روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الثامن 8 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الثامن 8 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الثامن

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الثامن

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الثامنة

٨- فيض من أمان
قررت هيفاء مد إقامتها، لم يكن من الصعب على أيوب السؤال في المطار، عن طائرتها وذاك الهبوط الاضطراري المزعوم، ليعلم أنها لم تكن سوى كذبة مفضوحة، هي تعلم تمام العلم، أن من السهل عليه اكتشافها، لكن منذ متى كان الأمر فارق مع هيفاء! لم تتغير قيد أنملة، هي على حالها منذ زمن بعيد، يسوقها اندفاعها المحموم لتحقيق كل رغبة تخطر ببالها، دون حساب العواقب، أو التفكير بروية في النتائج.
وجود هيفاء بالفيلا، جعل سلامات تتخذ من حجرة ساجد موضع لدرسه، متجنبة التواجد معها في البهو أو الحديقة، حتى لا تمطرها بوابل من سيء الكلمات، والمزيد من الانتقاد لها، أو لأفعال ساجد العفوية، التي لا تناسب مزاجها الراقي! متعجبة بحق، من كونها أمه، ولم تفكر ولو على سبيل الفضول، التطلع نحو وجهه، وحفظ قسماته، أو مداعبته وإحتضانه، كما تفعل الأمهات.
أيكون وجود ساجد بهذه الحالة، هو السبب الرئيسي في طلاقها وأيوب! تخليها عن ولدها في مثل هذا الوضع الحرج، جعل منها امرأة معدومة المشاعر، منزوعة الرحمة، لا يليق بها حمل لقب أم بأي حال من الأحوال، ما دفع أيوب للتخلي عنها كزوجة بالتبعية! ..
مر بعض اليوم داخل الحجرة، شعرت بالملل، وكذا ساجد كان صاخبا لدرجة كبيرة، لديه رغبة عارمة في الخروج والانطلاق، ما دفعها للانصياع لرغبته، تصاحبه للنزول للحديقة، واللعب مع هزاع، الذي أخذته الحماسة، ما أن تنبه لوجودهما، جلست سلمى تقرأ أحد كتبها الخاصة بحال ساجد، ترفع عينيها ما بين لحظة وآخرى لمتابعة لعبه مع هزاع، ليلفت انتباهها مالو.. ذاك الفتى الهندي الذي يحرس البوابة، جالس في ركن بعيد، يبدو عليه الحزن، تركت كتابها جانبا، ونهضت متوجهة إليه، سألته في محاولة لتفهم سبب حزنه الظاهر، حاولت على قدر استطاعتها، مع لغته العربية الضعيفة، إدراك أن سبب ضيقه، هو عدم وجوده بين الأهل، احتفالا بالعيد، وقع ناظرها على بعض الأطباق التي تحمل مساحيق لألوان مختلفة، فابتسمت، وقررت العبث قليلا، وخاصة أن أيوب بالخارج، وسمعت من سعدون أنه قد لا يحضر للغذاء، وكذا هذه المتعجرفة المدعوة هيفاء، تنام حتى ساعة متأخرة من النهار، فلا مجال لوجودها بالأنحاء، إذن فالوقت سانح تماما، لبعض اللهو البريء، ما دفعها لتفتح هاتفها، على إحدى الأغاني الهندية، التي كانت تستمع إليها حين عرض أحد هذه الأفلام على التلفزيون، والتي ما أن صدحت، حتى اتسعت ابتسامة مالو، وبدأ في الرقص دافعا مسحوق اللون الأصفر في الهواء منتشيا، تنبه هزاع لذاك المهرجان الذي يحدث بالقرب، ما دفعه ليركض نابحا في نشوة، يتقافز فالهواء، من أجل أن يطال بعض اللون المنتشر في الأجواء، والذي بدأ في الاختلاط بألوان آخرى، بدأت سلمى بنثرها بدورها، ليقلدها ساجد في مرح، ليصبح الجو معبقا بالكثير من الألوان الزاهية، والموسيقى المفعمة بالفرحة، الصادحة من هاتفها، والرقص من جانب مالو، مشاركا ساجد لهزاع في قفزه منتشيا في حماسة عالية، ليتلطخ الجميع بمزيج الألوان المبهجة، تصبغ محياهم بشكل مضحك، ليصبحوا جميعا أشبه بمهرجي السيرك، وأقرب ما يكون لألوان ببغاء استوائية..
كان من الصعب، في مثل هذه الأجواء الصاخبة، إدراك وجود هيفاء، التي نزلت من حجرتها، متوجهة صوب بركة السباحة، بهذا اللباس الفاضح، لتتمدد قرب المسبح، بعد أن فردت على جسدها الكثير من واقِ للشمس، وبعض الزيوت، واضعة نظارتها الشمسية، ولم يثير فضولها، ذاك الصخب الدائر بالقرب، لتنهض بعد قليل، دافعة بجسدها في احترافية صوب الماء، الذي ضربته بذراعين من مرمر، حتى وصلت للجانب الآخر، تسبح في رشاقة، جيئة وذهابا، ولم تولي اهتماما لساجد الذي ابصرته ينفلت من الجمع الصاخب، متجها صوب المسبح، يحاول أن ينظف كفه من الألوان، رن هاتفها، فتوجهت صوبه، نازعة نفسها من الماء، حتى أصبحت على حافة المسبح، ملتقطة الهاتف لتجيب في نبرة مغناجة، غير مدركة ما يحدث لساجد من الأساس، وأن قدمه قد ذلت، ساقطا بالمسبح، يصارع المياه، محاولا البقاء على سطحها، من أجل التقاط بعض أنفاس تمده بالحياة.
تنبهت سلمى، التي تركت موضعها للحظة، تغسل وجهها من أثر لون قذفه ساجد في سعادة، فطال عينها، لتعود سريعا، باحثة عنه، فلا تجده بصحبة مالو وهزاع، الذي نبح صوب موضع ساجد، فاندفعت سلمى صوبه، وبلا أي ذرة تفكير، دفعت بجسدها صوب موضع صراعه بالماء، ممسكة به، لكن المصيبة، أنها لا تجيد السباحة أيضا، حاولت أن تجاهد لتصل لحافة المسبح، لكن لا جدوى، وهيفاء كانت قد أنهت حديثها بالهاتف منذ لحظات، لا تكترث لما يحدث على خطوات منها، واضعة سماعات الأذن، تستمع للموسيقى في لا مبالاة، حتى مالو لم يتنبه، وظل صخب الغناء والرقص مستمرا، طاغيا على صوت استغاثة سلمى.
ظهر أيوب قادما من الخارج، مندفعا صوب موضع الغناء، يستطلع ما يحدث، ليجد هيفاء بوضعها المخزي، وسلمى تستغيث في عجز، وهي متشبثة بساجد بين ذراعيها، تحاول ابقائه خارج الماء، ما دفع أيوب ليصرخ باسم ساجد في هلع، ليتنبه مالو لوجود أيوب، ثم ما يجري لسلمى وساجد، فاندفعت مهرولا لداخل الفيلا، مستدعيا سعدون ونفيسة، خلع أيوب عنه غطرته، وعباءته التي كان يضعها على كتفيه فوق جلبابه، قاذفا نفسه بالماء، مطوقا كلا من سلمى وساجد بذراعيه، دافعا بهما باتجاه حافة المسبح، حتى إذا ما حضر سعدون ونفيسة مهرولين، دفع أيوب ولده نحو سعدون، أمرا إياه، ونفيسة: خدوه على فوق، وقومي باللازم يا دادة..
تحرك الجمع، لم يبق إلا مالو، فأمره أيوب بالعودة لقرب البوابة، أما هيفاء، التي استفاقت اخيرا على ما يحدث، فقد خلعت عنها سماعات الأذن، وتطلعت بلا اكتراث لما يحدث، ولم تغادر موضعها إلا عندما أبصرت أيوب وسلمى وحيدين بالمسبح، فنهضت تسير في هوادة صوب موضعهما، لتجده يدفع جسده محاوطا جسدها، ليصلا لأقرب سلم للمسبح، دفع نفسه خارجا، وانحنى على طرف المسبح، قرب السلم، مادا كفه نحو سلمى، هامسا في لين: هاتي إيدك.
وضعت كفها بكفه في تردد، ليجذبها لخارج المغطس في حرص، مستعينة بالسلم الزلق، خرجت تقطر مياه ملونة من أثر ألوان عيد مالو، تضم جسدها بذراعيها ف اضطراب، اندفع ايوب صوب عباءته، جاذبا إياها من موضعها أرضا، ليعود دافعا بها فوق كتفيها، مدثرا إياها، يعلم أن ترددها فالخروج من المسبح، ما كان إلا لملابسها المبتلة التي ستكون ملتصقة على جسدها، مسببة لها الكثير من الحرج، أكد هاتفا في تأدب، وهو يغض الطرف عنها: اطلعي على فوق، قبل ما يمسكك البرد.
تحركت سلمى في هوادة، ملابسها غارقة تماما بالماء، مدثرة بعباءته، ما أعطاها الفرصة لتسمع توبيخه لهيفاء، أمرا إياها بالرحيل فورا من داره، بعد خرقها لأوامره، في عدم التخلي عن الحشمة طالما هي داخل بيته، وتعيش تحت سقفه: أنا حذرتكِ، وأنتِ ما تسمعين، دقائق، فقط دقائق يا هيفا، وتكونين خارج الفيلا، فلا مكان لكِ هنا.
اندفعت هيفاء في حنق لداخل الفيلا، تعد نفسها للرحيل، بعد أن فشلت كل محاولاتها في جذب ذاك الذي كان يوما متيما بها.
دخلت سلمى حجرتها، ومنها للحمام، لتخرج بعد أن تخلصت من أثر البرودة بعظامها، لتقع عينيها على عباءته السوداء، ذات الحواف الذهبية، الموضوعة جانبا، لتشعر لأول مرة، منذ وفاة والدها، أن ذاك الأمان المفتقد، قد مس قلبها لمحة منه، حين أسدل أيوب عليها ستر عباءته، ليسري بقلبها لا بجسدها، ذاك الدفء القيم، دفء فيض من أمان.
***************
كررت دقها على هاتف أخيها، لعل وعسى تفلح هذه المرة في الوصول إليه، وقد يكون عنده الخبر اليقين فيما يخص غياب زوجها، مرة تلو الآخرى ولا مجيب، وعند المرة الثالثة، التي قررت فيها عدم الاستمرار في سماع صوت هذه الرسالة المستفزة، التي مفادها أن الهاتف قد يكون مغلقا، تلقت رنينا بدلا منها، لتنتفض في فرح، ما أن أجاب صبحي أخيرا: إزيك يا صبحي! في إيه! رنيت كتير والموبايل مقفول!
هتف صبحي بصوت مرهق: معلش يا سلامات، كنت رامي الموبيل على جنب ومش مركز إنه فصل شحن، معلش، أصل الواد الصغير تعبان أوي.
هتفت سلمى في ذعر: ليه ماله!
تنهد صبحي: والله ما عارفين، من آخر مرة كلمتيني فيها، وإحنا دايرين ع الدكاترة، وكل واحد برأي.
هتف سلمى مستفسرة: يعني ايه! محدش عرف ايه اللي فيه!
نفى صبحي: لا، وأدينا دايخين من هنا وهناك، كشوفات وتحاليل، وربك يعدلها.
هتفت سلمى متعاطفة: طب ومصاريف الكشوفات والتحاليل دي كلها، جبتها منين يا صبحي! ما أنا عارفة البير وغطاه.
أكد صبحى متنهدا في قلة حيلة: اهو يا سلمى، يعني هنجبها منين!
هتفت تطمئنه: والله هايبقى زي الفل، بص، أنا قبضت مرتبي، هبعتهولك تكشف ع الواد عند دكتور شاطر، وبإذن الله خير.
تحشرج صوت صبحي هامسا: لا، ربنا يخليكي، أنا بتصرف هنا، واهي ماشية، خلي قرشك لنفسك، محدش عارف دنيتك جايبة إيه!
أكدت سلمى: بص أنا هبعتهم، ده مش ليك، ده عشان حبيب عمته يخف ويبقى تمام.
صمت صبحي تأثرا لبرهة، قبل أن يهتف مؤكدا: أنا مش ساكت والله يا سلمى، عملت كل اللي اقدر عليه، عشان اوصل لمكان جوزك، حتى نمرته مبطلتش عليها رن، لكنها لسه مقفولة، كأن صاحبها فص ملح وداب.
صمتت سلمى بدورها، ليستطرد صبحي متسائلا في تردد: يكون يعني، احتمال.. حصل معاه حاجة!.. أصل الاختفاء ده غريب..
تنهدت سلمى هاتفة: كل شيء جايز يا صبحي، أنا هستنى كمان أسبوع، لو مفيش جديد، هضطر أبلغ الناس اللي أنا عندهم، يمكن يساعدوني أعرف عنه أي معلومة، أصل خلاص، فيزا السياحة قربت تخلص، هقعد هنا على أي أساس.
أكد صبحي: هو ده الرأي التمام، أنا مش هسكت، وهحاول أوصل لقريبه ده اللي عمل له التوكيل عشان يكتب الكتاب، واسأله عن أي معلومة، ولو خلال الأسبوع الجاي ده، معرفناش نوصل لحاجة، بلغي الناس اللي عندك، وربنا يسهل.
أكدت سلمى: كده تمام، وأنت خلي بالك على نفسك، وشوف إبنك، والفلوس هتوصل لك فأقرب فرصة، وأنا هكلمك تاني قريب، عشان اطمن عليه.
هتف صبحي: تسلمي يا سلمى، ربنا ما يحرمني منك، ويسهل لنا فموضوع مجدي ده، أنا مش عاجبني قعدتك دي، لا أنت متجوزة، ولا عارفين آخرة اللي بيحصل ده ايه!
هتفت سلمى: آخرته خير، قول يا رب.
همس صبحي: يا رب..
أنهى المكالمة، لتترك سلمى الهاتف جانبا، وما زادتها المكالمة التي كانت تسعى لها، إلا قلقا وحزنا، دمعت عيناها، ليس فقط على بقاء حالها على ما هو عليه، لكن على حال ابن أخيها الأصغر، المقرب لقلبها، والذي لا تدرك ماذا دهاه!
*******************
نزل من حجرته، مرتديا زيه الرسمي، في سبيله للعمل، ما دفع هيفاء، التي كانت تتجهز بدورها لمغادرة الفيلا، لتستوقفه هاتفة في نبرة مترجية: أيوب! خذني وياك للمطار!.. والله طريقنا واحد.
هتف أيوب، بنبرة مبهمة: عمر ما كان طريقنا واحد يا هيفا، بس اتفضلي، ما يخالف.
ازدردت هيفاء ريقها في حنق، مستشعرة أن هذا الأيوب الذي تطالعه اللحظة، قد تبدل .. بل استبدل تماما عن ذاك الذي عاشرته لسنين طويلة، وكان بينهما ما كان، من هذا الرجل! .. تعترف أن النسخة الجديدة تثير فضولها وإعجابها عن هذه النسخة القديمة، التي هجرت، ربما هي من تغيرت، ففكر فتاة جامحة فالرابعة والعشرين، بالطبع مخالف تماما، لفكر نفس الفتاة وقد كسرت حاجز الثلاثين من عمرها.. أيوب لم يتغير وحده، بل هي تغيرت كذلك، يبدو أن الزمن لا يترك أحدا إلا وطبع بصماته على روحه، ونال منه بطريقة أو بآخرى!
هتف أيوب منتزعها من خواطرها: انتظريني بالسيارة، حتى اطمن على ساجد قبل ما روح!
هزت رأسها بالموافقة، لا قبل لها على الرفض، ولا حتى عرضت مرافقته لتودع طفلها، نزلت الدرج يتابعها بناظريه، حتى عبرت للخارج، فصعد الدرج، يفتح حجرة ساجد، الذي كان مستلقيا بفراشه، يغط في نوم عميق، بعد ما حدث بأول النهار، انحنى مقبلا وجنته، رابتا على كتفه، قبل أن يغادر الحجرة في هدوء، وقع ناظره على باب حجرة سلمى، هل من اللائق الطرق عليها في مثل هذه الساعة!..
كان في أمس الحاجة للاطمئنان عليها قبل رحيله، لا يعلم لما هذه الرغبة الملحة في رؤيتها! لكنه روض جموح رغبته، مسيطرا عليها، واندفع صوب الدرج مهرولا، قبل أن يتراجع، دافعا نفسه دفعا، جوار هيفاء بسيارته، في سبيلهما للمطار.
ساد الصمت الثقيل بينهما، ما قطعه إلا وضعها لكفها فوق كفه التي كانت تمسك اللحظة بمبدل السرعة الكائن بين مقعديهما، لم يتحرك فيه ذرة، ولم تتغير قسماته، بل ظل جامد الملامح، لم يتأثر مطلقا بلمساتها التي كانت تذيبه قديما، ضغطت على ظاهر كفه، لعله يلين، لكنه همس بنبرة حازمة، لا تقبل الشك: يدك عني، صدقيني، ما عاد ينفع.
هتفت في حنق، وقد طعنت أنوثتها في مقتل: أيوب! كل هاد بسبب.. ايش اسمها.. اه.. سلمى.. الله لا يسلمها!
هتف أيوب في حزم: كفي لسانك عنها، هيفا!.. ما بينا مات واندفن من زمن بعيد، فوقي.
همست وهي تقترب في دلال: بنحييه من جديد، ايش فيها، أنا على يقين، إن حبي كالجمر، مشتعل تحت رماد الذكريات، عاطيني الفرصة، وأنا..
صف أيوب السيارة، هاتفا في لا مبالاة: ما عاد فيها فرص، اعتقد وصلنا، وهبوطك الاضطراري ما كان له داعي، بشوفك على خير بعد عدة سنوات، رحلة سعيدة هيفا.
ترجلت هيفا من السيارة، تجر خلفها خيبتها في مسعاها، مع حقيبتها الأنيقة، وبدلا من التوجه صوب بوابة المطار، استدارت تسير في اتجاهه، وما أن دنت، حتى همست بالقرب من مسامعه، بنبرة مغوية: في أمل أيوب، وأنا ما بمل أبد..
تحركت نحو البوابة في هوادة مدروسة، ليجر خلفه حقيبته الأنيقة، مارا بها متخطيا البوابة، ليلحق برحلته.
جلس يتناول فنجال من القهوة، التي اترتشف منها رشفة جعلته يمتعض، معترفا أنه ما عاد يتذوق القهوة، أو يستمتع بمذاقها إلا من صنع يدها، ابتسم متطلعا نحو هاتفه، هازا رأسه يحاول رفض الفكرة التي قفزت بباله اللحظة، أيحادثها! .. لأي سبب!
ظل يغالب الخاطر المسيطر، ويغالبه، حتى وجد نفسه بلا وعي، يضغط على زر الاتصال برقمها، لحظات وردت في هدوء: ألو!.. أيوب بيه!
هتف أخيرا، حين تساءلت، عندما طال صمته ولم يجب مباشرة: أيوه، إزيك!
كان الصمت من نصيبها، صمت متعجب، إنها المرة الأولى التي يتصل بها، ما الداعي يا ترى!
تنبه لفعلته، هاتفا بصوت محاولا اصلاح نبراته: أنا قلت اطمن عليكِ بعد اللي حصل فالبيسين، واطمن منك على ساجد، كان نايم لما رحت.
هتفت سلمى: ساجد بخير، وأنا…
باغتتها عطسة قوية، ساد الصمت بعدها، ليهتف أيوب مازحا: يرحمكم الله يابو سريع، في حد فالمغارة!
قهقهت بأريحية، فانتفض قلبه بين ضلوعه، هاتفا مستجمعا شتاته المبعثر: الظاهر داخل عليكِ برد، أنا هوصي سعدون يجيب لك دوا كويس.
هتفت سلمى محرجة: لا مفيش داعي، الموضوع بسيط، حاجة سخنة هشربها وهبقى زي الفل.
همس متسائلا: أنتِ رميتي حالك ورا ساجد فالمية بلا تفكير! وأنتِ مبتعرفيش تعومي!
صمتت ولم ترد، ما دفعه ليهمس في نبرة دافئة: عارف الإجابة من غير ما تجاوبي.
تطلع لساعة يده القيمة، مستطردا في حسرة: طب أنا مضطر أقفل دلوقت، خلي بالك على نفسك، قصدي انتبهي لساجد، سلام عليكم.
همست بالتحية وهي تنهي المكالمة، متطلعة للهاتف في تعجب، هل كان ذاك أيوب النورسي حقا!.. حاد ناظرها صوب عباءته الموضوعة جانبا، ثم عادت تتطلع للهاتف مجددا، واستشعرت أن شيء ما يحدث، شيء لا تعرف كنهه، ولا تذوقت مذاقه من قبل، ارتجف داخلها برهبة مجهولة المصدر، فضمت جسدها بذراعيها، تمنح نفسها قوة واهية، فلا رغبة أو طاقة لها في مواجهة نفسها، بحقائق لا قبل لها على تحمل عواقبها.
****************
كان اليوم ثقيلا، قضته سلمى كله ما بين غرفة ساجد وغرفتها، تغرق نفسها بالعمل مع ساجد، لعل عقلها الذي يضج بالكثير والكثير من الأفكار، يهدأ ولو قليلا، شعرت بالضيق، فقررت النزول لإحضار إحدى الروايات لقراءتها، وصلت المكتب، ووقع ناظرها على البيانو الخاص به، والذي كان عزيزا عليه، لا يجرؤ أحدهم على الجلوس إليه، لكنها تجرأت فهي على علم أنه ليس بالبيت، بل هو بعيدا عنه آلاف الأميال، ما دفعها لتجلس إليه، في فضول ليس أكثر، وبدأت في العبث بأصابعه المتباينة ما بين الأبيض والأسود، تخرج بعض النغمات الشاذة من هنا وهناك، حتى بدأت في العزف بشكل جيد، تحاول استرجاع ما كانت تحفظ من القطعة الموسيقية، التي ما أن انتهت منها، حتى وجدت شخص يصفق في رزانة على باب الغرفة، ما جعلها تنتفض واقفة، مبتعدة عن البيانو، وهو يهتف في استحسان: برافو، جميلة القطعة الموسيقية دي، فيها بهجة حقيقية ..
كانت ما تزال مأخوذة بظهوره المفاجيء، ما جعلها تهتف في تردد: دي أغنية من الفلكلور المصري القديم ..
اومأ برأسه متفهما، واستطرد: بس عزفك جميل..
أكدت في بشاشة: لا أنا مبعرفش أعزف، أنا كنت حفظاها من أيام المدرسة .. لكن العزف وقراءة النوت الموسيقية حاجة بعيدة عني خالص ..
لم يعقب على كلامها، بل سأل في أريحية وترتها، لم تكن من عاداته: بتقول إيه بقى كلمات الأغنية! ترددت قليلا، ثم بدأت في تنغيم الكلمات:
طلعت يا ما أحلى نورها شمس الشموسة
ياللاه بينا نملا ونحلب .. لبن الجاموسة ..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهتف في نبرة مازحة: اهااا، كان لازم اتوقع كلمات أغنية كاملة الدسم، زي أكلك تمام.
انفجرت ضاحكة، تلك الضحكة الصاخبة الأشبه بحمائم منطلقة من بعد سجن طويل، والتي كالعادة لا تستطيع السيطرة عليها، في المواقف الحرجة التي تستدعي ذلك، تلك الضحكة التي تهز وترا خفيا بداخله، ما كان يدرك من قبل، أنه قابع هناك في انتظار ضحكاتها المنتشية حبورا حتى يعاود اكتشاف نفسه من جديد.
هتف متسائلا يجذب ناظره بعيدا عن محياها: أخبار البرد إيه!
أكدت مع ابتسامة: لا برد إيه! شربة عدس والله يرحمه بقى.
انفجر أيوب ضاحكا: هي دي الحاجة السخنة اللي قلتي هتشربيها! أنا ليه مش متفاجيء!
ابتسمت، ليستطرد هاتفا والابتسامة ما تزل مكللة محياه: المهم إنك تمام، وبخير.
اضطربت، وهزت رأسها في امتنان، مستئذنة في عجالة، تحاول تكذيب وجيب قلبها المضطرب في حضرته، والذي ظنت منذ زمن بعيد، أنه ضل الدرب لنبضه.
******************
كان يظهر فجأة، كما يختفي فجأة، قد يمكث بالفيلا بضع ساعات، وأوقات آخرى، يبقى ليوم أو أكثر، لا تعرف هل كان هذا اختياره! أم أن جدول رحلته مزدحم في مثل هذا الوقت من العام!
لكن هي، على أي وضع فيهما، كانت تحاول أن تنأى بنفسها بعيدا عن مجال حضوره، تعتكف في حجرتها لكثير من الوقت، في أوقات تواجده، وتتحرر من عزلتها حين غيابه في إحدى رحلاته، وقد قررت العودة للقاهرة، بعد أن تنتهي مدة الفيزا السياحية، أي كان وضع زوجها المجهول.
قررت النزول للمطبخ وشغل نفسها بالكثير من الأمور، لعل طاحونة الأفكار الدائرة برأسها تهدأ ولو قليلا، بعض من سكينة، هو كل ما كانت تسعى إليه، لذا قررت أن تسكن ذاك القلق، وتهدي لنفسها وجبة تشعرها بالدفء، وما كان عليها إلا التأكيد على سعدون لجلب الحاجيات الناقصة، وها هي تقف بجوار نفيسة وقد أوشكت على الانتهاء، لتهتف نفيسة متنهدة في حنين: ياااه، أنتِ عارفة بقالي أد إيه معملتش محشي يا آنسة سلمى!
هتفت سلمى: أد إيه!
أكدت نفيسة: سنين..
شهقت سلمى: سنين! ده أنا يحصل لي حاجة لو عشت من غيره! سبحان مين صبرني عليكم الصراحة..
قهقهت نفيسة، هاتفة: للدرجة دي!
أكدت سلمى: ايووون، ده شفا يا نفسفس، شفاااا.. صباع المحشي ينزل من هنا، يعالج الكحة والقلب والروماتيزم كمان، ده أنا هختير صبري من هنا لحد ما يستوي بتاع سبعين مرة كده.
قهقهت نفيسة من جديد، وسلمى تضع حلة المحشي على النار، تعدها للتسوية، مع بعض الاضافات من هنا وهناك، من أجل إضافة المزيد من الدسم والجودة على الطعم الشهي من الأساس.
صنعت نفيسة لكلتاهما كوبين من الشاي، وجلستا للتسامر، حتى نضج الطعام، لتهتف نفيسة، وهي تضع طبق من الفطائر المحلاة، أمام سلمى: مش واخدة بالك، إن أيوب بيه من بعد ما مشيت هيفا هانم، وهو بيسافر كتير!
عقد سلمى حاجبيها، تفكر لبرهة، قبل أن تجيب: هو بيسافر كتير فعلا، بس هل ده ليه علاقة بهيفا! مش عارفة.
أكدت نفيسة: سعدون بيقول لي، إن هو كان بيحبها أوي، ده تقريبا اللي كان مربيها على ايده، الفرق فالسن بينهم كبير، يجي بتاع ١٣ سنة، وكانت مدلعة من الكل، مكنش بيترفض لها طلب، وأكيد بعد البعد ده كله، أتأثر لما شافها تاني.
ساد الصمت، وسلمى تتظاهر بتناول الفطائر المحلاة، لكن عقلها يعمل بسرعة رهيبة، تتمنى لو كان ما تخبرها به نفيسة صحيحا، وأن هذه الذبذبات الغريبة، التي تستشعرها قربه، لا أساس لها من الصحة، واهتمامه العجيب بكل ما يخصها فالفترة الأخيرة، ما هو إلا امتنان طبيعي لمعلمة ولده التي أخرجته من قوقعته، وانقذته من الموت غرقا، لا أكثر..
قطعت سلمى استرسال خواطرها، دافعة هاتفها باتجاه نفيسة، أمرة إياها في مرح: ياللاه صوريني فيديو وأنا بفتتح صينية المحشي.
علت ضحكات نفيسة هاتفة: هو مشروع السد العالي يا بنتي!
أكدت سلمى وهي تتأكد من تمام نضج اكلتها المفضلة: أكتر يا نفسفس، ياللاه اشتغلي، وإلا هحرمك من الميراث، ولا صباع واحد حتى.
علت ضحكت نفيسة من جديد، وهي تضغط زر التصوير، وسلمى ترفع حلة المحشي في فخر، تتغنى مازحة: هوى يا هوى، المحشي استوى.. مين يقول لحبيبي، نتغدا سوا!
قهقهت نفيسة على الأغنية العجيبة، وسلمى تكررها في بهجة، إلا أن طغى صوت أحدهم مناديا، فكادت أن تُسقط الحلة، وهي تضعها جانبا، ما أن وصلهما صوت أيوب، لتهتف مازحة، وهي تتستر خلف نفيسة: أبو الوفا، أبو الوفا..
علت ضحكات نفيسة، والتي وضعت الهاتف جانبا، تهم بتلبية النداء، لولا وصول أيوب لعتبات المطبخ، ملقيا التحية، متسائلا في تعجب: إيه الريحة دي!
حاولت سلمى أن تحيد بناظريها عن محياه، لا تعرف لما أصبح وجوده أو القرب منه، يشكل قلقا مبهما لا تعرف له سببا، وفالوقت ذاته، ينشر حضوره فالأجواء، فيض من أمان، يثير كوامن الحنين بداخلها، لأيام دافئة مضت، في عز أبيها وكنفه!
هتفت أخيرا، تحاول طرد كل الخواطر التي تهاجمها في حضوره، أو حتى عندما تقفز صورته للبال بغتة: معلش، مكناش عارفين إنك جاي النهاردة، فعملنا أكلة مصرية، نص ساعة، ونحضر لك أكل خاص بحضرتك.
هتف متعجبا: ليه! هي الأكلة دي متحرمة ع الرجالة ولا ايه!
اتسعت ابتسامة نفيسة مؤكدة: لا يا أيوب بيه، بس آنسة سلمى قصدها، إنها مش من نوعية الأكل اللي حضرتك بتفضله.
أكد وهو يغادر المطبخ: لا هاكل منه، إيه المانع فالتجربة!
وضعت المائدة للغذاء، وهلّ الشيخ بصحبة أيوب، تطلع الشيخ لصحنه الذي كان به بعض الخضار المسلوق، وبعض اللحم المشوي، ووقعت عيناه على المحشي، فهتف في فرحة: محشي!
كانت عيناه تبرق في سعادة، وكأنه طفل صغير عثر على لعبته الضائعة منذ زمن بعيد، هامسا بصوت متحشرج تأثرا: والله رجعتيني للذي مضى يا سلمى! ..
استشعرت سعادة الشيخ، وشجون حنينه، فربتت على ظاهر كفه المتغصنة، الموضوعة على سطح المائدة، هامسة في محبة: هتدوق بس، مش هنتقل، عشان ممنوع عنك الحاجات الدسمة.
ابتسم الشيخ مازحا: والله فيه الشفا، هاد من ريحة الحبايب.
قهقهت سلمى، هاتفة: والله لسه قايلة كده لدادة نفيسة، بس محدش مصدقني.
أكد الشيخ مقهقها: مغفلين!
بدأ الطعام، الذي كان أروع ما يكون، ليهتف الشيخ بعد عدة دقائق، متنهدا في استمتاع: ايش هاد!..
أجابت سلمى مازحة: صوابع ديناميت.
قهقه الشيخ، وكذا أيوب، الذي كان مغيبا تماما في الاستمتاع بطعامه، حتى أنه لم ينبس بحرف خلال الدقائق المنصرمة، مؤكدا اللحظة: إحنا نثبت المحشي ضمن قائمة الطعام، ويكون مرة واحدة فالشهر، عشان صحة الشيخ..
ابتسم الشيخ، واستطرد أيوب مؤكدا وهو يتطلع لسلمى باسما: ويكون من إيدك.
اضطربت سلمى، وارتجفت دواخلها لنظرته الحانية تلك، وابتسامته التي تشعرها برغبة عارمة فالبكاء، لسبب مجهول تماما عن إدراكها، لتهتف، وقد قررت اخبارهم بالحقيقة، وليكن ما يكون: كل شهر بقى تعملها نفيسة، أنا الفيزا السياحية بتاعتي تخلص خلال أسبوعين..
هتف أيوب متذكرا: اه فعلا، أنتِ هنا بالفيزا السياحية.
هتف الشيخ في حماسة: وايش بها! ولا يهمك، بتكفل أنا بوجودك، بكون كفيلك لو يناسبك.
همت بالنطق، ليقاطعها أيوب في تأكيد: الشيخ بيكفلك، خلاص اتحلت..
همت بالنطق من جديد، تحاول استجماع شجاعتها، من أجل اخبارهما بكل التفاصيل، ليقاطعها صوت رياحين، بنبرة معتذرة: بتأسف للحضور بوقت غير مناسب.
تطلع الشيخ نحوها، أمرا: لا ما يخالف، تعال يا رياحين، طعام مصري أصيل من صنع يد سلمى، لكن رائع.
هتفت رياحين متعجبة: مصرية!
أكد الشيخ في سعادة: إيوه، هاي معلمة ساجد، بتذكر اتعرفتوا!
أكدت رياحين، بإيماءة من رأسها، وعيونها مسلطة على سلمى في فضول دام لبرهة، قبل أن تهتف مفسرة بسبب قدومها المفاجيء: بريدكم لأمر ضروري، لازما البت فيه هالحين.
نهض أيوب، دافعا كرسي والده المدولب صوب المكتب، تتبعهما رياحين، التي استدارت صوب سلمى، أمرة في كبر: القهوة ع المكتب من يد نفيسة، بعد إذنك.
هزت سلمى رأسها مهادنة، فقد كان كل ما يشغلها اللحظة، هو إخبار أيوب والشيخ بكل الحقائق الغائبة عنهما.
صعدت حجرتها، وما كان منها إلا الصلاة ركعتين، لتطمئن روحها القلقة، وتشملها راحة البال، حتى ولو مؤقتا، تنتظر الوقت المناسب، لكشف سرها.
تنبهت لصوت عربة تغادر الفيلا، فتطلعت صوب النافذة، فإذا بها عربة رياحين، ظلت سلمى موضعها، شاخصة البصر نحو الفراغ خارج النافذة، تمور دواخلها بالكثير من القلاقل والهواجس، همت باللجوء لصلاتها من جديد، لكن صوت البوابة الحديدية، تناهى لمسامعها، لتتنبه أن أيوب يغادر، لكن بذيه الرسمي، دالا على موعد لرحلة جديدة، عليه القيام بها.
تنهدت في ضيق، إذن عليها تأجيل الإفصاح عن سرها حتى عودته الغير معلومة الموعد.
قررت النزول للأسفل، لإحضار رواية ما، تدفن عقلها بين طيات أحداثها، لإلهائه عن التفكير في مجريات الأحداث القادمة، وما قد تسفر عنه.
كان باب المكتب منفرجا، يبدو أنهم لم يغلقوه بعد اجتماعهما مع رياحين، همت بمد كفها لضغط زر النور، فوقع ناظرها على محياه الذي خطف قلبها، كان يهم بختم صلاته الخاشعة، هل عاد بعد أن هم بالرحيل، من أجل صلاته!
لم يسعها الهرب، حين وقعت عيناه على محياها المتخشب على عتبة الباب، لينهض طاويا مصلاه، هاتفا في نبرة مبتهجة: ليا نصيب اشوفك قبل ما أسافر.
همست بصوت متحشرج: ده حضرتك لسه واصل!
أكد أيوب متنهدا: زميل أعتذر، ولازم أروح مكانه.
مد كفه لينير الغرفة، متطلعا صوبها للحظة، قبل أن يغض الطرف عنها، متوجها صوب أحد رفوف المكتبة، باحثا عن رواية ما، لتكون أنيسة رحلته، والتي جذبها من موضعها، متوجها صوب الباب، حيث كانت سلمى ما تزل واقفة، ليهمس مستشفا حالتها: حاسس إنك عايزة تقولي حاجة!
أكدت بإيماءة من رأسها، لكنها همست بدورها: لما ترجع بالسلامة.
ابتسم مؤكدا: وأنا كمان عندي اللي عايز أقوله، بس برضو، لما أرجع بالسلامة.
هزت رأسها متفهمة، ولم تعقب، لا يشغلها ما لديه، بقدر انشغالها بما لديها، افسحت الطريق، ليمر للخارج، وما أن خطى عتبة الباب، إلا واستدار صوبها، متطلعا نحوها بنظرة مبهمة، لم تعرف لها تفسيرا، خليط ما بين الحلم والقلق، هامسا: خلي بالك من ساجد والشيخ يا سلمى، دول أمانتك لحد ما أرجع بإذن الله.
هل نطق اسمها للمرة الأولى بلا ألقاب!..
لا تعرف لما هذه الغصة الغريبة التي استقرت بحلقها، جعلتها غير قادرة على الرد إلا بهز رأسها بطريقة بلهاء، ورغم تجمع الدموع بمقلتيها، إلا أنها كانت عصية على النزول، ليهمس مستطردا، بنبرة ذوبت ثباتها تماما: وخلي بالك على نفسك.
اندفع مهرولا من أمامها، حتى قبل أن تهز رأسها في إيجاب أبله من جديد، تتطلع صوب موضع رحيله، متناه لمسامعها صوت سيارته المغادرة، لتهطل أخيرا دموعها بغزارة، وقد أيقنت أن عليها الرحيل عن هذه البلاد، في أقرب وقت ممكن.
صعدت لحجرتها، وما أن انفرج بابها، حتى طالعت عباءته معلقة على المشجب، لا تعلم لما احتفظت بها بلا وعي، ولم تعطها لنفيسة لترسلها للتنظيف!
مر الوقت بطيئا بعد رحيله، وكأن عقارب الساعة اصابها الشلل، حتى وعدها للشيخ بمصاحبته مساءً، لا قبل لها على تنفيذه، فقط العزلة هي كل ما تبغيه، لعلها تنظم الفوضى، وتعيد ترتيب أفكارها المبعثرة، لكنها انتفضت من موضعها، مهرولة على الدرج في ذعر، حين تناهى لمسامعها صرخة ندت عن نفيسة، ببهو الفيلا، ترددت اصدائها في الأرجاء، هاتفة باسم أيوب في لوعة.
لتسقط هي على الدرجة الأخيرة من السلم، وقد ارتخت أقدامها لا قدرة لها على حمل جسدها، حين هتف الشيخ، قادما من غرفته، حين سمع صرخة نفيسة المقهورة: ولدي، أيوب ولدي..
لتبصر من موضعها سعدون يقف منكس الرأس، وشاشة التلفاز تذيع خبر صادم، عن طائرة ما، لم تكن إلا طائرة أيوب، فأصابها الخرس، ورفعت كفها بلا وعي، لتضعه على موضع فؤادها، الذي يهترئ وجعا في تلك اللحظة.
*************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى