روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وثمان عشرة 118 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وثمان عشرة 118 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وثمان عشرة

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وثمان عشرة

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وثمانية عشر

الفصل المائـة وثمانية عشر :-
الجُـزء الثـانـي.
“لم يكن هذا هو العهد الذي بيننا، لقد مزقتِ بيديكِ كُل أغصان الزيتون.”
___________________________________
على هُدى البحر الثائر، كانت خطواتهم بجوار بعضها البعض، تلامس الأمواج المتلاطمة أطراف أقدامهم بعدما نزعوا أحذيتهم، إنه الوضع المثالي الذي مكنّهم من التحدث بهذه الأريحية.
ركلت “سُلاف” مياة البحر بقدمها وهي تنظر في إتجاه الأمواج، وحررت أنفاسها المختنقة وهي تسترسل في الحديث العفوي الخالي من أية قيود :
– عشان كده مكنش في حل غير إني أبعد يا نضال، مقدرتش أصمد قدام المواجهة دي خصوصًا دلوقتي.. والضغط عليا بقى من كل حته.
كان رزينًا متزنًا، بقدر الإمكان سعى ألا يكون مصدر آخر للضغط عليها، بل جعل من نفسه متنفسًا لها :
– انتي عايزة إيه يا سُلاف؟.. اللي انتي عايزاه بس هو اللي هيحصل.
توقفت عن السير بعدما أحست في تلك النقطة تحديدًا إنها باتت بلا طاقة :
– أنا نفسي مش عارفه عايزة إيه يانضال، أول مرة أبقى في الحالة دي، جزء مني عايزة ينسى ويعيش، وجزء تاني مصمم إن مفيش مستقبل بينا، مبقتش عارفه أعمل إيه.
أسبلت جفونها، وتعلقت عيناها بالأرض وهي تقول عل استحياءٍ مضطرب :
– حمزة كل يوم بيحاول يجذبني بكل طريقة، مبقاش هو حمزة القرشي اللي كنت بطارده في المحاكم وبجري ورا كل قضاياه عشان أخربهاله.. حاجات كتير حصلت وحاجات كتير اتغيرت.
لو تعلم أن كلماتها تنغرز في صدرهِ لتوقفت عن إيلامهِ بهذه الطريقة المبرحة؛ لكنها متغيبة تمامًا عن أي شئ سوى مشاعرها المتوعكة. عادت “سُلاف” تتابع سيرها ومازالت تتحدث إليه بأريحية شديدة :
– وزين كمان، أنت عارف أنا متعلقة بيه إزاي وكان عندي أمل يكون…. ابني.
كان عليه أن يتخذ تلك الخطوة المجترئة، ويسألها دون مراوغة :
– انتي بتحبيه يا سُلاف؟.
– لأ… آ…
كأنها تلامست مع ماس كهربائي، ظهر توترها على الفور، وتلجلجت الكلمات على لسانها وهي تحاول نفي وضع بدأ يفرض نفسه :
– أنا بس حاسه إنه صعبان عليا.
بدأ “نضال” ينحاز لموقفهم ويدافع عن مبدأ سعوا جميعًا إليه :
– واحنا مين مين حسّ بينا لما عيشنا أيتام طول عمرنا يا سُلاف؟.. حمزة مش ملاك أوي كده.
– ومش مذنب في حقنا زي أبوه.. هو صحيح طلع عجينة منه، بس مكنش عنده اختيار تاني.
ابتسامة لم تفهم معناها، ظهرت على مبسمهِ وكأنه يسخر من ذلك الوضع :
– انتي بتحبيه وبتكابري يا سُلاف.. غرورك مش قادر يسمحلك تقولي إنك حبيتي الإنسان اللي كنتي بتسعى لهلاكه هو أهله.. مش كده؟.
أطالت النظر لعينيهِ دون فرار، كأنها ترى فيهما حقيقتها، أرادت أن تسمع ذلك منه، أو أن تحظى بتأييد من العائلة لئلا ترى في نفسها خائنة أو ما شابه :
– تفتكر دي الحقيقة؟.
ودّ لو يرفضها، لو إنه ينكر هذه الحقيقة التي باتت واضحة وضوح الشمس في أوج النهار؛ لكن الواقع المُخيّب لآماله قد فرض نفسه على الجميع، وإن كان من وسعها أن تكبح جماح رغباتها المكنونة اليوم، فلن تستطع فعلها غدًا، سيأتي الوقت الذي ينهار فيه صبرها وتحملها وتغاضيها عن قلبها. أطرق “نضال” رأسه في ضيقٍ حاول ألا يُظهره، ثم أجاب سؤالها :
– مفيش تفسير تاني لدفاعك عنه، وحالة الإضطراب اللي انتي فيها دي بسبب إنكارك اللي مبقاش له داعي.. أظن دلوقتي بس صدقتي إن راغب مشي في طريق مش هو اللي اختاره، هو كمان ملقاش غير بنت صلاح عشان يقع في حبها.
وسط شعورها بالحنين الجارف الذي حطّ عليها فجأة، التمعت عيناها بلمعةٍ موشكة على البكاء، وتحولت نبرتها لأخرى هشّة وضعيفة :
– راغب وحشني أوي.
وانساب الخيط الرفيع من عينيها وهي تسترسل في كلماتها المتأثرة :
– مكنتش عايزة نخسر حد يا نضال، ولا راغب ولا يسرا ولا حتى أمهم.
مسح الدموع عن وجنتيها بأصابعهِ قبل أن يربت على ذراعها مواسيًا:
– محدش كان عايز كده يا سُلاف، بس دي الحرب.. لازم يكون فيها خساير حتى للطرف اللي بيفوز في النهاية.
أحست بأحتياجها لعناقٍ يُذيب برودتها المتوجعة، فلم تتأنى التفكير وراحت تعانقهُ بصفو نية، لامسه فيه الأخ والصديق ورفيق الطفولة، ثم همست ممتنة له :
– شكرًا لوجودك يا نضال، أنا من غيرك انت وعِبيد مكنتش هقدر أتخطى غياب راغب عني.. انتوا اخواتي بجد.
اعتصر عيناه بقوةٍ وهو يستمع نعتها له بالأخ، بعدما تأكد إنه لا يوجد لديه أدنى فرصة ليكون معها، والأمل صار منعدمًا لا وجود له في ظل مشاعرها الحقيقية تجاه “حمزة”. ضاع حلمه الذي طالت لياليه وهو ينتظرهُ في لمح البصر، والآن لا يوجد سوى قبول الأمر الواقع وتقبل إنها غيرت وجهتها عنهم.
كأنه عناق الوداع الأخير، الوداع الذي لن ينساه “نضال” أبدًا، وكيف ينساه وهذه هي الليلة التي اعترفت فيها بشكل غير مباشر، أن قلبها لم يعد عليه سُلطان؟!. تلجّم لسانه عما أتى للبوح به، معتنقًا الصمت كما فعل طيلة السنوات الماضية وبداخله صنوف من العذاب. ابتعد عنها وتلك البسمة الوديعة الكاذبة ما زالت ترافقه، ثم أردف بـ :
– بس في حاجه ضروري تعمليها.
تفهمت على الفور معنى تلك النظرة وإلام ترمي، فـ أومأت رأسها بالإيجاب :
– عمي..
أخرج “نضال” هاتفه وبدأ إجراء مكالمة مرئية (مكالمة ڤيديو)، ثم أعطاها الهاتف تنظر في شاشتهِ إلى أن آتاها صوت العمّ القلق المذعور :
– سُـلاف.. ليه كده يابنتي؟؟.. وجعتي قلبي من الخوف عليكي يا سُلاف.
انبعجت شفتاها في بسمة عريضة وهي تبرر :
– حقك عليا يا عمي، كنت محتاجة أكون لوحدي شويه.
– وهترجعوا أمتى ان شاء الله؟.. انتي وحشتيني أوي ياسُلاف، كل حاجه مستنية رجوعك يابنتي، الباسبورات والتأشيرات كله جاهز، هنسيب مصر مجرد ما تيجي.
تلاشت ابتسامتها شيئًا فـ شيئًا، وتحركت قدماها لتسير على الشاطئ وهي تتحدث إليه في محاولة منها لتفسير نفسها :
– آ… عمي أنا مش هسافر ، مش عايزة أسيب مصر.
تجهمت تعابير وجهه، استطاعت هي أن ترى ذلك عبر شاشة الهاتف الساطعة، فـ انقبض صدرها بترقبٍ لما سيقوله، حتى أردف معترضًا على بوادر عصيانها له :
– اسمعي يا سُلاف.. أنا اديت العيلة دي كتير أوي، أخر حاجه خدوها مني كانت ابني الوحيد.. مش هسيبك ليهم مهما حصل.. انتي سامـعة؟.
أطرقت رأسها ثم عادت تقول :
– عمي.. أنا عايزاك متحكمش عليا بالسجن بقيت عمري.. كفايه اللي ضاع مني.. أنا كمان خسرت وخسرت كتير أوي كمان.
حملقت عينا “مصطفى” مع تشبيهها العنيف، وسألها في ذهولٍ :
– سجن؟.. أنا بسجنك يا سُلاف؟.
على الفور سعت لتعديل المعنى لئلا يُساء فهمها :
– أي مكان غير مصر بالنسبالي سجن يا عمي.. مش هقدر أمشي من هنا.
تنهد “مصطفى” وكلهُ ثِقل، ثم أردف بنفاذ صبر :
– احنا مبقاش لينا عيشة هنا يا بنتي.. لازم نبدأ في مكان تاني، أنا مش هعيش ليكم العمر كله يا سُلاف، وعايز ارتاح قبل ما أمشي يا بنتي.
انقبض قلبها على ذكر الموت مجددًا، فلم تعد تحتمل خسارات أكبر في حياتها، وتنفست بصعوبةٍ كأنما يلثم أحدًا مخارج أنفاسها :
– أرجوك متقولش كده يا عمي.. انت اللي فاضلي انا خلاص مبقاش ليا جذور غيرك.
تأثر “مصطفى” بدموعها الرقراقة، كأنها أشبهت أمها كثيرًا في هذه الآونة، كانت دموعها قريبة أيضًا، لا تتحمل أي ألم. أرهقهُ كونها تريد الشئ الوحيد الذي يستصعبه، بل ويراه مستحيلًا، مجرد اجتماعها مع ذلك الرجل تحديدًا دون غيره يُقلب عليه مواجعهِ، يذكره بفقدهِ وخسارتهِ؛ لكنه في نفس الآن يشفق وبشدة على حال فتاةٍ لم ترى من الطفولة بهجتها ولا من الشباب حيويتهِ، مازالت في مقتبل العمر لكنها تبدو گإمرأة في العقد الخمسين من العمر.
أراد أن يجري محاولة أخيرة يجرّ بها لأول خطوات التخلّي، عساها تكون الطريقة التي ستجدي نفعًا:
– طيب.. أنا عارف الغربة وحشة برضو، تعالي معانا زيارة، زيارة وبعدها لو عايزة ترجعي مصر أنا مش همنعك.
تغضن جبينها وقد خمنّت ما يسعى إليه “مصطفى” ، بينما الأخير لم يتوقف عن الإلحاح :
– اعتبري نفسك بتوصلي عمك للبلد اللي هيقضي فيها باقي عمره يا سُلاف.. صدقيني يا بنتي مش همنعك لو قولتي أرجع مصر.
تنهدت في تحيّر شديد، ولم يتركها “نضال” في هذا الشتات كثيرًا، حيث واصل هو أيضًا ضغطهِ عليها من جهة أخرى :
– اعتبريها رحلة يا سُلاف.. وانتي أكتر واحدة بتحب السفر فينا.. كام يوم بس تغيري فيهم جو.
كان يتطلع إليها بترقبٍ، خيفة أن ترفض الفكرة كلها، وحينها لن يقوَ أحد على إجبارها للمغادرة؛ وبعد لحظات من الصمت المقلق كانت تنهي ذلك الإلحاح بـ :
– هفكر ياعمي.
**********************************
لم تحسب تحديدًا كم عدد الساعات التي قضتها معه، متناسية تمامًا أمر “حمزة” الذي تركته في منتصف الطريق دونما تبرير. عادت “سُلاف” إلى المنزل في عجالة وكلها تشوّق لإستقباله لها، كيف سيتشاجر معها وكيف سيلوم على تجاهلها له طيلة ساعات غيابها عنه!. وصلت وفي مسامعها صوت “زين”؛ لكنها تفاجئت بصمت مدقع في المكان، سكون مريب للغاية، دفعها أن تنادي بتلقائية شديدة :
– حـمزة؟!.
لم تتلقى أي جواب، فـ أوفضت بالدخول صوب الغرفة التي كان يسكنها، لتججها فارغة تمامًا، حتى آثار تواجدهم غير موجودة. انقبض قلبها في خوفٍ وعادت للخارج وهي تصيح بندائها:
– أم عــلـي؟.
لحظات وكانت تقف أمامها لتتلقى سؤالها على الفور :
– زين وأبوه فين؟.
كانت تعابير الأسف منتشرة على قسماتها وهي تجيب :
– مشيوا.. شوفته بيلم كل حاجه هو والجدع اللي معاه وخدوا زين ومشيوا.
گعادتها، كتمت ذلك الألم الذي حُفر في قلبها توًا، وتظاهرت بتأييدها موقفه رغم حالتها المكلومة :
– أحسن برضو، كويس إنها جت منه ووفر عليا مجهود التفكير.
زفرت “أم علي” في ضيقٍ وهي تعرض عليها :
– أجهزلك العشا؟.
هزت رأسها بالسلب وهي تلتفت لتعود إلى الداخل :
– لأ مليش نفس.. تصبحي على خير.
– وانتي من أهله يارب.
دخلت نفس ذات الغرفة وأغلقت عليها من الداخل، فـ عطلت عيناها غزير الدموع التي احتبستها طويلًا، انهمرت منها گفيضٍ يغزو الأرض المتعطشة للماء، وارتمت بجسدها على الفراش وهي تجهل السبب وراء تلك الحالة التي داهمتها فجأة. كتمت أنفاسها في الوسادة لئلا يعلو صوت نشيجها، واستسلمت لبالغ الحزن والأسى ليرافقاها طوال الليل، وحتى غابت عن الوعي دون أن تشعر بحلول أول خيوط للشروق.
************************************
*بعد مُضيّ ثلاثة أيام*
أول ما فعلهُ صبيحة اليوم هو إعداد رضاعة الصغير من أجل إطعامهِ، بعدما ظل هاجدًا الليل كله يحاول تهدئتهِ وإسكاتهِ. دخل “زين” في نوبة بكاء دون توقف، حتى إنهم في المشفى حللوا حالتهِ بإنها لأسباب غياب الأم وليست أسباب عضوية، فعاد به “حمزة” للمنزل محاولًا السيطرة على الموقف بعدة طرق. ارتدي “حمزة” إحدى قطع الثياب التي تحمل رائحتها، ووضعه قرابة قلبهِ لينبعث إليه الدفء المطلوب، ثم بدأ في إرضاعهِ بالحليب الصناعي المخصص للأطفال ليتناول “زين” بنهمٍ جائع. ظل هكذا قرابة الربع ساعة، حتى شبع الصغير تمامًا وابتعد عن الرضاعة، فـ بدأ “حمزة” يربت على ظهرهِ كي يتجشأ إلى أن فعلها، فتركه على الفراش وهو يقول :
– ممكن ألبس عشان ننزل الشغل مع بعض ولا إيه يا وحش؟.
وبدأ بالفعل في ارتداء ملابسه وهو يتحدث إليه وكأنه شخص بالغ يفهمه :
– مفيش ولا مربية مناسبة ليك، تخيل؟؟.. مين يقول إن كان هييجي يوم وأرضع وأشيل وأحايل وأغير بامبرز!!.
التفتت رأسه إليه نصف التفاته وهو يتابع :
– عارف.. انت غيرت حاجات كتير محدش غيرك كان هيقدر يغيرها مهما حصل.
ركل “زين” بأقدامه الصغيرة في الهواء وهو يبتسم في وداعةٍ تأسر القلب، فـ ضحك “حمزة” وعاود الإهتمام بإرتداء ثيابهِ متابعًا الحديث معه.
وظل الوضع هكذا لبعض الوقت، حتى تفاجأ “حمزة” بسهولة وصولهِ لمقر مكتبهِ بعدما قضى أغلب الوقت مع الصغير يتحدث إليه ويشاورهُ ويداعبهُ.
دخل “حمزة” لباحة المكتب حاملًا عربة الصغير النقالة، فـ نهضت موظفة الأستقبال على الفور كل تستقبل الصغير وتحمله عنه مرحبة :
– زيزو، وحشتني من امبارح بجد.
داعبت بشرته وهي تحمله بين أحضانها، فسألها “حمزة” بجدية :
– عرفتي تلاقي حد يهتم بيه يا نهال؟.
ذمّت “نهال” على شفتيها بضيقٍ مصطنع وهي تعرب عن بالغ أسفها :
– للأسف لأ يامستر حمزة.
ثم انتقلت على الفور لعرضها المغري ذا المنافع الشخصية والطموح الأعمى :
– بس انا موجودة، عندي استعداد أقعد بيه طول اليوم زي امبارح.. ولو عايز تعمل أي مشاوير أو وراك حاجه سيبه ليا وأنا هخلي بالي منه.. أنا حبيته أوي.
لاحظ “حمزة” هذا التملق الزائد منذ الأمس، والذي لم يروق له البت -على عكس عادتهِ-، فلم يسمح لها بالتمادي أكثر من ذلك وحملهُ عنها وهو يقول :
– لأ ملهوش لزوم.. شكرًا، ابعتيلي ميل فيه مواعيد النهاردة وبكرة.
– حالًا يا فندم.
اخترق “حمزة” الأروقة والردهات وسط نظرات العديد من محامين مكتبهِ؛ لكنه لم يعبأ بذلك على الإطلاق حتى بلغ مكتبه وانفرد به، ثم بدأ إجراء مكالمة تليفونية :
– أيوة ياأبو زيد.. المكتب اللي روحتله امبارح بخصوص المربية ردوا عليك؟.
نفخ “حمزة” بإنزعاج وهتف بـ:
– ماشي.. أما نشوف أخرتها.
أغلق الهاتف وألقى به جانبًا، ثم نظر لطفله الراقد بداخل العربة في قنوطٍ، حتى بلغ الحنين أقصاه بداخله. منذ أن غادر محافظة مرسى مطروح لا يعلم عنها شيئًا ولا هي، حتى هي لم تسعى لمعرفة أي شئ يخصهُ أو يخص “زين”. جلس “حمزة” قبالتهِ متنهدًا ثم أخرج حاقن (الأنسولين) كي يتلقى جرعة قبل الغداء، نغز الحاقن في فخذهِ وعيناه تتوسل ذلك السائل اللعين أن يضبط نسبة السكر في دمهِ كي يهدأ دوار رأسهِ قليلًا، لحظات من تلقي الجرعة وكان يتحسن فورًا، فـ ألقى الحاقن بسلة المهملات عقب انتهائه ووقف عن جلستهِ هامسًا :
– لازم أغيّر الدكتور الزفت ده!.. أنا مش قادر أتأقلم مع الوضع ده.
طرقات على الباب سمح بعدها “حمزة” بالدخول، فـ دلف “زيدان” وهو يهتف بـ :
– سلامو عليكو.
ثم نظر بإتجاه الصغير وهو يبتسم ابتسامته العريضة :
– صباح الورد ياحبيب عمو.. عامل إيه يا ولا؟.
استهجن “حمزة” ذلك الأسلوب الذي لم يروق له بتاتًا :
– عمو ده إيه!!.. ملكش دعوة بالواد خالص.
تلوت شفتي “زيدان” وهو يعتدل في وقفته :
– ماشي يا أبو البشوات.. أنا جيبتلك الغدا اللي طلبته من نفس المطعم.
أشار “حمزة” جانبًا وهو يقول :
– سيبه هنا وقولي خبر إيه اللي قولتلي عنه.
تغيرت تعابير “زيدان” إلى حدٍ ما، كأن ما أتى به ليس خيرًا، فـ اضطرب “حمزة” على الفور وهو يسأله في قلقٍ :
– في إيه أنا مش ناقص.. أنطق.
نفخ “زيدان” في سخطٍ وهو يُطلعه على آخر المستجدات :
– الست الأستاذة.
اتسعت عينا “حمزة” قليلًا بعدما تحفزت حواسهِ المتوترة :
– مالها سُلاف؟؟؟.
فألقى “زيدان” بالخبر دفعة واحدة دون أن يمهد له :
– هتهاجر من مصر.. طيارتهم طالعة بكرة بعد الضهر.
گالذي وضع ملحًا على جرح مفتوح لم يلئتم بعد، أحس بضلوعهِ تطبق على أنفاسهِ، وحرارة جسدهِ قد ارتفعت حتى تعرق دون أي مجهود. أطبق عيناه لحظتين، ثم سأله :
– شوفت تأشيرتها بنفسك ؟؟.
– عيب يا باشا، وأنا برضو هجيبلك خبر قبل ما أتأكد منه؟.
ازدرد ريقه قبل أن يهمّ ليحمل عربة الصغير، فحملها “زيدان” عنه قائلًا :
– عنك انت.. مش هتتغدى ولا إيه؟.
تبين عليه تغير لون وجهه المباغت، وقبل أن يصل لمرحلة الأنهيار أراد أن يختفي عن الناس ليختلي بنفسه :
– مش عايز.. هات زين على العربية تحت أنا مستنيكم.
واستبقه للخارج، فـ حمل “زيدان” الطعام عنه وقد التمعت عيناه شاعرًا بالجوع قد بدأ يطرق باب معدته :
– والله اللي تشوفه.. انا برضو ميخلصنيش نعمة ربنا تقع ع الأرض.. دي حتى تزول من وشـنا.
*************************************
لم يذق طعم النوم طيلة الليل، وهو يعيش عناء الصراع الدائر بين عقلهِ الرافض لها والذي يرغب في تجاهلها، وبين قلبهِ اللعين الذي تعلق بآخر أمل له في هذه الدنيا التي لم يبقىَ له فيها سواها هي وولدهِ.
كافح “حمزة” بأقصى جهدهِ ليبقىَ صامدًا قويًا أمام مهبّ الريح الذي قد يقتلع جذورهِ؛ لكن المرء يُهزم حين يُحب، تضعف جبهتهٌ وتلين مبادئهِ، تنهار إرادته بالكامل، عدا إرادة البقاء مع من يُحب. لم يهدأ حتى طلوع الصبح، ومع وقوف عقرب الساعة على الساعة صباحًا كان قد ارتدى ثيابه مقررًا الذهاب للمطار، لا يعلم لماذا، ولا يعلم ما الذي سيرويه عليها من مأساتهِ كي تتراجع، المهم أن يلحق بها قبل أن تغادر أرض الوطن ولا يجد لها أرض يبحث عنها فيها. ذهب لأرض المطار مهرولًا، وتجول بين الصالات والباحات ليجد الصالة المخصصة لرحلتها، حتى وصل بالفعل؛ لكن أمر إيجادها بين كل هذه الجموع من المسافرين كانت عملية غاية في الصعوبة، حتى بدأ مكبر الصوت يعلن عن قيام الرحلة وبدء تعبئة الطائرة بالمسافرين، أحس إنه خسر الكثير من الوقت، ولم يسعهُ الركض للبلوغ إليها بأي شكل، فتوقف ليسأل أحدهم وأنفاسه تكاد تنقطع :
– لو سمحت.. في حد عايز ألحقه طالع في طيارة اليونان و…….
أشار له الموظف بالمطار لأقصى اليمين وهو يهتف :
– للأسف الطيارة زمانها هتتحرك دلوقتي.
ركض “حمزة” حيث أشار المسؤول، وعبر الحائط الزجاجي الشفاف كان يراقب الحركة بالخارج، إلى أن رآها، تعرف على ردائها الأحمر بسهولة، استطاع أن يميزها رغم بعد المسافة بينهما؛ لكنه متأخرًا گعادتهِ، لقد كانت آخر الذين استقلوا الطائرة قبل رفع الدرج المؤدي إليها، وهنا أحس بشعور لم يحسه بحياتهِ سوى مرة واحدة، حينما علم بموت شقيقتهِ.
كان يرى بأم عينهِ طائرتها وهي تغادر أرض الوطن، وقلبه يتمزق تمزقًا موجعًا، هذه مرّتهِ الأولى التي يبكي فيها لفراق أحدهم، هذه المرة الأولى التي يحس بنفسهِ جريحًا مكلومًا لهذا الحدّ؛ لكنه كان قد قرر تركها تقرر، وهذا كان قرارها النهائي والأخير…
************************************
*********************************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى