روايات

رواية جحر الشيطان الفصل السادس والعشرون 26 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الفصل السادس والعشرون 26 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الجزء السادس والعشرون

رواية جحر الشيطان البارت السادس والعشرون

رواية جحر الشيطان
رواية جحر الشيطان

رواية جحر الشيطان الحلقة السادسة والعشرون

” حامل !! حامل إيه؟ ومن مين؟ ”
سألها ( عبد الله) وانفجرَ ضاحكًا وهو يضرب كفيه ببعضهما؛ فعلتها ( شيماء) والله إنها لمجنونة من تشوه سمعتها لأجل رجل لحمقاء!
وبئس الحمق لرجل يتلاعب بها!
لقد مل وقرر تركها وقالها صريحة لكنها تفعل كُلُ شيءٌ ليعودُ لها، غبية هيَ إن حسبت إنه واقعٌ في حُبها وهو والله ينفرُ منها، لا تعلم إن قلبهُ متعلقًا بالتي أمامهُ ( أروى) مثل تلك الفتاة تحب.
مثلها لا يضيع من بين اليد!
وقلبه الأبله تحدى كُلُ شيء وذاب فيها!
لقد تجاوز المخطط له، لكن إن كان قُربهُ من (شيماء) سيجعلهُ قريبًا منها فمرحبًا بذلك الحب السخيف .
ولا ضير أن يستكمل لعبته!
هدأ ضحكهُ في تمهلٍ وعيناهُ تستقرُ على عينا ( أروى) الذاهلة فتحمحم يُجلي حنجرته وما هم بالحديث إذ هتفت ( أروى) فيه بإنفعال :
– والله أنت واحد تستحق الحرق تعمل عملتك وتهرب، مش عارفة بجد إزاي إللي زيك….
قاطع ( عبد الله) حديثها يقول في تريث وإشارة من يده :
– طب اسمعيني الأول لو سمحتِ بلاش حكمك عليَّ ده، كلماتك صعبة، ونظرتك ليَّ أصعب.
لكنها لم تعره أهتمامًا وكادت تقف لكنه بادر يستوقفها :
– شيماء بتكدب عليكِ!
كزت ( أروى) على أسنانها وهي تجيبه بصوتٍ منفعل، غاضب :
– إنتَ الكداب مش هيَ وإياك تجيب سيرتها بالوحش قُدامي.
تبسم ( عبد الله) بسمة متهكمة، تلك الفتاة تدافع عنها وليتها تعلم كم تحقد عليها (شيماء)
قد تتشابه الوجوه والملامح لكن تبقَ القلوب غير القلوب كُل قلبٌ مختلفًا عن الآخر
والنفوس الطيية غير النفوس المريضة ثمة فرق على أي حال!
فرق شاسع يمتد لآميال.
عادت (أروى) جالسةً أمامه مرة أخرى، وهتفت بضيق :
_ياريت تقول ليّ الصراحة، فين قسيمة الزواج؟!
فتنهد ( عبد الله) مشبكًا كفيه على الطاولة وأردف :
_مفيش قسيمة زواج لأن كل اللي قالته ليكِ كدب محصلش، كل إللي بدر مني إني قولتلها خلاص هبعد مش عاوزها وغيرت رقمي، لكن محصلش اي حاجة من إللي قالته!
_ وإيه إللي يخليها تقول كدا؟
_أروى، شيماء بتعاني من حالة نفسية غالبًا عندها نقص في شخصيتها، أكيد قالتلك كدا عشان أنتِ تقنعي عمي أنس يوافق يقدم الفرح بسرعة ويكلمني، لكن…
أذدردت ( أروى) لُعابها بصدمة لم يستعبها قلبها وتمتمت بصوت باهت :
– ولكن إيه؟
رد ( عبد الله) وهو يميل بجذعة على الطاولة :
– أنا خلاص صرفت نظر عن شيماء مش بفكر فيها!
أنزوت بسمة متهكمة على فمه مع رنين هاتفه بإسم (شيماء) ليدير شاشة الهاتف أمام وجه ( أروى) مع قوله الفاتر :
– بترن كل دقيقة وبتعيط عشان أرجع لها!
ثُم أغلق المكالمة وركن الهاتف جانبًا وعقد ساعديه على الطاولة وهو يستكمل :
_دلوقتي حمزة رافض إرتباطنا ولولا موافقة عمي أنس بسبب إلحاح شيماء مكنش حد وافق عليَّ، هنكمل إزاي؟
ساد صمت ثقيلٌ قبل أن تتمالك ( أروى) رباطةً جأشها وتقول بصوت فاتر :
– أنا هتكلم مع حمزة وهقنعه، سلام.
وقفت فور كلمتها الأخيرة تلملم أشياءها بضياع وتغادر فتابعها هو ببصره و ملامحه اللينة أستحالت إلى جامدة، وعيناه بدت غامضة، وبسمة خبيثة أرتسمت على شفتيه وعاد بظهره للخلف في استرخاء تام.. ثُم رفع هاتفه مجريًا إتصال مبهم..
🍂 لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين 🍂
هامت أروى في الطرقات كمن فقد بيتهُ فجأةً، لا تدرك أين السبيلُ لما يعتمل قلبها، وضاقت بها الدُنيا بِما رحبت؛ لِمَ تكذُب عليها شيماء بمثل ذاك موضوع كان يصيبها في مقتل!
أنَّى لها بِكذبة كهذه قد تُدمى قلب أخيها وتودي بحياة أبيها وتأجج نارً في قلب أمها؟
أهكذا يفعل الحب؟ فبئس الحب إن كان كذلك، فلا مرحب به ولا سلام!
أهذا حُب يفتح لُه المرء بيبان قلبه؟
عيناها اختلطت بالحزن والخذلان وترقرق بهما دمعُ الخزى.
لأول مرة تجلس مع غريب! هذه المرة الأولى التي تفعل بها شيء من خلف أبيها! بسبب من ولما؟
يا ليته كان يستحق، راودتها رغبةٍ في البكاء كظمتها بداخلها كم عسيرُ على المرء أن يكتم دمعه وهو في أشد الحاجة للبكاء!
كم مؤلم أن يكظم حزنه مما ألَم به ولا يدرك كيف يصف ذلك!
والمؤلم أكثر أن يخذلك من تنصفه بكلُ جُهدٌ منك!
لا، لا لم تفعلها شيماء لم تكذُب عليها ثمة شيءٌ آخر لا تفقهه رُبما عبد الله ذلك يكذُب عليها، لكن لمَ يفعل، آهٍ من الحيرة حين تستبد بالمرء وتذره يتخبط في بؤرة حيرته وخذيه.
فليرحل الحزن مذمومًا مدحورًا وستذهب إلى شيماء لتعلم الحقيقة كاملة.
وعندئذ استقلت سيارة أجرة إلى منزل أنس؛ وهنالك وقفت أمام شيماء في غرفتها وقالت في هدوء رغبة أن تثبر أغوارها :
_قابلة عبد الله أنهاردة، ويلا راجعة.. جيت عليكِ على طول!
لم يُخفَ على أروى تصنع شيماء الصدمة وهي تسئل بلهفة :
– بجد! طب شمعنا قابلك أنتِ؟ قلك إيه؟ حكيتوا في إيه؟
كلماتها تقطرُ كذبًا يتدفق من مقلتيها لكن أروى لم تبين شيء وجارتها في الكلام علّها تدرك بمكنون قلبها، وتظفر بخفاياها، قالت وهي تجلس على طرف الفراش :
– قولت له إني هتكلم مع حمزة يوافق على تقديم كتب الكتاب.
وحولت نظرها في عمق عينيها وتابعت :
– وإيه رأيك يبقَ كتب كتاب واحد أنا وأنتِ وخديجة!
لمعت أعيُن شيماء بفرحة وهمت بكلامٍ انحسر بداخلها حين غمغمت أروى بحدة :
– ليه كذبتي عليَّ وقولتِ إنه اتجوزك وإنك حامل منه، ليه؟
ارتبكت شيماء ولم تعرف كيف و بماذا تُجيب، وزاغت عيناها فرارًا من حصار عينين أروى العاتبتين بحسرة مصدومة، ظلت أروى تسأل ولم تجيب، هزتها من كتفيها فزاحت شيماء ذراعيها وهدرت فيها :
– إنتِ مالَك أكذب براحتي، مكنتش متخيلة إنك هتوصلي ليه، أفتكرت إنك بس هتقنعي حمزة و أنس بس ومش هتعرفي إني بكذب، واول ما يرضوا كنت هوصل ليه أنا بطريقتي.
و وقفت هاتفة في غضب وعينين متسعتين :
– لكن الأستاذة راحت ولقته حتى بعد ما سافر ورجع وحكت له كل حاجة، دلوقتي أنا كدابة في نظره أنتِ متخيلة عملتِ إيه بعملتك دي؟
في ذهول مخمور بالصدمة حدقت فيها اروى بلا استيعاب ونهضت تشير لنفسها في همس :
– عملتِ أنا؟! دلوقتي أنا اللي غلطانة؟
بس هقول إيه بجد متستهاليش أي حاجة، أنتِ إزاي كدا أنتِ مستحيل تكوني مننا مفيش حد فينا بيكدب وبيألف كدا.
وهقولهالك نصيحة قبل ما امشي.
مع قولها كانت تمسك بمقبض الباب مسترسلة :
– عبد الله عمره ما هيصونك بس أفضل حاجة ليكِ إنك تمشي في اللي اختارتيه وتجني بنفسك ثمار اختيارك، هتندني وهتقولي أروى حذرتني ياريت مفيش بينا كلام تاني.
أوصدت الباب وراءها في عنف وغادرت دون أن تودع سمر، وأسرعت إلى بيتها كأنها تهرب من شبح الوجع هربًا فلا فرار منه.
دخلت إلى الشقة وانسابت دموعها التي رآها ياسين فوقف متفاجئًا وما كاد يهرع إليها حتى سبقته هيَ ترتمي في حضنه وتبكِي.
فخيم الصمت على الجُلساء، إذ كان جان ودارين وسجى ومعاذ جالسين يتسامرون فصوب الجميع أبصارهم إلى أروى التي اخفاها ياسين في حضنه متمتمًا بحنانٍ خافتٌ :
– هششش يا بابا، مالك في إيه؟ إيه إللي حصل معاكِ، بابا جنبك قوليلي إيه مزعلك.
من ذا قدير إذَنْ على إذابة وجعها غير أبيها؟ السند الذي لا يميل، والحنان الذي لا يضام، والرفيق الذي لا تغيره الأيام؟
فرفعت رأسها إليه مع هزةٌ خفيفة تهمس بشهقة :
– مفيش.
ربت ياسين على وجنتها مع إزالته لدموعها ولثم جبهتها بلطف وربط على كفها الذي سكن في راحته كأنه يبعث فيها الراحة، السكينة، الأطمئنان.
فراعها إن وجدت الجميع يحدق فيها فضحكت ببلاهة فتبسم جان لها وبادر قائلًا :
– ما الذي يُبكيكِ؟
وأسرع معاذ هاتفًا:
– قولي مين مزعلك وأكسرلك رأسه.
وصاحت دارين قافزة على ركبتيها فوق الآريكة وتنظر لها من وراءها :
– ايوة قولي بس يا بت مين مزعلك أنتِ وراكِ رجالة.
ضحكت سجى عليهم بينما حركت أروى كتفيها مجيبة وهي تثب بجوار دارين بعد ما ألتقطتّْ حفنةٍ من الُب :
_ مفيش يا رجالة الله يبارك فيكم.
ونظرت لـ جان قائلة :
– لا تشغل بالك بيّ أردت فقط معرفة إذ ما زال ليّ حُب بقلب ياسين أم كله لـ سجى.
فوكزها ياسين في كتفها مغمغمًا :
– إتلمي وقومي أعمليلي كوباية قهوة.
فزمت شفتيها بضيق قائلة بحزنٌ مصتنع :
– أرآيت يا جان ذاك الحضن لم يكن بلا مقابل.
فمال ياسين بكفه بغية ضربها لكنها صاحت ناهضة جارية إلى المطبخ مصحوبة بالضحكات التي علت.
وبينما هي تعدُ القهوة إذ جاء ياسين واقفًا بجانبها ودون أن ينبس يبنت شفة سحب المعلقة التي كانت تُقلب بها من كفها وأخذ بيدها إلى الطاولة ليجلسها وجلس بجانبها وسئلها بحنان :
– كان مالك بتعيطي ليه؟
تجمعت العبرات في حدقتيها مع سؤاله، فضم كفيها في راحتيه وقال بقلق :
– حد ضايقك يا أروى؟ قوليلي!
لم تجد مفرَّ من البوح له بما في جعبتها، فراحت تقصُ عليه ما حدث كله مدعية فقط إن شيماء وعبد الله تخاصما وأصلحت بينهما وإن شيماء حزنت لأنها قابلته، لم تسطع أن تخبره بكذبت شيماء! أو أن تنزل من نظره فاستأثرت التستر، فضمها ياسين بعد إن فرغت من مكنونها، وقال برفق :
– مش هعاتبك على حاجة يا أروى، ولكن زعلي كله إنك قابلتي عبد الله من ورايا كُنتِ قولتيلي وأنا أتصرفت.
فحدقت فيه وسألته بجزع وهي ترفع رأسها عن حضنة :
– بابا إنت زعلت مني! بالله ما تزعلش أنا .. أنا.
– بس يا حبيبتي مش زعلان وقولتلك مش هعاتبك على وعد أن الحاجة دي متتكررش.
فتبسمت أروى متنهدةً في راحة وقالت :
– أوعدك يا حبيبي.
رن هاتف ياسين جاذبًا أنتباهه فـ تركها مكانها وخرج دقائق ثُم عاد وهو يقول :
– خدي كلمي حمزة عاوز يطمن عليكِ، وأنا هقف هنا.
تناولته أروى منه بلهفة، وردت في استحياء ممزوج بالشوق :
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إزيك يا حمزة؟
فرد حمزة السلام قائلًا :
– وعليكِ السلام ورحمة الله وهداه ورضاه، بخير الحمد لله، أنتِ عاملة ايه؟
أجابة أروى بإيجاز وهي ترمق أبيها بخجل، وسئلت عن خالد وأحابها بإنه بخير ويسلم عليها ثُم سألها بنبرة ذات معنى :
– أنتِ كنتِ فين أنهاردة؟
فشحب وجهها فجأة، ولم تدرِ كيف تجيب وبماذا تجيب، فقالت بنبرة متوترة :
– كنت .. كنت عندكم.
_ متأكدة عندنا بس؟؟
فبهت وجهها وسكتت هنيهة مسبلة جفنيها على قلقها وقالت وآخذه نفسًا عميقًا مجيبة :
_ ايوة.
فتبدلت نبرته وهو يقول بنبرة فاترة :
– تمام، سلام.
_ سلام.
أغلق الخط فور كلمتها فردت الهاتف لأبيها الذي لاح له شحُوبها وسئلها ما بها، فردت بأن لا يوجد شيء.
🍃 اللهم إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين 🍃
في معرض الرسم وقفت تتأمل لوحاتها المنظمة بعد أنتهاءها من ترتيبهم والحق يُقال، إنها ما بين الثانية والأخرى تُلقي نظرة عليهم، كأنها تخشى أن يتزحزحُو، قلبها مضطربًا بالقلق، عيناها زائغة على باب المعرض في أنتظار شخص معين، شخصٌ لطالما أعانها في تلك المواقف وأحتواءها وكان المتكلم بيسر عنها.
ترآه يأتي؟ أو لن يأتي؟ إن لم يأتي فلن تلومه حقًا معه كل الحق أن لا يأتي! لن يأتي ما هو إلا القليل وينفتح المعرض، ستنسحب حتمًا!.
لم يجيء أحد حتى الفتيات لم يأتن!
مؤلم أن يجد المرء نفسه وحيدًا وسط الزحام دون اكتظاظ الأحبة حولهُ.
دمعت عينيها مع خواطرها التي أضنت روحها، وأطرقت برأسها سابلةً جفنيها بقوة، رفعت رأسها تُلقي نظرةٍ أخيرةٌ على لوحاتها وقد عزمت على التراجع، و بينما هي غارقة في هواجسها إذ خفق قلبها كالطبل بغتة معلنًا عن إلتقاءه بشطره الآخر.
فرفعت نظرها في لهفة ولم يخب قلبها إذ كان معاذ يقبل مرتديًا بنطال من الجينزل الأسود وتيشرتٌ أسمر اللون بنصف كُم وكوتش أبيض لامع مصففًا شعره، سلب روعها، هو في كل حالته يسلب كل ما بها، قلبها، روحها، وجدانها، حتى أنفاسها ويتركها مسلوبة الإرادة.
لقد جاء حقًا لم يخلف بوعده السابق أن يظل بجوارها طيلة العمر مهما أحتاجته، فكان لها الآن أن تتنفس في راحة مخرجة توتر روحها الملهب وتناهى لها صوته قريبًا :
– اتمنى مكُنش اتأخرت عليكِ، كل حاجة تمام؟
وقبيل مجيئة عانى من أفكاره في الآتيان حتى أنتصر قلبه على عقله وجاء.
فنظرت بتمعن إلى وجهه كأنها تروِ ظمأ روحها العطشة، عيناها الهاربتان عن عينيها وعنها بالتحديد ودت لو لها الحق أن تمسك وجهه وتنظر لعمق عينيه، لكنها تنحنحت مجيبة لتشير بمعنى:
– أفتكرتك مش هتيجي!
فرد عليها بإيجاز وهو يتجه إلى اللوحات :
– مش أنا إللي أخلف بوعدي.
إندمجا معًا في اللوحات وترتيبها والتحدث عن مدارها حتى حضر الفتيات أجمعهم ومالك وجان.
وبينما هُم جميعًا متجمعون يضحكون، يتسامرون، إذ حضر شهاب فسكتت الألسنة وأختفت البسمات، وتلاشت الضحكات، ولُجمت ملك كأن أصابها سهمٌ مسموم لا تدرِ من أي أتجاه جاءها، وبعد إن ألقى السلام وردوا بفتور تبادل مع معاذ نظرة غاضبة، وحينما نظر إلى جان سئل عنه فـ أشارت له من يكون وعرفتهما على بعضهما، واستقرت عيناه على ناردين ليبلل شفتيه بلسانه وما كاد يسئل من تكون إذ سحبتها الفتيات بعيدًا وعقبت دارين قائلة :
– تعالي يا بنتي نتفرج على اللوحات مش عارفه إيه الدبان الرزل إللي حضر فجأة ده.
وبعد إبتعاد الشباب أيضًا، وقف شهاب أمامها قائلًا بغلظة :
– أنا مش قُلت ملكيش علاقة بـ إللي اسمه معاذ ده، جاي ليه لحد هنا؟
فـبنظراتٍ محتدة كانت تشير له بإنفعال بالإشارة بمعنى:
– أنت ملكش الحق تقولي أكلمه ولا لأ…
فجز شهاب على أسنانه مقتربًا خطوة، أبتعدتها عنه حذرًا وليس خوفًا فزمجر قائلًا بشراسة:
– ملك مش عشان بحبك وعايزك تسوقي فيها، أنا معنديش عزيز يوم ما هتعصيني…
وتبسم ببسمة ذات معنى جعلتها تستدرك ما يعني لكنها استوضحكت بتحد بإشارة من يدها ورأسها ” هتعمل إيه يعني ”
فغمز لها قائلًا بنبرة مرحة :
– الفيديو هيكون منور على الشاشة والناس كلها تعرف حقيقة حفيدة عيلةً الشرقاوي.
ودت لو تبصق في وجهه، أو تبتعد عن كل الوجود إلى مكان نائي وتصرخ.
قاسية تلك الأوجاع؛ مؤلمة حد الموت هذه التي لا يستطع المرء البوح بها إلا صراخًا إنها أشد ألمًا لو تعلمون، أو كأنها نارًا تندلع في قلب صاحبها وتظل تنهش فيه حتى يصبح فُتات.
ضحك شهاب متحدثًا بمرح كأنما لم يهددها توًا، وكانت هي كل فنية وأخرى تخطف نظرة إلى أخيها ومعاذ تستمد منهما القوة، وحين مرة تلاقت نظراتها مع معاذ وبقت لثوانٍ عالقة حتى تنبهت لمالك يحاوط كفها ويقطع حديث شهاب بقوله :
– كفاية كدا، روحي يا حبيبتي أقفي مع البنات.
ففرت ملك من أمامهما كأنما تفرّ من إنسان متسجدٌ في شيطان.
وأنهمكت ملك حين بدأت الناس تتوافد إلى المعرض وفي عمل حوارات صحفية عن لوحاتها التي حازت على أعجاب كبير من الوافدين والتصوير مع معجبيها، حضر ياسين آتيان مع شيماء التي صافحت أروى وخلا بهما ياسين، إذ ذلك قال عاقدًا ذراعيه :
– في عيلتنا مفيهاش خصام لا مع غريب ولا قريب فما بالكم بـ اخوات، هتسمحوا لحاجات تافهة تفرقكم، وخاصةً إذ كان راجل ميستهالش.
فـ أردفت شيماء وهي تشيح بوجهها :
– أنا مخصمتش حد.
فنظر ياسين لأبنته وقال بحنو :
– وأروى قلبها أبيض مش بتخاصم حبايبها لوقت طويل بتتصافى بسرعة.
واسترسل بحدة :
-يلا أنتِ وهي تصالحوا قدامي بلاش لعب عيال.
فزمت أروى شفتيها وهي تقترب من شيماء وتعانقا ضاحكتين، فتبسم ياسين مرتاحًا ورفع كفيه مطوقًا كُلاٍ منهما مع قوله :
– بلاش تسمحوا لحد يدخل بينكم، الدنيا مش مستاهلة زعل وخصام محدش عارف هنفارق أمتى الحياة.
و وجه حديثه إلى شيماء برفق :
– وأنتِ بلاش تفكري إن اخوكِ مش بيحبك، حمزة بيحبك وبيخاف عليكِ، ولما يقول لك على حاجة لأ يبقى لمصلحتك هو بيتمنالك الخير تصالحي مع نفسك يا شيماء عشان تتصالح مع كل إللي حواليكِ.
وتابع بتنهيدة أودع فيها جم راحته :
– الحب يا شيماء لو مكنش يعزك ويرفع يبقي مش حب، لو مكنش في احترام بينكم ومودة واهتمام وخوف على التاني يبقي مش حب، الشخص إللي يجرك للنار عمره ما حبك عشان إللي بيحب بيتمنى حبيبه يبقى معاه في الجنة ويسحبه معاه.
ثم تابع بزهو :
– عندك أنا وسجى مثلًا، هل سمعتي في يوم إن في بينا خصام، خناق، زعل؟
هزت رأسها فاستأنف :
– عشان أنا وهي واحد مفيش إنسان بيخاصم نفسه ولا يزعلها ولا يجرحها هي عندي بالدنيا وأي حزن، ألم، أنا اللي بتوجع.
إللي عايز أأقوله أختاري صح، أختاري إللي يصونك ويحطك جوة عنيه.. الحب إللي يزل صاحبه مش حب.
🍂 إنما أشكو بثي وحزني إلى الله 🍂
دلفت خديجة إلى المنزل قبيل العشاء بعد رجوعها من المستشفى لتتفاجأ بـ جان يجلس برفقة ناردين ويغني أغنية أجنبية والأدهى يعزف على الجيتار فـ أخذها الزهول وهي ترمش بعينيها، فتوجهت نحوهما فتوقف جان باسمًا :
– خديجة، كيف حالك؟ لم أرآكِ اليوم!
فجلست خديجة بجانب ناردين وهي تجيبة :
– بخير الحمد لله، لأني ذهبت إلى المستشفى باكرًا؛ كان لدي عملية.
فأرتسمت علامات الأسف على وجهه وقال بحنو :
– لا بُد إنكِ مرهقة!
فنفت خديجة باسمةً ورغم أن بسمتها لم تظهر إلا عينيها فجأة لمعة وتمتمت بصدق يلامس القلب :
– إرهاق!! تلك كلمة خارج قاموسي فرحتي لا تعادلها إيةً فرحة أمام فرحة أهل المريض بنجاح عملية مريضهم.
وجدت ناردين تسند ذقنها إلى راحتها وتتأملها باسمة فـ غمزة لها قائلة :
– ما بكِ لمَ تنظرين إليّ، أعلم إني جميلة.
– أنتِ جميلة حقًا، ثمة هالة تحيطُ بكِ تجذب الناظرين، بكِ شيئًا كـ .. كالنور وسط الظلمة.
ثُم أستوت جالسة وسئلت :
– لماذا ترتدي هذا النقابُ يا خديجة وتخفين وجهك؟
أجج لهيب الكلمة صدرُ خديجة فراحت تتأمل السماءُ بدموعٍ سجينةٌ خلفُ نافذة عينيها وتمتمت:
– حالمة يصل المرء لدرجة الأشتياق إلى نبيه وكل أحبته يسير قدوةً لهم في الحياةُ الفانية.
سكتت لوهلة ناظرةً لها تنتقي كلماتها، وهمست :
– كل شيءٌ فانٍ يا ناردين الدنيا لا تستحق أن ننغمس فيها ونضيع جنتنا.. هذا النقاب ليس فرضًا، لكني أرتديه حبًا في السيدة عائشة حتى يجمعني الله بها في جنته، أرتديه لأسمو درجةٍ من العفاف، وأخرى في الستر، حتى أكون درة مصونة لم تغتصبها النظرات، حتى أكون مصونة من الفتن ولا أحمل وزرُ أحد من الناظرين إليّ…
قاطعتها ناردين تقول بعدم أقتناع :
– ولكن لماذا نخفي جمالنا ألم يرزقنا الله به، لماذا رزقنا به إذَنْ هل لنخبيه؟!
فحركت خديجة كتفيها صعودًا وهبوطًا مع سؤالها :
– وهل تحترمين نفسك حين ينظر لكِ كل من هب ودب بنظرات بشعة وتتشبع من جمالك وتحلم به؟ الأمر ليس كما تظنين ربنا رزقك الجمال لكِ لنفسك لزوجك على كتاب الله وسنة رسوله، الجمال ليس كل شيء يا ناردين.. أصبحنا في زمن مليئ بالفتن والضلال والأغتصاب بات شيءٌ مخيف لا يعرف كبيرًا وصغيرًا متدينًا أم لأ جميلًا أم قبيحًا الناس لم تعد في قلوبهم رحمة هجروا القرآن وتركوا الصلاة، أوَليس من الأفضل ان نأخذ بالأسباب؟
أن نستر أنفسنا من أعيُن وحوش ذو مخالب قد تجهم عليكِ في إيةً لحظة؟! جمالك لكِ يا ناردين، جمالي ليّ ليّ وحدي وأحب أن أخفيه لمن يصونه ويقدره.
إلتفتت خديجة إلى جان المنصت لهما بتركيز شديد، وقال :
– أتدرين إنكِ الوحيدة التي منذُ رأيتها شعرتُ معها بالألفة؟
فبوغت بسؤال خديجة له :
– وهل تعلم إن الغناء والعزف حرام؟!
فرفع جان إحدى حاجبيه متمتمًا بتذمر :
– لا تبدأين معي يا خديجة، أنا عنيد للغاية ولن أفرط في هوايتي!
– وإن كانت هوايتك هذه قد تكون سببًا في دخولك نار جهنم؟
نارُ جهنم أخترقت قلب جان فأوقدته نارًا، الكلمة أصابت من قلبه إصابة بالغة وقشعر لها بدنة، نعم! مجرد كلمة لكن وقعها كان صعبًا فـ قال بصوتٍ يهزه الاضطراب :
– نار جهنم ! لمَ يا خديجة؟
فأخذت خديجة نفسًا طويل زفرته على مهل، وقالت :
– أول هامٌ فإن العزف حرام وقد قال الرسول ﷺ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.( والحر: هو الفرج الحرام يعني: الزنا، والحرير معروف محرم على الرجال، والخمر معروف محرم على الجميع وهو المسكر، والمعازف هي الأغاني وما يعزف به من آلات الملاهي.) رواه البخاري.
وقال الله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا } [لقمان: 6] ..
آرايت يا إسلام كيف العزف من أكبر الكبائر والذنوب إذ يأتي مقرونًا مع الحر، والحرير، والخمر….
هل أنتَ على قدر ذاك الذنب، هل أنتَ مستعد أن تموت ويكون رفيقك في القبر؟
اسئل نفسك الآن يا إسلام: هل أنت مستعد للموت؟
الدنيا فانية والمرء فانٍ والله باق.
أمستعدٌ لعذاب القبر وظلمته و وحشته قبر المؤمن إما حفرة من حُفر النار او روضة من رياض الجنة فـ إيهما تُريد؟
مستعدٌ أنت إلى البعث والحشر والحساب؟؟؟
الحساب هل أنت جاهز له، ماذا ستقول لربك حين يسئلك؟
هل مستعد للسير فوق الصراط، هيا اسئل نفسك لتدرك أن العبد والله فقيرٌ وسيبقى فقيرًا إلى الله يرجوا هدايته.
ترقرق الدمع في مقلتيها وسكتت هنيهة، واسترسلت قائلة :
– كل شخص يستمع لعزفك وغناءك أنت من سيحمل ذنبه، المرء يكفيه ذنوبه يا إسلام أي قلب هذا يتسع لذنوب الآخرين.. نُشير الأغاني ونرسلها للأصدقاء والأقارب ظنين إننا نشاركهم شيئًا جميلًا ولا ندرِي أن هذه الأشياء الجميلة قد تكون ذنوبًا تودي بصاحبها في نار جهنم، فلماذا لماذا نحمل ذنوب الآخرين ونحملهُم ذنوبٍ أيضًا نحنُ سببها إلا يكفي؟
ذُرفت مآقيها دمعًا كان حبيسًا، واستمطرت شآبيب عيون ناردين تلقائيًا متأثرةٌ، ولج إسلام في الاستعبار،فـ كفكفت خديجة دمعها ونهنهت وجالت عينيها عليهما وهي تستأنف حديثها الذي لمست وقعه في قلبيهما :
– لا تحسب الأمر هينًا، فهو مكائد الشيطان، لا يجتمع حب الغناء والقرآن في قلب مؤمن فإن سمع الغناء وغناءه يسدُ القلوب عن سماع القرآن، ويجعلها عاكفه على الفسوق والعصيان.
ولك مما قاله ابن القيم في كتابة ( إغاثة اللهفان)
فـ أنصت بكلا أذنيك، وافتح بيبان قلبك حتى تلج الكلمات ماحية آثامك يقول الشيخ رحمه الله :
يا شماتة اعداء الإسلام، بالدين يزعمون إنهم خواصُ الإسلام قضوا حياتهم لذةً وطربًا، واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، مزامير الشيطان أحبُ إليهم من إستماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنًا، ولا ازعج له قاطنًا، ولا آثار فيه وجدًا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زَندًا، حتى إذا تلى عليه قرآنُ الشيطان، و ولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى اقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر اعضائة فاهتزت وطربت، وعلى انفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتذايدت، وعلى نيران اشواقه فأشتعلت، فيا ايها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسرٍ مغبون، هلا كانت هذه الأشجانُ عند سماع القرآن.
هنا وسئلت خديجة إسلام بعبراتٍ استهلت :
– هلا حضرت هذه الأشجان عند سماع القرآن، هل هيج القرآن دموع عينيك خوفًا من الله، من عذابه، من شوقك لرؤيته؟
هل ملئت قلبك رهبةً، وروحك خوفًا، هل منعت من عينيك النوم فتقيم الليل كله؟
إيهما تريد إن يكون أنيسك في قبرك و وحشته وظلمتك الأغاني، أم القرآن الذي يطمئن القلوب؟
فكر الآن واختار.
ران عليهم الصمت، كان إسلام تائهٍ بين أفكاره، حائرًا لا يدرِ!
أيمكنه التخلي عن غناءه بسهولة؟
موسيقاه التي تنعش قلبه وينتظرها جمهوره!؟
الغناء الشيء الوحيد الذي إذ سمعه او غناه يُذهب حُزنه!
أنَّى له أن يختار عن تركه أو أكماله؟
لكن .. لماذا يبكي قلبه الآن خوفًا من الموت؟
لماذا قلبت خديجة حياته من الأساس لقد كان مرتاحًا لا يفكر في الموت قط أما الآن فـ الموت حائلًا بينه وبين حلمه، لقد أصبح مُغني مشهور هل يضيع كل هذا في ثانية؟ يا الله ما هذا التخبط والحيرة؟
أسبل جفنيه في عنف وردد في نفسه بعنف :
– لا، لا يمكن للمرء أن يتخلى عن حلمه بعد أن صار قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه، لكن الموت ماذا لو أتى يا إسلام؟!
عليكَ أن تكرر جنةً أم نار؟! يا نفسي الأمَّارة بالسوء تنحي جانبًا وأطردي شيطانك بعيدًا فوالله أريد الجنة وأريد حلمي أيضًا، لا يمكن أن اتخلى عن الغناء.
فتح جفنيه لتلتقي عينيه بعينين خديجة التي تعلم ما يمور في نفسه من اضطرابات وجاهزة أن تهديه السبيل.
هز إسلام رأسه حائرًا وقال بصوتٍ خفيض :
– لا يمكن، لا يمكن أن أتخلى عن الغناء يا خديجة والعزف، لا اتخيل حياتي بدونهم أبدًا.
هُنالك وقفت خديجة متهيأ للدخول وتلت قبل مغادرتها :
– وَمَن يُرد اللهُ فِتنتةُ فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يُرد الله أن يُطهر قُلُوبهُم لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيم.( المائدة)
رتلتها ورحلت فبُهت وجه إسلام ونظر لها مشدوهًا حتى أختفت، الآية رجفت قلبه أشد رجفة، غاض دمعه وأمتقع وجهه وهو يحدق في وجه ناردين التي دنت منه رابتة على منكبة برفق مع همسها :
– خديجة تحبُ لك الخير.
استشعر خديجة ترد وهي تقبل مجددًا :
– هذا أكيد.
وتابعت جالسة وهي تسحب ناردين بجانبها :
– لأني أريده معي في الجنة ولن أتركه للشيطان ولا للفتن والفسوق.
ثُم زمت شفتيها قائلة :
– كنت عطشى يا بُني لذلك دخلت لأرتوي وعدت، ماذا ظنننت أنت؟ لن اقوم ولا تقوم حتى أقنعك بترك الغناء.
– أنا خائفُ يا خديجة متخبط العقل والذهن لا أدرِ، خائف لا تتركيني.
– وأين أذهب حسرة عليَّ جالسةً فوق قلبك لا تقلق.
قالتها خديجة في مرح، فإذا بناردين تقول في استحياء من سجيتها الخجولة :
– أريدُ أن أرتدي الحجاب!
نظرت لها خديجة متفاجئة فوجدتها مطرقةً الرأس تزيحُ خصلاتها خلف أذنيها فتمتمت بسعادة :
– يالله، أغبطتيني يا فتاة وازهرتِ قلبي هذا أحلى خبر جاءني اليوم أقسمُ لكِ.. سترتديه إن شاء الله ولكن ستختمري حبيبتي.
صوبت بصرها إلى إسلام وسألتهُ فجأةً :
– هل قراءة القرآن بالتجويد؟
فهز رأسه رافضًا وغير فاهمًا ما معنى تجويد، فتنحنت خديجة قائلة :
– إسمع هذه السورةٍ مني وقولها، وراحت تُرتل بصوتٌ سجي سورة ” الزلزلة ”
واختارت سورة الزلزلة لما بها من آيات تُرجف القلب، وترهبُه من يوم القيامة وليعلم الإنسان إن عمل ذرة من خير سيجدها وإن عمل ذرة من شر سيجدها.
خشوعها في السورة جعلت قلبُ إسلامُ يرُج رجًا شديدًا ويتزلزل.
ففسرتها له خديجة بكل يُسر وأتمت قولها قائلة ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ ﴾ [ سورة الزلزلة آية:﴿٧﴾ ] المثقال هو الوزن، والذرة هي النملة الصغيرة، والرؤية هنا ليست برؤية بصر، وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيهاًً على ما هو أكثر منه من طريق الأولى؛ كأنه قال: من يعمل قليلاًً أو كثيراًً. ابن جزي.
حين هدأت رجفت إسلام أسدل أهدابه وأخذ لسانهُ يتلو كما تلت خديجة أمامه، متآملًا بكل كلمة يلفظُ بها قلبه قبل لسانه، مستلذًا بكل حرفًا يقرؤه أوَليس كُل حرفٍ بحسنة؟
ما إن أنتهى كان دورُ خديجة لتسدمع عينيها، وبرز بغتة صوت دارين قائلة وهي مأخوذة تمامًا :
– بسم الله ما شاء الله، الله أكبر بجد، صوتك يبعثُ الراحةُ في القلب، وينفذُ إلى الفؤادِ ينعشه.
فطرف إسلام مبهوتًا، وقال :
– حقًا؟
فبادرت خديجة قائلة بسرور وغبطة :
– سُبحان الله صوتك يبثُ المرء بالراحةِ والسكينة، أغاني ماذا بالله يا هذا؟ فلتترك الأغاني والسيئات ولننشر حسنات تبقى حين فنائك وفناء روحك أثرٌ لا يطمسه الموت بعد موتك.. ألا تريد أن تملأ ميزانك حسنات تُمحي سيئات الأغاني؟
دون تفكير كان إسلام يهتف متهللًا :
– بلا أريد، ستعلميني اقرأ بالتجويد؟
فردت خديجة بزهوٍ مصتنع :
– سأعلمك بالطبع، أنا أيضًا أريدُ حسنات وهل أفوت؟
قهق إسلام بسعادة يشوبها الحزن الذي لاحظته خديجة وفهمته فقالت :
– صلي ركعتين توبة؛ إن الله يحب عبادهُ التوابين الآوابين وسأعلمك كيف تستغفر، إن ربك يا إسلام حنان منان رحيم مهما أسرف العبد من ذنوب وتاب فإن الله غفورٌ رحيم يغفر الذنوب جميعًا ويفرح.
(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) .[ البقرة: 222].
أشرق وجه إسلام وتلألأت عينيه بأملٍ جديد وحياةً جديدة، حياة سيجاهد بها ليكون صالحًا ويستحق الجنة.
تنبهت خديجة لشرود دارين الحزين، فسئلتها عما بها؟
فـ أجابة بنبرة تقطر حزنًا :
– كنت دائماً ما اسمع الأغاني يا خديجة وكنت قليلًا ما أسمع القرآن، وإن سمعته بلا أنصات أو ادراك، كنت أشير الأغاني لصديقاتي وعلى حالة الوتساب والفيس بوك وكان يسمعها الكثير ويتفعال معها الكثير ويطلبها الكثير، وكانت ذنوبِ تتذايد، وتتذايد وأنا غارقة مستسلمة للشيطان.
فقالت خديجة برفق :
– ربك رؤوف بعباده توبي إليه فإنه يقبل التوبة ويغفر الذنب، ويفرح بتوبة عبده، واستدركِ ما فاتك فما زال لديكِ فرصة طالما بكِ شهيقٌ وزفير. النفس أمارة بالسوء فجاهديها، وإن كانت سيئتنا كثيرة فسنمحيها ونطمسها بالحسنات، حسنات تملأ الميزان حتى تفيض، فـ اعزمي من الآن والله قريبٌ، مجيب، بصير بعباده لا تؤخذهُ سنةٌ ولا نوم.
🍃 اللهم ابني ليّ بيتّا في الجنة 🍃
في غسقُ الليل، توقفت سيارة يجلس خلف مقودها نجيب وفُتح الباب الخلفي وترجلت منه مِنة بفستان أسودُ اللون مطعم في الأكمام بالورود الحمراء، رافعة خصلاتها بتصفيفه رائعة وتسللت بعد الخصلات على وجنتيها، وسارت فوق ورود منثورة ضحكتها كانت تملئ المكان وقلبها كان يرفرف من شدة الفرحة ورأت آجار في أنتظارها فوق سفينة تتلألأ بالزينة وسط ظلمة البحر، الهواء كان يداعب بشرتها كأنه يشاركهما لحظتهما، مد كفه ما أن وصلت إليه فناولته كفها قافزة إلى السفينة.
القمر كان بدرًا منيرًا يتأملهما في انبساط ويضيء ليلتهم بنوره، والنجوم لامعة في سماءٌ صافية تشاهد فرحتهما.
_ تبدين رائعة، وجميلة.
قالها آجار ناظرًا بتمعن لنجلاوتيها الكحيلتين ذادهما الحكلُ جمالًا ودلالًا، وهل تدرك عن دلال العيون شيئًا، فإنها حين تفرح وينبع الفرح من القلب تددلل بلمعة لطيفة كأنها مرآةٍ للقلب.
فهربت عن حصار عينيه رامشة وقالت متأملة السفينة وزينتها :
_ واو أأنت فعلت كل هذا؟
فـ أوما آجار مشاكسًا :
_ لعينيكِ أفعل كل شيء حبيبتي.
بذلته السوداء كانت تذيده تألقًا وخاصةً حين أقلعت السفينة مع انسياب موسيقى هادئة مصحوبةً بكلماتٍ أحنبية رومانسية، وجثى على ركبته فاتحًا عُلبة مخملية تحوي خاتم لامعًا، لمعانه أضفى للأضواء بريقًا فدمعت أعين مِنة مجهشةٍ في البكاء، وقالت :
– آجار، أحبك كثيراً يا هذا.
فـ أبتسم آجار :
– هل تقبلين يا أميرتي أن تُحيي مملكة قلب أميرك؟
فهزت رأسها مرارًا فـ ألبسها الخاتم وما كاد أن يستوي في وقفته إذ ارتمت في حضنه باكية فضمها بحنان يغلفها السعادة التي كادت تذيب قلبه.
أبتعدت عنه مع صوته الهامس يقول في ترقب :
– سنتزوج غدًا، لا اريد أن تمر دقيقة أخرى من حياتي إلا وأنتِ بجانبي.
فـ اطرقت رأسها موافقة فضم راحتها في كفه وسحبها إلى طاولة ممتلئة بما لذ وطاب وأجلسها وجلس.
مرت الليل جميلة، وسط البحر ودجى الليل ونسماته.
تأملها آجار وهي تقف شاردة بصرها مُعلقٌ في المياة وقال في نفسه.
” محظوظٌ أنا إن تعثر قلبي بكِ، ولكني أخشى أن يزول هذا الحظوظ، أهاب أن تخطفك الحياةُ مني، بداخل قلبي ندبة لن يعالجها من نساء العالمين أحد إلا أنتِ، فلا تتركي قلبًا بالخوف يُناجيكِ، وبـ الألم يسغيثك، لا تتركي يدًا من فجوة الموت تناديكِ، وبـ أنينُ الوجع ترجوكِ ألا ترحلين فيرحل كل جميل، أحببتك كعمرٌ إن غِبتي ضاع، أحببتك بروحٍ قد جنت بكِ، وعينان لا تريان غيرك”
_ آجار، آجار يا هذا أين ذهبت سارحًا.
تنبه آجار على صوتها ليدحر تفكيره جانبًا ويهز رأسه :
– معك، أين قد أكون.
فشبكت أصابعها في أصابعه وهي تهديه أجمل ابتسامة تسارعت لها ضربات قلبه فضم رأسها برفق ليستكين على صدره وذراعه يحاوط كتفها، وهمست :
– سنتزوج ولن نفترق أبدًا سنرسم أحلامنا ولن يفرقنا بشر، آجار أحبك بدرجة لا أتخيل حياتي بدونك أحببت الحياة منذُ أحببتك ؛ لذا أرجوك أبقَ دائمًا بقربي.
رفعت رأسها وضمت وجهه بين كفيها تلتهم ملامحه داخل شغاف قلبها الذي شغفه حبًا، وأردفت بصوتٌ عاشق ولهان :
– أحب ملامحك كثيرًا، أحب أن أسكن في عينيك وتغلق عليّ بأجفانك، أذوب في عينيك حين تضمني وتحتويني وكأنها تميمة حب تطوف حولي، وحين تكن بعيدًا عني طيفك يدثرني برداء الحب، حبك كان مطرًا روَى ظمأ قلبي.
حبك كان مسكنًا سكنته ولا أريد أن أبرحه.
حبك كان غيثًا استمطر فوق صحراءي اليابسة فتلقفت قطرته قطرة قطرة حتى ارتويت.
أنا المشتاقة لقربك وغير قربك لا أريد.
أنا التي سأصنع لك بين حنايايّ مسكنًا فلا تريد مسكنًا غيره…
آجار أنتـــــــــــــــــبه.
بعض اللحظات الجميلة لا تكتمل وخاصةً لمن لم يعتد السعادة، صاحت مِنة مقاطعة كلماتها، ومتسعت العينين التي كانت لامعة بدمع الحزن وهي تدفع آجار لتقف أمامه ودوى صوت رصاصة مصحوبًا بصرختها التي شقت قلب آجار وهو يحتويها بين ذراعيه خالعًا رداء الثبات ليصيح بفزع والدموع تفيضُ في مقلتيه…..
وتوقف كلُ شيء، ربما قلبه توقف أيضًا رغم إنها ما زلت تنظر إليه بنظرات ضعيفة و وجهٍ شاحب والدم يغلف كفه الذي راح يلامس وجهها به.

أن تضحك لك الحياة وتعطيكَ السعادة أعلم إنها راضيةٌ عنكَ.
إن تلونت بكلُ ألوان الحب وقالت هيت لك.
إذ فرشت لك على ظهرها ورودًا وأزدهرت، وضحكت، فإنها فقط تمهد الطريق ربما لنكبة عسيرة قادمة؟ أو فرحةً مخبوئة بين جنباتها.
أرايت يومًا عروس مرتدية الأبيض كأن وجهها كوكبٌ دري يضيء الظلمة، متجبسة الذراع؟
ألك أن تتخيل الآن حال مِنة التي لم يمهلها آجار التعافي إذ ما أن اطمئن على صحتها لم يترك للقدر فرصة بالثأر منه فأثر التعجل.
كانت تجلس بجانبه وهم يعقدوا كتابهما واجمة، ورغم وجومها كانت رائعة الجمال وضاءة الوجه.
رمقت آجار الجالس بجانبه يكاد يطير فرحًا بعبوس لم يغطى على فرحتها الطاغية وإن بدت غير ذلك.
تذكر حين فاقت من اغماءها لتجد نفسها بالمستشفى ذراعها ملفوف بالشاش وقد تم نزع الرصاصة منه، هُنالك سحبها آجار من الغرفة متلهفًا غير عابئ بحديث الطبيب الذي هتف خلفه :
– يا سيد لا يمكنك اخذها يجب إجراء بعض الفحوصات لأننا نشك في مرض الـ…….
لكن آجار شوح له بكفه مغمغمًا في تعجل :
– فيمَ بعد، فيمَ بعد.
كتمت هنا ضحكتها بكفها وهي تنظر بعبث نحو منة التي تمضي والدموع حبيسة في عينيها وما أن انتهت حتى قفز آجار مهللًا يطوقها بين ذراعيه بفرحة، فبكت بشدة ضاحكة فما يدري الرائي هل تبكي ام إنها تضحك، همست منة وهي تدفن وجهها في صدر آجار :
– حرامٌ عليك والله حرام هل ثمة عروس بذراعٌ واحد غيري، لا سامحك الله، كنت أنتظر على الأقل يطيب جرحي.
أبتعد آجار عنها ملثمًا مكان جرحها وهو يقول بمرح :
– أطيبه أنا لكِ حبيبتي.
صرخة في وجهه بغتة وهي تدفعه لتجلس فعلت ضحكات هنا وابتسم نجيب وآركان، وقف الشابين مهنئينه بينما دنت هنا من منة وما كانت تبارك لها حتى انهارت منة تقول بأسى :
– لا تهنئيي وهل هذا يعدُ زفافًا، هل يوجد عروس بذراعٍ واحد والله لم تحصل أبدًا، لقد بدد فرحتي أخيكِ المعتوه، سيُضحك عليَّ الناس الآن ماذا يقولون يا ترى؟ عروس بذراع واحد، آه يا حسرة قلبي على هذا اليوم الذي كنت أتمناه وأخطط له لأبدو فاتنة فـ أنظري ماذا عروس بفستان عرس بذراعٍ واحد، يا حسرتا عليّ..
ربتت هنا على كتفها برفق وهي تكبح ضحكتها بأعجوبة فلم تستطع إذ قهقهت عاليًا وهي لا تكاد تصدق ما يجري فدفعتها منة مغمغمة بحسرة :
– آه، يا إلهي حتى أنتِ تضحكين على خيبتي، أبتعدي عني.
نفخ آجار بضيق وجوارها، أدرها من ذراعها نحوه، وقال برفق :
– منة، اهدئي رجاءً، هل ثمة عروسة جميلة مثلك تبكي يوم زفافها.
ذاد نحيبها، فتنهد محاوطًا وجهها بين كفيه، وهمس بصوتٍ رخيم :
– سأعوضك سأعمل لكِ حفل وسأعزم فيه كل صحفي وصحفية واصدقائك وكل من تودين، كنت أفقدك هل تظنني كنت سأنتظر أن يحصل لكِ شيء أخر.
توقف دمعها عن الأنهمار وثبتت بصرها في عينيه، فعقد آركان ذراعيه مستمتعًا بالمشاهدة، وغمزت له هنا ضاحكة، بينما مال نجيب مسندًا ذقنة في كفه باسمًا.
بنعومة ملس على وجنتها وقال بنبرة تقطر عشقًا :
– لا تبكين رجاءً وتنغصي فرحتي.
هُنا وصاحت فيه منة مصفقة :
– لقد أصبحت زوجتك هل تدرك ذلك؟
ضرب آجار بكفه وجهه في غم و وزع بصره على الشابين وهنا وقال :
– ما رأيكم بأن اطلقها؟ أشعر انها بلوة حلت على رأسي!
– بلوة؟ أنا بلوة يا آجار؟ برأيك انا هكذا؟ لمَ تزوجتني إذن!
صاحت منة بتلك العبارة منتصبة في وقفتها وتؤشر إلى نفسها بصدمة، فرفع آجار رأسه وتمتم :
– غلطة وسأصلحها فورًا.
بأعيُن متسعة وفمٌ فاغر هتفت منة :
– هل تسمع أذنك ما يخرج من فمك؟ نحنُ للتو تزوجنا وتريد ان تطلقني…
بتر آجار قولها بقوله الصادم للجميع :
– لقد اصبحت زوجتي حقًا أوليس كذلك؟ مما يعني إنه وجب عليّ ان أخرسها.
لم يستعب احد ما حدث فقد غطى آركان بكفه عينين هنا وطأطأ رأسه، قائلًا بضجر :
– سافل.
بينما سعل نجيب متصنعًا الأنشغال، أبتعد آجار عنها فبقت هي ذاهلة تنظر له بصدمة.
لقد قبلها أمام الجميع؟؟!!
ثغرها كان فاغرًا وأجفانها تتخبط في بعضها بينما غمز لها آجار بضحكة ساحرة :
– لقد أصبحتِ زوجتي يجب أن تدركين ذلك.
– من، من الذي ضرب رصاص عليك فقط اخبرني من فعلها؟!
صاح بتلك الجملة ماهرة وهو يلج للداخل ليتافجأ بالجميع كأن على رؤوسهم الطير، وما كاد يستفسر عما يجري إذ نهض آركان واقفًا قبالته وقال جزًا على أسنانه :
– نعم يجب ان تعلم من الذي ضرب عليك نار.
ثُم ألتفت برأسه إلى آجار متابعًا :
– ولا تبحث بعيدًا، فقط أجعل قلبك يبصر من حولك؟
وعاد برأسه إلى ماهر يحدجه بنظراته التي اشتعلت غضبًا، وقال بنبرة ذات معنى :
– في النهاية كل شيطان يعود لجحره مهما طال بقاؤه.
وتجاوز ماهر بخطوات ثابته وهو يقول مودعًا :
– مبارك لك يا آجار، وأنتبه من الشياطين التي حولك!
أنا لن أكون موجودًا في كل مرة.
استأذن نجيب راحلًا وقبل أن يغادر قالت هنا :
– انتظرني يا نجيب سآتي معك!
ولوحت إلى منة مغادرةً معه، خيم الصمت ولم يقطعه أحد غير منة التي قالت وهي ترفع طرفيّ فستانها الأبيض :
– سأصعد، حسنًا؟.
فـ اومأ آجار دون أن يلتفت وبعد أن أبتعدت أقترب ماهر بخطوات حثيثة واقفًا أمام آجار وصاح :
– ما الذي يجري؟ تزوجتها؟! لماذا فعلت ذلك؟!
لوى آجار فمه مبتعدًا خطوتين للخلف وقال بضجر :
– هذا من شأني لوحدي، تزوجتها لم أتزوجها لا دخل لك!
مسح ماهر على وجهه يواري قدر الأمكان غضبه عن محيط عينين آجار، وقال :
– لماذا أدخلتها حياتك من الأساس، حذرتك من الحب مرارًا، ستكون نقطة ضعفك.
ستكون نقطة ضعف له هو، هو يخشى أن تلعب منة بعقل آجار فينحرف درب الأنتقام، حاول قتلها ولم يفلح وبالأخير ها هي زوجته الآن وكل خططه غدت هباءً منثورًا تطأه الأقدام.
_ لتكن نقطة ضعفي، ما خطبك أنت؟
قالها آجار منفعلًا، فآثر ماهر الهدوء وتصنع الطيبة وقال بحنو :
– بُني، لا غرو إني أريدُ لك السعادة، السعادة لا تطرق باب أمثالنا إلا فيمَ ندر، أخشى أن يصيبها أذى فتتأذى أنت، ويصبح قلبك مقبرة للأموت تدفن ولا تعطي، أن علمت لمار الشرقاوي جدتك لن تترك تتهنا…
تبسم آجار ضاحكًا وقال متهكمًا باترًا حديثه :
– لا تعطي الأمور أكثر من حجمها، دع جدتي تهنئ بأيامها القليلة قبل أن أضرب ضربتي.
زفر ماهر بيأس، وقال فجأة كالمتذكر :
– أخيك جان لا خبر يأتي منه، ويبدو إنه لن ينفعنا بشيء، أنت الأمل الوحيد ومن سينتقم لأبيك.
– ها أنت ذا قُلت ” أبيك” أبي أنا وأنا من سينتقم له، وسأذق لمار معنى الموت حرقًا والموت حيًا.
ضرب بكفه على صدر ماهر مستأنفًا :
– أطمئن أنت وأسكن وشاهد فقط ما سيجري ولا تحمل همًا ، أخي يعرف ما عليه فعله بالوقت المناسب لا تقلق.
تنهد ماهر وكلمات آجار أرحته قليلًا وهمس في نفسه :
– سترين يا بنت الشرقاوي كيف أن عائلتك ستقتل بعضها بعضًا.
تنبه من شروده الماكر إلى نفخ آجار وهز قدمه فنظر له في تساؤل، فقال آجار باسمًا في برود :
– أنا عريس جديد لو تعلم!
كان طردًا غير مباشر جعل ماهر يبتسم بإصفرار وهو يربت على كتفه مهنئًا ورحل.
🍂 اللهم أغفر ليّ ذنبي 🍂
القرآن بصوتٌ خاشعٌ رخيمٌ يجعل القلب تلقائيًا في حالةً من الراحة مهما كان فيه خراب، مستكينًا، ساكنًا ولو قامت فيه القيامة، هادئًا مهما كان فيه ضجيج، راضيًا ولو حُمل ثقل الجبال همًا، كان صوتُ القرآن يغمر آرجاء المنزل أغمرارًا.
كان اليوم لدى الجميع مميز لأن وعد آتية هي وزوجها الفرحة تغمر القلوب ولو أن قلب الأم مكلوم على حالة أبنتها العاجزة.
سارت ناردين في الردهة حيثُ غرفة إسلام في حماس، وقبيل وصولها تسمرت قدميها وتهدل جسدها واتسعت حدقتيها مع استماعها لصوت إسلام الخافت :
– لا تقلق الأمر يسير كما خططنا وأفضل من ذلك، لم أنسى أنتقامي ولن أنسى إلا وأنا أرَ لمار في قبرها، سأقتلهم….
قتل! الكلمة تثيرُ الريية، وربما تثور في القلب فتقوم فيه حربٍ ضروس، لم تستطع ناردين على الأنتظار صبرًا في ثوانٍ كانت تستعيد رباطة جأشها وتزيح الباب الموارب وتسئل بحدة :
– قتل ؟ من سيقتل من؟ ما الذي تخطط له يا جان؟!
تفاجئ إسلام بها شر صدمة واستدار لها متصنمًا، وتوتر كفه القابض على الهاتف حتى كاد يسقط، وامتقع وجهه في بُهت شديد، لم ينبس ببنت شفة وماذا قد يقول؟
هل يخبرها بإنه ما جاء إلا للأنتقام ولو ساقه شوقه إلى هُنا.
رمش بعينيه وازدرد لعابه حين دنت منه وكررت سؤالها :
– لم تجبني؟ ما الذي تخفيه عني؟
لم تتلقَ ردًا سوا الزهول في عينيه، فـ هزته بعنف وهي تهتف :
– انطق يا جان ما الذي تخفيه عني؟ لو لم تنطق الآن والله لأهتفن في الجميع بما سمعت.
وأيضًا لم تحصل على رد فتركت كتفيه مبتعدة :
– إذن أنت من أخترت….
ما كادت أن تُنادي على افراد العائلة إذ كمم إسلام فمها بكفه مغلقًا الباب بكفه الآخر وهمس :
– حسنًا، حسنًا سأخبرك لا تتعجلين.
قاطعته ناردين بغضب وهي تدفعه عنها :
– أخبرني الآن كُلي آذانٌ صاغية.
قالت عبارتها وعقدة ذراعيها في انتظار ما سيقوله بلهفة رغم شعورها بأن ما ستسمعه لن يروق لها.
تأفف إسلام تأفف بائن، وأردف مسبلًا جفنيه :
– أبي….
نطق بها وأمسك ما بين عينيه بألم وهو ناكس الرأس، صمته أصابها بالريبة فتخلت عن صمتها سائلة برفق :
– أبيك!؟ ما به لم أفهم، تحدث يا جان.
رفع رأسه بمقلتين دامعتين وأستدار جالسًا على طرف الفراش مائلًا للأمام، وأسترسل :
– لقد قتلوه يا ناردين، حرموني منه.
جثت ناردين أمامه وسئلت وهي تمسك بكفيه بين كفيها :
– جان من الذين حرموك منه؟ جدتك لم تعرف من هم!
– بلى تعرف وهي من ساعدتهم، لا تتحدثي فيما لا يعنيكِ أنتِ لا تعلمين شيئًا.
صاح بها إسلام منتفضًا وقام من مكانه، فراعها حالته ونهضت مغمغمة :
– أفهمني يا جان ما الذي يحدث معك؟ وما هذا الذي تتفوه به؟
قص عليها عن مقتل أبيه وتفجير السيارة بأمر من والدته وعشيقها وجدته، فقهقهت ناردين بإنطلاق فنظر لها إسلام بدهشة وضيق ما بين حاجبيه حين اكفهرت ملامحها بغتة، ودفعته بحدة وهي تصرخ فيه :
– فيم تهذي أنت يا رجل بالله عليك أفهمني؟ هل يصدق المرء إيٍ من كان؟ إذن لو جئت وأخبرتك إني قتلت والدك ستصدقني؟!
حرك إسلام رأسها متعجبًا، وقال :
– ما الذي تقوليه كُفي هباءً.
– هباءً، أي هباء؟ لا أكذب أنا قتلت والدك لماذا لا تصدقني؟!
انسكب أدمُعها وهي تتابع بنبرة ممزوجة بالألم :
– كيف تفكر أنت؟ هل تحسب أن هذه العائلة قد تقتل أحد؟
جدتك التي تنشر الحق تلك العادلة ذات القلب الأسيف؟
والدتك تقتل؟! هل تفكر في معنى كلامك قبل أن تلفظه؟!
تلك المرأة التي كادت تفقد عقلها ما ان علمت أنك على قيد الحياة، التي لا تنام قبل ان ترآك كأنها تهاب أن تغمض عينيها وتصحو ولا تجدك، وما أن تصحو حتى تبحث عنك وتملأ عينيها منك.
تلك العائلة التي لم تسمح بذهابي ابدًا لمجرد إن غيابي سيحزن عزيزيهم واستقبلوني واعتبروني أختًا وبنتًا واصبحت ليّ عائلة.
احتدت نظراتها أكثر وصوتها الغاضب يعلو :
– لن اسمح لك، سأخبرهم عما اخبرتني به! أنت لن تؤذي هذه العائلة! وإلا ستخسرني يا جان وللأبد.
بلهفة كان يضم وجهها بين كفيه وانفرجت شفتاه بكلام انحسر بداخله، فكفكفت هي دمعها وأمسكت بكفه وهي تسحبه خارج الغرفة قائلة :
– تعال معي!
جذب إسلام كفه منها بحدة وهو ينهرها :
– ماذا تفعلين؟ أين تأخذيني.
– لا تخف لن يهين عليّ أن أخبرهم بشيء، سأجعلك تسمع الحقيقة من فم والدتك وتقرر، أظن أنك كبير وعاقل بما فيه الكافية لتعرف من صادق ومن يخدعك.
ولم تمهله سحبت ذراعه مرة أخرى، وأمام غرفة عائشة طرقت الباب وهي تهدئ من روعها، وما أن جاءها سماح عائشة للطارق بالدخول أذ فتحت الباب لتطل برأسها متصنعة الأبتسام وقالت بمرح :
– هل يمكننا الدخول يا ماما عائشة؟
اومأت لها عائشة وهي تربت بكفها على المكان الخالي بجوارها :
– ادخلا أنتما الاثنين.
جلسا بجانبها وانضم لهما هيثم، تنحنحت ناردين وقالت موجهة حديثها إلى عائشة :
– خالتي، كنتُ أريد رؤية عمي زين وجان أيضًا، أليس معك صورة له.
وجمت عائشة وارتسم على ملامحها الأسف وفي عينيها الشوق، بينما نهض هيثم قائلًا :
– كيف لا يكون معها يا ابنتي؟
تحرك نحو الخزانة وفتش فيها قليلًا وعاد جالسًا بألبوم صور اخذته منه عائشة بلهفة وعينيها تلتهم الصور وهي تقلب فيهم بحنين غمر فؤادها لساكنية، وراحت تقصُ عن زين جُل ما تعرفه حتى بعض الذكريات، وحين وصل الموضوع إلى يوم الحادث تولى هيثم السرد عليهما عنها حتى لا تؤلمها الذكرى أكثر ما تؤلم، وعن جنونها وما أصابها.
ما أن فرغ حل الصمت كانت دموع عائشة المشتاقة تحرق الفؤاد كأنها جدولٍ ماء من مساربها تجري، وغض إسلام الطرف مطرقًا فنهضت ناردين أخذه بكفه وقالت معتذرة من عائشة :
– خالتي، أعذريني لما سببته لكِ من ألم، سنرحل نحن.
ربتت عائشة على كفها برفق وما ان غادرا أنتقل هيثم بجانبها مطوقًا كتفها ليستريح رأسها على صدره واستسلمت لعبرتها التي انسابت كنهرين جاريين، مرت ملك من أمام غرفتهما فتابعها هيثم مدققًا في ملامحها النظر وهو يرد السلام، ثُم قال في شرود :
– ليه محدش مصدقني أن ملك فيها حاجة.
رفعت عائشة رأسها أليه بحدة وقالت مدافعة :
– هيثم، تاني؟ كم مرة قولتلك ملك مفيهاش حاجة، شمعنا أنت إللي متأكد انها بتعاني من حاجة.
أسبل هيثم عينيه بضيق :
– اتمنى أكون تحليلي كاذب ومش بتعاني من حاجة، دقيقة وراجع.
غادر الغرفة متابعًا ملك التي وجدها تقف ساهية فناداها فـ أستدارت له، فسئلها :
– عاملة إيه؟ في حاجة معاكِ؟!
فأشارة له بحيرة استبدت بها من سؤاله الذي بدى لها غريبًا :
– الحمد لله، لا مفيش، ليه؟
وضع هيثم يمناه في جنبه وهو يرد بتمعن :
– في…
شحب وجهها فجأة وأنتفض بدنها وفي عصبية كانت تهز رأسها بحدة، فهدئها هيثم بصوتٌ خفيض وشكوكه تثبت نفسها :
– اهدي يا ملك انا بسئل عادي.
اطمئنت فورًا وتبسمت له بسمة باهتة، فقال هيثم بهدوء وكلمات ذات مغزى :
– أنا موجود هنا معاكِ وجنبك في اي وقت، تمام.
اومأت له ملك وتهللت فرحًا ما أن تناهى لها وصول وعد فركضت بلهفة لتستقبلها.
🍂 اللهم يسر ليّ أمري 🍂
وقف مالك أمام غُرف إحدى المرضى ممسكًا بمقبض الباب بوجوم.
حائرًا في امر تلك الفتاة التي أسعفها أثر حادث كاد يودي بحياتها ومنذُ أن نجت وهي مشخصةً البصر في حالة صدمة زلزلت ثباتها، تعيش كأنها جسدٌ غادرته الروح دون عودة.
تحيا على المحاليل المغزية التي لولها لكان جسدها مواري الثرى الآن.
أمرها محير إنها لا تستجيب لأي من محاولته ليعرف حتى أسمها.
تُرى ما الذي عانته أوصلها إلى هذه الحالة؟
هل فقدت عزيزًا؟
أنَّى له ان يعرف ومع ذلك يجزم أن الأمر ليس بفقد.
صرخاتها ليلًا، وخوفها ينبئنه أنها تعاني من صدمةً ما عايشتها!
بكل مرها و وجعها.
اخذ نفسًا عميقًا زفرة بتمهل وأدار مقبض الباب ودخل مبتسمًا وجلس بجانبها ورغم إنه كان يثرثر إلا أنها لم تبد أي ردة فعل، وكأنه غير موجود.
تنهد مالك في يأس ونهض فاتحًا دلفتيّ النافذة فـ انتشر ضوء النهار في الغرفة، تحرك مالك مرة أخرى نحوها وقال مشيرًا إلى النافذة :
– موحشكيش الشارع، الناس، أهلك؟
وكلمة أهلك جعلتها ترفرف. بأهدابها في وجل، رفرفة لم يبصرها بسبب رأسها المتدلي على كتفها..
أسترسل مالك حديثه وهو يجلس :
– عدت فترة وأنتِ هنا، طب قوليلي حتى أسمك إيه؟
والرد كان يعرف إنه لم يأتي وأنه يحدث نفسه فقط ومع ذلك لم يفقد الأمل وهو يتابع :
– طب إيه رأيك ننزل الجنينة نتمشى سوا.
لم يتلق أي ردة فعل تريح حيرته، وأستائف بمرح:
– طيب قوليلي اسم عيلتك؟ أكيد أمك وابوكِ واخواتك قلقنين عليكِ، اصل الأنسان ميقدرش يعيش من غير أهل!
يعني مثلًا أنا مقدرش اتخيل يوم في حياتي مفيهوش امي وابويا وأختي وقرايبي اللي هما اخواتي بردوا.
يعتبر أنا بتكلم معاكِ هنا عن حاجات محدش يعرفها وأنا معرفش عنك حاجة، دا يرضي مين بقا؟
زفر بيأس، وقال بنبرة متريثة :
– إيه اللي حصل معاكِ عشان أقول لأهلك اكيد ابوكِ واخوتك الشباب هيقفوا جنبك مفيش غير الأب سند،سند لو مالت الدنيا كلها هو ميملش.
ولو حاربتك الدنيا كلها هو يدافع عنك.
ولو خذلك الكون هو ميخذلكش.
لو حد زعلك هيهد الدنيا عشانك يا بنتي الكون مش الدنيا بس هو ده الأب.
برقت عيناه بغتة وهو يرى دموعها المنهمرة بصمت فـ استرسل حديثه عن الأب ودموعها تذداد غزارة.
فـ أبتسم متآملًا خيرًا وقال :
– بما أنك أستجبتي أنهاردة دي اشارة حلوة بس لازم تتكلمي وتجوبيني، أسمك، سنك، عيلتك، أنتِ منين، متجوزة ولا لأ على فكرة انا بدور على عروسة.
وضحك بمرح قائلًا علها تستجيب لمحاولاته :
– اياكِ تكوني متجوزة انتحر هنا واوعى تكوني بتحبي، بتحبي حد هااا؟ يكون هو سبب حالتك دي؟
تحركت اصابعها بشيءٍ من العنف وزمجرت وانتفضت واقفة تصرخ بجزع وهي تنظر إلى شيء خلف زجاج الغرفة، تفاجأ مالك بحالتها تلك وما أصابها ولم يتسنى له السيطرة عليها ولا أستدراك ما بها إذا قبل كل شيء سقطت أسفل قدميه فاقدة الوعي وهي تهزي بكلمات غير مفهومة.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية  كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!