روايات

رواية جحر الشيطان الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الجزء الخامس والعشرون

رواية جحر الشيطان البارت الخامس والعشرون

رواية جحر الشيطان
رواية جحر الشيطان

رواية جحر الشيطان الحلقة الخامسة والعشرون

لم يستطع الإنتظار، فقد كان الوقت ثقيلًا على قلبه الذي أجج الحنين صدره، صدره الذي طفق يمور بالاضطراب والقلق، ليلة كاملة لم تهنأ عيناه بنوم يهاب أن يغمض عينيه منجليًا أن كل شيء حلمًا، الأرق والسهد بلغ منه منتهاه، ولم يكتحل فؤاده براحة ولا لُبه من التفكير كل حواسه وجوارحهُ مُستيقظةً.
سيرى والدته! والدته التي تخلت عنه!
جدته التي شاركتها في كل شيء!
هل حُرم من أخته و والده بسببهما؟
ألم يهن عليهما جُزءً من نفسهما؟
أم إن قلوبهم قاسية صلبه كـ الحِجارة أو أشد صلابة مِنها!
سينتقم منهما حقًا! نعم سينتقم عن كل ألم مر به!
عن كل كلمة كانت سمًا سرت بأوردتهُ ففطرت روحه!
عن كل حلمٍ تمناه ولم يُبلغه!
عن كُل لقمة دخلت جوفه متلوثه!
عن كل ليلة مرت عليهِ وهو يرتجف بردًا لا يجد مكانًا يأويه!
عن هيامه في دمس الليل وحيدًا وسط وحوش الليل التي لا تعرف الرحمة، لا تعرف كبيرًا او صغير.
عن أيام مرت عليه كان أدنى ما يتمناه النوم لدقائق لكن الخوف كان حائلًا، عن بطنه التي كانت تكركر من شدة الجوع ولا تجد ما يسدُ الرمق، عن كل ساعة مرت وهو ظمآن لشربة ماء فلا يجد!
سينتقم ممن حرمُه كل هذا، ومن احرقوا والده!
لكن .. لماذا هذا الشوق يغمره؟
لماذا لا يستطع الأنتظار؟
ترآها تفرح إذ علمت إنه على قيد الحياة لم يمت؟
هل ينفجر ويحاسبها فور رؤيتها؟
لم ينتظر ما أن وصل إلى أرض القاهرة وذهب إلى أقرب فندق قريبًا من منزل آل الشرقاوي وحجز غرفة فيها له ولـ ناردين التي أبى تركها بمفردها.
” أين ستذهب، ألا ترى الجو بالخارج؟ ”
قالتها ناردين إلى جان الذي يتهيئ للخروج، عيناه الزائغة باللهفة ألقت نظرة عبر الزُجاج إلى المطر المنهمر وأجاب بهزة من رأسه :
– عمل مهم يا حبيبتي، لن أتأخر.
في جزع هتفت ناردين:
– جان، بالله عليك وهل هذا جو يخرج المرء فيه؟ ثُم ألا تستريح أولًا للتو وصلنا.
ثُم بضيق غمغمت :
– على ما يبدوا إن أرض القاهرة لا ترحب بنا ما أن وطأت قدمينا أرَاضيها وقد اضطرب جوها!
– ولماذا لا تكون تستقبلنا؟ تستقبل الغائب بعد طول انتظار! تشارك الميت رجوعه للحياة.
كلماتهُ المُبهمة لم تفقه دارين مِنها بشيء، بينما قبل جان جبهتها قائلًا بعجل :
– ساتركك ولن أغيب هذا وعد وسأنتبه لنفسي لا يمكنني الانتظار، لا يمكنني!
قال جملته بلوعة حنين طفى في عينيه وغادر مسرعًا غير عابئ بنداءها؛ لم يعر جان المطر ولا الجو الساقع أدنى اهتمام كل همه كان في اللقاء كيف سيكون!
ورغم وقوفه لوقتٍ طويل حتى وجد سيارة أجرة تقله إلى المكان المبتغي لم يمل ولم يكل كل ما يُشغل خُلده جم ما علمه منذُ عدت أيام قلائل بالتحديد يوم إنقاذ ناردين ولقاءه هو وآجار وبينما هو في منزل ذاك الرجل ” ماهر” إذ حضر آجار فخرج إليه لا يبتغي خيرًا والشرر يتطاير من عينيه، ركضت خطواته بقلبٍ خافق بالقلق نحوه ولكمة فجأة لكمة إرتد علىٰ أثرها آجار للخلف خطوتين وقبل ان يتمالك نفسه كان جان يهجم عليه صارخًا فيهِ وهو يمسك بياقتيّ ملابسه :
– بسببك يا هذا بسببك كدت أفقد رفيقتي الوحيدة بل دنيتي اتعلم من تكون هي ليّ؟ هي الوحيدة التي املك في هذه الحياة! بسببك كرهت هذا الوجه الذي امتلكه ليتتني لم التقيك ولم أعرفك، ليتك تموت لنعيش في إطمئنان.
فصاح آجار بدوره، دافعًا إياه بعنف:
– ابتعد يا وغد عني وهل تظنني أن ليّ يد بهذا الشبه بيننا، أبله.
– معك حق ليس لك يد ولا ليّ، لذلك يجب على احدنا أن يموت.
تبسم آجار لهُ بسمةٍ خبيثة وهو يُردد في تهكم :
– هل على قدر كلامك يا هذا، اتعلم من الذي أمامك؟
دار الشابين حول بعضهما بينما جان يقول :
– من تكون؟! شاب مجرم يعيش على القتل والمتاجرة في السلاح والقتل…
هُنالك لم يتمالك آجار نفسه وهجم عليه وتراشقا بالأيدي اللكمات، وتبادلا الركلات، وسقطا فوق بعضهما على الأرض يجثم آجار بركبته على صدر جان والإثنيين يخنقا بعضهما بكلا الأصابع التي ألتفت حول العنق ودوى صوت كهزيم الرعد موقفًا المهزلة الدائرة بينهما :
– كفى، توقفا، هل يقتل الأخ أخيه؟
تجمدت الأصابع على كلا العنقيّن، وتسمرت نظرات الشابين صوب ماهر الذي يتميز غيظًا، أبتعد آجار مزهولًا واعتدل واقفًا ليقفز جان بدوره واقفًا بجانبه، فدنا ماهر منهما قائلًا :
– ما بكما يا ولديّ زين القاضي؟ إذ كان ابيكما ما زال على قيد الحياة لأُصيب بجلطة اودت بحياته إذ رآكما هكذا!
ثُم أشار بكفيه مردفًا بنبرة أجشة :
– اقتلا بعضكما هيا وسأشاهد، هيا، هيا ما الذي اوقفكما اقتلا بعضكما.
وعلا صوته قائلًا بأعيُن متسعة وهو ينفث سمه كالأفعى :
– واتركَ قاتل والدكما يتنعم دون أن يأخذ حقه، بل حارق والدكما، ألم يحرقوه يا هذا؟ أحرقوه بل الاحرى فجروه وكنتم ستلحقون به لولا إنه قبل الأنفجار ابطئ من سرعة القيادة وأخرجكما من داخلها.
خيم السكون بعد ما قال، وخفقت القلوب كأنها في سباق، وتلاحقت الأنفاس على أثرها، العيون تعلقت على ماهر كأنها تكذب ما يقول بينما تنفس ماهر في عمق ومسح كفه في وجهه كأنه أسف وحزين عما قال، وأردف بصوتٍ خافت كفيل ليصل إلى آذان الشابين الذاهلين :
– لم أريد لكما أن تعرفا بمثل هذه الطريقة، لكن الحقيقة هيا إنكما أخوة ولحسن الحظ إن جمعكما القدر بعد طول غياب.
صوب بصره إلى جان مع استرساله :
– بحثت عنك كثيرًا يا جان لم أجد لك أثر، لماذا هربت من دار الأيتام؟
ثُم شهق بحزنٌ وانهمر دمعه وقال وهو يحيط بوجهه :
– أنا من وضعتك في دار الأيتام خوفًا عليك أن يقتلوك، وضعتك ودعست على قلبي الحزين أن أضعك في مثل هذا مكان لكنك هربت فجأة ولم أعرف كيف أصل لك.
– فيمَ تهذي يا هذا؟ هل أصابك مسٌ من الجن؟
قالها جان منفعلًا وهو يزيل بعنف كفايّ ماهر عن وجهه، فبادر ماهر قائلًا :
– معك حق الا تصدق، والدتكما على قيد الحياة ومتزوجة الآن بمن تحبه، وبمن كان سببًا في موت والدكما!.
– ما هذه المسرحية التي تؤلفوها أنتما الأثنيّن؟! أنا راحل.
قالها جان في عصبية وهو ينقل بصره على ماهر وآجار.
وما كاد يخطو حتى أوقفه ماهر قائلًا :
– ألا تسمعُ ما عندي ثُم تُقرر.
فـ وقف جان ساكنًا لوهلة، ثُم أستدار له قائلًا ببسمة سخيفة :
– دعنا من هذا وهات ما في نفسك، ماذا تريدا مني بالتحديد؟
هُنا والتفت له آجار صائحًا في غضب :
– لماذا تدضعني في كلُ الأمور يا هذا؟ لماذا تظن أن ليّ يد في كل ما يحدث؟!
أجابه جان في تهكم وهو يعقد ساعديه :
– يا لِبرائتك يا رجل! أذهلتني حقًا!.
– ألا تعملا ليّ أي احترام؟ أما إنكما لا ترياني بالأساس؟!
قالها ماهر في غيظ، فـرد عليه جان ساخرًا :
– اوه وهل يحق هذا عيبٌ علينا، هات ما عندك اسمعك ولكن لا تطيلُ رجاءًا؛ أريدُ أن اغادر هذا المكان وادعوا الله ألا أركما مجددًا حتى لو في محض الصدفة.
وهتف هاتف يقبل من لدن الباب :
– أظن يا حفيدا لمار الشرقاوي إنه قد حان الآوان لتعرفا من تكونا، قد لا تصدقا ماهر لكن ستصدقاني أنا لا ريب فـ أنا من أعيش أغلب الوقت معهم واعرف حقيقة الجميع في تلك العائلة.
إستدار الجميع إلى مصدرِ الصوت وتابعا الرجل المتقدم حتى دنا منهم وقال :
– ألا نجلس لتسمعان ما عندي ثُم تقررا ما بدا لكما.
تبادلا جان وآجار النظر، وباغت جان آجار بسؤاله :
– هل تصدق ما يقولان؟
أومأ آجار تلقائيًا ورد عليه على الفور :
– بالطبع، ولِما لا؟ ماهر من انقذني وعالجني من الحريق.
فُرسمت بسمة ساخرة على شفتي جان، وقال متهكمًا :
– إنها مهزلة أقسم بذلك ولعبة منكم جميعًا، كيف ليتيم أن يصبح له عائلة هكذا فجأة هذا أمر مُريعٌ لا يُصدق.
شعر بكف ماهر يوضع على كتفه أعقبه صوته قائلًا :
– لا تثريب عليك يا جان، أعلمُ ما تشعرُ به جيدًا الأمر يفوقُ التخيل، ولكن ألا تسمعني؟ ماذا ستخسر ان سمعتني؟!ولك حرية الأختيار فيمَ بعد.
أذعن له جان وأنصت وهو لا يكادُ يُصدق.
” بدأ الأمر حين انتقل أبيكما إلى هُنا لأجل توسيع عمله، وفي المقابل تعرفت والدتكما على طبيب يُسمى هيثم وأحبا بعضهما ولم يجد حلًا ليكونا معًا إلا قتل أبيكما وقتلكما معه، وفي ذاتَ يوم إذ علم زين بكل شيء من صديقه وقرر أن يحاسبها ويأخذكما ويعود إلى مصر إذ اتفقت عائشة امكما مع عشيقها هيثم لوضع قنبلة في السيارة ويتخصلوا منكم للأبد لكن لحسن الحظ أن والدكما قبل الأنفجار بدقائق اخركما من السيارة ليسقط وليد على رأسه بجروح بالغة ولصدفة القدر إني علمت بكل شيء وأتيت للمساعدة لكن كان قد فات الآوان ونقلتك يا آجار إلى المستشفى فقدنا إسلام لعدة ايام حتى وجدتك هائمًا على وجهك في الطرقات حينها أخذتك يا جان و وضعتك في دار الأيتام”
لوى جان شفتيه متذمرًا وهو يقول ساخرًا :
– يا للمأساة يا رجل إنها قصة مشوقة حقًا، لكنها لم تثير فضولي عذرًا سأغادر.
وَأَتَل من مكانه لكنه ما كان يبتعد إذ تسمر مكانه مع قول الرجل الآخر :
– ربما تظنها قصة لكن أظن أنك تريد معرفة الأمر كاملًا ابحث عنه يمكنني أن أفيدك، أوَ تعلم لديك أختٌ جميلة يا هذا ألا تريد أن ترآها.
أُخت! هذه الكلمة تسللت إلى قلبُ جان كأنها أكمامُ الورد تفتحت في فؤاده فـ ازهرته.
هل يملك أخت حقًا؟ وعائلة بل والأحرى وأخيه بجانبه الآن..
لا ضير سيكتشف كل شيء.
لم يستمع لأي منهم مجددًا فقد أخذ ناردين وغادر، ومن توه راح يبحث عن ويستعلم عن حادثة الأنفجار وما ترتب عليها، عن زين القاضي وشركته، في دار الأيتام الذي عاش فيه فإذا به يتفاجأ بالمديرة تخبره إنه حين جاء لم يكن على لسانه إلا ” بابا زين، ماما عائشة، تيتا لمار، خالتوا سجى، اروى”
ورغم إن الصدق خالط قلبه لم يتوان في البحث عن اي دليل قد يوصله إلى الحقيقة وما أن قرأ ملف موت زين و والديه الذي جاء به ماهر يسلمه له، وإن الجاني غير معروف، هُنالك تأكد من كل شيء، واتصل بـ آجار ليلتقوا، كان اللقاء غريبًا إذ صافحا بعضهما بفتور رغم نطق العيون بالشوق، وجلسا في إحدى المطاعم، هُنالك سئل جان بأعيُن لامعة :
– هل كنت تعلم كل شيء؟
أجابه آجار بإيماءه تبعها قوله :
– أجل، ورأيت دارين وكنا معًا لفترة وجيزة، لكني لم اكن اعلم بك.
تهدج صوته مع استرسله :
– لو كنت اعلم ما كنت لأتركك بعيدًا عني، كنا سنعيش سويًا لم اكن لـ أتخلى عنك.
-أختنا كيف كانت!
-جميلة، رائعة، وغبية.
قالها آجار ضاحكًا وأتمم :
– في الأول لم أكن اعلم لكن حين أخبرني أراس علمت إنها أختي.
غشاهما الصمت لهنيهة، أسبل جان جفنيه مطرقًا رأسه، وقال :
– هل تعلم كيف مرت حياتي السابقة؟ لقد عانيت كثيرًا، وتشردت أكثر.. لكني الآن أشعر .. أشعر ان ليّ سند، ضلعًا أتكأ عليه وأنا مغمض العينين؛ هل، هل يتغير كل ذلك وافيق يومًا فلا أجدك.
رفع عينين دامعتين إلى آجار وفي اللحظة الأخرى كانا يقفان يتعانقان بقوة.
فاق جان من قوقعة أفكاره مع وصول السيارة لمبتغاة، فحاسب السائق وترجل واقفًا أسفل المطر المنهمر ودمعتين حبيستين تحررتا وهو يتطلع إلى المنزل غسلهما المطر فما يدرِ هل بكى حقًا، أم إن المطر قد هُيئ له ذلك، مؤلم ضعف الرجل، ذاك الضعف الذي يزعزع ثباتهم ويجعل أجسادهم وهنة عاجزة، بقى لوقت لا يعلم مداه وهو يقف مكانة عيناه لا تبرحان المنزل، حتى أغرقت ملابسه والماء راح ينهمر من كل مكان في جسده، وصوت ماهر كـالسيط يضرب أذنه ”
ستنتقم، ستنتقم مع الجميع يا جان، ومن جدتك أولهم فهي من كانت سبب في كل ذلك ”
لكنه لن ينتقم! لا يملك القدر على فعل ذلك!
لا ينبغي له بعد مل هذا الغياب ان ينتقم ويحرم منهم.
هو ليس بمجرم ولن يكون.
لم يؤذي أحدٍ قط، ولن يؤذي أبدًا.
اندفع إلى الباب وهو على شفا حفرة من الأنهيار يطرقة بعنف كمن يود نزعه والدخول، وأصبعه لا يترك الجرس، حتى فُتح الباب ورأى مالك أمامه جاحظ العينين يطالعه في صدمة كأن عاصفة هوجاء هلت فجأة كان هو؛ تجمع نفر خلف مالك يُطالعه بصدمه، فغمغم بنبرة صادقة والوجد يآكلُ قلبه :
– أين أُمي، عائشة!
هُنالك تجلت الصدمة على وجوه الجميع، بينما عيناه باحثتان عن والدته وسط الوجوه، لم يستعب أحد ما يتفوه به، كإنه مجنونٌ يهزى، عيناه استقرت على دارين التي هتفت في لهفة :
– آجار!
فرد عليها سريعًا :
– بل جان وليس آجار.
وتبسم بحنين، وقال بلطف :
– جان أخيكِ!
فإذا به تختفي خلف معاذ خائفةً، مصدُمة، وتكذبُه، ورنت إليه سجى تلمس وجهه فنظر لها بحب متمتًا :
– خالتوا سجى.
فتقهقرت سجى للخلف وأسندها ياسين، لقد ظن الجميع بأن طامة كبرى قد حدثت وخالد قد أصابه أذى لكن ما الذي يحدث أمامهم الآن غريبًا لا يُصدق ولا يستوعبه عقل.
راح هو يُردد بأنه يريد والدته والجميع ينظر له دون ان يتزحزح.
فصرخ فيهم جميعًا قائلًا بتفاذ صبر :
– أنا إسلام ابن زين القاضي وعائشة أدهم .
وريح صَّرّ هبت بعد قوله رجفتهم جميعًا، وجعلت جان يسعل.
فأسر نارًا وهو يحدج لمار بكره مع نطقها الجاف :
– أدخل.
وقبل أن يتحرك أحد كان مالك ينطق مستنكرًا :
– يُدخُل! يُدخُل فين دا باين له شارب حاجة وجاي يهزي هنا.
– معاك حق!
أيدهُ مُعاذ وراح يدفع جان للخارج مع قوله :
– أخرج يا هذا ولا تريني وجهك لولا إنك في بيتي لعلمتك الأدب.
فـ أمسك جان بذراعيه، وقال :
– على رِسلك يا مُعاذ هل هكذا تخرجون أهل البيت؟
وكزه مالك من صدره صائحًا :
– بيت من يا هذا؟ أغرب عن وجهي.
مسح جان بوهن ماء المطر العالق بوجهه وهو يسعل بشدة، وداهمه دوار حاد جعله يترنح فـ أمسكت به سجى مع صراخها فيهم :
– بس بقا استنوا اسمعوه الأول، وبعدين مش شايفين شكله عامل إزاي الواد سخن مولع نار.
ما كادت أن تنهى جملتها حتى سقط جان منها فهرول مالك ومعاذ نحوه وأسنده إلى الداخل
🍃 اللهم إني أعوذُ بك من حر جهنم 🍃
تململ جان في راقده، متأوهً من صُداع رأسه، وما كاد يفتح عينيه حتى تذكر كل ما حدث آنفًا ذاك الشوق الذي ساقه إلى هُنا دون تخطيط والحنينُ الذي دعاه.
بلغهُ صوتُ خديجة تسئل في اهتمام :
– ها أنت ذا تفيق؛ بماذا تشعر؟
اعتدل جالسًا وهو ينظر لها في عدم فهم، وقال :
– ما الذي حدث ليّ؟
– لقد أُصيبت ببردٍ شديد ذاد من حرارتك والضغط لديك لم يكن منتظمًا، هل أصبحت أحسن؟
اومأ جان وعينيه استقرت على لمار فجأة التي كانت ترمقه بغرابة وهو ينظر لها شزرًا، أشارت “لمار” إلى خديجة لتغادر ففعلت..
وهتفت بصوت حاد موجهة حديثها إلى جان :
– هات ما عندك! ما الذي تُريده وما الذي قولته؟
تنهد جان بضيق يلعن نفسه على مجيئة دون تخطيط، ونظر لها في هدوء لا يُنافي بما يمور بداخله من كره وعداوة، وطفق يخبرها بكل شيء مبتعدًا عن امر ماهر وآجار.
– ما هو إسم الدار وأين مكانة بالتحديد؟
سئلت «لمار» جان بعد أن فرغ من حديث فـ أملاها العنوان بصمت،
همت بكلام لكن دوي أذان الفخر حال دون ذلك، فصمت الجميع كأن على رؤسهم الطير إلا من همهمات لم يفقه جان منها شيء، فراح ينظر للجميع بتعجب وأشرأب برأسه ليبصر الفتيات جالسين أيضًا على هذا الحال الساكن فهز كتفيه ولاذ بالصمت ومع انتهاء الأذان نهض مالك ومعاذ والرجال مستأذنين للذهاب للمسجد بينما تحركن الفتيات للأعلى، فرمقت «لمار» جان بغرابة وأشارة له قائلة :
– إذهب للصلاة معهم.
ثُم أوقفت مالك الذي فطن لمرادها فذهب جان برفقتهم مرغمًا.
كان لأول مرة يصلي!
او يرى احدًا يصلي!
أول مرة يرى جامع ويدخله!
لكن عقله المشوش الذي يموج بالتفكير جعله لا يؤدي صلاته على أكمل وجه، لا يذكر حتى تلاوة الإمام ولا كم وقت انقضت، لم يتذوق حلاوتها ويتنعم في راحتها، كان كُل ما يشغل باله هو الأنتهاء والعودة إلى ذاك المنزل ليعلم ما الذي ستقرره جدته بشأنه.
وحين عودتهم وجد في أنتظاره «لمار و خديجة» وأخذوه إلى المستشفى وهُنالك بعد وقت رأى والدته خفية برفقة «خديجة»
عيناها تأججت بالحنين، ولمعت بالأشتياق، ودموع الوجد ملئتهما، فنظرت له «خديجة» بعطف وقالت مهونة عليه :
– ستراها وتضمها وتعيش معنا جميعًا بعد ظهور التحاليل اعدك انها لن تطيل.
إلتفت لها جان وهم بحديث فـ اوقفته هي، وقالت :
– تعالى إلى مكتبِ لنتحدث.
ذهبا سويًا إلى مكتبها وبعد جلوسهما مقابل بعضهما، سئل جان بترقب :
– هل تصدقيني؟
ففكرت «خديجة» قليلًا حتى مالت بجذعها مستندة بمرفقيها على المكتب وقالت بتريث :
– ربما لم أكن، لكن بعد أن رأيت نظراتك لها تأكدت، فهذه نظرات حنين وأشتياق يخالطها الوجع والمعاناة لا يمكن للأنسان أن يكذب في مشاعره التي تطفح عليه.
ثُم زاغت عينيها متذكرة آجار فبسمت ببهت، هل يمكن أن آجار أيضًا ابن عائشة، لا لا لن تسبق الأحداث حتى ظهور نتيجة التحاليل، ادحرت التفكير عنها وقالت تجذب انتباه جان الشارد :
– هل تعلم لمن هذه المستشفى؟
نظر لها جان بتساؤل، فقالت هي بنبرة تقطر بالحنين :
– إنها ليوسف خال عائشة.
فصمت جان لبرهة وسئل :
– وأين خال أمي يوسف؟
– لقد توفاة الله منذُ عمرٍ.
– حمه الله
– آمين.
🍃 اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك 🍃
استطاعت «لمار» بطريقتها أن تفعل التحاليل لـ «عائشة»، وفي يوم ظهور النتيجة كانت هي في المستشفى تستقبل الخبر، الذي قد يعيد لـ أبنتها ذاك الجزء الذي أنكسر ولم يعود
هُنالك بعد الأحبة رحيلهم يكسر بقلوبنا شيئًا لا تُصلحه الأيام ولا يعود كما كان.
رحيلهم يكون الندبة التي لا تندمل أبدًا تظل كثغرة عليلة في وسط القلب.
وها هي تستلم أوراق التحاليل وتفحصها وعينيها تتسع شيئًا فـ شيئًا وعباراتها تنهمر دهشة من حكمة القدر.
فوصلها صوتُ «خديجة» كأنه يأتي من بئرٍ عميق :
– عيال عائشة على قيد الحياة أفرحي يا لمار أحفادك عايشين.
نظرت لها «لمار» كالتائهة فضمتها «خديجة» بقوة وهي تشدُ من أزرها.
تجمع الجميع في البيت وعلى رأسهم «عائشة» تنتظر هدية أُمها التي لا تعرف عنها شيء وكلها لهفة لتعلم ما هي.
نظرات الجميع مُعلقة على الباب، بينما قطعة «لمار» الصمت الذي حل كضيفٍ ثقيل وقالت:
-عائشة، لو الأنسان عرف أن ابنه الميت فجأة عايش، يعني في رأيك إيه ردت فعله؟!
قطبت «عائشة» رويدًا، ثُم قالت بتفكير :
– مش عارفة، يعني أكيد حاجة مفرحة، لا مش عارفة!
وجدت أمها لا تعيرها أهتمام وكأنها تنظر إلى شيءٍ ما، فحادت ببصرها إلى ما تنظر هُنالك رأت «مالك» يقف بجوار شاب كالمنهار ينظر لها ببكاء، وعيناه لا تبرح عينيها، فـ اختلج صدرها، ومشاعر شتى هاجمتها، لم تدرك من هذا وما الذي يحدث؟
أردت البكاء دون سبب والضحك دون سبب!
فلنترك الكلام لـ عائشة تروي لنا ذلك الموقف؛ فشعورها به أشد وأعمق، وتصويرها له أدق وأبلغ.
فـ أنصت وتخيل مثلما هذا موقف يهيج الدمع ويثير النفس، عائشة:
هل لك ان تدرك معنى أن تشعر بنار تتوقد في قلبك تسمع زفيرها ولا تقدر على أخمدها، أم لكَ أن تستعب مشاعرك التي تهيجُ فجأة، تتسارع دقات قلبك ويصرخ فيك أن جزءً منه يتجسد أمامه، أن تُزال قشرة بركان روحك وتثور أنها وجدت من يردُ لها الحياة.
كنت أنظر إلى هذا الشاب بمشاعر جمة لا أفقه منها شيء،
رؤية دموعه ثارت دمعي فراح يهوى بكل ألم مما ألَم به.
ومع كل خطوة تقدمها نحوي كان جسدي يرتعش، شفتاه المرتجفة التي تنفرج وتطبق كأن الكلام أنحبس بداخله أو إن شوكة علقت بحلقة تمنعه عن الكلام، وفجأة توقف العالم حولي وهو يتمتم بصوتٍ خافت :
– أُمي.
فـ أسبلت أهدابي تواري عيني عن عينيه، كلمة «أُمي» تضرب قلبي في عنف، فتحت عيني فوجدته يجثو أمامي ويديه تمتمد إلى وجهي تلامسه بشوق لامس وترًا مرهفًا بداخلي، وغمغم وعيناه تلتهم ملامحي :
– أنا إسلام ابنك! أنا إسلام لم أموت، لماذا تركتيني؟ لماذا تخليتِ عني!
ذاد العويلُ حولي مخالطًا نحيبه وصوته الرجراج، ومع ترديده بذات الكلمات كنتُ أسدُ أُذنايّ صارخةً فيه أن يكف.
ابني مات، رحل عن عالمي وأخذت عزاءه من عمري، فقدت فلذة كبدي وتشتت أسرتي وفي يومٌ واحد بتُ بل أسرة!
لا أسرة تنتهمي ليّ، ولا اسرة أنتمي لها، لقد أحترقوا جميعًا مخلفينني وراءهم احتراق بنار الفراق التي لا تخمد.
لا تظنوني تابعت حياتي بقلبًا قد نسى أحبته، لا والله فـ نار الفراق أشدُ حرقًا من نارٌ قد تمسكُ في جسد الأنسان، تلك والله نار ليس لها أنطفأ، تحسبوني أكملت حياتي سعيدة والله لم اذق طعم السعادة قط منذُ رحيلهم، فقد ظل غيابهم مرارًا كالنحظل في حلقي يمنعني من الفرح، فلم أذقه من بعضهم، لقد غابت معهم ضحكتي، بسمتي، فرحتي، والحياة، كانت جمها ضحكات مزيفة جعلتني احيا في خوف أن أفقد ابنتي هي الأخرى، لا تظن فراق الضنا هين، فهو والله يكوي قلب أمه ويجعلها تحيا بل قلب، بل امل، بل نفس.
الأم تظلُ بعد فقد ابناءها جسدٌ ينتظر أن تخمد أنفاسه ويتوارى تحت الثرى فما لها من حياة من بعضهما.
هذا الحريق الذي أحرقهم ذرني احترق من بعضهم.
إن كان هذا مزاحًا فبئس المزاح، وبئس المازح.
لقد كنت بمنفي عن هذه الحياة والجميع يظنني احيا وبخير والآن يأتي هذا ويقول أنا أبنك! ابني عاد، وهل للميت أن يعود؟
لو كان يعود ما حزنا وذقنا مرارة الألم.
انتفضت واقفة وأنا أدفعه بعيدًا عني، واصرخ في الجميع أن يوضح ليّ الذي يجري، فإذا بـ أُمي تنفض أمامي نتيجة تحاليل تفيد أن الذي أمامي ابني.
لو كان الزمن يتوقف، فهو الآن متوقف وجسدي يرتخي وعينايّ ثبتت عليه، يُخيل إليّ أن نبضي أيضًا توقف وما كاد أن يلفظ بكلمة أمي وتخترق أذني إذ داهمني الدوار .. دوار لم أستطع دفعه قليلًا حتى استوعب الصدمة فإذا بهِ ينتشلني رحمة بيّ والظلام يبتلعني .. ظلام .. ظلام .. ظلام.
وكان آخر ما سمعته صرخته بـ أُمي
🍃 ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقني عذاب النار 🍃
لم تصدق بعد أن أبنها ما يزل على قيدُ الحياة!
لا تصدق عينيها، ولا تصدق الجميع ولا تصدقه هو…
– أمي.
قالها «جان» ممسكًا بكفيها بعد أن فاقت من غيبوبتها، رفعت «عائشة» نظرها الغارق بالدمع فجلس هو على طرف الفراش، كانا بمفردهما في الغرفة وقد تركهما الجميع لتستعب «عائشة» الصدمة، أحاطة وجهه بكفيها ولم ترقأ لعينيها عبرة، وتأملته مليًا، كأنها تحفر ملامحه على جدار قلبها، أناملها تلمس برفق عينيه مرة، أنفه، أخرى، وشفتيه، وخديه حتى فجأة شهقت واضعة كفها على فمها تكتم نحيبها، ثُم بأصابع واجفة لامست قلبها كأنها تود أن تهدأ من خفقانه وهمست بلوعة :
– إبني أنت إبني.
شهق جان بدوره غير قادرًا على كبح دمعه، فسحبته «عائشة» إلى حضنها بقوة وعلا صوت بكاءهم، والله لا يخجل أن ترى هي دمعه!
ذاك الدمع الذي بقَ طيلة عمره حبيسًا.
هتفت عائشة بأنين وهي تشدد من ضمه كأنها تخشى أن يتبخر من بين ذراعيها :
– يا حبيبي، يا حبيبي كنت فين وسايبني بتعذب، يا ابني يا ضنايا يا حتة مني، قولولي انك ميت ومش هشوفك تاني، بس أنت رجعتلي رجعت لأمك حبيبتك متبعدش عني تاني.
ابتعدت عنه بعد كلماتها الغير مرتبة، مفهومة، وضمت وجهه بكفيها وراحت تقبل كل وجهه، وتضمة مرةٌ أخرى.
كم مر من الوقت ليس مهم فقد بدأ بكاءهما يهدأ والنشيج يهدأ إلا من شهقات بين كلماتهم وهو يقصُ عليها عن طفولته في الدار وعن ناردين وها هي تتفاعل معه، تارة تضحك، وتارة تتهجم، وأخرى تحزن.
حتى أستمعا دقًا على الباب تلاه ظهور دارين من خلفه وهي تقول :
– هو مش كفاية ولا ايه؟
فنظر «جان» إلى «عائشة» وردد بحيرة :
– ماذا تقول تلك الفتاة؟
ثُم هب واقفًا بتذكر، وصاح:
– ناردين يا إلهي نسيتُها!
هم أن بالهرولة لكن «عائشة» تمسكت بذراعه هاتفة بجزع :
– إلى أين؟
فربت على كفها:
– ليس إلى أي مكان يا أمي سأرى ناردين هُنا بالخارج وأعود لكِ.
فـ اعتدلت «عائشة» تتأبط ذراعه، وأردفت :
– إذنْ سأتي معك لأراها.
خرجا سويًا فتحولت أعيُن الجميع عليهم، هُنالك وجد ناردين قد انسجمعت مع الفتيات إلا «لمياء»، عرفته «عائشة» على هيثم الذي دنا وضمه بقوة قائلًا :
– أهلًا بك بيننا، أغبطتني كثيرًا رؤيتك، أعتبرني أبٌ لك.
فقالت دارين وهي تسند هلى كتف هيثم :
– إنه افضل أب قد تجده، أبٌ بنكهة صديق.
فقرصها هيثم من وجنتها مع قوله :
– بس يا بابا كلمي ياسين.
لوت دارين فمها، وقالت بغيظ وهي تخرج لسانها له :
– هروح لـ أبويا حبيبي التاني.
وغادرتهما لتجلس جوار ياسين تشاكسه، فـ أخذ هيثم عائشة وهو يردف :
– تعالي اقعدي وسيبيه يتعرف على باقي العيلة.
وقف جان حائرًا، فـ اقتربت منه خديجة قائلة بود :
– أنا خديجة، أكبر ابناء العائلة أي أنني كلمتي مسموعة لا يمكنك ان تقول لا.
– وإلا يا حبيبي قتلتك!
قالها مالك ضاحكًا فحدجته خديجة في غيظ وإلتفتت إلى جان قائلة بصدق :
– قد تشعر بالغربة لكن أعدك بأن ما هي إلا أيام قلائل ولن تشعر أنك كنت بعيدًا عنا.
فتبسم لها جان بود، واقترب مالك ومعاذ منه يتعرفان عليه، بينما لوحت له ملك ولم تعلق فقالت خديجة :
– وهذه ملوكة ملاك العائلة يا فتى.
فمال عليها جان هامسًا :
– أهي بكماء؟
أومأت خديجة بحزن، فلوح لـ ملك غامزًا لها، وما كادت خديجة تعرفه على لمياء حتى صاحت هي :
– عارفني متعرفيش.
فرفعت خديجة حاجبًا، وقال جان مخاطبًا لمياء :
– كيف حالك يا لمياء!
فـ اجابته باقتضاب انها بخير، وعرفته على أروى ليهمس :
– أروى هذه أختي في الرضاعة.
فلوت دارين فمها قائلة :
– آه يا حبيبي بس انا زي الفريق مبحبش شريك.
فضيق جان عينيه بعدم فهم، وبعد وقت كان يجلس برفقتهم في الحديقة يتسامرون ويضحكون.
🍃 اللهم اصرف عني عذاب جهنم ان عذابها كان غراما انها ساءت مستقرًا ومقاما 🍃
خرجت «مِنة» من بوابة المنزل متجهة نحو السيارة التي تنتظرها وبداخلها «نجيب» وما إن فتحت بابها وهمت أن تستقلها، أوقفها «آجار» وهو يقبل نحوها على عجل ويرتدي جاكته، ألتفتت له «منة» باسمة واستقبلته قائلة :
– آجار، طاب يومك.
– يومك أطيب حبييتي.
رد «آجار» ملثمًا جبهتها، و أردف في عتاب :
– هل كنتِ ستذهبين قبل أن أراكِ حقًا!
فوضحت له «منة»، قائلة:
– ألم تخبرني غدًا إنك لن تذهب، وإن نجيب من سيوصلني؟
هز «آجار» رأسه مجيبًا :
– نعم، لكني سأقضي امرًا ما وآتي لن أتأخر.
ورفع سبابته محذرًا بصوتٍ خافت :
– هذه آخر مرة تخرجين من المنزل قبل أن أراكِ!
فـهتفت «منة» باستنكار وهي تتخصر :
– نعم!! ولمَ هذا يا حبيبي؟
فغمز لها «آجار» مع قوله:
– لأن حبيبك لا يبزغ نهارهُ إلا برؤياكِ.
فـ أطرقت رأسها خِجلة، فرفع ذقنها بسبابته قائلة بصدق يقطر في حروفه العاشقة :
– أأخبرك سر؟!
رفعت عينيها إلى عينيه فمال على أذنها يهمس بذات الصوت :
– لا يمكن ليومي أن يبدأ إلا برؤية عيناكِ النجلاوين، حين أصحو على رؤيتك يكون يومي جميلًا، رائعًا، سعيدًا فـ … عديني!
-بماذا؟
– ألا تحرميني من رؤيتك فيُحرم قلبي من الحياة.
دمعت نجلاوتيها بدموعٍ أبيه وتبسمت لهُ وهي تتأمله لدقائق وهمست :
– عدني أنت.
فرد آجار بثقة :
– بماذا؟ وهل تحتاجي وعود من عاشق متيم بكِ.
فهمست منة بغبطة :
– أن مُت ألا تنساني.
عصرها آجار بحضنة بغتة بقوة، ينهرها عن هذا التفكير.
يخشى فكرت الموت والخسارة!
لماذا تلك الساذجة تظل تردد كلمة الموت؟
يقولون أن من يدنو من أجله يحسُ بذلك، فهل هي تشعر بقربه أما إنها مجرد هواجس.
لا، لا لن ترحل لن يأخذها الموت منه بعد أن وجدها ستكون بخير .
ضم وجهها بين كفيه وهو يحذرها بعينين ذات لهب :
– إياكِ! إياكِ يا منة أن تتفوهين بها مجددًا، لا يمكنك أن تحرميني من الحياة مرة أخرى، لن أفقدك ولن تغيبين عني.
هدأته «منة» وهي تضع يمناها على وجنته برفق، وتقول بلطف:
– آجار، مجرد كلمة حبيبي لن أرحل قبل أن اصنع لكلينا ذكريات جميلة تُحينا، ليس بعد أن وجدتك، آجار، أنت لست فقط حبيبي، أنت أماني، ملجائي، ومن أعوذُ به من هذه الحياة، أنت أبي يا آجار.
– تبًا لكِ يا «منتي» فـ أنتِ تشعرينني إني أبنك.
قالها «آجار» ضاحكًا، فغمغمت «منة» بضيق:
– حسنًا يا إبني الغالي والدتك ستتأخر عن العمل، أما إن هذا ما تريده؟
قهقه آجار فاتحًا لها باب السيارة ممسكًا به وباسط كفه الآخر، قائلًا :
– أوه وهل يصح هذا يا أماه؟ تفضلي تفضلي حتى لا تتأخري.
أنتظر حتى استقرت وأغلق الباب، ثُم ذهب إلى نافذة السيارة ونظر من خلالها إلى نجيب، وعلا صوته قائلًا :
– نجيب، انتبه لها إنها في أمانتك حتى مجيئ..
فرد نجيب في هدوء :
– لا تقلق في عيوني.
وانطلق بالسيارة في سرعة مصدرًا دويًا هائلًا وشيعهما آجار حتى توارت السيارة عن نظره.
مضت سويعات العمل برتابة على مِنة وبعملٍ دؤوب، حتى مجيئ آجار واستدعاءه لها في مكتبة، فذهبت إليه، هُنالك كان في انتظارها فرحًا، مسرورًا، وما أن وطأة قدميها عتبة المكتب إذ جذبها آجار للداخل وأغلق الباب فشهقت مفزوعة وهي تضربة في كتفه مغمغمة :
– آجار، يا هذا ستصبيني بجلطة قريبًا.
فدنا منها آجار قائلًا بغبطة:
– أتركك من كل هذا الكلام التافه، فلدي لكِ مفاجأة.
عبست ملامحها في بادئ الأمر وتهللت مع اواخر كلماته وسئلته بحماس :
– وما هي؟
فنفخ آجار شيئًا وهميًا وتنهد بعمق و أردف بحنان وهو يجذبها من خصرها إليه ويده الأخرى تخرج شيئًا من جيب جاكته:
– اقتربِ لأخبرك، هل .. هل تقبلين أن تكملي ما بقى لكِ من عمر معي؟ هل تقبليني زوجًا وأبٌ لأطفالك.
ثُم استدرك قائلّا :
– وليكن بعلمك أريد اطفالًا جمة..
وتابع في همس خاطف، ونبرة رخيمة :
– هل تقبلي أن تلوني أيامي، وتشرقِ بشمسك سماءي فلا تغيب، وتوهجي بنورك قلبي فمَ يضلُ الطريق، هل تقبلي أن تُعيديني طفلًا يكبر بين ذراعيكِ، ويتنعم في جنتك، و يترعرع في روضتك، هلا تفضلتِ فـ أعدتِ عمري الذي مضى لأولد من جديد معك؟
صمت لردحًا من الزمن وهي تطالعه بصمت، ثُم أسبل جفتيه فقد آن لجفنيه أن يذُقا لذة الغمض بعد أن قرحهما السهد، وآن آوان قلبه أن يرسى على مرسى حُبها أمانًا، مطمئنًا، فتح عينيه مطلعًا لنجلاوتيها بنظرات محبة أرهقمها الضياع، أحاط وجهها بين كفيه، واستأنف قائلًا :
– قد تظنيني أبلهً أو ساجذج لكن شيئًا ما بداخلي يخبرني همسًا إنك ضالته، فهلا قبلتي أن يرسى مركب أحزاني على مرفأ حُبك فيرممه؟
هل تقبليني بكل عيوبِ التي املكها؟
تقبلي أن تكوني زوجتي، حبيبتي أمي، رفيقة دربِ، وشريكة حياتي ونصف روحي، وشطر قلبي.
قال آخر عبارته فاتحًا عُلبة بنية اللون عن خاتم ذو فص لامع يضوي فيه حرفيهما الأولين من اسمهما، عيناها اتسعت بعدم تصديق وفرحة، لكن فرحتها تلاشت فجأة وهي تدفعه صائحةً فيه :
– لا أصدق، اقسم إني لا أصدق، في المكتب يا آجار في المكتب تطلب يدي، هل أنت احمق يا هذا؟ أوَليس من المفترض أن تأخذني إلى مكانٌ ساحر على البحر ثُم تجلس على ركبةً واحدة وتطلب يدي، لكن في المكتب يا الله سيأتيني السكر وأموت بيه.
في ذهول كانت عينا آجار تكاد تخرج من محجريهما، ثُم فجأة دس العلبة داخل جيبه، وابتسم في اذدراء ودفعها للخارج وهو يفتح الباب مغمغمًا بغيظ :
– أنا احمق، وحقير، وابله، و وغد، ومعتوه والله إني لمعتوه ظللت ليلة كاملة أحفظ ما سأقوله لكِ وعن تلك اللحظة، هيا حبيبتي اذهبي إلى عملك تأخرتِ، هيا.
كاد يغلق الباب لولا وقوفها وهي تمنعه قائلة :
– والزواج والخاتم؟
– إنسي سأخطب فتاة اخرى.
فصاحت منة فيه شبه باكية :
– وعودة في كلامك أيضًا، لكن الخطأ خطأي انا من احببت رُجُلا ليس قدر كلمته.
ودبت الأرض بقدمها فصرخ فيها آجار وهو على شفا حفرة من الجنون :
– أُخـــــــــــرجي لا أريد ان أرى وجهك اليوم..
واغلق الباب في عنف وهو يسبها، فوقفت منة امام الباب تهتف بحزن :
-طردني واغلق الباب في وجهي وطلب يدي وعاد في رأيه هل هو مجنون، بلى إنه لمجنون، وهل أنا من تترفض، بل والأحرى لا يريد رؤية وجهي.
🍃 اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار 🍃
دلفت أروى بتلكؤ إلى إحدى الكافيهات بعد وصولها إلى عبد الله وطلب رؤيته، عيناها تبحثان عنه بين الوجوه حتى اشار لها هو فـ أقتربت من الطاولة الجالس عليها وأسندت حقيبتها وجلست وما كاد عبد الله يسئل عن حالها حتى أوقفته هي.
لم يُخفى عليها لمعة عينه منذُ رؤيتها، ولا فرحته الطاغية.
نظرها لا تنكرها نظرة مُعجب.
– طب تشربِ إيه؟
سئل عبد الله ليفتح معها اي حديث لكنها هتفت فيه بحدة وحزم :
– هو أنت بجد إزاي طلعت كدا؟ لا بجد متستحقش شيماء ولكن عشان بسبب خوفي عليها وإني مش عايزة حد يعرف انا دلوقتي هنا.
صمتت قليلًا، فضيق هو عينيه وقطب جبينه في انتظار التكملة التي جاءته فورًا من أروى :
– انك تعمل عملتك وتختفي دا إسمه جبن!
– عملتِ!!!!
هتف عبد الله بتفكير مقاطعًا إياها لكنها بسطت كفه في وجهه واسترسلت :
– أنت لازم تصلح عملتك انا همهدلك الطريق مع حمزة لكن هو كام يوم وطلقها ومنشوفس وشك تاني لا جنبها ولا جنب الطفل وانا هتصرف بعد كدا.
عاد يقاطعها هامسًا ببهت :
– طفل!!!
لكنها لم تمهله واكملت كأنها لم تسمع :
– انا عارفة أنكم اتجوزتوا وعشان كدا أنت هتيجي تقعد مع عمي أنس عادي وتحاول تتكلم معاه تقدموا كتب الكتاب والفرح، ولا هتتخلى عن ابنك، انت عارف اصلا انها حامل؟
جحظت عيني عبد الله مع هتافه المصدوم :
– جواز!!! وحامل؟! حامل من مين؟

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية  كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!