روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وأربع عشرة 114 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وأربع عشرة 114 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وأربع عشرة

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وأربع عشرة

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وأربعة عشر

الفصل المائـة والرابع عشر :-
الجُـزء الثـانـي.
“الحُب هو نقطة ضعف الإنسان الوحيدة؛ والتي قد تُرديهِ قتيلًا، أو تُحيهِ أبد الدهر.”
____________________________________
كان وقع المفاجأة عليها گصاروخ العدو الذي باغت الخِصم في خِضم المعركة، لم تحسب حسابًا لوجوده عائقًا معرقلًا نجاح خطتها، وإذ به يضرب سقف طموحاتها بإنهاء تلك الحرب على طريقتها، وينزع حريتها من بين يديها لتبقى أسيرة لديه لأجل غير مسمى. لم يدخر “حمزة” وقته أو ينتظر دقيقة واحدة، وبدأ التحرك بناء على المعلومات التي تلقاها من “نضال” في سبيل إنهاء الأمر وإنقاذها من خطورتهِ المحتومة. وكانت أولى تدابيرهِ أن استخدم علاقاتهِ القديمة ومعارفه القُدامى لتيسير مسعاه قليلًا.
حينئذٍ لم يكن “حاتم” يضمن حياته بعدما بات هدفًا لذلك القاتل المأجور، وقرر الفرار بأي طريقة وبأقصى سرعة قبيل أن يسقط في فخاخٍ لا يدري إلى أي مدى ستقذف به.
*************************************
انتظر حتى أطلّ ضوء الشمس بآشعتهِ المُنيرة، ومع أول بزوغ للحرارة الدافئة كان يتحرك صوب المكان المتفق عليه للمقابلة، من أجل أن يعرض عليها ما توصلّت إليه خطتهِ، بنفس المكان الذي قابلها فيه المرة السابقة. بعينان گالقناصة نظر يمينهُ ويسارهُ، حتى اطمئن لهدوء المحيط من حولهِ، فـ تقدمت خطواتهِ ليجتاز البوابة، فرأى “نضال” واقفًا بوسط الحديقة الفسيحة يتحدث في هاتفهِ، فـ كشف عن أسنانهِ بإبتسامة سمجة قبل أن يتابع شقّ طريقه، ودخل بأريحية واثقة وهو يهتف بـ :
– جيبتلك المعلوم ياست الستات و آ………
انقطع صوتهِ فجأة لدى رؤية “حمزة” أمامهِ، وتبدلت تعابير الإشراق والبهجة لأخرى مصدومة مرتابة. تنحنح “عباس” وهو ينظر من حوله، حتى رأى “زيدان” قد أخذ مكانه من خلفهِ، و “عِبيد” واقفًا في الزاوية گالحارس المغوار، فـ أسبل جفونهِ في صمتٍ وهو يردد :
– وده فخ منصوبلي ولا إيه الحكاية يابهوات؟.
زجره “حمزة” بنظرات مشمئزة كارهه، ثم هتف بنبرة حازمة :
– ولا فخ ولا زفت.. الإتفاق هيكمل معايا انا.
أراد “حمزة” أن يُهينه بأي طريقة كانت، بعدما علم بإتحاده مع – زوجته – دون علمه :
– ولا انت ملكش غير في كلام النسوان!.
حك “عباس” طرف ذقنهِ مستشعرًا المغزى وراء كلماته المقصودة، وأجاب دون انتظار :
– أنا ولا مؤاخذة ليا في الفلوس، هتديني هتلاقيني على طول.
بسط “حمزة” يدهِ أمامه، فـ أخرج “عباس” تلك الورقة المطوية في جيبهِ، مرفقة بظرف صغير يحمل كارت ذاكرة. تناولهم “حمزة” وتفحص صدق ما أتى بنظرة خاطفة، ثم ناول “عِبيد” بطاقة الذاكرة لكي يفحص محتواه، فـ بدأ “عِبيد” في إدخال البطاقة بأحد الهواتف، وبحث عن الملف المطلوب حتى وجده، ثم رفع عيناه نحو “حمزة” مؤديًا الإشارة بسلامة الأدلة الموجودة بين أيديهم، فـ عادت نظرات “حمزة” تتصوب نحو “عباس” وهو يردف :
– كويس إنك اشتريت عمرك وملعبتش في الحكاية دي كمان.
تحسس “عباس” عنقهِ وهو يقول :
– عيب يا هندسة ده انا رقبتي فدا الأستاذة.. هي بس تأشر وتؤمر تلاقيني على طول.
كأنه لمس أكثر الموضوعات حساسية بالنسبة له، فـ تغيرت حرارة جسده لأخرى أكثر توهجًا، وبدا ذلك على عيناه التي اتقدت فجأة، بعد أن أمسك بالظرف الضخم ودنى منه :
– مفيش تعامل مع الأستاذة تاني.. حتى لو هي طلبت، ترجعلي الأول.
ناوله الظرف متابعًا نظرات الجوع في عيناه التي لا تشبع أبدًا :
– وانا هديك الضِعف من غير تفكير.
فتح “عباس” الظرف وكله تشوّق، حتى بردت نار الجشع في صدره وهو يهتف بتهليلٍ حارّ :
– من عنيا الأتنين ياعم الناس كلهم، انت بس عرفني سكتك فين وانا دوغري هجيلك من غير حاجه.
أغلق الظرف من جديد وقد ابتهجت تعابيرهِ، ثم عرض عليه تقديم يد العون في أي وقت كان :
– ولو احتجت حاجه انت عارف سكتي فين.. سلامات.
استدار ليغادر في عجالة متحمسة، بينما دخل “نضال” فور خروجه ليسأل ببعض من القلق :
– خلاص؟؟.
فأجاب “عِبيد” بثقة بالغة :
– تقريبًا.
تقدم “حمزة” بخطواتهِ نحو الباب وهو يهتف :
– يلا عشان مفيش وقت.. حاتم طيارتهِ النهاردة بالليل ولو سافر مش هييجي مصر مرة تانية.
خرج في أعقابهِ “زيدان” بينما بقى “عِبيد” للأخير كي يقول في امتعاض :
– وجوده معانا عاملي أزمة، حاسس نفسي مش قادر أتنفس طول ما هو معايا في نفس المكان.
ربت “نضال” بخفةٍ على كتفهِ وهو يخفف وطأة الموقف عليه :
– معلش يا عِبيد، خلينا نخلص من الحيوان دا وبعدها كل واحد في طريقه.
زفر” عِبيد” زفيرًا مندفعًا قبل أن يتقدم بخطواتهِ للخروج، وبين طيّاته يحاول أن يدفن ذلك الشعور بالحقد والكراهيه، في سبيل الخروج بها إلى منطقة آمنة، بعيدًا عن الحروب التي ستسحبها نحو الأعماق، بدون أن تعلم أن المياة ضحلة، وستغرق بين أمواجها وإن كانت أعتى سبّاحة ماهرة.
************************************
بذلت مجهود مضاعف لتتجاوز ليلة كاملة من الشعور بالخيبة، إنها أحد أسوأ المشاعر التي قد يختبرها المرء في حياتهِ، لا يستطيع وصفها إلا من مرّ عبر مرارتها. انزوت “سُلاف” على نفسها في ذلك الركن المظلم، فـ داهمتها الكثير من الذكريات التي مرت بها خلال السنون السابقة، لا سيّما العام الأخير الذي اكتظ بالأحداث التي توالت وراء بعضها البعض دون أي هدنة أو راحة، رأت عمرها الذي انفرط گحبات الرُمان المتساقطة، حتى وإن كانت في أوج شبابها وريعانهِ، فإنها فقدت طفولتها ومراهقتها، فقدت غُرة الشباب، والآن تحس نفسها عجوز قد مرت بكل عراقيل الحياة، حتى انكمش جلدها وارتسمت خطوط العمر المديد على بشرتها -التي ما زالت يانعة في الحقيقة- لكنها لا تحس ذلك. استمعت صوت الباب ينفتح خِلسة، وكأن الواقف خلفهِ لا يريدها تشعر به، حتى اخترق بصيص الضوء تلك الظُلمة القاتمة، وهنا استنشقت حواسها رائحة الطعام الشهي، ثم انفتحت إضاءة الغرفة فجأة بعدما ضغط أحدهم على زرّ الإنارة، وسرعان ما انغلق الباب وعاد موصدًا من جديد. استطاعت “سُلاف” رؤية ملامح الغرفة الغريبة التي احتُبست فيها، لم تكن بذلك السوء الذي توقعته، بل إنها مزدحمة ببعض الأجهزة القديمة والمعدات الغير المستخدمة، عدا ذلك فهي غرفة تليق بالمعيشة -إن تجددت-. لم تطاوعها نفسها على النهوض من أجل تناول الطعام، أو حتى النظر إليه، فقد التهت بمواجهة هذا الكمّ من المشاعر التي طاردتها دون توقف، والتي نشطت إحياء رغبتها بالتنازل له؛ بإعلان خسارتها المبكرة في سبيل الخلاص من كل ما تعيشه، علّها تستطيع اللحاق بسنوات العمر التي تضيع منها هدرًا، لا سيما بعدما فقد عدوّها اللدود روحه، ولم يبقى هناك داعٍ للتمادي في هذا الطريق المحفوف بالأشواك، فالنهاية وعرة، والثمن قد يكون قلبها.
*************************************
لقد بذل أقصى جهودهِ لإنجاح مخططهِ والتخلص من كل الجذور التي تُرعرع مصائبًا من جديد، إنهاء “حاتم” كان بمثابة البداية الحقيقية التي يبحث عنها، ظن أن جميع مشاكله ستتلاشى كما يتطاير الدخان السام وسط الهواء النقي، وإنه سيخطو نحو حياة جديدة كُليًا؛ حتى إنه خطط أن تكون تلك الحياة معها هي، بعد كل ما واجهوه كلاهما يستحقا فرصة حقيقية، للنجاة من ذلك المستنقع الذي سبحا فيه طوال الفترة الماضية.
كل وسائل التواصل، وذوى السلطة والنفوذ والكلمة المسموعة، وحتى حاشيتهِ من أرباب السوابق التابعين لـ رجلهِ الأمين “زيدان”.. لم يترك بابًا دون طرقهِ، لم يدخر طريقة قد توقع بـ “حاتم” شرّ وقيعة، وتعرقل خطته للهروب من البلاد، حتى نجحت السلطات في إلقاء القبض عليه بالمطار وقبيل الصعود على مُتن طائرتهِ الخاصة، ليكون ذلك دليلًا جديدًا أُضيف لإدانتهِ.
كانت غرفة التحقيق گالمرجل الذي يقدح بالماء المغلي، كل الأطراف تتصارع من أجل الفوز بالمعركة، بينما يدّخر “حمزة” آخر أوراقهِ الرابحة للوقت المناسب، حتى يتمتع بلذة الإنتصار الحقيقية.
قطع “حمزة” على محامي “حاتم” محاولتهِ المستميتة لإبراز نية موكلهِ الحسنة في السفر، وإنه لم يكن ينوي الفرار أو ما شابه، وإنما خُيّل إليهم ذلك.. أخرج “حمزة” تلك الورقة الموثقة من الملف الذي يمسك به، ثم وضعها على سطح المكتب مبررًا :
– البيان أهو.. كان في طيارة معادها بعد ٣ ساعات من دلوقتي ياسيادة الوكيل.. ممكن تسأل أستاذ حاتم ليه اختار ياخد طيارة خاصة وهو كان ممكن يستنى معاد الطيارة اللي كانت مسافرة في نفس اليوم!.
تأكد وكيل النيابة من موعد الرحلة المدون في الورقة ثم رفع بصره نحو “حاتم” ليبدأ المحامي في التبرير قبل طرح السؤال المعروف :
– موكلي حابب يكون على راحته يافندم.. مش معقول هنحاسب الناس على إنها بتركب طيارات خاصة!.
ترك الوكيل ذلك المستند وتغاضى عن النظر إليه منتقلًا للموضوع الأكثر أهمية :
– إيه أقوالك فيما هو منسوب إليك.. أستاذ حمزة بيتهمك إنك حاولت تقتل مراته، أو تسلط على قتلها ؟.
برزت أسنانه أثناء تلك الضحكة الساخرة المستفزة، ثم أردف قائلًا :
– أنا عمري ما شوفت مراته ولا أعرفها حتى، ولا في بيني وبينها عداوة عشان أفكر أعمل كده.
ثم نظر بمكرٍ نحو “حمزة” مسترسلًا في الحديث :
– بس هو حمزة اللي بقى شكاك أوي من ساعة ما خسر كل اللي حواليه حتى أبوه.. مسكين!
نجح بنسبة بسيطة في إشعال فتيل القنبلة الموقوتة، فباتت الضغينة في جوف “حمزة” گاللهيب الذي سيحرق صاحبهِ إن لم ينفثهُ. لم يتحمل دقيقة أخرى في الصبر، وفي عجالةٍ كان يحقق مسعاه بالقضاء على محاولاتهِ المستميتة للخروج من مأزقهِ، مُلقيًا بدلائل الحقيقة في وجوههم جميعًا :
– بس في دليل معايا يثبت عكس اللي بتقوله ده.. وبصوتك انت.
أحس محاميهِ ببادرة غدرٍ مُعدّة مسبقًا للإيقاع بموكلهِ، فأسرع جاهدًا لإفساد ذلك الدليل قبيل حتى ظهورهِ في النور :
– أنا أطعن في أي دليل لا يستند على أذن من النيابة، وسيادتك طبعا عارف القانون يافندم.
كانت النشوة جليّة على بسمته التي لوّحت في الأفق، وهو يعلنها بكل انتصار :
– محصلش، موكلتي حست إن في خيانة متوجهه ليها وضمنت لنفسها أذن النائب العام بنفسه بالتسجيل.
كانت ورقة رابحة ضمن ملفهِ الثمين، أخرجها لإثبات ما طرحهُ توًا من حقيقة صادمة لـ “حاتم”، حيث تحول وجه الأخير للشحوب الباهت المصفر، وهو يستمع لكل ذلك التخطيط الدقيق المحنك. بدأ القلق يتسرب إليه ببطءٍ مؤلم، والقشعريرة سارت على جلدهِ كله مثيرة نزعة الخوف التي تستيقظ بداخله في كل عشرة أعوام مرة واحدة. راقب “حاتم” نظرات الوكيل حت انتقلت إليه ومحاميه، ثم هتف بـ :
– الأذن موجود يا متر، يعني الطعن مرفوض.
تقدم المحامي ومازال لديه قطرة من الأمل لإفشال هذا المخطط :
– من فضلك أطلع عليه بنفسي.
ناوله الوكيل تلك الورقة الثمينة لينظر فيها المحامي متتبعًا التوقيع والختم الذي يحفظه حفظًا عن ظهر قلب، فـ ذمّ على شفتيه ممتعضًا وهو يعيدها مرددًا :
– أي مشاهد أو صور تم التقاطها على موكلي أنا بطلب إنها تتعرض على خبير، ومازلت بتهم زميلي الأستاذ حمزة وزوجته بمحاولة تلفيق التهم الكاذبة لموكلي نتيجة ثأر قديم.
ابتسم “حمزة” في شماتةٍ ورزانة، ثم أردف بتعقلٍ مريب حمل لمحةٍ ساخرة جليّة :
– طبعًا من حقك، بس ده ميمنعش إنه هيفضل محبوس لحد تقرير الخبير.. دي برضو جناية قتـل يا زميلي الأستاذ حميد.
*************************************
إنه الظفر الأول في رحلة طويلة ستكون مليئة بالإنتصارات، قرار وكيل النيابة بحبس “حاتم” على ذمة التحقيقات بعد عرض الدلائل الحقيقية أمام الجميع كان بمثابة دقّ المسمار الأخير في نعشهِ، وما تبقى سوى بضعة خطوات مضمونة ضمانًا كُليًا للخلاص منه؛ وبالرغم من ذلك كانت مشاعر الخوف -عليها هي تحديدًا- مازالت تستوطن بواطنهِ بالكامل، إذ أن شرهِ قد لا يتوقف لدى مجرد حبسهِ، وهذا أيضًا كان ضمن ما يفكر في حلّ له.
وصل للقبو الذي احتبسها فيه، ونزل على الدرجات بدون أن يُحدث جلبة، مستذكرًا تفاصيل حبسهِ لها بالأمس، وكيف كانت تقاومه بشراسةٍ لم تكن لتكفي قوتهِ. انتابه بعض الضيق لتصرفهِ البربريّ معها؛ ولكنه ذكّر نفسه على الفور إنه كان ضروريًا ولا بد منه من أجل حمايتها أولًا، وإنها ستغفر ذلك لا محاله، وأن الوضع لن يكون بذلك السوء الذي تخيله طوال طريقهِ إليها. قد تنقضّ عليه بهجومًا عنيفًا تنهرهُ لفعلتهِ، أو تعدّ له درسًا رادعًا كما كانت تفعل فيما سبق، وقد تنتظر اللحظة السانحة للثأر فتؤجل خطتها لوقت غير مستعد فيه. وقف أمام بابها هنيهه، يحاول تنظيم أنفاسه التي اضطربت بشكل ملحوظ حينما اقترب من مواجهتها، وقد بدأ فرط تعرقهِ الغير مُسبب في تلك اللحظة الحرجة. حرر “حمزة” زفيرًا طويلًا من صدرهِ قبل أن يزرع مفاتيحه بالباب، ثم فتحه رويدًا رويدًا لئلا تكون هي خلفه، وأول ما التقطته عيناه طعامها الذي بقى في محلّه منذ الصباح ولم تتذوق منه شيئًا. بحثت عيناه عنها على الفور فوقعت أنظاره عليها وهي متكومة على الأرضية في غفوتها الغير مقصودة، فـ اقشعر بدنهِ كله شاعرًا بالسوء الذي فعله بها، وبدأ تأنيب ضميرهِ گالصياح المدوي داخلهِ دون توقف. أوفضت خطواته المستعجلة نحوها، وانحنى عليها راغبًا في إيقاظها، إلا إنه تجمد لدى التدقيق في ملامحها الصافية التي أحبّها، ملامحها البعيدة عن تلك الشخصية القاسية المرسومة بحِنكة شديدة وإقناع مُدبر، أبعد يداه عنها متأملًا إياها، فلم يطول سكونها كثيرًا، وكأنها شعرت بوجودهِ، ربما اشتمت بأنفها الذكية رائحتهِ التي تميّزها من بين الروائح كلها، فـ تنشطت حواسها النعسانة وفتحت عيناها على حين غُرة، لتتراجع نظراتهِ العاشقة عن التحديق المطوّل فيها، وسرعان ما أجفل عيناه عنها مرددًا في أسف :
– انتي اللي اجبرتيني أعمل كده لما اتصرفتي من دماغك وحطيتي نفسك في الخطر.
لم تحرك ساكنًا، فقط تطلعت إليه بنظرات مبهمة، غير مفهوم مغزاها، فـ تابع هو حديثه لكسر حاجز الصمت الذي استمر للحظات طويلة مملة :
– أنا نفذتلك اللي كنتي بتخططيله.. يعني خلاص هنرتاح للأبد.
في تلك اللحظة تحديدًا اعتدلت من نومتها، ومازالت نظراتها مصوّبة عليه هو، ثم سألته بصوتها الخافت :
– حبسته؟
أومأ رأسه مؤكدًا :
– آه.
– مبـروك.
كانت فاترة للغاية، لم تكن بهذا الهياج الذي اعتاده والذي تخيله منها، فأثار ذلك ارتعادهِ أكثر، وقبيل أن يتفوه بكلمة أخرى كانت تنهض واقفة وهي تستطرد :
– متهيألي كده خلاص، وصلنا لنهاية الرحلة.
وقف في عجالةٍ متلهفة ليقول في توترٍ :
– نهاية إيه؟؟.. إحنا لسه بنبدأ يا سُلاف.
هزت رأسها نافية، وهذا الهدوء الذي تحتفظ به يصيبه في مقتل وهي تقول :
– مفيش حاجه اسمها إحنا يا حمزة.. دلوقتي كل واحد هيبدأ في سكة غير التاني، طريقي مش هو طريـ…..
قاطعها رافضًا بتر آماله التي علقها على شماعة التمني بكلمة واحدة منها، رافضًا أن تمحو بيدها كل ما رسمه في خيالاتهِ من حياة واعدة تنتظرهُ عوضًا عن فقدهِ الثمين :
– طريقك هو طريقي يا سُلاف.. خلاص احنا مصيرنا بقى مرتبط ببعض.
زفرت “سُلاف” وهي تحيد بنظراتها عنه متمسكة بثباتها على نفس الموقف :
– قـولتلك مـفيش حاجه اسمها إحــنـا.. أنا دخلت المكان ده عشان آخد حقي وخدته، مبقاش في حاجه أقعد عشانها تاني.
تشبث بأملهِ الأخير، نقطة الضعف التي تحوّل مسار كل شئ، تعلقها لذلك الصغير الذي ينتمي إليه في الحقيقة :
– لأ في.. زين، زين محتاجلك أكتر من أي حد تاني، محدش غيرك هيعرف يرعاه.
كأنه ضغط على جرح قديم، قد صدقت إنه ارتتق واندمل؛ لكنه وبمجرد الضغط عليه كان ينزف من كل مكان، مُحدثًا وجع فاق كل شئ. تحول جمود عيناها للمعانٍ ينذر ببداية دموع وشيكة، ورمقتهُ بعتابٍ كونه يستغل ذلك الضعف الذي اكتشفه فيها، ولم تحيد عن موقفها المستميت وهي تهتف في استنكارٍ :
– كان الأولى تسيبه معايا وانا عمري ما كنت هحرمك منه، لكن انت أناني.. اخترت تخسرني حتى ابني.
ازدردت ريقها قبل أن تسترسل في الحديث :
– أنا عارفه إني مولدتوش وعمري ما كنت انا اللي هولده.. بس ده كان التعويض الوحيد عن الضرر البليغ اللي اتسببتوا فيه ليا، حتى ده مكنتش عادل فيه!.
نالت يداه من ذراعيها يضمهما في رفقٍ، وخرج صوتهِ المُلتاع من فرط الشوق وهو يدافع عن نفسه أمام اتهامها :
– أنا اللي بقولك راعيه، انتي أحق واحدة بكده.. بس خليكي معايا، هسيبه ليكي تكوني مسؤولة عنه بس متتخليش عني.
وسرعان ما عدّل كلمته التي أحس وكأنها ثغرة :
– عننا.. أنا وهو.. احنا الاتنين.
تملصت من تحكمهِ في ذراعيها وهي تردف :
– اللي بينهم دم عمر العمار ما هيكون بينهم ياحمزة.
تغضن جبينه بتأثرٍ حقيقي وهو يُدينها بظلمه :
– انتي بتظلميني لتاني مرة.. أنا بيني وبينك مفيش أي حاجه، اللي ليكي عنده تار خلاص راح للأبد.. ليه عايزاني أفضل أدفع الفاتورة حتى بعد ما سابني؟.
تحركت من أمامه قاصدة وجهة الباب، فـ ركض نحوها يمنعها وهو يصيح في تشبثٍ مستميت :
– مش هتمشي يا سُلاف، أنا أمنعك تختفي من حياتي بعد كل اللي عملتيه فيها، أنا ليا عندك حق حياة كاملة بوظتيها بدخولك ليها، ومش هيعوضني غير وجودك.
بدأ الإنفعال يتمكن من حواسها التي استشاطت فجأة، وبرزت خطوط وجهها الغاضبة وهي ترد على جملته المثيرة لإستفزازها :
– روح حاسب أبوك في قبره على اللي عمله فينا كلنا.
تجاوزته للمرة الثانية على التوالي، ليتردد صوته في أذنيها گالمذياع وهو يعترف لها لأول مـرة :
– سُــلاف.. أنا بـحبـك، بحبك ومش هقدر أتخطى المرة دي حد تاني يمشي من حياتي…
************************************
********************************

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى