روايات

رواية أوصيك بقلبي عشقا الفصل الثامن عشر 18 بقلم مريم محمد غريب

رواية أوصيك بقلبي عشقا الفصل الثامن عشر 18 بقلم مريم محمد غريب

رواية أوصيك بقلبي عشقا الجزء الثامن عشر

رواية أوصيك بقلبي عشقا البارت الثامن عشر

رواية أوصيك بقلبي عشقا الحلقة الثامنة عشر

“أنظر ماذا فعلتَ بي ؛ تأمل الدمار الذي حوّلتني إليه.. و كل ما فعلته أنّي أحببتك !”
_ إيمان
كان عذابًا خالصًا، ذلك الوقت الذي تلا إتمام عقد القران، يذكر أنه لم يتحمّل البقاء هناك عند إعلانهما زوج و زوجة، ما إن تأهب المأذون بنطقها حتى حمل هو نفسه و انصرف مسرعًا …
لقد خسرها، مرةً أخرى و إلى الأبد، فقدها، و هذا ما يستحقه و يقرّه من داخله.. أليس هو الذي تركها و أدار لها ظهره ؟
أليس هو الذي أذاقها المهانة حين تزوج من غيرها و عاد إلى هنا ليجد حلًا و كان مستعدًا لفعل المستحيل كي يرد طليقته إلى عصمته ؟
الأمر الذي جعله كالمجنون.. كيف كان بهذا الغباء ؟
ألهذه الدرجة كان أحمق !
حقًا لو لم يحدث بينهما تقاربٌ حميمي ما كان ليُدرك كم أنه يعشقها بالفعل، و أنه بحياته لم ينتمي لغيرها بهذه القوة العارمة !؟

 

هل ممكن أنه كان سيقضي عمره كلّه واهمًا بأنها لم تكن سوى نزوة.. كم كان عمره عندما علم بأنه يحبّها ؟
تسعة عشر… كم كان عمره عندما راودها عن نفسها و أخضعها إلى رغباته الحيوانية و كأنها دُمية بين أصابعه ؟
عشرون !!!
هل هذا حب مراهقة !؟؟
لا.. بالطبع لا.. لأنه و ببساطة كان حاضرًا، ربما المرة السابقة ما كانت بمثل قوة تلك لأنها لم تكن أمام عينيه، لكنها و اللعنة تزوجت اليوم و في حضوره دون أن يكون قادرًا على منع ذلك، و عندما حاول قوبل بالرفض …
أطلق “مراد”مزيدًا من صيحات الغضب و النقمة على نفسه، غطى مؤخرة رأسه بكفيه و هو يسير جيئة و ذهابًا عبر ردهة منزله الفسيحة مثل مفترسٍ في قفص الإعتقال، شعر إن عقله على وشك أن يُصاب بشللٍ من شدة التفكير ؛
ماذا عليه أن يفعل ؟.. إلى أين يذهب الآن ؟.. يكره أن يعترف بهذه الحقيقة، لكنّه في تلك الساعة تحديدًا بحاجة ماسّة إلى صديقه الوحيد.. إنه يحتاج إليه بشدة… يحتاج إلى “عثمان البحيري” لكنه لا يجسر على اللجوء له !!!
فعلًا كاد أن ينهار، و هو مستعدٌ لذلك تمامًا.. لو لا أنقذه مؤقتًا قرعًا على جرس الباب
استدار بحدةٍ و مضى صوب باب المنزل، لم يكن لديه أدنى فكرة من الذي يمكن أن يزوره الآن، و لم يكن في وارد ايّ توقعات
مد يده و جذب مقبض الباب الضخم بقوةٍ …

 

جمد أمام المدخل، إنه ينظر أمامه كما لو أنه لا يصدق ما يراه، هل ذكر منذ قليل بأن صديقه “عثمان” هو الشخص الوحيد الذي بإمكانه مساعدته !؟
حسنًا لقد كان حتمًا مخطئًا !
فها هما والديه يقفان أمام عينيه و البسمة ملء وجهيهما يراقبان آثار المفاجأة عليه، لم يكن بحاجة لمزيد من التحفيز، فقد سقط درعه بالفعل خاصةً فور رؤية أمه …
-مراد ! .. تمتمت السيدة “رباب” بشيء من الريبة الآن
جفل “مراد” و تراجع عدة خطوات للخلف و هو ينظر بأعين والديه كمن يستجدي استغاثةٍ، رغم ذلك اجتاحه خجلٌ من أن يراياه على تلك الحال، فاستدار مسرعًا و هو يمسك رأسه بكفيّه بقوةٍ، بقى هكذا يعمل على شهيق و نفخ أنفاسه بثباتٍ كما لو أنه يبذل كل ما في وسعه للتماسك أمام والديه.. لكنه يفشل
و فجأة يشعر بكف أمه يحطّ فوق كتفه، انتفض لوهلةٍ، لكنه ثبت مكانه، مع أن جسمه شرع يرتجف و يهتز بوضوحٍ …
-مراد ! .. كررت “رباب” بصوت أكثر قلقًا
و ما لبث أن انضم لهما زوجها متمتمًا باقتضابٍ متوجس :
-إيه في إيه. مالك يا مراد. رد علينا يابني !؟؟
و فقد صبره، رفع يديه و أدار ابنه من كتفيه ليواجههما، لكنهما صعقا لرؤية وجهه من جديد، وجهه الذي كان عبارة عن إحتقانٍ خالص بالدماء، و عيناه الرماديتين الجميلتين، إنهما الآن شقوق حمراء مغطاة بطبقاتٍ من الدموع الدبقة …
-حبيبي يابني ! .. هتفت “رباب” ملتاعة و هي تلف ذراعيها حوله
أخذت تمسد عليه مجعدة حاجبيها في وهنٍ مثل وهنه تمامًا :
-جرى لك إيه. فيك إيه يا حبيبي رد عليا يا مراد ماتتجننيش !!

 

امتلأت عيناه بالألم أكثر و هو يُحرر مدامعه أخيرًا، تخلّى عن كل مظهر من مظاهر قوته، الرجل الناضج الصلب حتى و الأناني الذي بقى عليه لسنواتٍ طويلة، إنه ينهار الآن بين ذراعيّ أمه، ألقى بجبهته فوق كتفها و بدأ جسمه في الاهتزاز مجددًا ؛
إنه محطم، إنه يبكي.. و لكن بلا صوت …
*****
إرتعدت بقوةٍ، عندما أُغلِق عليهما بابٍ واحد، كانت توليه ظهرها و هي تفكر بمئات الإحتمالات.. اليوم مجرد عقد قران، لماذا إذن طلب أن ينفرد بها بعض الوقت !؟
ماذا يريد منها !!؟؟؟
الجدير بالذكر بأن المكان الذي تطأ قدميه الآن هو غرفة نومها في بيت والدها الراحل، غرفة نومها التي لم يلج إليها رجلٌ من غير محارمها سوى “مراد”.. حتى زوجها الراحل… طوال سنوات الزواج لم يدخل إلى هنا أبدًا… هذا الأمر يسبب لها توتر كبير !!!
-إيمان ! .. همس من ورائها بالقرب من أذنها تمامًا
تسبب هذا بقشعريرة مُخيفة تسللت إليها، أحسّ بها، و لعله ظن إنها متأثرةً بها كما هو حاله معها.. و لكنها كانت في قرارة نفسها تسخر من الأمر برمته
فهذا الفتى، أو الشاب “مالك” الذي كانت في وقتٍ ما تداعبه و تلاطفه و هو ولدٌ صغير، إنه الآن يحاول أن يُغازلها !!
أوزعت نفسها أجفلت حين تنحنح قليلًا قبل أن يقول بهدوءٍ مرح :
-بصي أنا طبعًا كان نفسي أول مرة نكون مع بعض لوحدنا في مكان مميز. لكن إنتي عارفة أدهم مشدد علينا إزاي و كان شرطه بعد كتب الكتاب مانخرجش من البيت لوحدنا لغاية معاد الفرح.. عشان كده طلبت على الأقل أقعد معاكي شوية في أوضتك !

 

و ضحك بخفةٍ و أدرف :
-و لو إني كنت موجود لما اتجوز هو و سلاف و شوفتهم بعد كتب الكتاب خارجين لوحدهم.. بس عادي. أنا مش هعارضه في أي حاجة. لأني بحبه و بحترمه جدًا
وسّعت زاويتيّ شفتاها مظهرة إبتسامةٍ مجاملة، ليستطرد و قد توقف عن الإبتسام للحظة و هو يمد يده تجاه رأسها، تذبذبت عندما شعرت براحته الدافئة فوق حجابها الرقيق …
-أنا مش عايز أكون متطلب أوي ! .. تمتم “مالك” محدقًا بعينيها بثباتٍ :
-لكن في حاجات لسا مش قادر أتخطاها. زي.. زي إني مش قادر أحل محل أخويا !
تفاجأت من كلماته لدرجة نست تلك اليد التي لا يزال يضعها فوق رأسها، بينما يتابع “مالك” بتوترٍ متزايد :
-أنا معجب بيكي آه يا إيمان. لكن لسا شايفك مرات أخويا.. أنا عارف إنه خلاص إنتهى. و إن الميت مش بيصحى و إن من حقنا نكمل عادي.. بس عشان أقدر أكمل يا إيمان و أحس إنك بقيتي ليا أنا. لازم تسمحي لي !
تسارع وجيب قلبها لرؤية اللمعة بعينه، تعرف جيدًا إلى ماذا يلمّح، فنطقت غريزيًا محاولة صده بأقصى ما تستطيع من لباقةٍ :
-مالك.. إحنا في حكم المخطوبين. و ماما و أدهم برا !!
علت ابتسامته و هز رأسه قائلًا :
-فهمتيني غلط. أكيد مش هكون عايز حاجة زي دي و أهلنا على بعد مترين.. لو حصل هاتكون فضيحة !!!
تلميحه الأخير جعلها تشعر بالفزع، حاولت إقناع نفسها بأنه لا يقصد معنى آخر حميمي مِمّا قد يحدث بينهما بالمستقبل، إنه يأخذ الأمور بجدية تمامًا !!!!

 

ماذا كانت تتوقع !؟؟
يزدرد “مالك” ريقه بشيء من الإرتباك و هو ينظر إليها ببطءٍ من فوق لتحت مغمغمًا :
-كل إللي محتاجه بس جزء صغير من حقوقي. منغير ماتتخضي.. بس إنتي طول عمرك كنتي زي مايا بالنسبة لي. مع ذلك كنتي محجوبة عني. يعني مثلًا عمري ما شفتك منغير الطرحة.. ف …
و صمت ممسكًا بمشبك الحجاب بين سبابته و إبهامه، طلب أذنها أولًا :
-تسمحيلي أشيله !؟
مدفوعة بإنعدام الثقة بنفسها و الشعور بأنها قليلة و مُدانة، وجدت نفسها تومئ له بالسماح، فلم يضيع الفرصة و قبل أن تفكر مرةً أخرى، شد المشبك، فأخذ الحجاب يتفكك من تلقائه، حتى إنزلق عن رأسها إلى الأرض، و لم يتبقَ سوى البطانة، تلك كان أمرها سهلًا، سحبها للخلف رويدًا رويدًا كاشفًا عن خصيلات شعرها البنيّة الناعمة
لحظاتٍ و كان رأسها مكشوفًا أمامه، و إذ شعرت من نظراته التي تتفرّسها و كأنها عارية، لم تلحظ شيء آخر، لأن خطوته التالية جاءت على حين غرّة بعد أن تمتم كلمة لم تسمعها جيدًا…قفز قلبها بين ضلعوها حين نزل بفمه و ضغط شفتيه على شفتيها !!!!
جحظت عيناها من الصدمة، بينما يرفع يداه و يجذب وجهها نحو وجهه أكثر، كان قاسٍ، شهواني.. الآن يغطي فمها بفمه بشكلٍ كامل، و بسبب الهبوط الحاد في قدراتها الفسيولوجية و تحكمها المسلوب بنفسها، كانت مجبرة أن تباعد له بين شفتيها مِمّا أتاح له التوغل و التعمق بها

 

و ربما فهم أن هذه إشارة خضراء ليمضي أبعد، تأوّه على فمها و يلف ذراعه حول خصرها و يدفعها أمامه صوب سريرها، أطلقها و سقطت فوق ظهره، فلحق بها نازلًا بثقله عليها، يضغط جسده بجسدها في كل مكانٍ و يحقق رغبته في الشعور بها أقرب و أكثر بكثير مِمّا خطّط، يرخي قبضته عن عنقها و يده تتخلل شعرها حتى وصل إلى مؤخرة رأسها، كان يظنها مستمتعةً به كما هو مستمتعٌ بها حتى و هو يعلم أن الأمر لا بد أن يتوقف عند هذا الحد و أن تلك هي أقصى نقطة يمكنه بلوغها معها الآن
و لكن كان الإحساس بها رائعًا، لا يُصدق، مذاقها على لسانه جميلًا، كأنها كنايةٍ عن نكهتيّ الموكا و القِرفة –مكوّن حلوتها المفضلة الأساسي _ “سينابون” !
كذا رائحتها الطيّبة و ملمسها الحريري لا يُضاهى، فلم يتعب و يتتبع القبل نحو فكّها و عنقها، يزرع الكثير من القُبل و لا يسعر بالإكتفاء …
صوت أنينها المتألم سلخه عن طموحاته و آماله فجأة، توقف تمامًا و أبعد رأسه عنها ينظر في وجهها، هاله ما شاهده، كان الدماريطل جليًا من عينيها الدامعتين، كان فمها يرتجف و آثار قبلاته واضحةً عليه ؛
سحقًا !
ماذا فعل بها ؟ .. إنه حتمًا وغد.. كيف لم يفكر !؟
مهما طال الوقت، لم يدخل حياتها رجلٌ بعد أخيه، بالتأكيد لن تتقبل الأمر بهذه السرعة، و معه هو بالأخص …
-أنا آسف ! .. تمتم “مالك” معتذرًا دون أن يتحرك من مكانه بين ساقيها
لكنها لا ترد، فينسحب ناهضًا عنها بسرعة، يعدل ثيابه التي تجعدت قليلًا ثم يجلس على طرف الفراش بجوارها، يمسك بها و يجلسها بسهولةٍ و هي مذعنة تمامًا إليه، يراها بهذا الخضوع و البؤس فيكره نفسه كثيرًا …
-إيمان أنا آسف ! .. كرر “مالك” هذه المرة بصدقٍ أكبر
دار ليجثو فوق ركبته أمامها، أمسك بيدها و توسلها قائلًا :
-ردي عليا أرجوكي. أنا ماكنش قصدي أوصلك لكده.. و الله. أنا آسف جدًا. بس مافكرتش إنك لسا مش جاهزة للخطوة دي. أنا ماكنتش ناوي أعمل كده أصلًا. أنا عرفت بنات كتير. بس ماحصلش إني ارتبطت بواحدة مرت بظروفك. سامحيني.. ماعرفتش أتعامل معاكي. إيمان بالله إتكلمي. قولي أي حاجة !!

 

-حصل خير ! .. نطقت لاهثة و كأنها طفت الآن على سطح بحر هائج الأمواج
زفر مرتاحًا و هو يترك إحدى يديها ليمسح على جانب وجهها :
-صدقيني. إنتي عندي غالية جدًا.. مكانتك خاصة. بكرة لما نعيش سوا هاثبت لك ده. هاعمل كل إللي في وسعي عشان أسعدك يا إيمان. إنتي ماتستاهليش غير السعادة. و أنا هاديها لك. أوعدك !
أومأت له دون أن تنظر إليه، كانت لا تزال تشعر بدوي قلبها المرعب، كانت تخشى لو توقف من شدته و سرعته، إنه عادةً لا يخفق بهذا الجنون سوى لـ”مراد”.. و كانت تلك أسعد لحظاتها فيما مضى، و لكنها الآن تشعر بفخاخ الموت قريبة منها في كل خطوة تخطوها …

 

-مالك ! .. كان هذا صوت “مايا”
تناهى إليهما من خلف باب الغرفة، فصاح “مالك” من مكانه :
-إيـه يا مايا !؟
-ماما إتصلت. بتستعجلنا. يلا بقى انت عارف إنها لوحدها !
-ماشي جاي.. إسبقيني إنتي
-ما تتأخرش !
و ابتعدت خطواتها عن الغرفة …
عاود “مالك” النظر إلى “إيمان”.. أرملة أخيه و المرأة التي هي زوجته رسميًا الآن ؛
ابتسم لها و قرب يدها من فمه، وضع قبلةً عميقة داخل كفّها دون أن يفقد إتصالهما البصري، ثم قال واعدًا برقة :
-هاتحبيني يا إيمان.. و هاتخلّفي ولادي كلهم. افتكري كلامي كويس !
لم يتسبب هذا الوعد لها إلا بالكرب و القهر الشديد !

 

“أنتِ الغاية من كل شيء فعلته ؛ لا حياة لي إذا لم تكوني فيها !”
_ مراد
قبل ثماني عشر عام …
إنه آخر يوم له في الرابعة عشر، و قد عقد والديه النيّة أن يهبطا به إلى “مصـر” عند نهاية الفصل الدراسي، فقد أرادا له أن يقضي بقيّة سنوات صباه إلى مراهقته في البيئة التي ينتمي إليها، مسقط رأسه، بين أهله و مجتمعه الشرقي ؛
إذ في اعتقادهم أن وجوده هنا يُشكل خطرًا على أخلاقه والتمسك بنواهي و أوامر عقيدته، و رغم أن قرارهما لم يلقى ترحيبًا منه، إلا أنهما أصرا من أجل حمايته من الفتن المحيطة به.. لكنه دائمًا ما يسبقهما بخطوة !
ما زال أمامه شهران حتى يسافر معهما، و الليلة، و قبل أن تدق الثانية عشر و يبدأ عامه الخامس عشر، ستوفي صديقته بوعدها و ستسمح له بغزوها، ذلك الوعد بمثابة هديته لذكرى ميلاده، و هو بالكاد يطيق صبرًا منذ أيامٍ ليحصل على هديته الثمينة …
استيقظ باكرًا و تحضّر جيدًا على غير العادة و هو يرتدي ثيابه ليذهب إلى مدرسته، نزل إلى الأسفل ليلتقي بوالديه على طاولة الفطور بالمطبخ المفتوح، جلس بعد أن أعطى أمه قبلة الصباح و ألقى على والده التحيّة …
-حفلة عيد ميلادك هاتبدأ الليلة الساعة كام يا مراد !؟ .. تساءل السيد “محمود أبو المجد” بينما يقرأ إحدى الصحف الإخبارية
يتناول “مراد” من أمه سندوشًا و هو يجاوب على أبيه :
-يعني مش متأخر أوي. أنا وعدتك مش هاتخطى قواعد البيت !
و نخر بضيقٍ
رمقه أبيه من جانب عينه مرددًا :

 

-يكون أحسن لك. و عايز أقولك أنا و أمك رتبنا كل حاجة للضيافة. يعني انت المسؤول قدامي لو اكتشفت وجود أي مواد مش بريئة.. فاهم قصدي !؟
بالطبع كان يُلمح إلى معاقرة الشراب و ما شابه، ذلك ما جعل وجه الصبي يتأجج من الحنق و يهتف من بين أسنانه :
-هي مش حفلة شاي يا بابا. أنا عندي صحاب أكبر مني دول اعمل معاهم إيه أطردهم ؟؟
طوى “محمود” الصحيفة و رد عليه زاجرًا :
-أنا يتقال لي حاضر و بس يا ولد. انت سامع ؟ خلاص مابقاش في تساهل معاك. انت اتجرأت زيادة لما فكرت أعتمد عليك و اسيبك براحتك. نسيت نفسك و ظنيت إنك واحد من أهل البلد دي. لأ اصحى. انت اسمك مراد محمود يوسف أبو المجد. خليك فاكر كويس انت مين !!
-خلاص يا محمود ! .. تدخلت “رباب” و هي تركل قدم زوجها من أسفل الطاولة
و استطردت مجتذبة عينيه بالإجبار عن عينيّ إبنها :
-مراد من إمتى بيعارض كلامك. انت بس عودته على المناقشة.. إهدا عليه شوية يا حبيبي !
و تحوّلت صوب “مراد” متابعة و هي تمسح على شعره الناعم :
-و انت يا قلبي. أكيد واثق إننا بنحبك أكتر من الدنيا دي كلها. احنا بنعمل كل حاجة عشانك أصلًا.. عاوزين مصلحتك و بس
قسر “مراد” نفسه على الإبتسام و قال بهدوء :
-أنا عارف يا ماما. أنا كمان بحبكوا !

 

أجاد إمتصاص غضب والده ببضعة كلمات مسالمة، و أعتاد دائمًا أن يفعل ما برأسه، طالما إنها حياته فهي ملكًا له هو، بعيدًا عن والديه يستطيع أن يفعل ما يشاء، و هو يعرف جيدًا إنها مسألة وقتٍ و سيحقق مراده في الإستقلال، بضعة أعوام قليلة و سوف يصبح حرًا طليق.. و بمنأى عن هيمنة و سيطرة أبيه، ستكون الدفّة بيديه هو …
-أهلًا بفتى عيد الميلاد !
أطربت العبارة أذنيه.. فقط لأنها خرجت فاهها …
الفتاة التي خلبت عقله تمامًا، و لم يرى في هذه البلاد أجمل منها، كان معجبًا بها إلى حدٍ لعين، و كم كانت صدمته حين اكتشف بأنها تبادله نفس المشاعر، هي بنفسها.. “آبيجيل آدامز” إبنة مديرة المدرسة، الأرملة الشابة “فاليريا آدامز” لا فرق بينها و بين إبنتها في الملامح الجذّابة، و لا تقل “آبيجيل” عنها جمالًا أبدًا، يتشابها في لون العينين الفيروزي، و البشرة الناعمة بلون الخزامى، و الأنف الدقيق و الشفاة الصغيرة المملئة.. الشيء الوحيد المختلف بينهما هو لون شعر “آبيجيل” الناري، و هذا ورثته عن والدها الراحل كما أخبرته ذات مرة
كان “مراد” متيّمًا بها، يحلم بها ليلًا و يهلوس باسمها أحيانًا و هو مستيقظ، كانت شغفه الوحيد منذ رآها العام الماضي، و لأنه صبي خجولٌ جدًا لم يطالها منه سوى النظرات فقط، مِمّا دفعا لإتخاذ الخطوة الأولى، فذهبت له و عرّفته بنفسها، لم يتمالك نفسه من أول مرة و أخبرها أنه معجبٌ بها، و أنه يرى كم هي جميلة و جذّابة.. لتفاجئه بأن لديها نفس الإنطباع عنه أيضًا !
بدأت العلاقة بينهما منذ ذلك الحين، علاقة خفيّة إلى حدٍ ما، أمام الجميع هما مجرد زميلين مقربين، و لكن في خلواتهما هما فقط حبيبان …
-آبي ! .. نطق “مراد” اسمها مبتسمًا باشراق
هنا بساحة المدرسة، بينما يعم الإزدحام بالطلبة من حولهما، عانقها و صافحها بنظراته حرفيًا، كم هي مبهجة للنظر، مثيرة حتى و هي بالكاد تبلغ الخامسة عشر.. لها جسد كالجحيم !!!
-هل أنتَ مشتاقٌ لي. مراد ؟

 

كانت تمارس عادتها اللعينة في قضم شفتها السفلى من الجانب لتثير جنونه و هي تبتسم بخبثٍ …
ازدرد لعابه و هو يشعر بالسخونة فجأة رغم البرد القارس، اقترب خطوتين لتشعر بأنفاسه الحارة أقرب و هو يهمس لها :
-أكثر مِمَا تتصوّرين.. كنتِ بطلة أحلامي طوال الليل !
ضحكت برقة و قالت بإيماءة :
-هذا يفسر حماستك الواضحة. تنتظر حلول الليل بصبرٍ نافذ حبيبي !؟
اختفت ابتسامته في هذه اللحظة، فعبست بدورها و هي تسأله :
-ما المشكلة ؟ هل قلت شيئًا خاطئ !؟
هز رأسه نفيًا و جاوبها بحزنٍ بَيّن :
-لا. و لكن.. الأمر فقط أن والديّ متشددان بشأن حفل الليلة. و لا أظن أن بمقدورنا فعلها. ستكون المراقبة دقيقة آبي !
رفعت حاجبيها : ألهذا أنت حزين هكذا. أنظرلا أعرف ما هي مشكلة أبواك. لكن أعلم أنني أنا المسؤولة عن تنفيذ وعدي لك.. سنفعلها الليلة يا مراد
حدق فيها غير مصدقًا :
-كيف !!؟
-هل تعلم كم الساعة الآن في بلادك ؟
أجفل …

 

-تقصدين مصر !؟
-أجل. ألم تولد هناك.. أم ولدت في لندن ؟
-لا ولدت في مصر. ذهبت إلى لندن مع والديّ و أنا في الرابعة فقط !
ابتسمت بجاذبية …
-و لكنك الآن تقيم بالولايات المتحدة. هل يمكن أن تخبرني كم الساعة الآن بمصر ؟
ضيّق عينيه مفكرًا لبضع لحظات بصوتٍ عالِ :
-إنها الثامنة صباحًا بتوقيت واشنطن.. لا بد أن تكون تقريبًا الحادية عشر مساءً بتوقيت القاهرة !
هتفت بمرحٍ : رائع. أرأيت. إنه التوقيت المثالي يا حبيبي !
لا زال لا يفهم ما تقصد، فقلبت عينيها بسأمٍ و اقتربت من أذنه قليلًا لتهمس له :
-من المقرر أن أهنئك بعيد ميلادك بعد أقل من ساعة. لا يُفترض أن ننتظر حفل المساء لنحتفل ! .. و غمزت له
بدأ يستوعب ما تعنيه بكلماتها، لكنه توتر عكس ما توقعت و هو يسألها :
-و لكن. كيف.. و أين آبيجيل !؟؟
جاوبته بجديةٍ تامة :
-مختبر الفيزياء مغلق للصيانة. قابلني هناك فور حلول ساعة الغذاء. سأذهب الآن لدي فصل تاريخ.. إلى اللقاء حبيبي !
و استدارت موّلية تجاه مجموعة من الفتيات، لتتركه هو مبلبل الفكر بعد أن وضعته أمام الأمر الواقع، دق جرس المدرسة معلنًا بداية اليوم الدراسي، و ذهب كلٌ إلى صفّه، و لكن كيف عساه أن يركز على أيّ شيء ؟

 

فهو بعد قليل سوف يخوض أول و أهم تجربة بحياته كلها.. تنتابه مشاعر عنيفة و جمّة، يخشى أن يخفق، أو يحدث أيّ شيء يُفسد الأمر برمته، إنه صفر من الخبرة في هذا المضمار، لولا تشجيع بعض أصدقائه و دفعهم إيّاه ليجرّب ما كان مهووسًا إلى ذلك الحد للخوض فيه
لا يمكنه التراجع الآن، لا يمكنه تفويت تلك الفرصة خاصةً مع فتاة مثل “آبيجيل”.. اليوم سوف يثبت رجولته معها… اليوم سيكون بالغٌ رسميًا !!
حانت أخيرًا ساعة الغذاء، و اعتذر “مراد” من رفاقه متذرعًا بحجة المرور بالمكتبة لإستعارة بعض الكتب الهامة، لكنه بالطبع توّجه رأسًا إلى مختبر الفيزياء الواقع بالرواق الكبير، قريبًا من حركة سير الطلبة بما يكفي ؛
ولج “مراد” إلى هناك و أغلق الباب خلفه مسرعًا، كان قلبه يدق في صدره بعنف، بادئ الأمر ظن أنها لم تأتي بعد، لكنه تفاجأ بيدها تلمس كتفه من الخلف، لا يمكن أن يُخطئ لمستها قط !
أغمض “مراد” عينيه على دفقاتٍ من المشاعر العارمة جاشت بدواخله، الآن كل مخاوفه تبددت، فهو حقًا لا يريد سوى أن يكون معها، و الآن …
-آبي ! .. استدار مطوّقًا خصرها بذراعيه
بادلته العناق بحرارةٍ أكثر و هي تدفعه نحو آريكة جلدية تكسوها الأتربة، سقط فوق ظهره و اعتلته هي مبتسمة و هي تتحسس جيب سرواله الجينز متمتمة :
-قل لي إنك لم تنسى إحضاره أرجوك. آخر ما أريده هو أن يخيب أملي فيك الآن !
رد لها الإبتسامة و سحب من الجيب الذي تضع يدها عليه ذلك المغلف، برقت عيناها و تخضذبت وجنتاها بحمرةٍ طفيفة بينما يخبرها و هو يبادلها الهيمنة و يضعها مكانه ليكون مكانها :
-تخيّلي أنه بحوزتي منذ ما يربو عن العام !

 

رمقته بدهشةٍ …
-ألم تقل إنها مرتك الأولى !؟
أومأ لها …
-بلى. و لهذا أعددتُ لها منذ ذلك الحين. منذ رأيتك أول مرة.. عرفت إنكِ ستكوني لي آبي
-حبيبي ! .. و شبكت ذراعيها حول عنقه
لعقت جانب فمه مِمَا أثار جنونه و جعل رأسه تدخن، ليتفوّه بجرأة الآن و هو يتفرّس بملامحها الجميلة :
-الوقت يُداهمنا آبي.. أرجوكِ اخلعي هذا القميص أو سأفقد عقلي !
عضت على شفتها بقوة و هي تغمغم له :
-انت أولًا !
كان بالفعل يشعر بالرطوبة، خلع قميصه من رأسه على الفور، و فعلت مثله و هي تقبله بعمقٍ و لهفة في آنٍ، أتت مداعباته لها ثمارها و أصدرت أصواتًا جعلته يزداد ثقةً بنفسه و يتحمّس للبقيّة.. إنسلخ عنها بصعوبةٍ قبل أن يتم الأمر تمامًا …
-آبيجيل ! .. نطق اسمها لاهثًا بعنف
-هل أنتِ عذراء ؟
توّردت مرةً أخرى من سؤاله، و أجابت بخفوتٍ :
-لا.. هل تكره هذا !؟
هز رأسه و منحها ابتسامةٍ لطيفة :
-لا. مطلقًا.. في الواقع هذا مريح بالنسبة لي. فأنا لا أريد أن أؤذيكِ بأيّ طريقة !
ابتسمت من جديد …
-ألا تريد أن تعرف القصة ؟
– لا يُهم. المهم إنكِ بين ذراعيّ أنا الآن !
تم الأمر بينهما، مع ترافق كليهما، طبعت قبلة على خدّه و همست له :
-عيد ميلاد سعيد مراد !
كانت تلك مرته الأولى.. و الحقيقة أنه لم يكن يكن لأول فتاة أيّ مشاعر حب، كانت بالنسبة له شغف و إعجاب فقط، ما إن نالها صارت من ضمن ذكرياته، و تنقل بعدها بين الكثيرات، وصولًا إلى حبيبته “إيمان”.. أدرك عشقها متأخرًا
متأخرًا جدًا …
*****

 

كان يتكئ على طاولة الصالون، ممسكًا الحافة بيديه، واضعًا رأسه بين كتفيه، كانت الدموع لا تزال بعينيه يمسك منها ما إستطاع، بينما والديه يجلسا خلفه و لا يقتربا إليه بطلبٍ منه …
-تربيتي كانت مسؤوليتكوا ! .. قالها “مراد” بصوتٍ خشن يداري فيه نبرة البكاء العنيفة
اعتصر عينيه و كفكف كل دموعه بكمّ قميصه، ثم استدار بعينيه الحمراوين يواجه أبويه و يلقي باللائمة عليهما مشيرًا باصبع الإتهام :
-و تربيتي كلها كانت غلط.. أنا بسببكوا عشت ضايع. ماعرفتش حتى نفسي !!!
كانت “رباب” تبكي هناك فقط، ليقف “محمود” في هذه اللحظة و قد نفذ صبره على إبنه، اقترب منه قليلًا و هو يهتف بغضبٍ :
-ما تتكلم عدل ياض انت. مش كفاية مقعدنا قصاك زي العيال الصغيرة. انطق و قول حصل إيه شقلب حالك كده ؟؟؟
احترقت عيناه أكثر و هو يحملق بأبيه طاحنًا أسنانه :
-إللي حصل. إني فتحت عيني على عالم مش بتاعي. إللي حصل. إني اتعلمت الأصول بس. و حتى دي ماعرفتش أطبقها.. عارف ليه يا بابا ؟ عشان أنا طول عمري كنت مسلم بالإسم. انت و ماما اهتميتوا بتعليمي و قدمتوا ليا الحياة إللي يتمناها أي طفل و حتى لحد ما بقيت راجل. بس في المقابل. لو سألتني مش هاتلاقيني حافظ فاتحة الكتاب أصلًا. مش هاتلاقيني عارف أركع ركعة واحدة.. أنا عشت عمري كله مُغيب. بسببكوا خسرت كتير. و دفعت التمن غالي أوي. أوي !!!!
فقط تعبير الصدمة هو كل ما يجلل وجهيّ “رباب” و “محمود”.. وقف “مراد” يطالعهما بمرارةٍ و خيبة أملٍ كبيرة
لم يتحمل الوقوف بينهما أكثر من ذلك، سحب أغراضهو هاتفه، و انطلق خارجًا من المنزل على الفور
*****

 

إنفض الإحتفال، و ذهب كلٌ إلى سبيله ثانيةً، و لكن “أدهم”.. لا يزال “أدهم” لم يتخطى اعترافات ابن خالته قبل عقد قران أخته مباشرةً
كان في حالة من الذهول و الإنكار، الإنكار أكثر لأن “مراد” ادّعى بأن هناك علاقة حب متبادلة بينه و بين “إيمان”.. هو لا يصدق ذلك، فأخته طوال عمرها كانت فتاة محافظة، خجولة، حتى عندما تزوجت، يذكر بأنها لم تتأقلم بسرعة في حياتها الزوجية، فكيف إذن يأتي و يخبره بهذا الهراء !!؟
حتمًا هناك خطبٌ، لم يفهم جيدًا، و لكن الأمر لن يمر مرور الكرام.. فها هي “إيمان” تجلس أمامه، هو و هي في شقته على حدة، أما زوجته و أمه فمع الأطفال بالأسفل
صنع لنفسه فنجان قهوة لأنه شعر بحاجة ماسّة إليه، و الآن هو واقفٌ أمام أخته بغرفة المعيشة، يحتسي قهوته و ينظر إليها مليًا و يدرسها، بينما تنكس هي رأسها آبية النظر إليه.. أو لعلها… خائفة !!!
-فاكرة يا إيمان لما سيف مات ! .. دمدم “أدهم” بهدوءٍ
و لكنه لم يغفل ارتجافتها لمجرد سماع صوته، أردف رغم ذلك بنفس الأسلوب :
-جيت لك بعدها بفترة عشان استأذنك نعمل فرح عائشة. فاكرة يومها قلتي لي و أنا بلمح لك بس باحتمال إنك ترتبطي من بعده. ثورتي عليا في لحظتها و قلتي لي مش هايحصل. أنا فاكر بالحرف الجملة إللي قلتيها و لسا في وداني.. قلتي. بعد سيف الرجالة خلصوا بالنسبة لي !

 

ترك فنجان قهوته جانبًا، مشى ناحيتها حتى جلس في كرسي مجاور لها تمامًا، مد جسمه قريبًا منها …
-إيه إللي حصل غيّر رأيك يا إيمان. و إشمعنا قبلتي بمالك و اتجوزتيه بالسرعة دي. على الرغم إن أتقدم لك رجالة كتير بعد سيف. كلهم في نظري أحسن منه و من مالك. ماكنتش أتمنى لك أكتر من أي راجل فيهم… رررردددي عليا يا إيمـان !!!
هكذا فقد السيطرة على نفسه بغتةً و انفعل عليها …
ارتعدت بقوةٍ و ضغطت على عينيها بشدة، لم على استعداد مطلقًا لأيّ استجوابات يريد طرحها، لم تكن لديها أيّ طاقة و هو ما كان واضحًا
لكن “أدهم” لم يُبالي و كرر عليها بحدة أكبر :
-بصيلي و كلميني يا إيمان. مش هاسيبك إلا لما أفهم.. قوليلي إيه علاقتك بمراد !؟؟؟؟
ما خافت منه طوال عمرها قد حدث للتو
ها هو أخيها يعلم بسرها، و لكن إلى مدى تصل معرفته، تتمنى الآن لو تختفي من الوجود بفرقعة اصبعين، لا يمكنها أن تجلس و تتحدث معه عن هذا الشأن.. لا يمكن …
-بقولك بصيـلي !!!

 

تحت إصراره الشديد، رفعت رأسها و نظرت إليه عبر نظراتها الغائمة، إنه يحدق فيها بتصميم، لم يتراجع أبدًا، إنه مخيف للغاية الآن أكثر من أيّ وقت رأته هكذا من قبل …
-إيه إللي تعرفه يا أدهم !؟ .. تساءلت “إيمان” بشجاعة
ربما كانت حذرة فقط مخافة على أخيها من الصدمة فيها، و ليس خوفًا عليها هي.. الوضع برمته مزري بما يكفي لو يعلم أخيها !
لم يتحرك و لم تتغيّر تعبيراته الصارمة شبرًا واحدًا، لكن فكّه توتر و هو يقول :
-يعني صحيح ؟ صحيح إللي سمعته منه.. كانت بينك و بينه علاقة حب !!؟؟؟
غمرتها بعض الراحة بداخلها و هو يُدلي لها بالذي عرفه من “مراد”.. ما أكد لها بأن الأخير لم بفضح سرهما الأشنع، قامت واقفة فجأة و هي تقول بعصبية :
-الكلام ده كان زمان. كنا عيال يا أدهم.. أيوة كنا بنحب بعض. بس انت عارف الباقي هو مشي و انا اتجوزت. كل حاجة انتهت ف جاي بتحاسبني على إيه دلوقتي !؟؟
هب واقفًا هو الآخر و هو يصيح بغضبٍ :
-بحاسبك على ثقتي فيكي إللي ضايعتيها. متخيلة تفكيري عامل إزاي بعد ما عرفت حاجة زي دي. إنتي كنتي تربية إيدي أنا يا إيمـان. إنتي كنتي أقرب ليا حتى من عائشة. إزاي عملتي كده من ورا ضهري.. إزااااي !!؟؟؟

 

إنهالت مدامعها في هذه اللحظة و هي ترد عليه منتحبة :
-غصب عني. مش بإيدي. كنت محتاجة له. أنا كنت لسا بنت صغيرة و ماعنديش أي خبرة. و انت كنت بتحافظ عليا دايما و مجنبني أي احتكاك. مراد كان قريب مني.. اتعودت على وجوده جمبي. حبيته يا أدهم. حبيته غصب عني !!
ثار عليها غير مصدقًا :
-و كان فين عقلك.. هه. قوليلي كان فين دينك و خوفك من ربك و إنتي بتعصيه و بتواعدي شاب من ورا أهلك !!؟؟؟
أغمضت عينيها بشدة فور تفوّهه بالكلمة الأخيرة، إنه يشير لنقطة هي أهون ما بالقصة، فماذا لو عرف السر الكبير.. كيف يستطيع تقبّله ؟
السؤال أساسًا هو كيف تبرأ من عشقها الأثيم.. كيف يمكنها أن تنتزع “مراد” من قلبها… إنه يسكنها.. في دماؤها و قلبها و عقلها.. لا ينفك عنها كالمرض الخبيث
و لا جدوى أبدًا من الشفاء، إنها تحبه، لا زالت تحبه و تريده، لا زالت ضعيفة، و تعرف أنه لو أتاها محاولًا فإنها ستسقط في شِباكه عن طيب خاطرٍ و تخسر توبتها و كل المعاناة التي خاضتها …
فجأةً هبطت “إيمان” على ركبتيّها أمام أخيها، قبضت بكفيها على نسيج السجاد السميك أسفلها حتى أقتلعته تقريبًا، كتفاها يبدآن في الإرتعاش بسبب تلك الشهقات التي جاهدت لتكتمها، فأفلتت منها بقوةٍ و أخذت تبكي مثل طفلةٍ
تبكي و تبكي بشكلٍ مثيرٍ للشفقة و هي تهز رأسها متمتمة بحسرة :
-مافيش فايدة.. موّتني. بحبه يا أدهم. موّتني بحبه.. بحبه.. بحبه… بحبه.. بحبه !
أخذت تُعيد الكلمة كما لو أنها اسطوانةٍ مشروخة، لم يكن هناك ما يشير إلى أنها ستتوقف …
بقى “أدهم” عاجزًا بمكانه، مصدومًا من رؤيتها هكذا، لقرابة الدقيقتين و هو في حيرةٍ من أمره.. حتى غلبه فؤاده لدموعها و سماع الألم يكتسح نبراتها
جثى أمامها بدون تفكير، وضع يده عليها، فرك ظهرها و مسّد على شعرها، ضمها إلى صدره بقوةٍ مرددًا بلطف :
-طيب.. طيب خلاص. خلاص يا إيمان… طيب خلاص !
لم يسعه أن يواسيها بكلماتٍ أخرى، فمن جهة لا يزال غاضبًا عليها، و من جهة لا يحتمل أن يراها متألمة إلى هذا الحد.. هو يعرف أن أخته لا تستحق ذلك
أخته “إيمان” لا تستحق أيّ سوء يحيق بها
لا تستحق أبدًا …
*****

 

وقف على أعتابه
لم يتردد أبدًا في الذهاب إليه
في الواقع أن مجيئه تأخر كثيرًا
لكن الأوان لم يفت بعد …
بكلتا يداه، و لأكثر من ثلث ساعة، لم يتعب “مراد” و هو يدق على أبواب المسجد المغلقة، كانت دموعه تسابقه و هو يتخيّل بأنه هذا باب الرحمة، و قد أغلق بوجهه للأبد، كان في عالمٍ آخر و هو يعقد محادثة بينه و بين السماء، يظن بأن لا أحد يسمعه، و لكنه مخطئ، أكثر من مخطئ، فهو حتمًا يسمع.. و يجيب المضطر
حاشاه أن يرد سائلًا، حاشاه أن يذر عاصيًا يستجدي التوبة، يتوسل الرحمة
حاشاه …
-يارب.. اسمعني. أنا جيت لك.. أنا اتأخرت بس جيت لك.. ماتقفلش الباب في وشي كده.. يارب أنا آسف. أفتح لي.. لو سبتني كده مين ياخد بإيدي.. لو سبتني كده أروح لمين غيرك.. يارب… يارب !
-إيه يا أستاذ في إيه !؟
إلتفت “مراد” إلى الصوت الغريب ورائه، ليجد شابًا في مقتبل العمر، ظهر من العدم أمامه، كان يرمقه بريبة و هو يقف هكذا أمام باب المسجد و حالته يرثى لها …
-من فضلك شوف حد يفتح لي المسجد ! .. قالها “مراد” و صوته مليئ بالألم تمامًا
سأله الشاب : خير يعني. عاوز إيه.. مافيش حد جوا انت عارف الساعة كام دلوقتي ؟
في الحقيقة الساعة تشير إلى الثانية و النصف صباحًا
لكنه لم يهتم، و أصر :
-أرجوك. أنا لازم أدخل.. عايز أصلي !

 

تعجب الشاب : لا حول و لا قوة إلا بالله. طيب يا أستاذ شكلك محترم يعني. لا مؤاخذة ماعندكش بيت تصلي فيه. لو مصمم ارجع بعد ساعتين على صلاة الفجر !
هز “مراد” رأسه و قد أطلت الدموع من عينيه، اعترف بخزيٍ مميت :
-مابعرفش !
الشاب مستوضحًا : مابتعرفش إيه لا مؤاخذة !؟
مراد بمرارةٍ : مابعرفش أصلي !!
صعق الشاب في الحال، و أخيرًا أدرك معاناة ذلك الرجل، أثقلته الصدمة لبعض الوقت، لكنه تحرك دون تفكيرٍ و أستلّ المفاتيح من جيبه.. فتح له أبواب المسجد و دعاه للدخول
خلع “مراد” حذاؤه و دلف، يقشعر بدنه و يشعر بخشوعٍ فور أن وطأ الجانب الآخر، تبع الشاب إلى دورة المياه، علّمه الأخير كيف يتوضأ، ساعده في كل صغيرة و كبيرة و أخذ يصب له الماء أيضًا.. ثم أخذه و علّمه فاتحة الكتاب
كان الأمر عسيرًا عليه، لكنه الشاب كان صبورًا، و تقدّمه مؤديًا ركعتيّ التوبة أمامه و هو يرفع صوته ليفعل “مراد” مثله.. لم يكن يتخيّل أن بمقدوره أن يذرف هذا الكم من الدموع
لقد بكى كطفلٍ و هو يركع و يسجد و يطلب المغفرة من رب العالمين
و يستطيع أن يجزم بأن الليلة، رغم بشاعة أحداثها الفائتة، لكن ختامها جعلها تبدو واحدة من أفضل ليالي حياته، بل لا تقارن بأيّ شيء، لقد ولد من جديد

 

الليلة هي ليلة ميلاده الحقيقية …
-أنا مش عارف أشكرك إزاي يا عمر ! .. قالها “مراد” و هو لا يزال يجلس بالمسجد
أمامه الشاب “عمر” يبتسم له بسماحةٍ قائلًا :
-لا شكر على واجب يا أخي.. انت بس تعالى كل يوم !
و ضحك بمرحٍ
ليعده “مراد” …
-هاجي.. إن شاء الله هاجي !

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أوصيك بقلبي عشقا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى