روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل السادس 6 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل السادس 6 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء السادس

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت السادس

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة السادسة

٦- شيء بالمقابل
كانت في فترة استراحتها من مصاحبة ساجد، فقررت الخروج للحديقة قليلا، كانت دوما تعمل بالداخل، والجو كان باردا بعض الشيء فلم يشجعها على البقاء خارج الفيلا، هبطت الدرج، وصنعت لها فنجان من الشاي، ودخلت لمكتب أيوب لتحصل على رواية ما لقراءتها، كان في رحلة عمل منذ ليلتين ولم يعد بعد، كانت تشعر بوحشة عجيبة لا تعرف لها تفسيرا في غيابه، كأن الفيلا ينقصها شيء ما أشبه بافتقاد البدر في ليلة ظلماء بقلب صحراء قاحلة، عجيبة هي مشاعر الإنسان تجاه نقيضه، قد تكون قمة في الانسجام وقد تجنح لتكون قمة النفور، لا وسطية إطلاقا في اشباه الاضطاد، فلا رمادية بين أبيض ناصع وأسود حالك، لكن علاقتهما أعجب من أن تكون مثار تفسير أو حتى محض صدفة.. فلا صدفة فيما يخطه القدر من خطوات..
جلست على الأرجيحة اللطيفة تحمل كتابها، ترتشف من كوبها مع كل صفحة تقلبها، وقد نسيت تماما، أن هزاع ليس هناك بموضعه، ولم تتذكر ذلك، إلا عندما سمعت زمجرة ما تقترب من موضعها، ما جعلها تتنبه رافعة ناظرها لتجد (مالو) حارس البوابة الهندي، يمسك بهزاع محاولا أن يمنعه من الهجوم عليها، وقد بدأ في النباح بصوت عالِ، انتفضت منكمشة على نفسها، تحاول الابتعاد قدر امكانها عن هزاع، لكن كلب بهذه الضخامة، لن يستطيع ذاك الشاب الهزيل السيطرة عليه، فقد ينفلت من يده عقاله، وكان توقعها صحيحا، فمحاولة مالو في التحكم في هزاع باءت بالفشل، ليندفع هزاع صوب سلمى، التي كانت على أهبة الاستعداد للركض هربا، تصرخ مذعورة، وهزاع في عقبها نابحا، دارت حول الفيلا قرابة المرتين في صراخ مستمر، وهزاع خلفها، يتبعه مالو أمرا هزاع بالتوقف، مرة بلغته العربية الضعيفة، ومرات أخرى بالهندية، لكنه لم يستجب أبدا، إلا بأمر قوي اللهجة من سعدون، الذي ظهر فجأة، وقد جذبه صوت صراخ سلمى من الداخل، ما جعله يتسمر موضعه، لكن سلمى ظلت تركض، معتقدة أنه لا زال يركض وراءها، لتقع أمام تلك العربة الأنيقة التي دخلت لتوها البوابة التي كانت مفتوحة ولم يغلقها البواب الهندي حين حضر بهزاع من فترة التمشية التي كان يقوم بها هو أو سعدون في غياب أيوب عن الفيلا في رحلات عمله.
اندفع سعدون في ذعر باتجاه سلمى، يساعدها على النهوض حيث سقطت، لتترجل رياحين من السيارة، هاتفة في قلق: كل شي تمام!
هزت سلمى رأسها إيجابا، وهي تستند على ذراع سعدون، الذي اطمئن عليها بدوره، لتهتف رياحين في نبرة متعالية: ليش ظهرتي أمام السيارة بهاد الشكل الجنوني!
هتف سعدون بالنيابة عن سلمى: حصل خير يا استاذة رياحين، اتفضلي الشيخ في انتظارك.
تجاهلت رياحين كلام سعدون، متطلعة لسلمى في فضول، متسائلة في عجرفة: مين ها دي!
أقر سعدون: الأستاذة سلمى، معلمة ساجد الجديدة.
تطلعت رياحين نحو سلمى بنظرة شاملة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، لتهتف أخيرا في لا مبالاة: المعلمة! .. تمام..
ثم عادت لسيارتها، وهي تبرطم بسباب غير مفسر عن هذه المخبولة، التي ظهرت بغتة أمام سيارتها، وكادت أن تدهسها العجلات..
صفت السيارة موضعها المعتاد، ثم ترجلت مجددا دون أن تلقي نظرة آخرى صوب أي من كان، تسير في خطوات وئيدة صوب مدخل الفيلا، لتغيب فالداخل في سبيلها لمقابلة الشيخ.
تطلع سعدون لسلمى يسألها من جديد: أنتِ بخير!
هزت سلمى رأسها مؤكدة: اه تمام الحمد لله، بس شكل الأستاذ هزاع مش طايقني، لازم لنا قعدة عرب عشان نصفي الحزازيات اللي بينا!
قهقه سعدون، وهتف مفسرا: ويمكن العكس صحيح!
أشار سعدون لهزاع، الذي اندفع متقدما نحوه ملبيا أمره في طاعة، وسلمى تتخذ لها ساترا بعيدا عن هذا الوحش، الذي كادت أن تخسر حياتها بسببه، لكن سعدون أمرها بالاقتراب، فاطاعته في تردد، حتى إذا ما دنت من سعدون، قفز هزاع عليها فرحا، يلعق وجهها لاهثا في سعادة.
قهقه سعدون لأفعال هزاع، وهي تحاول السيطرة على هزاع بضخامته التي لم تعتدها بعد، مؤكدا: شفتي! الأستاذ بيحبك وبيجري وراكِ عشان يلعب معاكِ..
قهقهت سلمى لأفعال هزاع، التي كانت أشبه بأفعال قطة صغيرة، لا كلب بهذا الحجم، وقفز إلى عقلها خاطر عجيب مفاده، أن الكلب يشابه صاحبه اللدود في بعض الصفات، وأن خلف شخصية أيوب الصارمة تلك، تكمن شخصية آخرى، يتعمد هو اخفاءها خلف قناع الانضباط المبالغ فيه، والصرامة المفتعلة! .. ألقت هذا الخاطر الغريب الذي راودها خلف ظهر وعيها، وعاودت التركيز على اللعب مع هزاع.
***************
أكلها التفكير حرفيا، وما ارتاحت إلا باستخارة دفعتها لترفع سماعة هاتفها، لتطلب رقمها القديم، والذي أصبح رقم أخيها، الذي رد سريعا في لهفة: أيوه، إزيك يا سلمى!
هتفت في سعادة: إزيك يا صبحي! عامل ايه! بص.. ركز معايا عشان عايزة أقولك حاجة مهمة.
هتف صبحي بنبرة قلقة: أنتِ كويسة يا سلمى! جوزك تمام!
هتفت سلمى مترددة: معرفش..
زعق صبحى متعجبا بصوت عالِ: يعني إيه متعرفيش! هو فيه إيه يا سلمى بالظبط!
هتف صبيه بالورشة، متسائلا في قلق: فيه حاجة يا سيد الاسطوات!
هتف به صبحي في حنق: وأنت مالك! خليك فاللي فإيدك، ده إيه الهم ده! ..
وجه صبحي حديثه من جديد لسلمى، هاتفا: استني يا ستي أما أقعد فحتة نعرف نتكلم فيها..
هتفت سلمى تهدئه: اهدى يا صبحي، ومتقاطعنيش وأنا هحكي لك كل حاجة بالتفصيل!
صمت صبحي، فاستطردت مؤكدة: أنا معرفش مجدي فين! ولا قابلته من ساعة ما جيت..
صرخ صبحي في تعجب: إيه !.. اومال أنتِ فين ومع مين دلوقت!
تنهدت سلمى مسترسلة: أنا فضلت مستنياه تقريبا يومين فالمطار، ومجاش خدني، ولولا ناس ولاد حلال كانوا محتاجين حد يعرف يتعامل مع ابنهم اللي من ذوي الاحتياجات، مكنتش عارفة ساعتها هعمل ايه! .. أنا عندهم دلوقت، بعالج الولد، هم ناس كويسة، بس ميعرفوش أي حاجة عني، إلا إني كنت جاية البلد دي في شغل، خفت اقول لهم إني متجوزة، يقولوا دي مسؤولية وميرضوش يشغلوني، المشكلة دلوقت فين مجدي! ومجاش خدني ليه من المطار! .. أنت بتقول إنك رنيت على تليفونه كتير ومحدش رد، وبعدين التليفون اتقفل، يبقى راح فين!
هتف صبحي في ضيق: لا حول ولا قوة الا بالله، يعني ده كله يحصل يا سلمى وأنا مش دريان! .. طب يكون جوزك راح فين! .. لا جالك ولا بيرد على تليفون! .. طب الناس اللي أنتِ عندهم ميقدروش يساعدوكي توصليله!
هتفت سلمى في قلق: مش عارفة يا صبحي! أنا لسه قيلالك أصلا إني مقلتش إني متجوزة، فجأة اقولهم إني متجوزة وتايهة ومش عارفة جوزي فين، ولا بيشتغل فين! ولا أي معلومة عنه غير إنه مهندس واسمه مجدي عمران!
تنهد صبحي في قلة حيلة، مؤكدا: سيبك بقى من ده كله، أنا المهم عندي سلامتك، أنا هتصرف وابعت لك فلوس تركبي أول طيارة وتيجي، وهنا وأنتِ وسطنا نبقى نتصرف ونشوف حكاية جوزك اللي اختفى ده.
هتفت سلمى مؤكدة: أنا فكرت فكده فعلا، بس مبقاش ينفع يا صبحي، أنا بشتغل مع الولد وفيه تقدم فحالته، مقدرش اسيبه ممكن ينتكس، وده مش فمصلحته، واهو شغل زيه زي شغل مصر، لحد ما أشوف حكاية مجدي دي هترسى على إيه! وأنا أصلا مسافرة بفيزة سياحية، يعني كلها حوالي شهرين وتخلص، وبعدها يحلها الحلال، يمكن يكون الوضع اختلف ساعتها.
زفر صبحي في ضيق: فكرك كده!
أكدت سلمى: طب وهو فإيدينا إيه غير كده! عندك حل تاني غير إننا نستنى!
أكد صبحي: بصي، أنا هعمل اللي أقدر عليه عشان أعرف اوصل لأي حاجة تعرفني فين الأستاذ مجدي، وليه سايبك كده لحد دلوقت! ..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يتساءل صبحي في قلق: طب أنتِ بجد كويسة، ومع ناس تمام!
هتفت سلمى: متقلقش، والله أنا كويسة، والناس اللي معاهم بيعاملوني أحسن معاملة.
ابتسم صبحي هامسا: دعوة أبوك صابت يا سلامات، دايما كان داعي لك، ربنا يوقف لك ولاد الحلال.
دمعت عينى سلمى هامسة: الله يرحمه.. بص أنا هقفل دلوقت، وهكلمك تاني لو فيه أي حاجة.
ألقى التحية منهيا المكالمة، لتنهي المكالمة بدورها متنهدة في راحة، بعد أن ألقت حمل سرها عن أكتافها.
****************
كمريض توحد، كان عليها أن تدخل له العادات الجيدة في نظام يومه لتصبح عادة، تخطت معه الخطوة الأولى، وأصبح يسيجيب للنداء باسمه، عليها الآن، أن تجعل أمور النظافة الشخصية من عاداته الروتينية، لذا دخلت عليه في الثامنة صباحا، تنادي على اسمه في هدوء، لتخرجه من فراشه، لكنه رفض مرة بعد آخرى، ما دفعها لتهتف محفزة: ياللاه عشان نخرج..
انتفض من موضعه، مندفعا لخزينة ملابسه، يخرج ثيابه في فوضى، قهقهت لأفعاله، متقدمة نحوه، تمنعه من العبث بمحتويات الخزانة، هاتفة به، وهي تمسك بكفه في حزم: قبل الخروج لازم ندخل الحمام ناخد دوش، ونغسل وشنا وسنانا.
اعترض قليلا، وبدأ في اتباع نفس ردود أفعاله تجاه ما يكره، لا رغبة لديه في التنفيذ والطاعة، فتركته يفرغ نوبة الغضب دون أن تتدخل، ظل على حاله، حتى أكدت في جدية: مفيش خروج إلا بالدخول للحمام.
ظل على عناده، حتى استجاب أخيرا، حين أخذت بيده صوب الحمام، لتعده للخروج، تدربه على استخدام فرشاة الأسنان، وخلع ملابسه وارتدائها دون مساعدة أحد.
أخذته للأسفل وخرجت به الحديقة، لتغير له أجواء الدرس، ولتكون قد وفت بوعدها في إخراجه، وضعته على أحد المقاعد الخاصة به، والذي احضرته معها من غرفته، تحاول أن تعلمه البقاء جالسا في ثبات دون أن يتحرك هنا وهناك، ليعتاد البقاء على مقعد لمدة طويلة على خلاف طبيعته الدائمة الحركة والمفرطة النشاط، انتفض هزاع ما أن أبصرهما قادمين، يتطلع لهما في فضول لاهثا، وبدأت سلمى تكافح من أجل إبقاء ساجد جالسا لمدة نص ساعة على كرسيه المزركش دون حراك.. مرت قرابة الساعتين.. ولا فائدة ترجى من المحاولة .. ما دفعها لتجلس القرفصاء تاركة ساجد يلهو ويجري هنا وهناك، ليشاركه هزاع اللهو، تاركا بيته الخشبي، مندفعا في مرح، وفجأة اقترب من سلمى وبدأ يلعقها في محبة، كأنه يدفعها للعب معه، نهضت بالفعل، وبدأت في رمي الكرة بعيدا، ليركض هزاع قادما بها في سعادة منقطعة النظير، لتعاود إلقاء الكرة مجددا، وفي إحدى المرات، ألقت الكرة في عشوائية، لترتطم فجأة برأس أحدهم، والذي تأوه، لتنتبه لذاك الذي وقف على مقربة ممسكا رأسه في وجع، فإذا به أيوب، كان قادما من ناحية البوابة، ما جعلها تندفع نحوه في فزع متسائلة: أنت كويس!
هتف في حنق: كنت، لحد ما…
لم يكمل حديثه، متطلعا نحوها، وهي تحاول التخلص من تعلق هزاع بها، متعجبا من اعتياده عليها، وهو المعروف عنه وحشيته مع الكثير من ضيوفه، حتى ولو كان قد قابلهم لعدة مرات!
هتفت سلمى بهزاع أمرة: أقعد ساكت، وإلا مش هلاعبك، أقعد..
أطاع هزاع في عجالة، متمددا تحت قدميها، ما دفع أيوب ليسأل مندهشا: من امتا بقيتوا أصحاب!
أكدت في ابتسامة: من ساعة ما جري ورايا ولفنني الجنينة مرتين، وعرفت إنه بيجري ورايا محبة، ومن ساعتها اتصاحبنا، الظاهر كنت فهماه غلط، وطلعت من اللي بيطلع روح اللي بيحبه جري وراه، وهو مش دريان.
تطلع لها مشدوها، وكأنها أصابت وترا حساسا داخله دون أن تدرك مؤكدا: بس ده مش بيتعود على أي حد بسهولة!
نظرت له هاتفة في فخر: وهو أنا أي حد! ده هو اللي حفي ورايا عشان أقف أسلم عليه، لهو أنت فاكر ايه! حتى أسأل عم سعدون.
هز رأسه ممسكا ضحكاته، ما جعلها تتنبه لأثر ضربة الكرة، التي أصابته منذ لحظات، ما دفعها لتمسك ضحكاتها بدورها، هاتفة: أنا بقول تدخل تشوف مكان خبطة الكورة، عشان..
لم تستطع أن تكمل كلامها، فقد انفجرت ضاحكة، وقد تذكرت أحد الأفلام القديمة، التي انتفخت رأس بطلها وأصبح مكان الإصابة أشبه بالبالون، كما رأس أيوب اللحظة، والذي وضع يده مكان الألم، ليتوجع مندفعا للداخل مهرولا.
اقتربت الساعة لتمام الثالثة، ما دفع سلمى لتصعد بساجد لحجرته، حتى تتجهز للغذاء، الذي هرولت لتلحق به، وقد وجدت الشيخ وأيوب قد جلسا على مائدته العامرة، ألقت التحية وجلست مكانها المعتاد، ساد صمت حتى هتف الشيخ، مشيرا لضمادة موضوعة على جانب هامة أيوب، متسائلا عن سببها، فلم يجب أيوب، ما دفع سلمى لتهتف مجيبة وهي تمسك ضحكاتها: تقدر تقول إصابة ملاعب يا شيخ.
قهقه الشيخ ساخرا: هاد هيقلل سعره، ويضيع علينا صفقة البيع لنادي كبير.
قهقه كل من سلمى والشيخ في أريحية، وأيوب يتناول طعامه في لا مبالاة، يحاول أن لا يكترث لسخريتهما على إصابة رأسه، لا يعلم أحدهما أن الإصابة الموجعة بحق ليست برأسه، ولكن بموضع آخر تماما، ليس من السهل مداواة جراحه.
***************
دخل إلى أحد المحال التجارية الضخمة، بالبلاد التي حطت بها رحلته، لا يعرف لما كانت تحدوه رغبة طاغية، في شراء بعض الهدايا لقاطني فيلاته، لم تكن المرة الأولى الذي فكر في هذا، وحدث بالفعل وأتى لهم ببعض الهدايا من رحلاته المختلفة، لكن هذه المرة بخلاف المرات السابقة، يشعر أن عليه انتقاء شيء مميز، لا مجرد هدايا..
ابتكمااع شال من الصوف، به بعض الورود الرقيقة من أجل دادة نفيسة، فقد لاحظ عشقها لوضع الشال على كتفيها بدخول الشتاء، ثم وقعت عيناه على نوع من العطور، كان من النوع المفضل لوالده، فابتاعه.. ثم احضر زوج من القفازات لسعدون، خاصة بالزراعة، فقد لاحظ اهتراء قفازاته في آخر مرة رآه يعمل بالحديقة، على مجموعة الأزهار النادرة التي يستزرعها، ويعتني بها في محبة عجيبة، جاء الدور على اختيار هدية ساجد، لم يكن من الصعب عليه اختيار أحد الألعاب التي يعشقها ولده، وأخيرا.. لم يبق إلا هديتها.. ماذا يمكنه أن يهديها يا ترى! .. العطور والحلي أو حتى الورود لن تكون مناسبة إطلاقا.. فهذه الهدايا حميمية بدرجة كبيرة، ولا يمكن اهداءها إلا لامرأة تربطه بها علاقة ما، لكن معلمة ولده! .. ارتفع فجأة صوت آذان العصر، في ذاك البلد الإسلامي الذي يزوره لبضع ساعات، قبل معاودة الطيران عائدا لبلاده، دفع حساب مشترياته، مهرولا صوب المسجد، ليلحق بالصلاة التي أصبحت صلته بها، الفترة الماضية، أكثر تعلقا وعمقا، وقد علم ما هي الهدية المناسبة، لمعلمة ولده، التي ما أن ظهرت بحياته، حتى قلبتها رأسا على عقب، أو ربما.. أعادت اعتدالها من حيث لا يدري.
*****************
مر أكثر من شهر، وهو على هذا الحال، لم يتبدل أو يتحسن وضعه قيد أنملة، يتمدد على فراشه الطبي، داخل هذه الغرفة الطبية المعقمة، تأتيه هي كل يوم لتطلع على حاله، وترحل بلا جديد في الأفق.. أخبرها الأطباء أن الحالة مستقرة، لا ساءت ولا تحسنت أيضا، لا زال يرقد في غيبوبته، منقطعا تماما عن أرض الواقع وما يجري بها.
تطلعت نحو جسده المسجي من خلال الحائط الزجاجي، تبكي في صمت على وضعه المحزن، لا علم لها هل سيخرج من هذه الوعكة سليما معافى من جديد! .. أم أنها ستفقده للأبد..
*******************
تناهى لمسامعها صوت هدى سلطان تشدو في شقاوة:
من بحري وبنحبوه..
ع القمة بنستنوه..
شبك الجملات وشابكني..
وإزاي نقدروا ننسوه..
وهي تقترب من باب حجرته، فقد كانت قد أنهت عملها مع ساجد، وعليها أن تنضم إليه كما وعدته، وخاصة في غياب أيوب الذي كان يؤنسه بالحضور في فترة بقائه في الفيلا، بلا رحلات عمل.
طرقت الباب، ودفعته عندما اذن لها بالدخول، لتبادره بابتسامة، هاتفة في محبة: كيف الحال يا طويل العمر!
ابتسم في سعادة، ممسكا بجهاز التحكم في مشغل الموسيقي، مخفضا الصوت مؤكدا: بخير لما شوفتك!
هتفت مستفسرة بابتسامة: أول مرة اسمعك مشغل حاجة غير أم كلثوم! وكمان هدى سلطان! ..
ابتسم في شجن هامسا: لما تضرب أمواج الشوق والحنين شواطئ قلبي، لازم ها الأغنية بتكون حاضرة.
اتسعت ابتسامتها مازحة: ايه الكلام الكبير ده، اللي يصعب على أمثالي فهمه!
قهقه الشيخ، لتستطرد باسمة: واضح إن الموضوع كبير سعادتك! وأنا عندي فضول أعرف..
ابتسم الشيخ في رزانة: حكاية قديمة من زمن فات، لكنها ما غابت عن البال، ولا غادرت الخاطر..
ساد الصمت، وغاب بنظرة إلى المجهول، احترمت سلمى صمته المقدس، ولم تقاطعه حتى استطرد هامسا: بتذكر أيوب قالك يوم ما اتعرفنا، إني عشت بمصر فترة أوقات دراستي، وما بعدها زيارات متقطعة!
هزت رأسها مؤكدة، ليستكمل حديثه باسما، ابتسامة رغم ما تحمل من حزن، لكنها كانت كافية لتغيير قسمات وجهه لتصبح أكثر شبابا ونضارة عن المعتاد، وكأن الدماء عادت لتضخ بقوة في شرايينه: هناك في مرة من هاي الزيارات، تركت روحي وعدت من غيرها..
همست سلمى مشدوهة: روحك!
هز رأسه إيجابا، هامسا في وله: نعم، صفية.
همست سلمى متعجبة: صفية!
اومأ هامسا: هناك فإسكندرية، كنت في إجازة مع بعض الأصدقاء، وعلى شط البحر، كنت وحيد خدتني رجلي لحد عندها، شوفتها، كانت فاكرة إن ما في حد بالمنطقة المنعزلة، فنزلت البحر وغابت تحت المي لثواني، كأنها جنية بحر، بعدها خرجت للشط، وصلت لحد .. ايش كان اسمها.. اه.. الملاية اللف والبرقع، لبستهم وراحت..
همست سلمى في تعجب: معقول حبتها بسرعة كده!
أكد الشيخ: خطفتني، كنت كل يوم فنفس الموعد، أقف فنفس المكان، لحد ما تيجي، تمارس طقسها المقدس، وتروح ..
ساد الصمت، لتعاجله سلمى: وبعدين!
ابتسم هامسا: حاولت اكلمها مرة وعشرة، والله كان قصدي شريف، لكن ما نلت منها إلا قاموس اسكندراني محترم من السباب.
قهقهت سلمى مؤكدة: أساسي..
تنهد الشيخ مؤكدا: بعدها .. عرفت إني ما كنت أريد من الدنيا كلها إلا هي، رحت لأخوها، طلبت يدها، لكن ما وافق، اتقدمت تاني وتالت، وما كان في فايدة، قلت لها ما راح أرحل إلا وياكِ، واتفقنا على الهرب، لكن أخوها الله يسامحه، لحق بنا، ورجعها وتركني وأنا كنت بين الحياة والموت، بسبب اللي حصل لي منه ومن رجاله، لكن كل اللي كان يهمني أعرف عملوا إيه وياها، اكتشفت إنهم حبسوها لفترة، رحت له تاني بعد ما قدرت أقف على رجلي، قلت تكون لي بأي شكل، لا يمكن اتركها بيدهم، لكن اكتشفت إنهم جوزوها لواحد من رجال أخوها.
شهقت سلمى: اتجوزت!
أكد بإيماءة من رأسه: جوزها أخوها غصب، وبعدها عن اسكندرية كلها، ومن يومها ما عرفت راحت فين، رجعت على هنا وقلبي مكسور، وروحي هناك من وقتها.
خيم الصمت، الذي قطعته سلمى بأعين دامعة تعاطفا مع الشيخ، الذي كان التأثر باديا عليه، وكأن قصته الموجعة وقعت بالأمس القريب، لا منذ سنين طويلة خلت، هامسة في تساؤل: للدرجة دي حبتها، ولسه فاكرها لحد دلوقت!
همس الشيخ: اللي كان بينا ما كان حب، كانت أرواح متآلفة، أنا كنت هنا، وهي هناك، وما بين غمضة عين وانتباهتها، لقينا بعضنا على درب واحد، وقلب واحد، لا هي بتفارقني ولا أنا بفارقها، كأنها سكنت روحي وما غادرت للحين، تركت ع القلب وشم باسمها، وع الجسد علامة وجع.
أشار الشيخ لندبة بأعلى ذراعه، كأنها أثرا لجرح قطعي قديم، ناتج عن سلاح حاد.
ابتلعت سلمى غصة استقرت بحلقها، لا رغبة لها في البكاء تأثرا، وسألت من جديد في حيرة: هو الحب صعب كده!
ابتسم الشيخ من بين دموعه، هامسا وهو شارد فالفراغ قبالته: الحب هو الشهد المر، والمر الحلو يا بنتي، جمر بالصدر ما بتنطفي ناره لليوم..
حل الصمت من جديد، لتقطعه سلمى رغبة في الخروج من دوامة الوجد التي سقطت فيها مع ذكريات الشيخ، متسائلة في مرح: وفين مكان أم أيوب، فين دور برلنتي هانم من الحكاية دي كلها يا طويل العمر!
صمت الشيخ قليلا، قبل أن يهتف مؤكدا في نبرة احتارت في تفسير معناها: أكيد دورها موجود، وجودها أصل الحكاية.
هتفت سلمى في فضول: إزاي!
ابتسم الشيخ متثائبا: لا، يكفي ل ها الحد ، أنا نعسان.
نهضت سلمى هاتفة بابتسامة، وهي تهم بمغادرة الغرفة: نوم العوافي..
أغلقت الباب خلفها، وقد أدركت أن الوقت قد تأخر بالفعل، والكل قد خلد للنوم، ما دفعها لتقرر الصعود لغرفتها، لكن وهي في طريقها للدرج، سمعت صوت صادر من ناحية المطبخ، فاعتقدت أن نفيسة ما زالت مستيقظة، فتوجهت نحوه في حماسة، هاتفة في مرح بقصد اخافتها: عفاريت الليل اللي بتخبط فالحلل، لو اللحمة نقصت حتة هبلغ صحاب الفيلا إنك…
توقفت متسمرة موضعها، وهي ترى أيوب يوليها ظهره، يقف يصنع لنفسه على ما يبدو طبق من طعام ما، والذي هتف ساخرا، وهو على حاله، لم يستدر حتى لمواجتها: دي طقوس خاصة بتعمليها قبل دخولك المطبخ ولا ايه!
لم تفه بحرف، حتى أنه استطرد مازحا: طبعا مش منطقي إني أسألك بتعملي ايه هنا! هيبقى أغبي سؤال فالتاريخ!
ضحكت بعد أن لملمت ثباتها الذي تبعثر لمرأه، بعد غيابه ليلتين عن داره، هاتفة في صراحة معتادة: لا، مكنتش جاية أكل المرة دي، كنت فاكرة إن دادة نفيسة هي اللي فالمطبخ، وكنت جاية اطمن عليها، قبل ما اطلع أنام.
تقدمت خطوات في فضول لتستطلع ما يقوم به، لتجد أنه يثير الفوضى لا أكثر، ما دفعها لتقدم عرضها المغري، هاتفة في نبرة مترددة: تسمحلي أساعدك.
هتف في اضطراب: أكيد، أنا جعان جدا، مكلتش طول النهار لظروف خاصة، ومش منطقي أقوم دادة نفيسة من نومها، تعمل لي أكل فوقت زي ده!
هزت رأسها متفهمة، وبدأت في صنع بعض الطعام الخفيف، بعد أن أفسح لها الطريق مبتعدا عن الموقد، يجلس على الطاولة المستطيلة بقلب المطبخ، في انتظار وجبته الساخنة، تعجبت أنه تنازل وتكرم وجلس لطاولة المطبخ لا المائدة الفاخرة بالبهو، كما هو متبع، وكما تقتضي قوانينه وعاداته.
دقائق ووضعت أمامه صحن يتصاعد منه البخار، وتفوح منه رائحة شهية، جعلت معدته تقرقر مؤكدة على تضورها جوعا، فشرع في تناول الطعام في شهية على غير عادته، فقد أصبحت تجلس قبالته على المائدة لتشاركه الطعام، منذ أمر أبوه بذلك، تكاد أن تقسم، من قسمات وجهه أن الطعام سيء جدا، وهو في سبيله لبثقه لا ابتلاعه، على خلاف ملامح وجهه اللحظة، وهو يضع شوكته على طرف الطبق، متنهدا في راحة، لتهتف سلمى مازحة: نرجو إن الخدمة تكون عجبت سعادتك!
اتسعت ابتسامته، مؤكدة على رضاه، لتهتف هي وابتسامة مماثلة على شفتيها، وهي تحمل الأطباق الفارغة عن الطاولة: هجيب لك القهوة على المكتب.
هتف محرجا: كفاية عليكِ كده، أنا هعمل القهوة بنفسي.
أكدت وهي توليه ظهرها، تغسل الأطباق في سرعة: مفيش أي تعب، أنا أصلا مكنش جاي لي نوم، وكنت لسه مع الشيخ، فضلت ارغي لحد ما قرر النوم أخيرا، بعد ما أكلت دماغه، وتمت المهمة بنجاح.
قهقه ولم يعقب، وما أن أنهت الأطباق، حتى وجدته قد غادر المطبخ، فشرعت في إعداد القهوة.
لحظات وطرقات على باب المكتب، جعلته ينتبه من دخولها وهي تحمل صينية القهوة، التي وضعتها على المنضدة القصيرة جواره في صمت، حتى لا تثير ضيقه، عندما وجدته منغمسا في قراءة كتابه، الذي أغلقه متطلعا لها، ممتنا: شكرا على تعبك.
رفع الفنجال مرتشفا الرشفة الأولى، رافعا حاجبيه في تقدير لجودة المذاق، أصبح على يقين، أنها هي من تصنع له قهوته المسائية، منذ فترة ليست بالقليلة، حتى ولو كانت نفيسة هي التي تحضرها، كانت هي الصانعة، فمذاق قهوتها يختلف تماما عن مذاق قهوة نفيسة، على الرغم من أن البن واحد، لكن المذاق غير، وكأنها وضعت بعض من ابتسامتها الصبوح، التي لا تفارق قسماتها، لتضيف حلاوة خفية لفنجاله المسائي، تنبه لمسار أفكاره، فهتف يقطاعها مؤكدا: المفروض أعمل لك أوڤر تيم، على الشغل الزيادة ده!
ابتسمت هامسة: أنا بعمل ده عشان خاطر دادة نفيسة، تقدر تقول كده، محبة فيها، والمحبة ملهاش تمن.
همس متسائلا في سخرية: ملهاش تمن! مفيش حاجة فالدنيا ملهاش تمن، كل شيء قصاده حاجة بالمقابل.
هزت كتفيها، وهمت بالرحيل هامسة: يمكن، بس اللي أنا متأكدة منه، إن في حاجات ولو كنا نملك كنوز الدنيا، عمرنا ما نقدر نشتريها.
خطت نحو الباب، ليستوقفها مستفسرا: زي إيه!
استدارت تواجهه مجيبة في هدوء: زي الصحة، زي المحبة الصادقة من القلب بدون غرض ولا مصلحة، زي الونس الحقيقي، زي السند وقت الضيقة، حاجات كتير يمكن مبنحسش أد ايه هي مهمة، إلا لما نحتاجها ومنلاقيهاش، ومهما كان معانا مال الدنيا، عمره ما هايشتريها.. دي حاجات ملهاش مقابل ولا تتقدر بتمن..
خيم الصمت لبرهة، لتستطرد في نبرة حار في تفسيرها: اللي تقدر تتمنه يا أيوب بيه مهما غلي تمنه، فهو مش غالي..
خيم الصمت مرة آخرى، ليقطعه أيوب هذه المرة، مادا كفه بكيس كرتوني أنيق، هاتفا: دي هدية بسيطة، على تعبك في تطور حالة ساجد.
هتفت في هدوء، ولم تمد يدها لأخذ الهدية: أكيد شكرا، بس مفيش داعي لأي هدايا، أنا بعمل واجبي مع ساجد، وباخد على ده مرتبي.
هتف في محاولة لضبط النفس: أنا جايب لكل الموجودين هدايا، يعني أنتِ مش استثناء، وبعدين شوفيها الأول، وبعدين أرفضي!
مدت كفها في تردد، وأخرجت هديتها من داخل الكيس، لتجد بساط قيم، ناعم الملمس، فردته لتكتشف أنه سجادة صلاة من القطيفة القرمزية، تحمل مؤشر خاص لتحديد القِبلة، كانت غاية في الجمال والفخامة، فهمست في اضطراب: جميلة أوي..
هل عليها قول المزيد!.. كانت الهدية الأغلى على الإطلاق، التي تنالها بحياتها كلها، وعلى الرغم من ذلك، لا قدرة لها على التعبير عن مدى امتنانها وسعادتها، وكأنها فقدت قاموس مفرداتها الذي لم يخذلها يوما، وها هو يفعل في لحظات هي أحوج ما يكون إليه.
لم يعقب على كلماتها البسيطة، إلا بابتسامة هادئة زادت من اضطرابها، وخاصة حين همس بصوت رخيم: اذكرينا عند حبيبكِ.
تطلعت صوبه لثانية، قبل أن تهز رأسها في إيجاب، واستأذنت مهرولة، مغلقة الباب خلفها، لكنها فتحت بالمقابل، الكثير من أبواب الفكر، ونوافذ النور بنفسه، والعجيب، أنها تفعل ذلك دون تعمد، ببساطة مدهشة، وسلاسة تذهب برجاحة عقله، مقلقلة ثبات قلبه.
*************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى