روايات

رواية بك أحيا الفصل الأول 1 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل الأول 1 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء الأول

رواية بك أحيا البارت الأول

رواية بك أحيا الحلقة الأولى

” إبليس حين أراد أن يثبت أفضليته تمرد وخرج عن طاعة الله لأنه رأى ذاته مميزًا فأراد أن يظل هكذا..
حين ترغب نعجة في أن تظهر ذاتها تشرد عن القطيع فتُسلط الأنظار عليها..
وإن أراد الممثل أن يلفت الأضواء ما عليهِ سوى الخروج عن النص …
ولأني ذكرت جنون “التميز”, دعوني أذكر جنون آخر يمكن أن يقودك لنفس الطريق ألا وهو ” التحرر”..
ولأنني ذكرت الجنون فحين أذكر التحرر سأذكر التحرر الجنوني الذي يأتي بعد كبتٍ قاسٍ, بعد أن كنت تفعل كل شيء صواب كما ذكره الكتاب, تفعل كل شيء خطأ كما لم يعرفه أحد من قبل.. كأسد جائع حُبس في قفص كريه لسنوات ثم كُتب له التحرر تُرى كيف ستكون حالته؟
وذِكري للتميز والتحرر لم يكن عبثًا, فكلا الشعورين كانا سببًا أساسيًا في نشأة “الشيطان الأول”..!!

————————-
منتصف مارس لعام ١٩٨٠…..

فتحت باب الشقة بوجهًا شاحبًا وهي تتلفت حولها بذعر, في حين تفتح الباب بكل حرص كي لا تصدر صوتًا يكشفهما, اتسعت عيناها حين ظهر شاب في مقتبل العشرينات يصعد درجات السلم, لتهمس شفتاها بحدة:
_ اخلص يلا, ده الي اتفقنا عليه يا حسن!

سئم وجهه وهو يدلف من باب الشقة مرددًا بضيق جلي:
_ هو احنا في حضانة! سهرت مع صحابي مفيهاش حاجة يعني.

أغلقت الباب بروية وهي توبخه:
_ أنتَ عارف طبع أبوك, وعارف أنه محدد مفيش تأخير بعد ٩.

ذم شفتيهِ حانقًا وقال بسخرية:
_ ٩ دي بنبقى لسه بنفكر هنخرج فين! ده أنا لو عيل عندي ١٥ سنه هتأخر عن كده.

وضعت سبابتها على فمها تلزمه الصمت:
_ هش, اسكت بقى وادخل غير ونام قبل أبوك ما يحس بينا.

_ ونعمة التربية, بقى بتداري عليه بدل ما تسمعيه كلمتين في عضمه على تأخيره!

انتفضا بذعر حين تهادى صوت والده لهما, ليضرب التوتر جسد الأم وهي تحاول النطق لتبرر فعلتها:
_ م.. ماهو أصل… هو يعني…

كانت ملامحه صلبه, تتجلى بها القسوة بوضوح, أب تقليدي يمثل نموذجًا للأب الذي يريد لكل شيء أن يسير بنظام دقيق, لا يوجد مجال للخطأ, ارستقراطي منمق, يهتم بمظهره بين العائلات الراقية التي تعد عائلته احدهن, لذا فهو متشدد لأبعد حد في تربية أولاده “حسن, ونبيل” فلن يسمح لأي منهما بأن يكون مثالاً للشاب الفاسد، سيء الخُلق.

بجموده المعهود كان يعقب:
_ عرفتِ ليه مبسمحش لكِ تتدخلي في تربيتهم! عشان أنتِ أم فاشلة, مش مهتمة بمصلحة عيالها, وفالحة بس تدلعيهم وتداري وراهم, كل مرة بتثبتيلي إن كان اختياري ليكِ غلط زي ما أمي كانت شايفة, كان لازم اختار واحدة قد المسؤولية وتقدر تشيل اسم عيلة “وهدان”.

أغمضت عيناها بسأم ووجع ف كالعادة من غيرها سيناله الجزء الأكبر من التوبيخ! وعن “حسن” فرغم خوفه من بطش أبيه الذي يدركه جيدًا وقلقه مما سينتهي إليهِ الأمر إلا أنه شعر بالحزن على والدته المسكينة التي لطالما تحملت هي الجزء الأكبر من كل شيء حتى العقاب أحيانًا.

استمع لجملة والده التي قرر بها انهاء النقاش:
_ رحلة أوروبا اتلغت, وبعد كده مشوفش عليك غير قمصان بدل المنظر المقرف ده.

وبالطبع لم يفوته التعليق على القميص الشبابي الذي يرتديه “تيشرت”, فلطالما تحكم في كل شيء يخصهما وعليهما التنفيذ دون جِدال.

اختفى من أمامهما ليتحرك “حسن” بعنف نحو غرفته ووالدته تتبعه, ما إن دلفَ الغرفة حتى خلع قميصه ملقيًا إياه أرضًا بهمجية لتعلم والدته أنه قد حان وقت انفجاره.

_ هو بيعمل معانا كده ليه؟ احنا مش صغيرين! بيتحكم في كل حاجة نلبس ايه وايه لأ, نخرج ولا منخرجش, نرجع امتى, ناكل ازاي, ونتكلم ازاي, نصاحب مين, ونقاطع مين.. ده ناقص يتحكم في النفس الي بنتنفسه!

وضعت كفها على فمه كي لا يصل صوته لوالده وهي تقول:
_ يابني وطي صوتك ليسمعك.

أزاح يدها بضيق وهو يقول بهياجٍ:
_ يسمع, مبقاش يهمني.

وللحقيقة هو كاذب كبير, فكيف لا يهمه وهو يرتعب منهُ! كيف لا يهمه وهو يرتجف أمامه حتى أنه لا يستطيع التحدث بطبيعية دون لجلجة! والده هو النقطة السوداء التي لا يستطيع تخطيها مهما كبر.

عاتبته وهي تقول:
_ ما أنتَ لو بس تعمل زي أخوك وتسمع الكلام.

اغتاظ أكثر ليصرخ بها:
_ أنا مش زي حد.. ومش هبقى تابع زيه, أنا أحسن منه, على الأقل بعبر عن شخصيتي مش ضعيف زيه.

هزت رأسها يائسة:
_ وهو أنجح, يمكن ضعيف, بس مع شخصية زي أبوك الضعف قوة, هو ضعيف فبيعمل كل الي أبوك بيقوله, في المقابل أبوك حابه وبيعمله الي هو عاوزه, وأخوك أهو بقى عنده شغل خاص بيه ومعاه فلوس حلوه بعيد عن أبوك, أنتَ بقى حياتك ايه؟ معاك ايه؟ ومستقبلك فين؟ أنتَ لدلوقتي مستني المصروف الي أبوك بيدهولك, ولما بيعاقبك ويقطعه بتلف حوالين نفسك.. مين بقى الذكي فيكوا؟

اشتعلت عيناه بالغضب وهو يسمعها تعدد مزايا شقيقه وما أصبح يملكه, ليضغط على أسنانه بقسوة وقال:
_ مهما حاول يعمل أنا برضو احسن منه, وبالنسبه لمستقبلي بكره تشوفي الفرق بيني وبينه.

طفرت عيناها بالدموع على الوضع البائس الذي تعيشه منذُ أكثر من عشرين عامًا مع زوجها ومؤخرًا أصبحت تقع في المنتصف بينه وبين أولادها, غمغمت بتعب:
_ مش عاوزه اشوف الفرق, أنا عاوزه ارتاح من المشاكل بينكوا وبينه, ارحموني بقى لوجه الله.

أنهت حديثها وانسحب من أمامه تبكي رثاءً على حياتها التي لم تنعم فيها بالراحة قط ومازالت الالام مستمرة.

رمى بجسده فوق الفراش ناظرًا لسقف الغرفة ليتصلب وجهه وتحتد عيناه وهو يردد لذاته:

_ بكره يعرفوا أنا اقدر اعمل ايه, وإني احسن من الكل.. بكره الباشا يعرف إن المكانة مش بس باسم العيلة ولا بكونه لواء, بكره يعرف إن الشاطر هو الي يخلق لنفسه مكانة بين الناس بشخصيته والاعيبه الخاصة.. تيجي بس الفرصة وأنا هدفع كل واحد استقل بيَّ في يوم التمن.

وكان وعدًا قطعه على ذاته في لحظة غضب, وحينها لم يكن يعرف سبيل الوفاء بوعده هذا, لكن القدر وضع أمامه فرصة من ذهب للوفاء بهذا الوعد بعد ثلاثة أعوام تحديدًا!!

—————————
أوائل نوفمبر لعام ١٩٨٥…

إن نظرت على الشقة وأنت واقف فوق الدرج المواجه لها لن تتخيل أبدًا أن من بالداخل تلقوا للتو خبر وفاة رب الأسرة أثر أزمة قلبية مفاجئة مكث على أثرها يومان فقط في المستشفى, وفي يومنا الثالث هذا توفته المنية! هذا السكون الغريب في موقف كهذا يثير بداخلك الكثير من التساؤلات حيال الأمر.. هل هدوئهم هذا من الصدمة؟ أم الميت لا يشكل أهمية لهم؟ هل يكنون له كرهًا كبيرًا لدرجة أنهم لم يحزنوا لوفاته؟

وبالانتقال لداخل الشقة التي دُون على بابها من الخارج من خلال يافطة صغيرة
” شقة اللواء/ منصور محمد وهدان”
وفي صالتها نجد باقي أفراد الاسرة المتمثلين في الأم, وحسن, ونبيل الذي يكبره بعامان فقط, كلاً منهم يجلس على كرسي منفرد وشارد! وخلف هذا الشرود أمور مبهمة, حتى نطق “حسن” بعدما وقف:
_ اعتقد المفروض نروح نستلمه وندفنه, ولا مش ناويين؟ أنا عن نفسي مش فارق معايا كتير.

رفعت والدته رأسها وعيناها قد مُلئت بالدموع الصامتة, وحدثته بصوتٍ خافتٍ يدل على ارهاقها أو عدم رغبتها في الحديث:
_ ميصحش الي بتقوله ده يا حسن, ده مهما عمل أبوك.

ابتسامة قاسية زينت ثغره وهو يحدقها بحدة قائلاً:
_ ابويا! انهي أب ده!؟ الي حرمني من البنت الوحيدة الي حبتها وراح لبس ابوها تهمة عشان يبعدها عني, ولا الي حرمني ادخل الكلية الي بحبها وقضى على حلمي؟ ولا يكون قصدك على ابويا الي بسببه قطعت علاقتي بصديق عمري؟ ولا الي كان بيتخانق معايا وبيضربني اكتر ما بيقولي صباح الخير؟ وليه كل ده, فاكره يوم جدي ما مات لما شافني بعيط عليه عمل ايه؟ فاكره هاني ازاي قدام الناس وضربني بالقلم مرعاش إني كان عندي عشرين سنة مش صغير وقالي أنتَ مش حُرمه! ده من كتر قسوته مزعلش على ابوه! دلوقتي عوزاني ازعل عليه؟ طب ليه؟ ده طول عمره لافف طوق حولين رقبتي منفكش غير دلوقتي.. أنا عمري ما اعتبرته ابويا ولا عندي أي مشاعر له.

هنا قرر شقيقه الهادئ, المطيع “نبيل” الخروج عن صمته معقبًا بضيق:
_ تزعل عليه عشان أنتَ إنسان, عشان مهما عمل هو أبوك, ميصحش برضو تتكلم عليه كده, هو كان بيعلم أي حاجة شايف فيها مصلحتك.

لم يكن عليهِ التحدث أبدًا, لم يكن عليهِ الدفاع عنهُ, فتدخله في الأمر جعل شياطين الجن تتراقص أمام أعين “حسن” الذي أحمر وجهه من فرط الغيظ وهو يهتف بحركات جسد متعصبة:
_ طبعًا لازم تدافع عنه, مش ابنه الحيلة, المفضل الي مش شايف غيره.. بس نصيحة مني بقى خليك في حالك عشان مزعلكش.

لم يُعجب “نبيل” بطريقته في الحديث خصوصًا حين رُسخت برأسه فكرة أنه الأكبر ولا يجب عليهِ السماح لشقيقه الأصغر بالتحدث معه هكذا دون احترام, فنهض قائلاً باحتجاج:
_ حسن متنساش إني أخوك الكبير, ثم أنا بتكلم في الصح.

وبهياج أكثر ردَ “حسن”:
_ وأنا مش عاوز اسمع منك حاجة, وأقولك مش أنتَ ابنه المفضل روح يلا وصله لمثواه الأخير, كده كده هو مش هيحب إني أكون موجود، زيي تمام.

انهى حديثه متجهًا صوب باب الشقة لتوقفه والدته متسائلة ببكاء:
_رايح فين يابني بس؟ استهدى بالله مينفعش الي بتعمله ده.

التف نصف التفاته وهو يردد بملامح كارهه:
_ استهدوا انتوا.. كفاية الزوجة المثالية الي بتعيط على جوزها, والابن المثالي الي هيروح يدفنه, أنا بقى مليش في حوارات الأفلام دي, هروح اقعد مع صحابي على القهوة.

انهى جملته وخرج دون الالتفات لحديث وصراخ والدته خلفه..

” القسوة حين تحتل القلب ستتحول بكل جوارحك لشيطان صغير, لن تجد الإنسانية طريقًا إليكَ لا في مواقفك ولا مشاعرك, القسوة من أكثر المشاعر القادرة على تدمير العلاقات بل وتحوليها لعلاقات مأساوية, ربما نتحمل الشخص العصبي, العنيف بعض الشيء, المتهور, أو حتى بارد المشاعر, ولكن الشخص القاسي قسوته تولد داخلنا شعور بالمقت له يزداد مع الوقت حتى يصل للذروة فينشأ جدار منيع بيننا وبينه يمنع عودة أي مشاعر جميلة تجاهه”

————————–
أوائل اغسطس لعام ٢٠٠٠…

ركض لوالدته التي تعد له عصير المانجو الطازج لكي ينعشهم في مثل هذا الجو شديد الحرارة, صعد على كرسي وُضع أسفل رخامة المطبخ العالية ليصبح الآن في طول والدته تقريبًا فقال بحماس طفولي:
_ عاوز ادوق المانجا قبل ما تعصريها.

نظرت لطفلها الشقي ذو الخمس سنوات, ورغم شقاوته إلا أنه يأسرها بحديثه وابتسامته وعيناه التي تجمع بين اللونين الأخضر والرمادي فأعطت مزيج رائع ورثه من والدها كلما نظرت له تتذكره فورًا وكم كان عزيزًا على قلبها فأزاد من عزية الصغير لديها, ابتسمت له بلطف وهي تقول:
_ عمرك ما هتبطل طباعك دي صح؟ كام مرة قولت أكل المانجا كتير غلط؟ مش لسه واكل الصبح.

وبفطنته المعتادة كان يقطب جبينه متسائلاً باستنكار:
_ يعني أكلها غلط وشربها صح؟!

رفعت حاجبها بتحدي وهي تقول:
_ صدق أنتَ صح يبقى لا أكل ولا شرب.

شهق بطفولة وهي يستمع لحديثها ثم قال بترجي:
_لا يا مامي بليز نفسي فيها.

وقبل أن يصدر منها ردة فعل كانت تستمع لصوت الباب يُفتح فعلمت أنه بالطبع قد أتى زوجها المصون, فتركت ما بيدها خارجة للصالة وخلفها الصغير الذي اتبعها بملامح عادية فهو لم يكن يومًا قريبًا لوالده بالشكل الذي يدفعه للتهليل حين يرى قدومه.

خرجت للصالة لتجده قد أتى بالفعل ولكن معه سيدة تبدو في أواخر العشرينات ومعها فتاتان أحدهما ربما في الثانية من عمرها والأخرى مازالت رضيعة تحملها والدتها يبدو أن عمرها لم يتخطى الشهر بعد.. ما إن أبصر “حسن” زوجته قد خرجت حتى قال بفظاظة:
_ دي الخدامة الي قولتلك عليها.

اغتاظت من اللفظ الذي نعته بكل غرور دون رفق بتلك السيدة التي نكست رأسها أرضًا بانكسار, فقالت بضيق:
_قولتلك مش محتاجة حد.

رفع منكبيهِ ببرود:
_ يمكن مش محتاجة هنا عشان في النهاية دي شقة حتى لو واسعة شوية, لكن احنا كمان يومين هننقل لفيلا اعتقد وقتها هتحتاجي.

اتسعت عيناها دهشًة وسألته:
_ هننقل لفيلا؟ بس أنتَ معرفتنيش قبل كده!

بملل ظهر بعيناه كان يجيبها:
_ مجتش مناسبة.

ارتفع صدرها من قوة تنفسها وهي تهتف من بين أنفاسه المتسارعة:
_ مجتش فرصة! وافرض مش عاوزه اسيب الشقة ومرتاحة فيها!

زفر أنفاسه بقوة متحليًا بكل ما لديهِ من صبر:
_ مش بمزاجنا مكانتي الاجتماعية بتحتم عليَّ أعيش في مكان مستواه اعلى من ده.

كادت تتحدث ثانيًة تخبره أنها لا تهتم لمكانته تلك التي تفرض عليهم أشياء لا يرغبونها, لكنه قاطعها بنظرة حادة:
_ خلاص يا ليلى الموضوع منتهي.

وصمتت “ليلى” فهي تعلم هذه اللهجة جيدًا بعدها لا يوجد مكان للمجادلات, ضغطت على ذاتها وهي تتقبل الوضع مُرغمه, وأردفت بتساؤل:
_ وعيالها؟

_ هي قالت أنها هتقدر تشتغل بيهم, عمومًا هنجربها أسبوع لو مش تمام في ألف غيرها, بس أنا اخترت دي عشان جوزها هيشتغل جنايني في الفيلا الجديدة وفيها اوضة في الجنينة قولت تبقى لهم.

تبعته السيدة وهي تقول سريعًا:
_ صدقيني يا هانم مش هتحسي بالعيال خالص ولا هأثر معاكوا في شيء.

زفرت “ليلى” بضيق مغمغمه:
_ أتمنى, اسمك ايه؟

ردت سريعًا:
_ دينا.

ألقت نظرة سريعة على الطفلتين وتسائلت:
_ وهما؟

أشارت “دينا” على الفتاة الواقفة جوارها وقالت:
_ دي سارة..

ثم أشارت على الرضيعة وهي تقول:
_ ودي خديجة.

اومأت “ليلى” برأسها وهي تعود أدراجها للداخل بعد أن قالت:
_ تعالي ورايا أوريكِ شغلك وكمان في اوضة جنب المطبخ تقدري تستخدميها لحد مانمشي.

وعلى الفور كانت تتبعها “دنيا” بتلهف على تلك الوظيفة التي تأمل أنها ستكون سبيلاً لرفع دخلهم.

ظل الصغير واقفًا محله تحت نظرات أبيهِ المتفحصة والذي تسائل:
_ عملت ايه مع الولد الي قولتلك عليه؟

ابتلع الصغير ريقه وهو يقول:
_ مبقتش اكلمه خلاص.

_ شاطر.

رددها ببرود, ليتشجع الصغير قليلاً ويسأله:
_ بس ليه حضرتك قولتلي اقطع علاقتي بيه, هو كان my best friend “صديقي المفضل” وكمان هو كان كويس وباباه ضابط زي مانا عاوز أكون لما اكبر.

اقترب خطوتان كبيرتان منه حتى أصبح أمامه تمامًا مما فزع الصغير قليلاً لينحني “حسن” ممسكًا بذراع الصغير بقوة غير مباليًا بضعفه, وهتف بنبرة قاسية:
_ قولتلك ميت مرة شيل حكاية الضابط من تفكيرك خالص, لا هتطلع ضابط ولا زفت, ولما اقولك تقطع علاقتك بحد تنفذ من غير نقاش سامع؟

لم يرد الصغير من خوفه فصرخ بهِ “حسن” وهو يهزه:
_ ساااامع؟ رُد..

وهنا انفجر الصغير باكيًا من ضغط والده عليهِ وقسوته, وبعد ثانيتين استمع لصوت منقذته وهي تهتف بعجالة قبل أن تجذبه بعيدًا عن أبيه:
_ في ايه يا مراد؟ مالك يا حسن بتزعقله كده ليه؟ ده لسه صغير!

استقام ناظرًا لها بجمود قبل أن يردف:
_ الواد ده هتبوظيه بدلعك, بس لكل شيء حد, وهييجي وقت اقولك ملكيش علاقة بتربيته خالص.

هزت رأسها بعدم استيعاب:
_ ده طفل!

التوى فمه متهكمًا:
_ من شبَ على شيء شاب عليه, ومش هقف اتفرج لحد ما يكبر ويكون شاب مستهتر ولا فرفور. (ترى أنرى حسن بالفعل أم والده الآن!! )

لم تعقب على حديثه يأسًا من إقناعه, ولم ينتظر أن تعقب أساسًا فانسحب من أمامهما, فهبطت لمستوى صغيرها واحتضنت وجهه قائلة بحنو:
_ حبيبي كفاية عياط بقى, معلش بابا عنده مشكله في الشغل عشان كده اتعصب عليك.

بشهقات متقطعة من بين بكاءه كان يجيبها:
_ هو على طول بيزعقلي.

ذمت شفتيها بحزن وقالت:
_ عشان على طول عنده مشاكل في الشغل, سوري يا حبيبي متزعلش.

بدأ يهدأ قليلاً لكن توقف عن البكاء تمامًا حين استمع لصوت صغير يشبه مواء القطط يبكي, ليكتم أنفاسه يستمع للصوت حتى مرَ عدة ثواني, فنظر لوالدته يسألها بتعجب:
_ هو ايه ده؟

ابتسمت له بهدوء:
_ البيبي بيعيط.

صمت لثانية واحدة قبل أن يردف بحماس:
_ ينفع اشوفها؟

مسدت على كتفه بحنو وهي تقول:
_ ينفع يا حبيبي روح.

ركض من أمامها متشوقًا لرؤية ذلك الكائن شديد الصِغر غير مدركًا أن هذه النظرة التي ستقع عليها ستفتح باب الشقاء.
وعنها فنظرت لأثره بضيق وحزن وهي تغمغم:
_ استغفر الله العظيم, ربنا يهديك يا حسن.

ونتائج القسوة شطرين, الشطر الأول أن الذي عانى من القسوة لا يسمح لغيره بأن يعيش نفس المعناة فيسعى جاهدًا أن يكون حنونًا قدر المستطاع.. وهذا انسان سوي!
والشطر الثاني أن يكن الأمر بالنسبة له مسألة انتقام, فيسعى لأن يذوق الجميع ما ذاقه.. وهذا إنسان اختلط الشر بدمائه! كحسن! الذي اطبع نهج والده وأسوء في تربية طفله!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى