روايات

رواية القاتل الراقي الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم سارة بركات

رواية القاتل الراقي الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم سارة بركات

رواية القاتل الراقي الجزء الرابع والعشرون

رواية القاتل الراقي البارت الرابع والعشرون

رواية القاتل الراقي الحلقة الرابعة والعشرون

الخاتمة
“براء”
كانت تصرخ بهيستيريا وهي ترى جثة زوجها تحترق أمامها ومايمنعها من الدخول هو الحرس الذين يبكون أيضًا عليه … أثناء صراخها وإنهيارها شعرت بمياة تخرج من أسفلها إرتعش جسدها وهي تنظر للمياه، رفعت رأسها لتنظر إلى جثة زوجها المُحترقة بالداخل..
مريم بهمس:”ياسين.”
رددت إسمه وبعدها خارت قواها، أما عماد كانت الدموع تهبط من مقلتيه دون توقف وهو ينظر للقصر الذي إلتمته النيران بالكامل، يشعر بعدم تصديق لما حدث وما رآه .. لقد مات ياسين! … مات طفله العزيز مرة أخرى … ولكن ذلك مختلف .. لقد مات طفله الذي ظل معه حوالي ثلاثون عامًا .. رحل عنه ولن يعود! … كان عماد في صدمة من موت ياسين، كان في مرحلة عدم التصديق … ينظر للنيران ولا يتحدث .. كل مايراه أمامه هو إحتراق جثة إبنه العزيز.. ولم ينتبه لسقوط مريم أرضًا … وصلت سيارات الإطفاء وخلفها الإسعاف .. تم إطفاء النيران بالكامل ولكن بعد أن إحترق كل شئ مع الأسف .. وحمل المُسعفون مريم وأخذوا عماد ليطمئنوا على صحته بالمشفى وأيضًا باقي الأشخاص الناجون من الحريق …. وصلت مريم للمشفى وهي غائبة عن الوعي وقام الأطباء بفحصها وجدوا أنها في المخاض لأن المياه التي تحيط الجنين قد نزلت بالكامل، جهزوا غرفة العمليات وبدأت عملية ولادتها … كان عماد موصولًا بالأجهزة في غرفته بالمشفى يبكي وهو يتذكر كيف إحترق ياسين أمامه .. لا يستطيع أن يصدق ذلك المشهد أبدًا يشعر أنه في كابوس .. يشعر أن قلبه يحترق لوفاة طفله …
عماد ببكاء:”يا رب صبرني وصبرها إحنا مكنش لينا غيره من بعدك.”
تذكر حديثه اليوم مع ياسين قبل وفاته بعدة ساعات …
بعد أن أغلق المكالمة الهاتفيه مع مريم بعدما رفضت العودة تفاجأ بياسين يدخل لغرفته …
عماد بتعجب لدخوله الغرفة:”نعم؟ في حاجة؟”
ياسين بإبتسامة هادئة:”ممكن نتكلم شوية؟”
نظر له عماد بإستفسار وإعتبر ياسين صمته هو الموافقة .. جلس ياسين على فراش عماد الذي إقترب منه بالمقابل بكرسيه المتحرك … كان ياسين ينظر أرضا بملامح هادئة .. إنتبه عندما إقترب عماد منه ..
عماد:”كنت عايز تقول إيه؟”
إبتسم ياسين بهدوء وتعجب عماد من إبتسامته .. أمسك ياسين بيده وضغط عليها برفق …
ياسين:”أنا مابعرفش أعبر عن مشاعري، بس كل إللي أقدر أقوله ليك، شكرا إنك دخلتني بيتك، وشكرا كمان إنك علمتني وصبرت عليا، شكرا ليك يا عماد، أنا عارف إني ماكنتش الإبن إللي تتمناه، بس أنا ممنون ليك على إللي إنت عملته عشاني، مش عايزك تزعل مني في يوم من الأيام على أي حاجة فاتت، أنا أكيد مكنش قصدي أأذيك.”
كان عماد يستمع لحديثه متعجبًا .. منذ متى ياسين يتحدث هكذا؟؟ .. هل هناك خطب ما؟؟
عماد:”إنت كويس؟”
ياسين بإبتسامة:”أنا بخير.”
عماد بإستفسار وعدم إستيعاب:”طب إنت بتقول الكلام ده ليه؟؟ أنا متعودتش منك على كده، إنت مش ياسين إللي أنا أعرفه.”
ياسين بإبتسامة:”كل إللي عايزك تعرفه إني بخير يا عماد، شكرا ليك مرة تانية.”
صمت قليلًا يبحث عن الكلمات ولكنه تفاجأ من تحدث عماد…
عماد:”أنا إللي آسف.”
نظر له ياسين بإستفسار .. شعر عماد أن دموعه ستهبط من مقلتيه …
عماد بإستئناف:”أنا آسف عشان أنا سيبتك تضيع، آسف عشان حاجات كتير انا ماكنتش قدها وهو إني أكون الأب المناسب ليك، أنا بس كنت خايف يا ياسين .. كنت خايف على مراتي وعلى نفسي وبيتي .. *هبطت الدموع من مقلتيه* … ونسيت إن إنت من أهل بيتي .. نسيت إنك إنت الإبن إللي دخلت ييه على مراتي، الإبن إللي كان ماسك في إيدي جامد كإني مصدر حماية ليه .. أنا آسف إني خذلتك .. آسف إني ماوقفتش جنبك … أنا كنت فاكرك بتتدلع عليا لما لقيت سلوكك مش مظبوط .. قولت طيش شباب، بس مكنش في دماغي خالص إنك محتاج مساعدتي يا ياسين … أنا كنت متوقع إنك خلاص عديت الصدمة دي ونسيتها .. بس مع الآسف إكتشفت ده بعد فوات الأوان بعد ما إنت قتلت جمال .. أنا ماحطتش نفسي مكانك .. أنا كنت أناني … أتمنى إنك تسامحني يابني … أتمنى إنك تسامحني ونبدأ صفحة جديدة سوا.”
إبتسم ياسين وهز رأسه موافقًا لحديثه إقترب عماد قليلًا منه وقام بضمه …
عماد:”سامحني يابني.”
إبتعد ياسين عنه وإبتسم بحزن ..
ياسين:”أتمنى إنك إنت إللي تسامحني.”
عماد:”أنا مسامحك يابني، مسامحك ومهما تعمل عمري ما أزعل منك أبدًا.”
ياسين:”ممكن أطلب منك طلب؟”
عماد بلهفة:”أطلب أي حاجة يا ياسين لو بإيدي أجبلك النجوم إللي في السماء كنت جبتهالك يابني.”
ياسين بإبتسامة هادئة:”محتاجك تبقى مع مريم دايما.”
حرك عماد رأسه بإستفسار …
ياسين بإستئناف لحديثه:”مريم حُبها ليا قوي شويه، فمحتاجك تفضل معاها وتقويها وتساعدها وتسندها، على الأقل تعوض إللي إنت معرفتش تعمله معايا وأنا صغير، ساعدها هي مكاني، هي محتاجاك أكتر مني.”
عماد بعدم فهم:”مش فاهم تقصد إيه؟ وبعدين مريم مالهاش غيرك بعد ربنا.”
حاول ياسين أن يُخفي حزنه الذي يكبر بداخله شيئًا فشيئًا حتى إلتمعت عيناه …
ياسين:”وصيتي ليك مريم وإبني.”
عماد بعدم فهم:”إنت بتقول الكلام ده ليه؟؟ إنت رايح فين؟”
ياسين بإبتسامة:”مش رايح في مكان، أنا بس كنت حابب إني أتكلم معاك شويه، وأظن إني خلصت كلامي، تصبح على خير.”
إستقام من فراشه وتركه في الغرفة وحده في حيرة من أمره … لماذا كان يتحدث ياسين هكذا؟؟ في الآونة الأخيرة قد إختفى ياسين وظل بغرفته … وذلك ما علمه من الخدم ولم يدري ما السبب حيث أن الحديث بينه وبين ياسين كان قليلًا .. برر عماد حديثه ذلك على أنه حزين لترك زوجته إياه ولم تعد حتى الآن …
في الوقت الحالي:
كان عماد يبكي بشدة عندما تذكر حديثهما .. كان ياسين يقوم بتوديعه … كان يعلم أنه سيموت .. لو كان يعلم أنه سيتحدث معه لآخر مرة كان سيقوم بإخباره العديد من الأشياء .. كان سيقوم بالتوضيح له كم أنه يحبه كثيرًا .. هو إبنه .. حتى وإن لم يكن والده الحقيقي؛ ولكنه عاش معه لما يقرب نص عمره تقريبًا … ظل يبكي بحسرة وندم على ما فاته في حياته مع ياسين، ويتمنى الآن أن يعود لكي يقوم بتعويضه عما عاشه سابقًا … ولكن كيف سيعود؟؟ لقد مات وذهب إلى خالقه … ظل عماد يبكي بحسرة على فقدانه إبنه العزيز على قلبه حتى وإن أظهر له الكُرهَ يومًا فكل ذلك من وراء قلبه .. حلَّ الصباح بعد ساعات من موت ياسين وبدأت الصُحف والجرائد تُعلن عن خبر اليوم “حريق بقصر ياسين المغربي والذي كان أحد ضحايا ذلك الحريق” … كان خبر مُحزن ومُفجع للبعض ومُفرح للبعض الآخر؛ فبموت ياسين المغربي يكون لهم فرصة في النجاح في الصفقات التي إنضم لها ياسين قبل موته … كانت مريم نائمة بسريرها بالمشفى تحلم بزوجها الذي ينبض قلبها بإسمه .. نائمة على ركبتيه في حديقة مليئة بالأزهار، يلعب بشعرها الأسود المموج وهي نائمة … قامت بفتح عينيها ونظرت في عينيه مباشرة ..
ياسين بإبتفسار:”كل ده نوم؟”
مريم:”أنا حلمت حلم وحش أوي، بس كويس إنك موجود جنبي ومعايا، ماتبعدش عني أبدًا، أنا ماصدقت إن إحنا بقينا سوا من غير أي قيود.”
إبتسم بهدوء ثم أردف …
ياسين:”كنت بتمنى إنك تكوني سعيدة معايا، بس أنا للأسف ماقدرتش أسعدك.”
إعتدلت مريم في جلستها ونظرت في عمق عينيه …
مريم:”أنا سعيدة طول مانت معايا وجنبي، المهم إنك ماتسبنيش.”
ياسين:”أنا آسف يا مريم.”
هبطت الدموع من مقلتيها ولا تدري ما السبب .. ولكنها تفاجأت بإختفاءه وإستيقظت من حلمها والدموع تهبط من مقلتيها ووجدت نفسها بغرفة بيضاء والأجهزة موصولة بجسدها وتشعر بألم لا تدري ما سببه .. نظرت لبطنها والذي قل انتفاخه قليلًا … وهنا أدركت شيئًا واحدًا … لقد كان كل ما عاشته حقيقة وأن ياسين قد مات! … هزت رأسها بهيستيريا لا يجب أن يكون ذلك حقيقيًا .. هي بداخل كابوس بالتأكيد ..حاولت أن تعتدل في الفراش ولكنها شعرت بألم شديد مكانه أسفل بطنها .. وفي ذات الوقت دلفت بعض الممرضات للغرفة ليجدوها على حالتها تلك .. تحدثت إحدى الممرضات ..
؟؟:”براحة، إنتي لسه والدة .. وجرح الولادة القيصري تاعبك .. ماتقلقيش كلها أسبوع وهتبقي أحسن.”
نظرت لهم مريم بتيه وكادت أن تتحدث .. تحدث ممرضة أخرى ..
$$:”البيبي هنجيبه ليكي في خلال ساعة إحنا بس بنطمن عليه.”
هزت مريم رأسها بنفي وهي تنظر لهم …
مريم:”أنا عايزة جوزي .. ياسين .. هو فين؟”
تحولت ملامحهم للحزن لا يدرون كيف يخبرونها أن ياسين المغربي قد توفى .. حيث أن الحزن خيَّمَ على المشفى منذ أن علموا بالخبر .. يبدو أنها لا تصدق أنه مات وهي بالتأكيد حضرت ذلك الحادث الأليم الذي تتحدث عنه كل القنوات الإخباريه في الوقت الحالي … إنتفضوا على إثر صراخها ..
مريم بصراخ:”ردوا عليا ساكتين ليه؟؟ ياسين فين؟؟؟!!”
ظلت تبكي وهي تنظر إليهن لعل واحدة منهن تجيبها وتنفي ما رأته هي … ولكنها انهارت أكثر عندما تحدثت الممرضة بأسف …
؟؟ بحزن:”البقاء لله، ياسين بيه توفى وجثته في المشرحة.”
تمزق قلبها وبكت بشدة عندما سمعت تلك الجملة … لقد مات!!! .. تركها وحيدة في ذلك العالم المُخيف… تركها كما تركتها عائلتها .. صرخت بإسمه ببكاء وحاولت الممرضات أن يقمن بإعطائها مهدئ لكي تهدأ ولكنها رفضت ..
مريم ببكاء:”لا … لا .. أنا عايزة أشوفه .. محتاجة أشوفه.”
نظرت الممرضات لبعضهن ولكنهمن صمتن ..
مريم ببكاء:”ساكتين ليه؟؟ أنا محتاجه أشوفه .. أرجوكم، محتاجه أشوف جوزي … أودعه.”
إقتربن يساعدنها في الوقوف وأتت إحداهن بكرسي متحرك لها .. جلست عليه وأمسكت إحداهما بمقبض الكرسي تحركه في إتجاه غرفة التشريح … دخلت الغرفة والتي كان بداخلها جثتين مغطتان بملائة بيضاء … نظر طبيب المشرحة نحو زوجة مالك المشفى بحزن ثم أزاح الغطاء الأبيض عن وجه جثة ياسين .. ثم خرج وخرجت خلفه الممرضات وتركن مريم بالغرفة وحدها .. حركت الكرسي نحو جثته وهنا رأته وجهه به بعض الجروح ولكنها أكيد ستُشفى صحيح؟ .. مدت يدها نحو الجهة الغير محترقة في وجهه وبدأت بالبكاء لتستوعب أنه مات بالفعل! … مدت يدها أسفل الغطاء وأمسكت بيده المحترقة تُقبِلها وهي تبكي، كانت يده سوداء كالفحم؛ فما بال باقي جسده، انهارت من البكاء ثم نظرت إليه وبدأت بالتحدث …
مريم ببكاء:”ليه؟ ليه تسيبني لوحدي؟ أنا قولتلك قبل كده إني بحبك وإني ماليش غيرك؛ فليه تعمل معايا أنا كده؟؟ … أنا حبيتك من كل قلبي يا ياسين … حبيتك من صُغري من غير ما أعرفك .. قلبي إتعلق بأمل وهو إني هقابلك في يوم من الأيام .. قلبي إتعلق بيك إنت .. أنا عارفة إن في مشاكل واجهتنا كتير بس إحنا كنا قدها، أنا اه كنت بزعل بس لا .. إحنا كنا بنرجع … والمفروض نرجع دلوقتي صح؟؟ .. يعني أنا وإنت لسه كنا متصالحين سوا من كام ساعة، المفروض دلوقتي إني أكون في حضنك ومايبقاش ده حالي … المفروض إننا نكون بنضحك سوا على الأقل .. نخلق السعادة الخاصة بينا إحنا .. السعادة إللي أنا وإنت لسه ماعشنهاش … كان بإيدينا إن إحنا نكوِّن عيلة جميلة بس أنا غلطانة … أنا إللي كنت بزعل منك وببعد دايمًا .. بس أنا ندمانه وبتمنى إنك تسامحني … بتمنى إني ماكنتش غبت عنك الشهور دي كلها … بتمنى إني عشت معاك كل إللي فاتنا … إحنا قصتنا لسه ماتكتبتش يا ياسين … إحنا قصتنا كانت بداية سطورها عبارة عن لحظات وياريتها لحظات سعيدة .. كانت لحظات مؤلمة لينا إحنا الإتنين .. كان المفروض إحنا نعمل لحظات سعيدة لينا إحنا … أنا كنت مستعدة إني أعيش معاك تحت أي ظرف … المهم إنك تكون جنبي .. انا ببعدي عنك إكتشفت إني ماقدرش أعيش من غيرك يا حبيبي، عشان كده رجعت قبل ماتموت بدقايق .. رجعت وأنا قلبي واجعني عليك وماقدرش على بُعدك .. انا آسفة .. أنا محتاجاك تسامحني .. وأنا مسامحاك وهفضل أحبك عمري كله … هفضل دايما أفكر فيك .. هتفضل دايما شاغل بالي وتفكيري .. هتفضل إنت الحبيب الأول والأخير .. إنت كل حياتي يا ياسين .. ومن غيرك حياتي مالهاش أي معنى .. أنا من بعدك بقيت يتيمة خلاص .. من بعدك مباقتش عارفة أنا عايشه ليه؟ … أنا مش عارفة أعمل إيه؟؟ .. هعيش إزاي من بعدك؟؟؟ .. كنت بتمنى أعيش معاك لحظات زيادة .. كنت بتمنى إني إحضنك أكتر قبل ما تموت يا حبيبي.”
إقتربت بوجهها من وجهه وقبلت شفتيه قُبلةً سطحية …
مريم ببكاء:”أنا بحبك.”
ملست على الجهة الغير محترقة ..
مريم:”هتوحشني، وهفضل أتمنى أشوفك في أحلامي زي ماكان بيحصل من قبل ما أقابلك .. هتفضل إنت ملك كل أحلامي.”
قبلت يده مرة أخرى وأعادتها حيث كانت وقامت بتغطية وجهه وبكت بشدة لفعلها ذلك … تتمنى أن يحتضنها ياسين في تلك اللحظة ليقوم بتهدئتها ولكنه لم يعد موجودًا … بكت أكثر بسبب ذلك … نظرت لجثته القابعة أسفل الغطاء وتتمنى لو تنام بأحضانه لكي تطمئن وتهدأ قليلًا .. مدت جسدها قليلًا للأمام وأسندت رأسها على صدرة لعلها تطمئن وقد إطمأنت وغطت في نوم عميق متناسية أنها بمشرحةٍ للجثث .. بعد مرور وقت ليس بقصير .. دخل الطبيب لغرفة المشرحة ووجدها نائمة مستندة برأسها على صدر زوجها لقد كان مظهرها يمزق قلب من ينظر إليها .. قرر الطبيب أن يقوم بإيقاظها …
؟؟:”مدام مريم.”
كانت نائمة بهدوء وإطمئنان ولا تشعر بأي شئ حولها … إقترب الطبيب أكثر ووضع يده على كتفها ..
؟؟::”مدام … إصحي.”
قامت مريم بفتح عينيها بنعاس وهي تنظر للطبيب الذي أردف بهدوء …
؟؟:”حضرتك نمتي هنا .. وماينفعش تنامي في مكان زي ده.”
نظرت حولها لتستوعب أنها في مشرحة الجثث .. هزت رأسها وقامت بسؤاله ..
مريم:”ياسين كان المفروض بيخرج من القصر وقتها إيه إللي حصله خلاه يقع عشان يتحرق.”
قالت تلك الكلمة بصعوبة وهي تنظر للطبيب الذي يشعر بالأسف على حالها … أجاب الطبيب على سؤالها …
؟؟:”ياسين بيه مات قبل ما يتحرق .. إستنشق كتير من سموم دخان النار وده إللي خلاه فقد التنفس ووقع.”
أغمضت عينيها وذرفت الدموع مرة أخرى حزنًا على وفاته … قام الطبيب بالمناداة على الممرضات ليأخذوها إلى غرفتها … بعد مرور وقت قصير كانت تجلس بسريرها الصغير تبكي على وفاته .. لا تصدق أنها ستعيش يوما وهي تعلم أنهما لن يتقابلا مجددًا … كانت دائمًا في كل وقت وحين تثق تمام الثقة أنهما سيتقابلان وستتشاجر معه، لكن الآن ذلك لن يحدث مطلقًا … إنتبهت على دخول إحدى الممرضات وهي تقوم بجرِّ سرير صغير أمامها ..
؟؟:”إتفضلي، إبنك أهوه.”
نظرت مريم للمولود النائم بالفراش وهنا شعرت بشئ غريب .. دق قلبها بشدة عندما رأته كما كان يدُّقُ عندما تنظر في عيني زوجها … شعرت أن ياسين لم يبتعد عنها .. إقتربت مريم نحوه بهدوء وحملته بين يديها … لقد كان صغيرًا جدا .. لا تدري ما سر الراحة العجيبة التي شعرت بها وهي تحمله كأن ياسين موجود معها في تلك الغرفة .. نظرت حولها ولكنه غيرموجود ولكنها تشعر بوجوده بداخلها .. إستيقظ الطفل الصغير وفتح عينيه السوداوتين الشبيهة بأعين والده وهنا إبتسمت مريم وهبطت الدموع من مقلتيها وهي تنظر في عمق عينيه .. إنتبهت عندما تحدثت الممرضة …
؟؟:”بسم الله ماشاء الله .. زي القمر .. قررتي تسميه إيه؟”
إبتسمت مريم وهي تنظر في عينيه البريئتين ..
مريم:”براء .. هسميه براء.”
؟؟:”إسم على مسمى، ربنا يباركلك فيه.”
مريم:”آمين.”
عادت لتنظر في أعين طفلها الهادئ وقامت بتقبيل مقدمة رأسه وإبتسمت له مرة أخرى ..
مريم بهمس:”براء ياسين المغربي.”
إنتبهت لصوت باب غرفتها الذي يُفتح ووجدت عماد يدخل الغرفة بكرسي متحرك تجره إحدى الممرضات .. كان عماد يبكي وهو ينظر لمريم ولكنه إنتبه للطفل الذي تحمله بين يديها …
مريم بإبتسامة:”عماد .. تعالى شوف براء.”
إقترب عماد أكثر وحمل الطفل بين يديه ونظر له وإبتسم وهو يبكي ..
عماد:”واخد عيون باباه، وملامحه .. تقريبا واخد كل حاجة.”
هزت مريم رأسها وهي تبكي … قبل عماد مقدمة رأس براء ونظر له بأمل .. الآن قد فهم حديث ياسين … كان يُخبره أن يفعل مع إبنه مالم يفعله معه .. لقد رزقه الله ب “براءٍ” آخر ليعوضه عما لم يفعله مع والده .. سيكون له الجد الحكيم المُحِبُ لهُ كثيرًا … خرجت مريم ومعها عماد وطفلها من المشفى وقاما بتحضير جنازة ياسين والتي كان جنازة مُهيبة حضرها أغلب رجال الأعمال الذين كانوا يجتمعون معه دائما وأيضًا حضرها الصحافة وأغلب الشخصيات المهمة ذات المنصب العالي بالبلد .. وحضرها أيضًا مؤسسي ومدراء بعض الجمعيات الخيرية وأيضًا بعض المشايخ المعروفين مما زاد تعجب مريم وعماد أكثر .. وبعد مرورأسبوعٍ على جنازة ياسين .. كانت أشرقت تنظر لمريم بحزن وهي تحمل براء بين يديها تُطعِمُه لأن الحزن لم ولن يرحل عن صديقتها أبدًا ..
أشرقت:”محتاجة أساعدك في حاجة يا مريم؟”
هزت مريم رأسها بالنفي وهي تُطعم ابنها ..
أشرقت:”مش هتيجي طيب تقعدي معايا اليومين دول؟ ولو كده عماد برده ييجي معاكي.”
مريم وهي تنظر إليها:”لا، أنا حابه أقعد هنا.”
نظرت مريم حولها؛ فقد عادت لشقتها التي كانت تقطن بها للإيجار أثناء فراقهم هي وياسين في المرة الأولى .. والتي علمت بعد ذلك أنها مُلكه منذ البداية .. إبتسمت على ذكراها تلك؛ فقد كان هناك بعض الذكريات بينها وبين ياسين في تلك الشقة .. عندما قام بحبسها في غرفتها لكي لا تخرج وتُخبرُ الشرطةَ أنه قاتل .. وأيضًا عندما قام بإعداد الطعام لها في ذلك اليوم … كم تتمنى أن تعود تلك الأيام مرة أخرى .. تتمنى لو يعود ويصنعان ذكريات جديدة سويًا … هبطت الدموع من مقلتيها وإنتبهت لطفلها الذي قد إنتهي من تناول الطعام ولم يَعُد جائعًا، ظل ينظر لها بعينيه السوداوتين الناعستين حتى إستسلم للنوم ..
أشرقت:”مريم أنا مقدرة إنك تعبانة نفسيًا .. بس إنتي محتاجة تغيري جو و……..”
قطع حديثها صوت دقات على باب الشقة … تنهدت أشرقت وإستقامت من مقعدها وذهبت لتفتح الباب لتُفاجأ برجل أربعيني يقف قبالتها يرتدي حُلَّةٌ سوداء ويحمل بيده حقيبة سوداء ضخمة …
أشرقت بإستفسار:”مين حضرتك؟”
؟؟:”أنا محامي ياسين بيه الله يرحمه، أنا كنت جاي لمدام مريم، هي موجودة؟؟”
أشرقت:”لحظة.”
تركته أشرقت وعادت لمريم ..
أشرقت:”في حد بره بيقول إنه محامي جوزك، أدخله؟”
هزت مريم رأسها وإعتدلت ..عادت أشرقت للرجل مرة أخرى ..
أشرقت:”إتفضل.”
دلف الرجل للشقة ونظر لمريم التي تقف وهي تحمل طفلها الرضيع بين يديها .. إتجه المحامي نحوها بإبتسامة رسمية ..
؟؟:”صباح الخير يا مدام، أنا صلاح محامي ياسين بيه المغربي .. أنا جاي لحضرتك عشان أتكلم في الوصية بس طبعا هحتاج عماد بيه يكون موجود.”
مريم:”حاضر ..*نظرت لأشرقت* .. معلش ممكن تجيبي عماد؟”
هزت أشرقت رأسها وذهبت لغرفة عماد الذي يجلس على كرسيه المتحرك وينظر للنافذة بشرود ..
مريم لصلاح:”إتفضل.”
جلس صلاح وجلست مريم هي الأخري قبالتها وعادت أشرقت وهي تجر كرسي عماد أمامها …
عماد لصلاح:”أهلا بحضرتك .. إتفضل.”
أخرج صلاح بعض الأوراق من الحقيبة السوداء الضخمة والتي حتى الآن لا يعرفون سبب ضخامتها تلك .. فهو يحمل أوراقًا قليلة فقط ..
صلاح بتنهيدة:”طبعا كل حد فيكم ليه نصيب ياسين بيه حدده قبل ما يتوفى وده طبعا من خلال وصية هو كتبها بإيده قبل مايموت بأيام .. نبدأ ونقول بسم الله.”
نظر صلاح للورقة التي بيده وبدأ بالتحدث ..
صلاح:”أوصي أنا .. ياسين المغربي بعد وفاتي أن ترحل كل أموالي و ممتلكاتي إلى كلاً من .. والدي عماد الرجل الذي آواني في بيته وزوجتي وحبيبة قلبي مريم أحمد سعيد هنداوي .. *هبطت الدموع من مقلتيها عندما سمعت حديثه عنها في الوصية* .. وولدي العزيز الذي يحمل إسمي .. على أن تكون الممتلكات بينهم مقسمة بنسبة متساوية وهي خمسة وعشرون بالمائة لكلا من والدي وزوجتي أما بالنسبة لبُنيَّ فهو يرث الباقي أي خمسون بالمائة من تركتي .. وأملاكي عبارة عن .. قصرين بالقاهرة وفيلا بالإسكندرية و شركتي الأم بفروعها الأربعة ودار أيتام ومشفى خيري وجراجٌ ملئٌ بالسيارات .. أما بالنسبة للمشفى الخاص فهي لم تَعُد ملكي حيث قُمتُ بكتابتها على إسم زوجتي العزيزة .. حيث أنها مالكة المشفى قبل أن يتوفاني الله .. إدعوا لي وسامحوني وكونوا على علم أني أُحبكم جميعًا.”
“رواية/ القاتل الراقي .. بقلم / سارة بركات”
أغلق صلاح الوصية ونظر لمريم وعماد اللذان يبكيان وتحدث بهدوء ..
صلاح:”ياسين بيه حاول يطبق العدل في الوصية، أي نعم حضرتك يا أ/ عماد مش والده الحقيقي لكنه إعتبرك كده لإنك إنت إللي ربيته .. *نظر لمريم التي تنظر له في المقابل وهي تبكي* … في بس ملحوظة حابب أتكلم فيها، طبعا القصر إللي كنتوا فيه إتحرق بس المكان نفسه لسه موجود فطبعا مش هنستبعده من الوصية بالنسبة لدار الأيتام والمستشفى الخيرية .. المنشأتين دول بياخدوا 50% من الأرباح السنوية بتاعة المستشفى الخاصة والشركة وياسين بيه كان دايما حريص على كده وبما إن المستشفى باقت بتاعة حضرتك فأعتقد كده هياخدوا فلوس بس من الشركة و….”
مريم مقاطعة إياه:”زي ماحنا .. نص أرباح المستشفى هتروح للمنشآت الخيرية دي .. مافيش حاجة هتتغير.”
صلاح بإبتسامة:”شكرا ليكي .. ياسين بيه كان عارف إنك هتعملي كده، وعموما وقت ماتحتاجي حاجة أنا موجود تقدري ترجعيلي في أي وقت وده رقمي.”
أعطاها رقم هاتفه ثم تنهد ونظر للحقيبة ..
صلاح لمريم:”قبل ما أمشي .. في حاجة أخيرة ياسين بيه كان سايبها لحضرتك.”
تابعته مريم بأعينها وهو يُقَرِّب الحقيبة السوداء الضخمة نحوها ..
صلاح:”الشنطة دي خاصة بياسين بيه، كل محتوياتها باقت بتاعتك خلاص.”
إعتدل صلاح وتنهد بعمق وقام ضبط سُترة حُلته ..
صلاح:”أستأذن أنا عشان متأخر.”
أشرقت:”طب الشاي طيب؟ حضرتك ماشربتش حاجة.”
صلاح بإبتسامة:”وقت تاني إن شاء الله.”
مريم بهدوء وهي تتدخل:”مايصحش .. حضرتك اتفضل إشرب حاجة قبل ما تمشي.”
صلاح بإعتذار:”أنا آسف، بس أنا فعلا متأخر ورايا ميعاد في المحكمة دلوقتي.”
مريم بتنهيدة:”تمام، مافيش مشكلة .. *وجهت حديثها لأشرقت* معلش يا روحي وصليه عند الباب.”
صلاح:”مافيش داعي.”
أشرقت:”لا إسمحلي.”
هز صلاح رأسه وتبع أشرقت للباب ..
أشرقت بإبتسامة وهي تقوم بفتح الباب:”نورتنا يا متر.”
صلاح بإبتسامة:”ده نورك يا …..*عقد حاجبيه بإستفسار* … إسمك إيه؟”
أشرقت بإبتسامة:”إسمي أشرقت.”
صلاح وهو ينظر في عمق عينيها:”إسمك جميل يا أشرقت.”
تاهت في عُمق عينيه هي الأخرى وظلت هكذا للحظات ولكنه صلاح إستفاق على صوت رنين هاتفه ..
صلاح بحمحمة:”بعتذر جدا، مضطر أمشي، شكرا ليكي.”
خرج من الشقة أما هي نظرت في خُطاه ولكنها تفاجأت بمن وقف أمامها وهو أحد رجال ياسين …
أشرقت:”أفندم؟”
؟؟:”جاي لمريم هانم.”
أشرقت:”إتفضل.”
دلف الرجل للداخل ونظرت له مريم بإستفسار ..
؟؟:”إحنا تابعنا موضوع الرجالة إللي ساعدوا الدكتور طارق في إنهم يحرقوا القصر وخلاص هما إتسجنوا .. بالنسبة لأخت الدكتور بلقيس هانم، إنهارت في عزا أخوها وإتنقلت لمصحة نفسية وعيِّنا دكتورة نفسية ترعاها، أي حاجة تؤمريني بيها تاني؟”
تنهدت مريم ثم إبتسمت له ..
مريم:”خلاص كده، ده آخر يوم ليكم معايا.”
؟؟:”بس إحنا على عهدنا مع ياسين بيه إننا هنفضل معاه دايما وهنحمي إللي بيهتم بيهم.”
مريم:”وإنتوا كده عملتوا إللي عليكم وزيادة شكرا ليكم.”
نظر لها الرجل بتشتت .. حاولت أن تقوم بالتوضيح وفي ذات الوقت تُخفي حزنها ..
مريم:”ياسين خلاص مات، ومع موته خلاص العهد إنتهى .. تقدروا كل واحد يعيش حياته ويشوف وظيفة تانية أحسن من دي بكتير .. تقدروا تعيشوا مرتاحين من غير أعباء على أكتافكم … أنا عارفة إن شغلكم مكنش سهل .. بس حان وقت الراحة .. كل واحد يشوف الشغلانه إللي تناسبه، بلغ كل الحرس إن خلاص ياسين المغربي مات مبقاش في داعي إنهم يكونوا موجودين.”
هز الرجل رأسه لها بحزن ورحل .. أما هي تنهدت بإرهاق وحزن ..
أشرقت:”بتقطعي أكل عيش الناس ليه؟؟”
مريم:”لازم كل واحد فيهم يشوف وظيفة تانية أحسن من دي .. وأكيد أنا مش محتاجة حراسة وكل واحد هييجي وقته *هبطت الدموع من مقلتيها* زي ما ياسين جه وقته وماحدش عرف ينقذه.”
قامت أشرقت بضمها بقوة تُربِت على ظهرها بحنو …
أشرقت:”راح للي أحسن مني ومنك ماتزعليش يا مريم، هو أكيد في مكان أحسن من هنا.”
مريم ببكاء:”أتمنى.”
إستفاقت مريم على صوت بكاء طفلها .. إستدارت للخلف ووجدت عماد يحاول تهدأته ولكنه لم يستطع …
مريم لعماد:”تلاقيه جعان تاني .. هأكله.”
توجهت بنظرها نحو حقيبة ياسين السوداء ولكنها إنتبهت لطفلها الصغير وأخذته من يدي عماد لتحمله بين يديها .. أما بالنسبة لأشرقت فقد ساعدت عماد ليعود إلى غرفته لأنه يشعر بالإرهاق قليلًا .. جلست تُطعم طفلها مرة أخرى وهي تنظر للحقيبة السوداء بفضول .. وبعد أن إنتهت ونام طفلها مرة أخرى وضعته بالأريكة وقامت بفتح الحقيبة .. وجدت بها عددًا كبيرًا من الدفاتر السوداء، تذكرت في تلك اللحظة أنها قد دخلت غرفة مكتبه ووجدته يدونُ شيئًا في دفترٍ أسود اللون .. قررت أن تحمل دفترًا من بينهم وتقرأ ما به .. فتحت الصفحة الأولى وهبطت الدموع من مقتليها عندما رأت خط يده الذي تحفظه جيدًا عن ظهرِ قلبٍ … بدأت بقراءة سطور الدفتر الأولى ..
“تلك الفتاة التي أنقذتها من حافة الطريق المُظلم، إتضح أنها أخصائية نفسية، عندما كنت أتحدث معها في يومٍ ما في المشفى وأعرض عليها أن تبدأ من جديد وسأساعدها بإمتلاكها شقة .. وقتها سألت عن إصراري في مساعدتي إياها؟؟ .. أنا وقتها لم أكن أعلم السبب .. ولكن كل ما رأيته في مخيلتي هي والدتي .. والدتي التي أغتُصِبَت أمام عيني .. رأت تلك الفتاة والتي تُدعى سارة الحزن في عيني .. وعلمت أني أُخفي الكثير بداخلي .. وأخبرتني بشئ هو أن أدون كل ما أشعر به وكل ما أعيش في دفتر .. وقد ساعدني ذلك قليلًا .. أردت أن أشكرها على ذلك فقمت بشراء شقة لها وتوالت زياراتي لها لأجعلها تساعدني في حالتي دون أن تعلم أنها تساعدُ مريضًا نفسيًا يُريد العلاج وذلك من خلال حديثنا المستمر عن الحياة وكيف أنها تخطت حُزنها فيما حدث لها … ظللت أقوم بزيارتها بإستمرار حتى وقعنا في الخطأ دون أن نقصد، فهي كانت تبكي لما فعلناه وكانت تُخبرني أن أتركها وشأنها، ولكن أنا لا أقبل بذلك مُطلقًا .. لذلك قررت أن أمنحها فرصة وأمنح نفسي فرصة أيضًا .. سأقوم بشراء خاتمٍ لها لكي أتزوجها…”
قلبت مريم صفحات الدفتر وهي تقرأ عن قصة ياسين وأختها ورأت ذاك التاريخ … يوم موت أختها ووالدتها …
“كنتُ أجلس في سيارتي أنظر لذلك الخاتم الماسي الرائع الموجود في عُلبته وذلك بعد أن قُمت بإختياره بعناية .. ولكني إنتبهت على صوت وصول رسالة على هاتفي .. وتفاجأت بتلك الرسالة فقد كانت عبارة عن تسجيل صوتي .. ولكن!.. كان بصوتها هي .. وهي تخبرهم أنها ستساعدهم على قتلي .. شعرت بأنني أحمق .. لقد تم خداعي من قِبَلِ تلك الفتاة! .. الفتاة التي رأيت فيها أُمِّي والتي مع الأسف لم أعد أراها بها الآن .. ماكانت والدتي ستخون والدي بهذا الشكل………….”
قلبت مريم بالصفحات حتى توقفت على تلك الجملة ..
“لا أحد يستحق الثقة … حتى السيدات.”
تركت مريم ذلك الدفتر وحملت دفترًا آخر وكان ياسين يحكي به عن قتله لبعض رجال الأعمال بسبب أنه رأي جمال بهم.. قرأت دفتر يليه دفترٌ آخر دون أن تنتبه للوقت الذي يمضي ولم تشعر حتى أن أشرقت قد خرجت من الشقة ظلت هكذا حتى توقفت عند دفتر جعلها تبكي ..
“لم يشعر بي أحد، جميعهم ظلموني .. كُنتُ وحيدًا مُنذٌ طفولتي وما زلتُ وحيدًا، لم يشعر بي عماد وزوجته .. كل ماكانا يريدانه هو أن يعود طفلهم مرة أخرى .. لم يروا صُراخي ولا طلبي لنجدتهم .. لم يروا أي شئ .. حتى تصرفاتي لم تُعجبهم لأنهم يصدقون أن ابنهم الراحل لن يفعل تلك التصرفات ابدًا … لم يروا ولم يفهموا أني شخص آخر مختلف عنه”
نظرت مريم لدفترٍ آخر …
“أريد تحقيق العدالة التي لم تعد موجودة .. أريد أن يخاف الظالم ويعلم أن دوره سيأتي يومًا ما، لا أريد أن يحدث مثلما حدث معي .. فقد جعل جمال الشرطة تتكتم عن مقتل والديّ وأظهروا أنه حادث … تلك المدينة يملؤها رجال فاسدون يجب إنهاؤهم كي لا يتكرر ما حدث معي مع أحدٍ آخر…..”
أغلقت مريم الدفتر وقامت بفتح دفترٍ آخر …
“رأيتها!! … رأيت شبيهتها اليوم .. أو بمعنى آخر رأيت أختها .. تلك الطبيبة الصغيرة .. حينما رأيتها قد تآكلني شعورٌ بالذنب ولا أدري ما السبب .. وعندما علمت أنها أختها تيقنت أن نهايتي ستكون على يدها .. لم أستطع أن أفسر سبب غضبي عليها في أول يوم رأيتها به، ولكني أعتقد أن السبب كان شعوري بالذنب نحوها … أنني قتلت أختها .. وأيضًا علمت أنها الفتاة التي حضرت أول يوم أكون به قاتل .. تلك الفتاة الصغيرة التي لم تكبُر حتى الآن بالنسبة إليّ … عندما علمت من هي ظللت أراها طفلة بعمرها العشر سنوات……..”
كانت تبكي وهي تقرأ كلماته عنها …
“علمت الآن أني أشعر بالذنب لأني أنا السبب في كل ماحدث لها .. لقد رأيتها اليوم تبكي بسبب ذلك الطبيب قريبُ طارق .. تمسكت بسُترتي تترجاني أن أساعدها في الإختفاء من أمام عينيه .. لم أفهم سبب خضوعي وموافقتي لها ولكني كنت أتمنى لو مساعدتي لها تغفر لي مافعلته بها قبلًا؛ فقد أقسمت أن أقوم بإسعادها منذ أن رأيتها تعويضًا عما فعلته بها ……..”
قلبت الصفحات قليلًا في ذلك الدفتر …
“تلك الطبيبة قاطعت إجتماعًا يساوي ملايين لكي تُخبرني فقط أن عماد يحتاج إلى طبيب نفسي .. ولكنني لم أحزن بسبب مقاطعتها إياه فقد إشتقت لرؤيتها ولكني كنت أتهرب من ذلك الشعور بغيابي الدائم والمستمر عن القصر .. لأنني كنت أقع بحبها دون أن أشعر…”
قلبت بعض الصفحات بالدفتر …
“اليوم كانت أجمل فتاة رأتها عيناي وهي ترتدي ذلك الثوب الأحمر ف الحفل السنوي الخاص بالمشفى .. إني أقع بها دون وعيٍ مني ولكني شعرت بالضيق عندما رأيت ذلك الطبيب يُمسك بذراعها كأنها مُلكَه، لا يعلم أنها مُلكِي أنا منذ البداية…”
إبتسمت وهي تقرأ تلك الجملة …
“لقد إعترفت لي بأنها تُحبني .. ولكن ذاك الإعتراف جعلني أستفيق وأتيقن أننا لن نجتمع معًا أبدًا .. لقد قُمتُ بقتل أختها وتدمير حياتها … لن تجد السعادة معي مُطلقًا .. أريتها أنها لا تَهُمني مع أنها هي أكثر من يُهِمُني … أُحببتها أكثر مما ينبغي .. تعلقت بوجودها حولي .. لقد أنارت قلبي المُظلِم دون أن أدري .. تلك أول فتاة أقع بحبها ويبدو أنها ستكون الوحيدة…”
بكت عندما رأت ماكتب …
“منذ فراقنا وهي تبكي بسببي … لا تعلم أنني أتألم أكثر منها لفراقنا ذاك لدرجة أني لا أستطيع فراقها .. أراقبها دائما وأطمئن عليها بإستمرار دون علمها … جلبت لها وظيفة تخص مشفى أستثمر فيها كي لا تكون بعيدة عني … أريدها دائما أمامي حتى وإن لم تَكُن مُلكي……….”
قلبت الصفحات …
“ذلك الطبيب الذي يُدعى آسر يتقرب ويتودد إليها .. هي لا تعلم بالنار التي بداخلي والتي تجعلني أتمنى قتل ذلك الطبيب بيدي … لكن لا، هي تستحق السعادة .. سيتركها لسعادتها …”
بكت أكثر عندما قرأت تلك الكلمات الآتية …..
“كادت روحي تخرج من جسدي عندما رأيت قطعة الزجاج تلك تخترق عنقها .. كنت كالطفل الصغير الخائف من فقدان والدته مرة أخرى، تمنيت أن أموت مقابل أن تعيش هي …….”
ظلت مريم تقرأ تلك الدفاتر وهي تبكي وترى أن ياسين لا يحبها فقط بل هو يعشقها … لقد أحبها أكثر مما هي تحبه ولكنه كان يعلم أنهما لن يكونا سويًا ولن تكون سعيدة معه أبدًا.. لذلك كان دائمًا يقوم بإبعادها عنوة عنه وعن مايريد قلبه … ظلت مريم تقرأ بالدفاتر تلك وتتمنى لو تراه أمامها الآن وتضمه بقوة … ولكنه مات! ولم يعد موجودًا … وأثناء حملها لدفترٍ آخر تقرأه إنتبهت لدفتر أبيض موجودٌ أسفل تلك الدفاتر السوداء ..تركت مابيدها وأمسكت بذلك الدفتر وقامت بفتحه …
“زوجتي العزيزة .. معنى وصولك لذلك الدفتر هو أنكِ قرأتِ أغلب الدفاتر وإن لم يُكن كلها … أريدكي أن تعلمي شيئًا واحدًا فقط .. هو أنني أحببتكي كثيرًا منذ أول لحظة رأيتكي بها .. رؤيتي لكي أحيت لي قلبي .. كنت على يقين منذُ البداية أني سأموت على يداكي ولكنكي خالفتي توقعاتي؛ فلقد وضعتي الدواء بدلًا من السُم وهذا ماقد هزمني حقًا وجعلني أُحبكي أكثر .. أتمنى أن تسامحينني مريم … أعلم أني فعلت ذلك بإرادتي ولكن كل ما أطلبه منكِ الآن هو أن تقومي بالعفو عني .. فأنا لا أستطيع أن أعيش بدون عفوكي عني .. سامحيني عزيزتي .. في الآونة الأخيرة أنا أحلم بوالدي كثيرًا ولكنها أحلامٌ غريبة أشعر من خلالها أني سأرحل عما قريب .. سأعودُ لوالداي مريم، وأنا أنتظر ذلك اليوم منذ مدة .. أعلم أنه كان ينبغي موتي معهم منذ البداية في ذلك الحريق ولكنه القدر .. عشتُ أكثر من ثلاثون عامًأ أنتظر نهايتي ولكنني عندما رأيتكي شعرت أنني مُذبذب قليلًا … أردت البقاء معكي .. أردت أن أرى بُنيّ وأحمله بين يدي .. أردت أن أسمعه يناديني ب “أبي” .. أردت أن أقوم بتكوين عائلة أحميها بكل ما أوتيت من قوة كما كنت أعهد بذلك لأبي في أحلامي دائمًا …. وها أن الآن أشعر أنني قد قمت بتنفيذ عهدي ذلك … مريم … أخبري بُنيّ أني لطالما إنتظرته .. أخبريه أني تمنيت أن أحمله وأرى إبتسامته .. أخبريه أني تمنيت أن أراه يحبو و يسير أول خطوة له بحياته .. أخبريه أني كنت أشتهي ضمة منه تجعلني أنسى من أنا … أخبريه أني أحبه من كل قلبي .. إجعليه يعيش طفولته وأن لا يُصبح مثلي أنا … إجعليه ينعم بجميع لحظات حياته .. لا أريد أن يرى بني ما رأيته أنا بحياتي … أنا أثق بكي زوجتي العزيزة وبتربيتكي له .. وأعلم جيدًا أنه سيكون شخصًا جيدًا يومًا ما .. ذلك الدفتر الذي تقرأينه الآن هو آخر دفتر قمتُ بكتابته .. وهو أبيض اللون لأنه يخصكي أنتي فقط ؛فأنه رسالة طويلة مني إليكي … رسالة ستظل معكي دائمًا .. أحبُكي حتى النهاية وما بعد النهاية ….”
أكملت قرائتها في ذلك الدفتر وهي تبكي وترى رسالة زوجها لها وهو يتحدث إليها بعبارات الحب كلها … وعندما وصلت لنهاية الدفتر …
“أرجوكي مريم .. قومي بحرق الدفاتر الأخرى التي بها أسوأ أيام حياتي وحياتكي واتركي ماتريدين وأعلمي جيدًا أني في مكان رائع فقد توبت إلى الله وذهبت لعدة مشايخ وأخبروني أن الله سيقبل توبتي تلك؛ فيكفي شعوري بالندم على مافعلت …. أُحبكي زوجتي العزيزة ويا أغلى ما أملك… كوني قوية.”
كانت تلك نهاية الدفتر وكانت وقتها تبكي بقهرٍ ولكنها إستفاقت على صوت صغيرها يبكي تركت مابيدها وذهبت لتُطعمه … وفي ذات الوقت تنظر لتلك الدفاتر السوداء تخطط لتحرق أيٌ منهم ….
.. بعد مرور سبعِ سنوات…
كانت مريم تجلس بمكتبها بالمشفى وهو مكتب ياسين السابق تنظر لعدة أوراق بيديها تخص الشركة وتتابع أعمالها، وتضع الهاتف على أذنها تستند به على كتفها تتابع أعمال المشفى أيضًا وكل ذلك في آنٍ واحد …
مريم:”الأدوية إللي طلبناها هتكون موجودة في ميعادها …*همهمت ثم إستأنفت* .. بالظبط .. تمام كده .. شكرا ليكم.”
أغلقت المكالمة الهاتفية ثم تنهدت بإرتياح وقامت بوضع الأوراق أمامها على المكتب … نظرت للإطارات الزجاجية الموجودة أمامها … أحدهم كانت صورتها مع ياسين والأخرى صورتها مع براء ابنها العزيز والذي يشبه أباه كثيرًا، والثالثة كانت صورة تجمعها هي وبراء وعماد الذي توفي منذ سنوات قليلة وترك لها نصيبه من ما تركه ياسين له، وكان لوفاته أثرًا على براء حيث أنه كان شديد التعلق بجده، ولكنها ظلت تساعده في التحسن حتى صار أفضل قليلًا … إبتسمت بحُب لتلك الصور ولكن إبتسامتها إختفت عندما تذكرت أمرًا ما … حفلة براء!! … إستقامت من مقعدها بسرعة وخرجت من المكتب ولكنها إصطدمت بأشرقت ..
أشرقت:”في إيه؟؟؟ بتجري كده ليه؟؟؟”
مريم:”حفلة براء هتبدأ ولازم ألحق.”
أشرقت:”طب إهدي طيب … براحه، صلاح جاي على هنا إستني طيب ونروح كلنا سوا.”
مريم:”لا .. أنا هسبق بس عشان ألحق براء وإنتي وجوزك تعالوا في أي وقت.”
أشرقت:”تمام يا حبيبتي، خدي بالك من نفسك.”
هزت مريم رأسها وخرجت بسرعة من المشفى ركبت سيارتها وبدأت بالتحرك، نظرت إلى الدفتر الأبيض الموجود بسيارتها وإبتسمت وهي تقود السيارة … بعد مرور عدة دقائق .. كان براء يقف خلف الستار بين زملائه الأطفال وينظر لأبائهم وأمهاتهم الذين يجلسون بمقاعد مسرح المدرسة، أما هو ينتظر والدته التي تأخرت عليه بالمجئ، صاحبة المقعد الفارغ … نظر للورقة التي بيده والتي سيقوم بقرائتها أمام الحضور بمناسبة الإحتفال بعيد الأم والذي لا يشرط التحدث عن الأمهات فقط .. بل متاحٌ التحدث عن الأباء أيضًا … تجهز الأطفال لأن الستار سيُرفَع .. إنضم براء لهم في الصف وأخذ نفسًا عميقًا وأمسك بالورقة بقوة يتمنى أن تأتي والدته الآن .. رُفِعَ الستار وتقدم الأطفال وبدأوا بإلقاء خطاباتهم على آبائهم وأمهاتهم .. كان براء يعود للخلف في كل مرة يحين فيها دوره في إنتظار والدته التي بالطبع ستأتي ولكن متأخرة قليلًا … نظر براء لساعة الحائط ثم تحدث لنفسه بهمس طفولي ..
براء:”إنتي فين ياماما؟”
ظل الأطفال يُلقون خطاباتهم حتى تبقى براء فقط … إبتلع لُعابه بتوتر عندما وجد الجميع ينظر إليه لِيُلقِي خطابه .. حمحم بإحراج وصمت وظل ينظر لباب المسرح الخارجي والذي تم فَتحه بسرعة وإبتسم عندما رآها تهرول للجلوس على المقعد الفارغ … عندما جلست ابتسمت له لكي يبدأ .. أخذ نفسًا عميقًا وقام بفتح الورقة المطوية التي بيده …
براء:”الرسالة دي جزء منها لماما …*نظرت له بإستفسار ولكنه إبتسم لها في المقابل وبدأ يتحدث بصوت طفولي* .. شكرا لكي أمي على مراعاتكي لي، وتحمُلِكي مسئوليتي .. شكرا لكي على كل لحظة كان يجب أن تنهاري بها ولكنكي لم تفعلي بل كنتي قوية لأجلي … كنتي الجيش القوي والوحيد الذي يحميني .. كنتى كل شئ جميل يا أمي … أنا أحبكي كثيرًا.”
حركت مريم شفتيها ب “وأنا أحبك أيضًا” … إبتسم براء ببراءة لها ثم عاد ونظر لورقته ..
براء:”بالنسبة لرسالة بابا ….”
إختفت إبتسامتها ونظرت لبراء بأعين مليئة بالدموع..
براء:”إلى أبي العزيز .. لقد إشتقت لك كثيرًا … هل تعلم أنني أحببتك من قصص والدتي عنك وأنك كنت رجلًا قويًا يهابه الجميع .. رجلا يؤمن بالعدل .. إلى ياسين المغربي .. لم يوجد ولا صورة واحدة تجمعني بك … إذ أني وُلِدتُ في يوم وفاتك أبي .. ولكن لا تقلق … أنا أري صورك التي كانت في الصحف والجرائد سابقًا …. أقرأ دائمًا عنك وعن ما كنت تفعله … *هبطت الدموع من مقلتيه وأكمل* … كم أتوق لمقابلتك أبي .. كم أريد أن تضمني بقوة ولو لمرة واحدة تخبرني بها أن كل شئ سيكون على ما يرام كما تفعل أمي دائما … أشتاق إليك كثيرًا .. أنا أحبك وأمي أيضًا تُحبك.”
قام بالحضور بالتصفيق له وإستقامت مريم من مقعدها .. نزل براء من على أدراج المسرح وركض نحوها لكي تضمه … وهي إبتسمت وقامت بضمه بقوة ..
“النهاية”

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية القاتل الراقي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!