روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والسبعون 73 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والسبعون 73 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الثالث والسبعون

رواية يناديها عائش البارت الثالث والسبعون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثالثة والسبعون

‏”يقضيها اللهُ لك رُغم الظّروفِ والأبوابِ المغلقَة؛ لتعلمَ أنَّ اللهَ إذا أرادَ شيئًا أتاك به”
~~~~~~~~~~~~~~~
دلف ” بـدر” لمكتب المُهندس ” مُرتضى العبد” صاحب مجموعة شركات العبد لتجارة و استيراد السيارات، وهو يحمل في يده ملف يخص أوراق شخصية تثبت هويته، كان المهندس مُرتضى في ذلك الوقت ينتظر قدومه؛ ليُملي عليه قوانين و تعليمات الشركة و في أي قسم سيعمل..
عندما دخل ” بدر” نهض الرجل باحترام يبتسم له بود، وهو يمد يده للمصافحة قائلًا في نبرة ترحاب..
” أهلًا يا هندسة.. اتفضل ”
” شُكرًا يا باشمهندس ”
قالها بدر بسرور، و ارتياح نبت في قلبه منذ أن رأي الرجل للمرة الثانية، و كأن الله وضع في وجهه القبول، فكان عريض الجبين، أشيب الشعر و اللحية، أُشرِبت بشرته سُمرةٍ خفيفةٍ، و في عينيه الغائرتان التمعت نظرة وديعة، كان قد تخطى الواحد و الستون من عمره مُنذ أشهر..
تنحنح المُهندس ليقول و الابتسامة الطيبة لا تفارق وجهه
” تشرب إيه ؟ ”
” مُتشكر يا باشمهندس ”
” هطلب لك المشروب المفضل بتاعي ”
قالها في حماس، ثم تحدث في الهاتف بجانبه طالبًا كوبين من الشاي بالنعناع، مما ضحك بدر في خفة و قال
” ده فعلًا المشروب المفضل عندي.. شتا صيف لو في عز الحر تلاقيني بشرب شاي بنعناع عادي.. ”
اندمج الرجل مع في الحديث و قال ضاحكًا
” ده إدمان بالنسبة لي.. تعرف يا بدر.. أنا من كُتر حُبي في النعناع زرعته هنا في حديقة الشركة و عندي في الفيلا ”
أومأ بدر مبتسمًا بمجاراة، فقال المُهندس بهدوء وهو يأخذ الملف الخاص ببدر من أمامه
” دي الأوراق بتاعتك كلها اللي قولت لك عليها؟ ”
زالت الابتسامة عن بدر رغمًا عنه وهو يقول
” ما عدا ورقة الشهادة الجامعية..
أنا قولت لحضرتك إن حصلت ظروف خلتني طلعت من التعليم و مدخلتش جامعة مع إن وقتها كنت معدي مجموع الهندسة، كان نفسي أدخل قسم هندسة ميكانيكية، بس محصلش نصيب.. ”
تساءل الرجل في استفسار
” لو جات لك الفرصة إنك تكمل تعليمك، هتكمل ولا هتكبر دماغك و تقول خلاص مش لازم ”
هتف بدر سريعًا و بلهفة
” لأ طبعًا هكمل.. ياريت بس الفرصة تيجي لي ”
قال وهو يراجع الأوراق
” امم.. أنت هتكمل ثلاثة و ثلاثون سنة كمان يومين ! إيه ده.. أنت عيد ميلادك يوم الخميس.. مع عيد ميلاد حفيدي.. كل سنة و أنت طيب مُقدمًا يا هندسة ”
” و حضرتك طيب.. ”
” حيث كده بقى أنا عازمك على عيد الميلاد في الفيلا عندي يوم الخميس ”
قالها الرجل بابتسامة ملء وجهه، وهو ينظر للصورة التي جمعت أحفاده الثلاثة الموضوعة على مكتبه..
حاول بدر الاعتذار عن المجيء، فقال في أدب
” ربنا يبارك لكم فيه يا باشمهندس بس أنا بعتذر مش هقدر أجي.. ”
تصنع الرجل الحزن فتساءل
” ليه بس.. ده أنا كنت ناوي أعرفك على أسرتي.. المدام بتدعيلك من ساعة ما عرفت إنك انقذت حياتي.. أنت ابن حلال يا بدر و تستاهل كل خير و يشرفني نتعرف على بعض كعائلة أكتر.. يعني مفيش مانع تيجي و تجيب زوجتك و والدتك معاك.. أنت عندك أبناء ؟ ”
ابتسم بدر دون رد للحظات، فهذا الرجل اجتماعي للغاية، و يبدو عليه الوقار و طيب النفس، لكن لا يستطيع أن يبوح له بكل شيء يخصه..
توتر بدر لوهلة، فكيف سيخبره أنه لن يستطيع المجيء بسبب جلسات العلاج النفسي التي يتابعها، و أن ذلك يوم سيكون موعد جلسته، وهو موعد مهم للغاية لا يمكنه إلغاؤه !
رد بهدوء يحاول التملص من أسئلته
” لأ.. أنا لسه متزوج قريب و زوجتي في التعليم يعني موضوع الخلفة لسه بدري عليه.. حضرتك أنا هبدأ شغل امتى ؟ ”
تجاهل المُهندس سؤاله، ليتساءل هو
” عندك أخوات ؟ والدك الله يرحمه لما قدم استقالته من الشركة كان داخل على زواج و قال هيرجع يفتح ورشة أجدادك و معرفتش عنه حاجة بعد كده.. الشغل كتر و فتحت بدل الفرع تلاته و أربعة و أنت عارف التجارة مش سهلة، فأنا اتلاهيت و قطعت أسئلة عنه وهو كمان ركز في شغله.. معلش يا بني الدنيا تلاهي.. ”
كان رد بدر على كل الثرثرة بجملة واحدة، و كأنه لا يستطيع الانسلاخ من طبعه الهادئ في العادة إلى الثرثرة و كثرة الحديث عن دوامات الحياة
” آه عند اتنين.. سيف الإسلام طالب في طب بشري المنصورة و هاجر متزوجة ”
هز الرجل رأسه في انبهار
” ما شاء الله.. و الله و عرفت تربي يا محمد الله يرحمك.. أخوك داخل السنة دي سنة كام.. أصل بنتي الصغيرة في طب بشري برضو ”
” سيف داخل رابعة إن شاء الله ”
” ياه.. يعني قدامه رابعة و خامسة و سادسة و سنة الامتياز.. الطب البشري ده بياخد من عمر البني آدم بس ربنا يجعله بفايدة و ينجحهم.. أنا بنتي في الامتياز السنة دي.. كانت داخلة الكلية نظرها ستة على ستة تعالى شوفها دلوقت.. لو خلعت النضارة تلبس في الحيط.. ”
قالها الرجل و غرق في الضحك، فشاركه بدر ضاحكًا بخفة، و لكن الملل بدا عليه، فتلك ليست شخصيته إطلاقًا، أن يجلس و يتحدث مع كوب شاي و كأنه جالس في مقهى !
كل ما يريده أن يكف هذا الرجل عن الحديث و إثارة الدعابة و يخبره بما يتوجب عليه فعله ليشرع في العمل..
” يعني مصمم تعتذر عن عيد الميلاد ؟ ”
تنهد بدر بهدوء في محاولة منه للتحكم بأعصابه، ليقول
” والله يا باشمهندس مرتضى أنا بطبيعتي مليش في جو الحفلات و أعياد الميلاد و الكلام ده.. أنا راجل بتاع شغل و في حالي، لكن هحاول أجي عشان حضرتك ”
قال جملته الأخيرة؛ لئلا ينزعج الرجل، فقال المُهندس بتفهم
” خلاص يا بني زي ما تحب.. بعد اللي عملته معايا اليوم ده فأنا ممنون لك بأي حاجة و عايزك تعتبر من انهارده الشركة شركتك ”
تأمله بدر للحظات بدهشة و بدا عليه الانزعاج وهو يقول بنفي شديد
” حضرتك يا باشمهندس لما كلمتني على شغل أنا وافقت عشان ده كان أحد أحلامي إن أشتغل في شركة محترمة و كويسة زي بتاعت حضرتك و أنا عارف إن مفيش ولا شركة هتقبل بي عشان مش معايا شهادة، لكن حضرتك قدرت موهبتي و قبلت تشغلني من غير شهادة.. أنا كنت محتاج شغل تاني جنب الورشة لكذا سبب، لكن مش معنى كده إن أشتغل بالطريقة دي.. !
رمقه المُهندس غير متفهم ما يقوله، فتابع بدر بوضوح
” حضرتك اختبرني و شوف شغلي لو مش عاجبك تقدر تمشيني، لكن مش هشتغل عشان أنا ساعدتك في اليوم ده.. أولًا ديننا أمرنا بكده و حضرتك مش ممنون ليا ولا حاجة.. ده واجبي و أنا عملت الواجب مش أكتر.. أرجوك يا باشمهندس تنسى اللي حصل و تعاملني زيي زي أي موظف عادي و لو قصرت في يوم تفرض عليا العقاب.. ده حقك.. اتفقنا ”
لمعت في عين الرجل نظرة اعجاب ببدر و بأخلاقه النبيلة، فقال في ود
” اتفقنا بس ده ميمنعش إنك هتفضل إنسان عزيز عليا ولو احتجت أي حاجة برا الشغل أنا تحت أمرك.. أنا معنديش ولاد خلفتي كلها بنات.. هما نعمة من ربنا الحمدلله.. بس أنا اعتبرتك ابني.. و تقدر تعتبرني في مقام والدك ده لو مش هيزعلك يعني ”
ابتسم بدر في موافقة
” ده شيء يشرفني.. حضرتك هتسلمني الشغل امتى إن شاء الله ؟ ”
” مبدأيًا أن وافقت تشتغل من غير شهادة لأن خبرتك في المجال و اللي سمعته عنك يخليك مش محتاج للشهادة، الشهادة ما هي إلا سد خانة لكن الموهبة و الخبرة أهم حاجة عشان تتقبل في أي شغل.. أنا عاوزك تكمل تعليمك عشان ده حقك و تستحق يبقى معاك الاتنين..الشهادة و الخبرة.. أنا واثق إنك بعد كام شهر من انهارده هتبقى في حتة تانية.. و الشركة دي هتعلى على ايدك أكتر و أكتر.. أنا عندي نظرة في البني آدم مبتخيبش أبدًا.. ”
كان ” بدر” يستمع له و سيماء الارتياح و أمارات الانشراح و التفاؤل ترتسم على وجهه الحسن، بينما في الخارج يقف المهندس ” سامح ” يتحدث مع أحد العاملين بالشركة و الشرر يتطاير من عينيه، وهو يوبخ العامل على الخطأ الذي اقترفه، خطأ يبدو صغير من وجه نظر العامل و يمكنه اصلاح، و لكن المهندس سامح لا يرحم أحد حتى لو كان خطأه لا يُذكر، فهو دائمًا غاضب و لا يعجبه العمل ببساطة و دائمًا يفتعل العراك مع الموظفين، حتى أصدقائه لا يسلمون من لسانه السليط، يرى أنه الأحق بأن تنتقل ملكية الشركة له بعد وفاة صاحبها، فهو عمل كثيرًا من أجل نجاحها..
لم يحالفه الحظ في حضور الحديث الذي دار بين المهندس مرتضى و بين الموظف الجديد، الذي لم يعلم عنه شيء حتى الآن، وهذا ما جعله في أوج غضبه، فطرق على المكتب و دخل بتعصب دون أن ينتظر إذن الدخول..
التفت بدر و المهندس له، كان بدر في تلك اللحظة قد أنهى المقابلة مع ” مُرتضى” و نهض الأخير مع بدر يرافقه للقسم الذي سيبدأ عمله فيه..
رمق سامح بدر بفتور، ثم نقل بصره لمُرتضى يسأله بغيظ
” ازاي يا باشمهندس حد جديد ملفه يتقدم للشركة و يتوافق عليه من غير ما أعرف ؟ ”
رد المُهندس مرتضى بلا مبالاة
” شركتي و أنا حر فيها يا سامح.. من امتى و أنا باخد رأي حد عن اللي بعمله ؟! ”
هتف سامح بغيظ
” بس ده شغلي يا باشمهندس.. ! ”
” و دي شركتي يا سامح ”
تنفس سامح بغضب، ثم نظر لبدر يتوعده بنظراته، كأنه يخبره أنه السبب في التقليل من هيبته و مكانته في الشركة، فتجاهل بدر نظراته، و التفت للمهندس يتساءل بهدوء
” امشي أنا يا باشمهندس ؟ ”
أومأ مرتضى بهدوء مماثل
” زي ما قولت لك يا باشمهندس بدر.. اطلع للسكرتيرة سُهى هتوصل لواحد اسمه عمي عبد الرحمن مشرف قسم الصيانة هو هيعرفك تعمل ايه.. ”
ما إن خرج بدر، حتى انفعل مُرتضى هاتفًا على سامح
” هو أنت فاكر بعد اللي عملته ده هقدر أثق فيك تاني ! أنت اللي خدت دوا السكر من العربية يا سامح.. عشان لما خبر المناقصة يوصل إنه اترفض و أنا أسمعه و أتعب و أدخل غيبوبة، تدير أنت الشركة في غيابي و تحول كل حاجة لاسمك بموجب التوكيل اللي أنا عامله ليك.. بس التوكيل ده عملته عشان كنت بثق فيك يا باشمهندس..
كان ” سامح ” يستمع له بدهشة و عينيه تحاولان الهروب من نظرات ” مرتضى ” الشرسة، لم يكن يظن أبدًا أنه سيكتشف ما فعله.. استطرد مرتضى حديثه بنبرة صارمة..
” أمنتك على نفسي و شركاتي و بيتي.. حتى بنتي اتزوجتها و اعتبرتك ابني و فرد من العائلة.. بس الحمدلله إن اللي حصل حصل و الظروف كشفت لي أنانيتك و استغلالك و جشعك اللي هيرميك في طريق كله مطبات و آخره سد..
أنا لو عاوز افضحك و اطردك من الشركة مش هتردد ثانية.. بس اللي مخليني صابر عليك.. بنتي و حفيدي اللي ملهمش ذنب في عمايلك.. لكن والله يا سامح لو اكتشفت إنك بتخطط لأذيتي تاني لأسجنك طول عمرك و أحرمك من كل حاجة.. و اياك بعد كده تسألني بعمل ايه و بخلي ايه.. دي شركتي يا بيه و أنت هنا مجرد موظف عندي.. اتفضل اطلع برا.. ”
ابتلع سامح ريقه بتوتر بعد أن اُكتشفت حيلته الماكرة، و خرج من المكتب يتوعد بالانتقام من مرتضى و من الرجل المجهول الذي أنقذه من الموت في ذلك اليوم..
بعد أن اتجه بدر بمرافقة سُهى للعم عبده كما يدعونه، قابله الرجل بابتسامة بشوشة و رحب به قائلًا
” أهلًا بالزميل الجديد.. أنت اللي من طرف باشمهندس مُرتضى مش كده ؟ ”
بادله بدر الابتسامة ليقول بتواضع
” أنا مش من طرف حد يا عم عبد الرحمن أنا جاي أشتغل زيي زي غيري مش جاي بواسطة ”
تعجب الرجل من رده، فالكثير ممن يعملون الآن يفتخرون أنهم تم توظيفهم عن طريق الواسطة، و يتمنى البعض لو أن لهم وسائط عُليا في الدولة يستطيعون من خلالها الحصول على فرص العمل في أي وقت شاءوا، و لكن بدر شخص استثنائي أو كمثل بعض الأقلية، يريدون أن يحصلوا على الوظائف عن طريق خبراتهم في مجال العمل أو شهادتهم الدراسية، و ليس عن طريق رجل يمتلك الملايين فيستطيع بماله الاحتفاظ بمكان فارغ لأقربائه في العمل الحكومي أو الخاص متى أرادوا الوظيفة..
” أنت خريج هندسة قسم ايه ؟ ”
تساءل الرجل بعفوية، فتذكر بدر ما قاله له المهندس مرتضى قبل مجيء سامح، وهو ألا يخبر أحد ممن يعملون بالشركة أنه لم يكمل تعليمه حتى لا يتصيدون له و يبدأون الهمسات فيما بينهم، أن الموظف الجديد تم تعيينه دون شهادة عُليا ولم يتم مقارنته بباقي العاملون في الأقسام الأخرى، الذين يعملون في الجرد أو لملمة بقايا مخلفات السيارات أو العمل تحت يد مشرفين و مهندسين كبار..
لقد أعطى مرتضى الأحقية لبدر أن يعمل في قسم الصيانة بحسب خبرته مثله كمثل المهندس الحاصل على شهادة؛ لذا يناديه بالباشمهندس حتى لا يشك الآخرون بأمره، و هذا الأمر بالتأكيد يزعج بدر كثيرًا بينه و بين نفسه، و لكنه قطع وعدًا أن يعمل جاهدًا حتى يستحق بالفعل تلك المكانة ولو جاءت له الفرصة بأن يكمل تعليمه الجامعي، سينتهزها بأي ثمن..
رد بدر في حزن حاول اخفائه
” هندسة ميكانيكية.. ”
” أنا قلت كده برضو.. بص يا بني أنت شكلك ابن ناس و بتاع شغل.. طبعًا قالوا لك إني المشرف هنا.. أنا آه مش معايا شهادة و طالع من الاعدادية بس وصلت لهنا بمجهودي و شغلي.. أنا بقالي في الشركة دي خمسة و ثلاثون سنة يعني مهندس مرتضى بيعتمد عليا في كل حاجة ماعدا الاجتماعات و الصفقات اللي بتم بينا و بين أي شركة تانية لأن مستوايا التعليمي ميسمحش، بس أنت شكلك بيقول إنك مجتهد وعاوز توصل.. و أنا هعلمك كل حاجة ده لو أنت في حاجة ناقصة معاك لسه مش عارفها.. ”
نظر له بدر بامتنان و قال شاكرًا اياه
” ده يشرفني يا عم عبد الرحمن.. ”
” قولي يا عم عبده أحسن”
رد بدر ضاحكًا وهو يرتدي ملابس العمل
” ماشي يا عم عبده.. ”
” العربية المحرك بتاعها وقف و عطل على الآخى و العمال حاولوا يصلحوه معرفوش.. يلا يا باشا وريني.. ”
قالها عم عبده وهو يحفز بدر على التقدم و بدء العمل بها، في حين أن الأخير قبل أن ينهي الرجل حديثه كان قد بدأ بالفعل في البحث عن العُطل في المحرك.. وجده بسهولة أو بخبرته استطاع العثور عليه، و بدأ العمل في اصلاحه، و العم عبده يقف خلفه يتابع كل شيء بابتسامة اعجاب وهو يشجعه بالكلمات بين الحين و الآخر مثل
” ايوه كده.. قربت تخلص أهو.. كنت متأكد إنك هتصلحه.. مطلعتش سهل يا هندسة ”
مسح بدر حبيبات العرض المتناثرة على جبينه وهو يضحك قائلًا
” الصيانة لعبتي.. ”
وبعد ما يقارب الربع ساعة انتهى بدر من اصلاح المحرك وهو يقول متنهدًا
” شوف لي حاجة أصعب ”
” حيلك.. أنت لسه أول يوم.. الصعب كله جاي بعد كده ”
” أول يوم في الشغل بس مش أول يوم في الشغلانة.. ”
قالها بدر وهو يجوب بعينيه قسم الصيانة، فوقع بصره على المهندس سامح وهو يهبط من الدرج تجاههم وعينيه تخترقان بدر بعدم قبول
هتف العم عبد الرحمن ببشاشة
” أهلًا بالباشمهندس مهندس سامح.. كنت مختفي فين طول النهار يا راجل ؟ ”
رد سامح بجمود
” أنا بس اللي أسأل هنا.. ”
شعر العم عبده بالاحراج، فهرب بعينيه سريعًا يتصنع متابعة بدر اثناء عمله، فتساءل سامح ببرود و سخرية
” الموظف الجديد ده أخباره إيه ؟ بيفهم في الشغلانة ولا جاي لنا عن طريق الواسطة ؟ ”
وصل ما قاله لمسامع بدر، فلم يلتفت له و تجاهله مُتابعًا عمله.. اتجه سامح إليه و هتف ساخرًا في محاولة منه لنشب العِراك مع بدر
“يا ترى هتكمل معانا ولا هتطلع ما بتفهمش زي اللي قبلك ؟! ”
وضع بدر ما كان في يده بهدوء، ثم استدار بكامل جسده ينظر في عين سامح مباشرةً و بسخرية مماثلة قال
” و حضرتك بقى اللي قابلي ! ”
ضحك من وصل له أطراف الحديث من العمال و كذلك العم عبده الذي كتم الضحك بصعوبة، بينما سامح رمقه بدهشة فلأول مرة يستطيع أحد التقليل منه أمام الجميع خاصةً لو موظف جديد، كاد أن يرد عليه و الغضب يأكله، لكن استوقفه صوت مُرتضى من أعلى الدرج و الذي كان واقفًا منذ دقائق يسمع ويرى ما يحدث..
استدعاه مرتضى بنبرة حادة، فخرس سامح عن الكلام بعد ما سمعه من تهديدات حماه له في المكتب، وصعد وراءه في الحال، بينما مُرتضى نظر لبدر نظرة ذات مغزى تخبره أن ما فعله هو الصحيح..
أكمل بدر عمله بلا مبالاة لما حدث، فذهب إليه العم عبده يقول مازحًا
“زمانه بيدور على قطع غيار لجبهته دلوقت”
رد بدر دون اهتمام
” أنا مقبلش الاهانة عشان خاطر لقمة العيش يا عم عبده.. أنا كده خلصت الشغل اللي قولت لي عليه.. أعمل ايه تاني.. ”
أخذه العم عبده ذلك الرجل الطيب الذي كون مع بدر علاقة جيدة من أول يوم، في جولة لباقي الأقسام الأخرى ليريه ما الذي سيتوجب على الشركة فعله في الأيام القادمة..
______________________
‏” لدي انتماء نحوه
‏كأنه شيء من أعماقي
‏كأنه نصف روحي
‏شيء عميق مرتبط بي” «مُقتبس»
~~~~~~~~~~~~~~~
مر يومان على وجود ” أُبَيِّ ” في المشفى، كان قد أبلى فيهما بلاءًا حسنًا، فكان يأخذ الدواء بانتظام و يحاول جاهدًا أن يمحي أي ذكرى سيئة من ذاكرته، أو حتى لو تذكرها يأخذ منها العبرة و الدرس و لا يدعها تؤثر عليه بالسلب..
كانت ” نورا ” لا تكف عن الدعاء له بالشفاء، حتى جاءهم اتصال من المشفى يخبرهم أن ” أُبَيِّ ” قد تحسن و يستطيع الخروج بمفرده الآن إذ لم يأتِ أحد و يأخذه..
في المشفى، مضى أُبَيِّ على قرار خروجه بنفسه، فهو ليس صغيرًا ولا مريضًا بمرض يجعل الطبيب يخشى خروجه بمفرده؛ لذا سمح له بالمغادرة..
اتجه أُبَيِّ لشركته مستخدمًا سيارة أجرة، لأن سيارته أخذها والده للبيت في ذلك اليوم الذي حدثت فيه الحادثة..
كان غرض أُبَيِّ من زيارته للشركة، أن يقوم بالاتصال على الموظفين و العملاء ليخبرهم أنهم عليهم العودة للعمل، لأن الشركة على مشارف أن تعقد صفقة مهمة للغاية مع إحدى شركات المستثمرين العرب في مصر..
وصل أُبَيِّ للشركة، و بدأ في دعوة الموظفين، ثم قام بسقي النباتات و الأزهار التي يعتني بها في شرفة مكتبه، و صنع له كوبًا من القهوة وهو يراجع بعض الحسابات على جهاز اللاب توب خاصته..
أراد من كل ذلك أن يعود لحياة طبيعية و يحارب تقلبات الدنيا و مصاعبها، و ألا يضعف أمام مواجهتها ثانيةً..
كان قد هاتف عائلته ليخبرهم أنه أصبح على ما يرام الآن و سيذهب للشركة لانجاز بعض الأعمال المهمة ثم سيعود للبيت، بالطبع لم يهدأ بال والده و قرر الذهاب إليه للاطمئنان عليه بنفسه..
لم ينسى أُبَيِّ أن يهاتف نورا بالأخص، ليخبرها بخروجه من المشفى و ذهابه للشركة، فلم تكذب خبر و ارتدت ملابسها في عجلة، ثم مرت على محل لبيع الزهور و اشترت باقة من الورود الجميلة، لعلمها مؤخرًا أنه متيم بكل أنواع الورود، لتنتطلق بعد ذلك لشركته الخاصة.
وصل ” مُجاهد ” أولًا و أقبل على أُبَيِّ يعانقه بشدة وهو يقول بعيون دامعة
” حمد الله على السلامة يا أُبَيِّ.. أنت ايه اللي رجعك الشركة.. أمك هتتجنن عليك.. ”
رحب به أُبَيِّ بشدة ليقول بابتسامته البريئة
” كان لازم.. أرجع.. عشان.. عشان أخلص شوية.. أوراق.. مهمة.. ”
نظر له والده بحُب قائلًا
“التعلثم عندك خف عما كنت في المستشفى.. الحمدلله أنك بخير”
” روح يا بابا.. و.. و.. و طمن.. ماما ”
” رجلي على رجلك.. مش مروح غير معاك.. أمك أصلًا لسه مخلصتش الغدا.. هنروح نفضل متذنبين جنبها.. ”
ابتسم أُبَيِّ في خفة و تساءل مازحًا
” عملت.. الـ.. الـ.. المحشي.. اللي.. اللي قولت لها.. عـ.. عليه ”
” عملت لك ورق العنب اللي بتحبه ”
اتسعت ابتسامته الطفولية الجميلة، كأن ورق العنب أكبر انجاز في حياته..
بعد لحظات جاءت نورا وهي تحمل باقة الورود خلف ظهرها، ليقابلها أُبَيِّ بابتسامة اشتياق و لهفة إليها قائلًا دون اهتمام لوجود أبيه بجانبه
” و.. وحشتني.. عـ.. عيونك.. الـ.. الـ.. الحلوين ”
برغم أنه ذو شخصية عفوية و طيبة للغاية، لكنه إذا أراد قلبه قول شيء يقوله في الحال، و لا يستطيع العقل ردعه أو كأنه لا يعرف للخجل طريق، فبصرف النظر عن تواجد والده معهما، لكنه لا يستطيع التحكم في مشاعره ولا يخجل من اظهارها أمام أي أحدًا كان..
شعرت نورا بالخجل من تواجد عمها مجاهد، الذي أخذ يحول بصره عليهما بطريقة مضحكة قائلًا
” كناريا يا اخواتي ”
ضحكت نورا باحراج، وهي تعطي باقة الورود لخطيبها قائلة بابتسامة لطيفة
” جبت لك ورد عشان عارفه إنك بتحبه ”
” أنتِ.. أنتِ الورد.. اللي. اللي في.. في حياتي..
يا نورا ”
قالها أُبَيِّ بابتسامة عاشقة، ووجه مشرق بحُمرة الحُب عما كان عليه منذ يومان، أخذ منها الورود ووضعها على المكتب برفق، فقالت مُحدثة عمها
” يلا يا عمو إحنا نروح.. هو أنا عارفة إن مينفعش أجي لأُبَيِّ لوحدي عشان لسه مخطوبين و ده حرام، بس أنت يا عمو يا جميل هتقول لبابا إنك خدتني معاكِ ”
نظر له أُبَيِّ ببراءة مصطنعة و مضحكة يحثه على فعل ما قالته نورا..
نظر لهما مجاهد بدهشة فوجدهما ينظران له ببراءة لا مثيل لها، مما اضطر على الموافقة بقلة حيلة..
” عندي فكرة.. نستنى أُبَيِّ و نروح سوا ”
قالها مجاهد، فردت نورا باعتراض و خوف
” لأ هتأخر و بابا هيزعق لي ”
رد أُبَيِّ وهو ينظر لنورا يترجاها للمكوث
” خلاص.. نُص.. نُص ساعة.. أ.. أخلص.. اللي ورايا.. و.. و نروح سوا ”
أومأت بموافقة، فأخذ أُبَيِّ يعمل بجِد و بسرعة، ينهي باقي الأعمال التي كان من المفترض الانتهاء منها الأيام السابقة، و نورا جالسة بجانبه تتابعه بنظرات اختلاس لوجهه ذو القسماتِ الحُلوة تارة، و ليديه وهي تعمل بسرعة على الحاسوب دون النظر للوحة المفاتيح تارة أخرى، كانت تناظره باعجاب و حُب برز في عينيها، فالتفت إليها أُبَيِّ في نظرة سريعة أحرجتها، ليقول برّقة
” وجودك.. في.. في حياتي.. عرفني.. معنى.. معنى الحياة ”
ظهر عليها التوتر وهي تأخذ نفسًا عميق، ثم ابتعدت عنه للتجول في أرجاء الشركة تلحق بعمها مجاهد، و تهرب من كلماتك أُبَيِّ التي تعشقها أذنيها و تلفح وجهها خجلًا، فلا تستطيع الوقوف بثبات أمام عينيه الزرقاوان كزرقة السماء صافيتان، تشعان بنور عجيب عند النظر لها
ضحك هو من خجلها، ثم عاد للعمل على الحاسوب، بينما هي بعد دقائق ملت من التجول في الشركة، فعادت إليه تتساءل بارتباك تخفي خلفه شوقها الشديد له..
” خلصت ؟ ”
” لسه شويه ”
“أنا مبسوطة إنك تغلبت على خوفك و بقيت كويس بسرعة ”
قالتها في محاولة منها لفتح حديث معه دون الحاجة للحديث عنها وعن عينيها، قال باسمًا
” في.. في جُملة.. قرأتها.. الصـ.. الصبح.. بتقول
« إنه.. إنه اختيارك.. الـ.. الخاطئ.. لا.. لا شأن..للـ.. للحياة بالأمر»
يعني.. حياتنا.. اللي.. اللي بنعيشها.. بـ.. بتتوقف.. على.. على اختياراتنا.. لو.. لو حكمنا عقلنا.. و.. و اخترنا.. صح.. من.. من البداية.. مش هنتعب.. كـ.. كتير.. الحياة ما هي.. إلا.. إلا تجارب و.. و دروس..و إحنا لازم.. نـ.. نفتح عقلنا.. عشان.. عشان نتعلم.. الدرس صح ”
أومأت نورا بموافقة و تأكيد على كلامه قائلة
” عندك حق.. الصراحة يا أُبَيِّ.. العالم ده مينفعش معاه الكائنات المسالمة واللي في حالهم.. لازم تبقى عدواني و بجح عشان تقدر تتعايش و تتأقلم.. ”
تجاهل ما قالته و ركز في عينيها هامسًا
” أنتِ.. أنتِ ازاي.. عيونك..حِلـ.. حِلوين.. كـ.. كده”
” أنا بقول كفايه كده.. يلا نروح ”
قالتها وهي تعبث في الأقلام أمامه و تحول بصرها في كل اتجاه دون النظر له، فقال ضاحكًا
” نادي لبابا يلا.. على.. على ما أقفل.. الـ.. الحاجة”
____________________
«المرأة كوكب يستنير به الرجل، ومن غيرها يبيت الرجل في الظلام».
-شكسبير.
~~~~~~~~~~~~
جلس ” زياد” القرفصاء أمام أدراج مكتبه، يعبث حائرًا في كومة الأوراق العشوائية في كل درج، و علامات الضيق و الغضب تملأ وجهه..
زفر مُنزعجًا من عدم ايجاده لبعض الأوراق المهمة..
” يعني كان لازم يا هاجر تروقي المكتب ؟ حد قال لك إن عاوزه يتروق ؟! ”
كانت ” هاجر” تجلس على الأريكة الجلدية أمامه بقلق بدا على ملامحها الجميلة و التي سمنت قليلًا مع الحمل.. قالت في محاولة منها لتهدئته
“دور بس كويس.. هتلاقيهم إن شاء الله”
مسح زياد على وجهه، ثم هتف بنبرة عالية نسبيًا
” ممكن لو سمحتِ متدخليش المكتب تاني غير لما تعرفيني ؟ ”
سُرعان ما التمعت الدموع في عين هاجر، و تراجعت للخلف استعدادًا للخروج من المكتب، لتقول بأسف
” تمام.. مش هتتكرر تاني.. ”
استوقفها صوته الأجش وهو يقول بغضب و يقوم بإلقاء الأوراق المبعثرة أمامه على الأرض بانزعاج
” أعمل أنا إيه دلوقت يا هانم.. ده شغل ناس ”
نزلت الدموع منها وخرجت دون أن تلتفت لمواجهته أو قول شيء للدفاع عن نفسها، اتجهت ناحية الغرفة الخاصة بهما و توسطت الفراش باكية بقهرة، فتلك أول مرة ينفعل عليها ” زياد” منذ زواجهما..
أما بالمكتب ظل يحك شعره في توتر من انفعاله عليها، و أثناء إعادة ترتيبه للأوراق، لمحت عيناه ملف مغلق موضوع على جانب المكتب و نصفه مغطي بالأوراق المبعثرة، أخذه سريعًا ثم فتحه وهو يذكر اسم الله على أمل أن يجد الأوراق، و بالفعل وجدها.. تذكر أنه وضعها هنا قبل أسبوع..
ضرب جبهته بخفة وهو يهتف غاضبًا من نفسه
” كان لازم تتعصب عليها يعني.. غبي ”
ترك المكتب يعج بالأوراق المتناثرة، ثم اتجه للغرفة ليجدها غارقة في دموعها بصمت، و تخفي وجهها الرقيق بين كفيها..
جلس أمامها كالطفل المذنب، و مد يده بلُطف يزيح يدها عن وجهها قائلًا بندم
” سامحيني.. أنا آسف ”
سحبت يدها منه وهي تنهض تاركة إياه، فسحبها برّقة ليُجلسها على فخذيه هامسًا
” والله العظيم آسف.. حقك عليا.. أنا غلطان ”
لم تنطق بشيء، فأخذ يمسح لها دموعها ثم يُقبل كفيها قُبلات حنونة نادمة، ليغمرها بتوسلاتِه أن تسامحه..
” طيب قوليلي اراضيكِ ازاي ! أنا غلطت و بعترف بغلطتي.. حقك عليا ”
نطقت أخيرًا بحزن
” أنا حبيت أنظم لك المكتب عشان لما يجي لك حد.. و مجتش عند الورق خالص لأنه كان في الأدراج و أنا مفتحتش ولا دُرج والله ”
تنهدّ بأسى على دموعها المتسبب فيها، قال وهو يضمها إليه برفق ليجعل رأسها تتوسط صدره
” أنتِ مغلطيش.. مكتبي هو مكتبك و من هنا و رايح هعمل لك نسخة من المفتاح تدخليه في أي وقت أنتِ عاوزاه.. سواء كُنت موجود ولا لأ.. و تسلم ايدك على الترويق الحلو اللي أنا دمرته في ثوانِ ”
قال آخر جملة ضاحكًا، فشاركته الضحك بخفة قائلة
” يكون في علمك مش هروقه تاني.. أنا أصلًا كنت تعبانه انهارده و مع ذلك محبيتش أسيب المكتب كده ”
رفع كفها نحو فمه يطبع قُبلة عميقة بداخله وهو يقول
” أنا آسف.. آسف يا وردتي.. و الله ندمان إن دموعك نزلت بسببي.. خدي حقك مني بالطريقة اللي تريحك.. بس سامحيني بالله عليكِ ”
رمقته للحظات، ثم هتفت بتفكير
” نفسي أكل مِلوحة ”
نفي سريعًا
“لأ.. أنتِ سألتِ الدكتورة المرة اللي فاتت و قالت لأ.. بلاش يا حبيبتي عشان خاطري”
” طيب هات لي واحدة بس و مش هقول لها ”
” تقولي لمين ؟ ”
” للدكتورة ”
” هي الدكتورة اللي حامل و لا أنتِ ! ”
” أنا.. ”
” يعني مين اللي المفروض يخاف على صحته؟ ”
” أنت.. ”
” أنا.. ! ليه هو أنا اللي حامل !! صبرني يارب”
قالها، و هو ينظر للأعلى كأنه يناجي الله بترجي، بينما هي انخرطت في الضحك حتى سقطت رأسها للخلف، فأسندها بيده قائلًا
” الهرمونات اشتغلت.. الله أكبر ”
_________________
«إنهُ طريقُك وَحدك ، قَد يُرافقُك فيهِ أحدهُم لِفترة مِن الوَقت ، لكِن لَن يَكملهُ أحَد غَيرُك، فاختره بعناية»
~~~~~~~~~~~
وقفت ” عائـشة” في شرفة بيت والدها المُطلة على الشارع العمومي، تسقي الورود بها، و حينما انتهت.. اتجهت لبيت زوجها لتساعد حماتها في اعداد طعام الغداء، فالوقت قارب على الخامسة عصرًا، و بـدر أيضًا شارف على المجيء..
دخلت المطبخ لتجد مُفيدة تقوم بغسل بعض الأواني، قالت عائشة في تأهب لاعداد الطعام
” بعد إذنك يا ماما ممكن تطلعي و أنا هكمل الباقي.. عشان أبدأ اجهز الغدا.. بدر زمانه على وصول ”
التفتت لها مفيدة باسمة وهي تقول
“اعملي أنتِ الغدا و أنا هشطب المواعين.. من ساعة ما اتعلمتِ الطبخ و بدر مبقاش يحب الأكل غير من ايدك”
” أنتِ الخير و البركة برضو يا ماما.. يلا يا ست الكل روحي شوفي سيف لو محتاج حاجة.. قاعد مع نفسه من الصبح ”
” آه والله يا بنتي.. صعبان عليا أوي.. نفسي اعمله العملية بأي طريقة عشان يرجع للدنيا من تاني ”
قالتها الأم و الحزن يأكل ملامحها، فردت عائشة تربت على ظهرها بحنان
” خلاص بدر بقى بيشتغل شغل تاني غير الورشة و إن شاء الله يجمع فلوس العملية و يسفروا يتعالج.. ”
” يا بنتي الحل مش في الفلوس.. عمك مجاهد و عمك مصطفى ياما اتحايلوا عليه عشان يعملها وهو راسه و ألف سيف إنه عايز يفضل كده.. ابني مش عايز يبقى حد ليه جمايل عليه.. سيف عنيد و أنا حافظة دماغه ”
” ربنا يكتب له الشفاء من عنده يا ماما.. روحي أنتِ يا حبيبتي سليه بأي حاجة على ما أخلص الغدا ”
ابتسمت لها مُفيدة ابتسامة ممنونة و هي تقول
” من وقت دخولك البيت ده و بقى ليه روح يا عائشة.. ربنا يبارك لنا فيكِ يا بنتي و يرزقك أنتِ و بدر الذرية الصالحة ”
” آمين ”
قالتها عائشة بسعادة بالغة، فتلك الكلمات أثرت فيها جدًا، و جعلتها روحها تغرد فرحًا، دائمًا ما يكون أثر الكلمات واضحًا على ملامح صاحبها، إما أن تترك شرخ عميق في قلبه أو تداوي جروحه..
بدأت عائشة في إعداد الطعام بكل حُب، فعلى الرغم أنها لم تكن تحب الوقوف في المطبخ أو دخوله من الأساس، إلا أنها تعلمت الطبخ خصيصًا من أجل بدر، فلأجل من تُحب تفعل أي شيء حتى لو لم يكن مُحبب إليك..
بعد ساعة إلا ربع، رن جرس الباب فاتجهت عائشة سريعًا و بلهفة تفتحه، ما إن وجدت بدر أمامها يبتسم لها؛ حتى ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تقول
” وحشتني أوي.. حمد الله على سلامتك يا بدري”
ضمها إليه وهو لا زال يحملها، ثم دلف بها للداخل تحت أنظار والدته السعيدة لهما، و التي جاءت تستقبل ابنها و تسأله عن أحواله في أول يوم عمل له.. أنزل عائشة برفق وهو يضع قُبلة على رأسها، ثم انحنى يُقبل يد والدته متسائلا عن سيف..
” سيف نايم و لا صاحي ؟ ”
ردت مفيدة باسمة
” لسه جايه من عنده.. قاعد بيسمع الشعراوي ”
اتسعت ابتسامة بدر، ثم اتجه لغرفة شقيقه، فقابله سيف بابتسامة بشوشة مما طبع بدر قُبلة على جبينه و تساءل
” ايه وصلت لحد فين في تفسير القرآن ؟ ”
رد سيف بفخر حامدًا الله
” وصلت بفضل الله لسورة النساء.. كنت كل إما أجي أقرأها أقول دي أصعب سورة في القرآن.. لحد ما سمعت التفسير بتاعها.. مفيش أسهل منها.. أنا سمعت لمفسرين كتير بس بارتياح لما أسمع للشيخ الشعراوي رحمه الله.. بيعرف يوصل المعنى بسهولة.. ”
” أنا جبت لك ده معايا ”
قالها بدر، وهو يُهدى له كتاب عن قصص الصحابة و التابعين، مما انفرجت أسارير سيف وهتف في مرح
” الله.. أنا بحب قصصهم أوي.. ”
” أنا عارف إنك بتحب تعرف عنهم عشان كده جبتهم لك ”
” أنت أحسن أخ في الدنيا ”
قالها سيف وهو يفتح صفحات الكتاب بلهفة، فتبسم بدر قائلًا وهو يخرج
” ربنا يقدرني و أعرف أسفرك تعمل العملية ”
لم تصل لمسامع سيف ما قاله بدر؛ بسبب اندماجه في قراءة ما يحويه الكتاب..
اتجه بدر لغرفته يبدل ثيابه، فجاءت عائشة تبتسم له بحُب وهي تعطيه منشفة قائلة
” أنا جهزت لك لبس في الحمام عشان عارفة إنك هتيجي تاخد دش علطول ”
رد في لُطف وهو يأخذ المنشفة من يدها
” سلمت يُمناكِ يا مُهجة قلبي ”
“احكيلي عملت ايه انهارده ؟”
“أخد دش الأول و نتغدا و نطلع نرغي في البلكونة شوية و احنا بنشرب شاي بالنعناع من ايديكِ الحلوين..”
أومأت بطاعة، وهي تتجه للمطبخ لتقوم بوضع الطعام في الأطباق و توزيعه على المنضدة بمساعدة حماتها، بينما بدر قد انتهى من الاستحمام، و سيف قرأ عناوين صفحات الكتاب، تجمعوا الأربعة على منضدة الطعام، و برغم تواجد عائشة معهم في البيت أو مع زوجها بالمعنى الصحيح، إلا أنها تلتزم بالملابس الفضفاضة و الحجاب الذي يغطي كامل شعرها أمام شقيق زوجها، لحين بناء بدر شقة خاصة لهما فوق البيت، و الانتقال للعيش فيها بعد رفضه التام العيش في بيت والد عائشة، فهذا البيت منذ أن ردها له، وهو يستحي أن يبيت فيه ثانيةً، فهو يرى أنها لها كامل الأحقية في شقة أو بيت خاص بها، و ليس العيش مع زوجها في بيتها، و ما يراه هو الصحيح..
أثنى بدر على عائشة في مذاق طعامها الممتاز، ثم بعد الانتهاء ساعدها في غسل الصحون، و قام باعداد الشاي للاستعداد لتجاذب أطراف الحديث حول أول يوم عمل له..
جلس كلاهما في الشرفة الواسعة التي كانت خاصة بغرفة هاجر و المطلة على الشارع العمومي، و التي تعتبر بمحاذاة شرفة بيت عائشة.. أخذا يتبادلان الحديث بضحك و استمتاع، و بدر يخبرها عما دار في الشركة بينه و بين المهندس مرتضى و المهندس سامح..
~~~~~~~~~
كانت روان عائدة من عملها في روضة الأطفال الخاصة بها، قابلتها ” إيناس” زوجة أبيها على الدرج و طلبت منها المجيء معها لحارة قريبة من حارتهم، لتقوم بتفصيل عباءة بيتية و عباءة خروج لها، عند إحدى الخياطين جيدين السمعة في المهنة..
بالطبع وافقت روان دون الاستفسار عن الحارة..
بعد عشرون دقيقة تقريبًا نزلا من ” التوك توك” لتلفت عين ” روان” لافتة زرقاء لصقت على أحد جدران بيوت الحارة و يعتبر المدخل لها، كُتبت على تلك اللافتة باللون الأبيض العريض
” حارة السلام ”
تلون وجه روان فور أن تذكرت، أن تلك الحارة التي يسكن بها عائلة الخياط، حاولت اخفاء تعابير وجهها المتوترة، حتى لا تلفت انتباه زوجة والدها، و أكملت السير معها تجاه تلك الخياطة التي لا تعرف مكانها حتى..
~~~~~~
وقفت عائشة بجانب بدر على سور الشرفة تقول ضاحكة
” ياه.. سنة مرت بسرعة الريح كده.. ده الواحد عجز بسرعة ”
ضحك بدر قائلًا
” لما أنتِ يا أم عشرين سنة تقولي كده.. أروح أنا أدفن نفسي بقى ! ”
” بعيد الشر عليك يا بدري.. مش مصدقة إن كلها عشرين يوم و نرجع الدراسة تاني.. أنا عاوزه ابقى ست بيت مش عاوزه أكمل تعليم ”
قالت آخر جملة مازحة، فرد بدر بتحذير مصطنع
” تعليمك و شهادتك أهم من أي حاجة.. إن شاء الله تتخرجي و تبقي أشطر مهندسة ”
ابتسمت دون أن تعلق بشيء، فعينيها كانت تتابعان تلك الفتاة سمراء البشرة حسنة الهيئة، تمشي بخجل بجانب إمرأة حامل يبدو عليها التعب.. دققت عائشة النظر بها، حتى اتسعت عيناها بدهشة هاتفة
” روان ! ”
عرفت روان صاحبة الصوت في الحال، فأغمضت عيناها تتمنى لو أنها تتوهم مناداة أحد لها، و لكن عائشة هتفت باسمها مرة ثانية وهي تقول في مرح
” بت يا روان أنا عائشة ”
تساءل بدر بعدم فهم
” دي صحبتك ؟ ”
” دي مرات أخوك في المستقبل إن شاء الله ”
قالتها عائشة، ثم ركضت نحو الدرج توقف روان قبل أن تهرب منها، و عندما مرت على سيف قبل أن تهبط للأسفل، قالت له بخفوت وهي تبتسم غامزة
” العب يا حظ.. روان تحت.. ” !
_______________
في الممر السري، تملأ الدهشة وجوه كل من
” منة و قُصي و شمس ”
ظلت منة و قُصي في تواصل بصري امتد للحظات بعدم تصديق و استيعاب من الإثنين.. تساءلت شمس في دهشة
” مش أنت قُصي تقريبًا ! ابن عم بدر مش كده ؟ ”
تجاهلها قُصي وهو يقترب من “مِنة” و يوجه حديثه للواء عزمي متسائلًا في استهزاء
” الشبر و نص دي بتعمل ايه هنا ؟ ”
” تعرف تخرس و لا أخرسك ! ”
قالتها ” منة” وهي تنظر له بجمود، بينما اللواء عزمي تطوع لابعادهما عن بعض، فقال بجدية
” منة متطوعة زيك يا قُصي.. بس كل واحد فيكم ليه موهبته و قدراته الخاصة.. أتمنى تشتغلوا كلكم مع بعض في مجموعة مترابطة عشان نقدر نوصل للمُراد ”
تنهد قُصي بملل، ثم لفت انتباه وجود فتاة ثالثة طويلة القامة غاية في الأنوثة و الجمال، لا يبدو عليها من فرط رقتها أنها تنتمي لأيًا من هذا..
التمعت عيناه بالاعجاب بها على الفور، و اقترب منها قائلًا في عذوبة
” أول ما شفتك اكتشفت إن فيه أبطال غير أبطال الديچيتال ”
سحبه ” إبراهيم ” من يده وهو يتأمل
” الضابطة نيرة ” باعجاب أيضًا، ليقول لقُصي بخفة
” اهدى علينا يا مغناطيس النساء أنت ”
ضحك الجميع، عدا ” منة ” التي ظلت تناظرهم بفتور، ليقول اللواء عزمي باهتمام
” ميعاد سفركم بكره إن شاء الله الساعة سبعة الصبح.. جهزوا كل حاجتكم من دلوقت ”
أومأ الجميع بموافقة قبل أن يتركهم و يذهب، بينما قُصي و إبراهيم ظلا يحومان حول الفتاة، فقالت نيرة موجهة حديثها لقُصي الذي أعجبت به أيضًا و بجمال عينيه
” إذا كان مجرد عبد من عباد الله على قدر بهذا الجمال، فكيف يكون جمال يوسف الصديق إذًا !
خفق قلب ” قُصي ” على الفور و اتسعت ابتسامته البلهاء وهو يحك شعره باحراج، لأول مرة يظهر عليه، مما انخرط إبراهيم في الضحك وهو يضرب كفًا بكف و يقول من بين ضحكاته المسترسلة
” يا مستني الإخلاص من واحد رخيص، يا مستني المهمة تنجح من شلة متاعيس ”
رمقه قُصي بغضب مصطنع وهو يقول بتحذير
” اخرس ياض.. خليني أعرف أشقط المزة ”
” قوم بص لنفسك في المرايا.. ده أنت وشك جاب ألوان الطيف من جملة واحدة ”
قالها كريم بضحك وهو يأتِ من خلفهما، بينما رحيم قال بعفوية قاتلة وهو يأكل قشر الموز كعادته
” عارفة يا نيرة مشكلتك ايه.. إنك تقصري شوية.. أصل أنا مش بحب الطول.. على رأي الشاعر اللي أنا معرفش اسمه..
أعْشَقْ مِنَ النِّساء كُلَّ قَصيرَةٍ
وَدَعِ العَواميدَ الطِّوالَ وَأَمْرَها
أَيْنَ الجَمالُ بِأَنْ تُحِبَّ زَرافَةً
تَحتاجُ حَبلاً كي تلاحَظ خدها.. ”
صمت خيم على وجوه الجميع لثوانِ، ثم انفجر جميعهم ضحكًا، حتى نيرة ضحكت وهي تقول
” و أنت يا رحيم باشا حد قالك إني محتاجة رأيك ؟ ”
” لأ.. أنا قولت اعرفك بس بما إننا زملاء في المهنة يعني.. ”
” طيب يلا يا جماعة كفاية كده عشان نعرف نقوم فايقين بكره.. كل واحد يدخل أوضته ينام ”
قالها كريم بحزم وهو يتركهم قاصدًا غرفته للنوم، فنهضوا جميعهم لغرفهم بعد دقائق..
و ها هو ينقضي الليل سريعًا، و يأتِ الصباح مُعلنًا بداية يوم شاق عليهم..
استيقظ الجميع على صوت صفارات الصباح التي تدوي في الممر، بينما قُصي تقلب في فراشه بانزعاج من الصوت الذي يصدره ” إبراهيم” و الذي شاركه الغرفة في النوم، فكان قد استيقظ مُبكرًا و أخذ يرتب فراشه بضجة هاتفًا
” اصطبحنا و اصطبح الملك لله ”
“لا اصطبحنا دي تقولها وأنت قاعد في بير السلم بتلف سجارة حشيش.. اسمها أصبحنا و أصبح المُلك لله و بطل اللي بتهببه ده بدل ما أقوم لك”
قالها قُصي وهو يضع الوسادة على رأسه، ليُبعد الضجة عنه، فدخل عليهم اللواء دون إنذار يقول بصرامة
” استعدوا.. الوقت بيجري مننا ”
همس قُصي بلا مبالاة وهو لا زال يخفي رأسه تحت الوسادة
” اجري وراه أنت هتقرفنا ليه ”
” لو سمعك هيعلقك على باب الممر ”
قالها إبراهيم ضاحكًا، و بعد ربع ساعة من محاولات سحب قُصي من الفراش رغمًا عنه، نهض أخيرًا، ليستعد الجميع لمغادرة البلاد قاصدين فندق سكاي داون، غير مدركين أن ما ينتظرهم ليست فقط مجموعة من الماسونية أو رهائن يريدون انقاذها، بل ما ينتظرهم هناك في طريق الموت هو الموت نفسه و الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة..
و بعد عدة ساعات هبطت الطائرة للمكان المهول برائحة الموت.. !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى