكمت في دموعها بصعوبة:
_ لا خلاص، كنت قيلالة على شغل هنا بس يظهر مفيش نصيب.
تبًا انها هي! هذا ما ردده في عقله سريعًا بأعين متسعة حين قالت جملتها، اخبره “مراد” ان فتاة ما ستأتي بعد قليل لطلب العمل، وعليهِ أن يوافق فقط، تحدث سريعًا ما إن أبصرها تستدير ذاهبة:
_ استني بس مستعجلة ليه؟
توقفت والتفت له بوجه محبط ليكمل:
_ مش يمكن محتاجين حد يشتغل.
رددت بما أتى في عقلها وهي تقول:
_ اكيد جايبين عمالكوا معاكوا.
نفى برأسه مبتسمًا بهدوء:
_لا خالص، بالعكس محتاجين فعلاً ناس، مش شايفة المطعم فاضي ازاي.. اينعم هم زمنهم جايين فعلاً، بس برضو عندنا عجز.
ابتهجت ملامحها في الحال ورددت بلهفة:
_ بجد؟
اومئ برأسه بتأكيد وأشار لها على باب مكتبه وهو يدعوها للدلوف بلباقة.
اتته رسالة من “مينا” المراقب لها بأنها دلفت المطعم بالفعل، ومن حينها وقلبه لم يهدأ، ولا جسده! يلف في محيط المطبخ الواسع بلا هوادة، يفكر فقط في كيفية التحكم في مشاعره حين يراها، حرص ألا يسمع صوتها قبل أن يراها، فلزم مكانه في المطبخ يهيئ ذاته لاللقاء.
انهى المقابلة الشخصية معها وهو يسألها بلطف:
_ بتفهمي في ايه بقى؟
اجابته بحماس:
_ ممكن اغسل مواعين، او اقدم طلبات، او احاسب الطربيذات.. مش عارفة، بس للاسف معرفش اوي في الطبخ.
هز رأسه بتفهم وهو يخبرها:
– بصي، انتِ وشاب معانا هنا هتكونوا مسؤولين عن قسم المشاريب، تعرفي فيه!؟
اومأت بتأكيد:
_ ايوه، أن شاء الله يعني.
_ عمومًا هيكون معاكِ بنت تانية بتحضر مشاريب برضو، هتعرفك الي ناقصك، والشاب ده…
صمت قليلاً لا يستوعب ما سيقوله حتى، لكنه مُجبر:
_ هياخد منكوا الطلبات ويقدمها للزباين.
همس بصوت منخفض لم يصل لها:
“وربنا يستر”
التمعت عيناها بفرحة لتسهيل الأمور هكذا، وقالت بامتنان:
_ شكرًا جدًا لحضرتك، هبدأ شغل امتى، وبعد اذنك حابة اعرف المرتب كام؟
قالت الأخيرة بحرج طفيف، لدومًا كانت حساسة فيما يتعلق بالأمور المادية، استمعت له يجيبها بما جعل الفرحة تدب في كل خلية بجسدها وهي تلتمس فرج الله أخيرًا:
_ المرتب مبدئيًا ٢٥٠٠ جنية، وفي حوافز وover time “ساعات إضافية” ، وكمان بعد ٣ شهور هيوصل المرتب الاساسي ل ٣٠٠٠، الشغل هيبدأ من دلوقتي عشان زي ما قولتلك عندنا عجز، ومواعيد العمل من ٥ العصر ل ٢ بليل.
لم تصدق كل ما تسمعه، هذا المرتب الكبير، وساعات العمل المناسبة تمامًا لها كي لا تضطر لترك العيادة، كل هذا جعلها في تخمة من السعادة، تغطت على وجهها الذي ابتسم لأول مرة منذ مدة لا تعلم عددها.
_ نص ساعة وهيكون باقي الstaff “الفريق” هنا، دلوقتي هستدعي الشاب الي قولتلك عليه عشان يعرفك على المكان والشغل بالضبط، وتتعرفوا على بعض كمان.
اختفت ابتسامتها وفركت كفيها بتوتر، كعادتها حين تبدأ بشيء جديد، لا تحبذ أبدًا تغيير الأماكن ولا الأشخاص، لا تحبذ بدأ علاقة جديدة او التعامل مع اشخاص جدد، والاسوء أنها تتوتر من التعرف على شخص جديد خصوصًا إن كان رجل! ولكن طبيعة العمل تفرض عليها هذا، ولأنها بحاجة ماسة له، لابد لها أن تتأقلم.
_________________
ابتسامة هادئة زينت ثغره حين أخبرته الممرضة بأن فتاة تنتظره في الاستقبال تدعى “جاسمين”، لابد من أنها جائت لتعلم منه حالة والدتها، تحرك بخطواته الثابتة حتى وصل إليها، فوجدها تجلس على أحد المقاعد وبيدها كوب قهوة وبجوارها يقبع الآخر، ابتسم باستنكار.. حقًا! هل قررت فعل هذا في المستشفى! يا لكرمها الزائد! طالعها بتروي وهو يشعر بغرابة لتحرر ثيابها لهذه الدرجة، ليس لأنه يرى هذا لأول مرة بل بالعكس هو يقابل من هن متحررات أكثر منها، لكنه فقط يشعر أن ما ترتديه ويبرز أنوثتها ومفاتنها هكذا لا يلائمها ولا يلائم برائتها التي يشعر بها، هز رأسه بعدم استحسان وهو يلقى نظرة أخيرة على ما ترتديه قبل أن يقف أمامها، فقد كانت ترتدي تنورة واسعة ذات الوان متعددة وصلت لركبتيها تمامًا، وفوقها كنزة بدون أكمام وفتحة صدر ليست هينة وتصل بالكاد لبداية التنورة، ورغم عدم استحسانه لكنه حدث نفسه ان الأمر ليس له دخل بهِ، لذا ابتسم وهو يلقي عليها التحية كي تنتبه له فقد كانت تصب جم تركيزها على الهاتف:
_ مساء الخير.
رفعت راسها بلهفة على صوته، لتظهر عيناها الرمادية الساحرة، لن ينكر فعيناها بها جمال لا يعقل، لا تراه إلا من قريب، وكأنها تهديه للقريبين فقط!
ابتسامة زينت ثغرها الجميلة واظهرت هاتان الحفرتان الجميلتان المزينتان لوجنتيها وهي تجيبه:
_ مساء النور، اتفضل يا دكتور.
جلس على المقعد المجاور لها وهمَ يمد يده ليتناول كوب القهوة الفائحة رائحته، لكنها اسرعت بجذبه بعيدًا وهي تخبره:
_ في بنا اتفاق، لو قولتلي حالة مامي هعزمك على قهوة، so، مش هتاخد القهوة غير لما اعرف عندك معلومة ولا لأ.
طالعها بعدم تصديق تحول لاشمئزاز وهو يحدقها بنظراته المستنكرة:
_ ايه يا بنتي التناكة دي! اومال لو مكنش كرمك الفظيع خلاكِ تعزميني في مستشفى حتى مش كافية كنتِ عملتِ ايه؟
ابتسمت بسماجة تجيبه:
_ كنت دفعتك تمن القهوة.
رفع حاجبيهِ باندهاش لا يصدق أن تلك الرقيقة بكل هذا البخل!
_ ها مامي عاملة ايه؟
رفع جانب شفته العليا باستهزاء وهو يجيبها بما جعل عيناها تتوسع بغيظ:
_ عاملة حلة محشي وعزماكِ عليها..
__________________
خرج من المطبخ بعدما دلف “طارق” له يخبره سريعًا بما حدث وبأنها الآن ترتدي الزي الخاص بالعمل وعليهِ الخروج للقائها، خرج “طارق” بعدها وتركه يتخبط في دوامة مشاعره، قلبه تكاد دقاته تتوقف من فرط الحماس والقلق، الرغبة والخوف، التردد والإقدام، كلها متناقضات تشتعل في داخله الآن، شهيق ثم زفير ثم شهيق آخر تلاه زفير آخر ثم…. لأكثر من عشرة مرات فعلها قبل أن يتشجع أخيرًا ويستجمع “مراد وهدان” الذي يعرفه الجميع، القادر بشدة على اخفاء مشاعره، ودفع باب المطبخ وخرج، في نفس اللحظة التي كانت هي تخرج للصالة بعد أن بدلت كنزتها بالكنزة الخاصة بالمطعم وخرجت لترى ذلك الشاب الذي أخبرها عنه المدير.
توقف لثانية واحدة ينظر لها ولأول مرة عيناها تواجه عيناه، يعلم انه استطاع التحكم في ملامح وجهه وجعلها عادية لا يظهر بها شيء، لكن ماذا يفعل في دقات قلبه التي يشعر أنها ستخترق قميصه وتخرج، يخشى أن تكن ظاهرة لمرأى قزحتيها السودويتان كسواد الليل الحالك، وعيناها الواسعتان كعين المها الجميلة، وهل ترك كل شيء وبات يتغزل في عينيها الآن! اقترب منها بخطى بدت ثابتة رغم حقيقة ارتجافها، حتى بات على مقربة منها فتسرب لأذنيهِ صوتها العذب يسأله بارتباك ملحوظ:
_ حضرتك الي هتعرفني الشغل؟
قُضي عليهِ الآن! من أين يأتي بالثبات بحق الله!؟ أينقصه أن يستمع لصوتها الرقيق أيضًا، والغريب أنه في نفس اللحظة استمع لصوت طفلته “ديجا” تلك الفتاة البريئة التي عذبت قلبه ببعدها، وكأن أذنه ربطت تلقائيًا بينهما! ابتلع ريقه بصعوبة قبل أن يبتسم لها بلطف وهو يجيبها:
_ ايوه انا، اسمك ايه؟
ما بها عيناه؟ لِمَ تشعر أنهما ليستا غريبتان؟ تشعر بالألفة تجاههما بشكل غريب! وكأنها… وكأنها تعرفهما من قبل؟ ولِمَ دقَ قلبها بهذه الطريقة حين طلَ عليها؟ ماذا يحدث لها؟ تشعر أن هذا الشخص يعني لها بطريقة ما تجهلها! ماهذه الحماقة؟ أنها تراه للتو ولأول مرة في حياتها، وهذا ما جعلها تتجاهل شعورها ونبضات قلبها التي تعرفت على نبضات قلبه، كأنها تطمئنه وتخبره أنها قد عرفته، وهي تجيبه :
_ خديجة.
اومئ برأسه وعيناه تلتهم ملامحها حرفيًا مستغلاً توترها الذي جعلها تخفض عيناها بعدما ظلت تنظر لعيناه لثواني قليلة، تمتم باسمها يستشعر حلاوته مع صورتها أمامه:
_ خديجة، نورتي المكان.
رفعت نظرها لوهلة له قبل أن تشيح بهِ بعيدًا ثانيًة كأنها تتفحص المكان وهي تغمغم:
_ منور بحضرتك.
اتاها صوته الحنون الدافئ، الذي لا تعرف كيف تعترف بدفئه وهي للتو عرفت صاحبه! أي جنون هذا؟
_ لا بلاش حضرتك والرسميات دي، احنا زمايل في الشغل وهنتعامل كتير مع بعض، فقوليلي باسمي عادي.
عادت ببصرها له وهي تسأله بارتباك مازال متحكم بها:
_ اسم حضرتك ايه؟
ابتسم ابتسامة هادئة تمامًا وهو يخبرها بثقة ونظره ذات مغزى:
_ زين…
اتسعت عيناها بعدم تصديق، ورددت بدون وعي منها:
_ انا بحب الإسم ده اوي.
كان هذا قبل أن تدرك ما تفوهت بهِ، فعضت شفتها السفلى بحرج وخجل وهي تشيح ببصرها عنهُ.
وهو كان يجيبها في داخل نفسه بأنه يعلم حبها لهذا الإسم!!
وجملتها منذُ إحدى عشر عامًا تلوح في أفق الذكريات وهي تقول ” انا بحب اسم زين اوي.. ولما يكون عندي بيبي زي مصطفى اخويا هسميه زين”
جملة خرجت من فتاة في السابعة وطُبعت في ذاكرة فتى في الثانية عشر من عمره، واستغلها الآن!
___________
وفي مكان آخر….
اغلق المأذون دفتره وهو يقول باعتيادية:
بارك الله لهما وبارك عليهما وجمع بينهما في خير، بالرفأ والبنين ان شاء الله.
….. انتهى البارت…..
___________
تتوقعوا كتب كتاب مين؟؟!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى