روايات

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5) الفصل العاشر 10 بقلم آية محمد

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5) الفصل العاشر 10 بقلم آية محمد

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5) الجزء العاشر

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5) البارت العاشر

نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5) الحلقة العاشرة

انجرفت السيارة عن الطريق الذي ظنته المنشود، وما أثار دهشتها عدم صعود أولادها معهما، مالت برأسها تجاهه وهي تحاول استكشاف الأمر دون حاجتها للسؤال وحينما فشلت في ذلك، تساءلت بريبة:
_احنا رايحين على فين يا ياسين، وفين الأولاد؟
لم يجيبها على سؤالها كما توقعت، فحافظة صمته لم تثيرها هي شخصيًا بل تثير عالم بأكمله، وكأن لا أحدًا يشاركه في قرار إتخذه هو بين لحظة وأخرى، لذا عادت لسكونها من جديدٍ وتركت وجهة المكان الذي ستذهب إليه لتجيب عن سؤالها الفضولي، فخمنت أنه ربما يتجه للمشفى التي ستلد بها “نور”، لذا ترقبت بصمتٍ ما سيحدث.
خاب أملها الوحيد حينما وجدته ينعطف بها بمسار بعيدًا عن الطريق، وكأنه يعزم على استقالالهم بعيدًا عن العوالم بأكملها، فودعت المنشئات والمباني بطريقٍ تمتد به الأشجار والأراضي الخضراء، وصولًا بمنازل بسيطة وكأنها بطريقها للقرى التي تعشقها منذ الصغر، وبالرغم من السعادة التي أطلت بقلبها فزرعت البسمة تلقائيًا على شفتيها الا أنها قالت بقلقٍ:
_ياسين احنا رايحين على فين، نور بتولد لازم نكون جنبها!
مزق رداء صمته العتيق حينما قرر أن يجيبها ساخطًا:
_نور بخير… ده مسلسل مسبكينه ولادك المعاتيه ومفكرينه هيدخل عليا.
تجعد جبينها من فرط دهشتها:
_وهما هيعملوا ليه كده؟
نفذت عسليته تجاهه بعدما انسحبت من مراقبة الطريق، ليخبرها ببسمةٍ أذهبت عقلها كالخمر المركز:
_هتعرفي دلوقتي.
وانجرف بطريق جانبي عن مساره المستقيم، ومن ثم توقف أمام متسع هائل يحده سور ويتوسطه باب خشبي صغير، هبط”ياسين” أولًا، وأغلق زر جاكيته البني الآنيق، وبكل ثبات اتجه للناحية الأخرى من السيارة، فتح بابها وقدم يده إلى من تتطلع له ببلاهةٍ، لطالما كانت يدها تحتضن لائحته القوية دون أي حديث، وهكذا فعلت، ضمت أصابعها بين يده الخشنة، واستندت عليه حتى لملمت أطراف فستانها الأزرق الهادئ، فأغلق باب السيارة واتجه بها للداخل، اتبعته وعينيها مازالت متعلقة بالمساحات الخضراء، فابتسمت وهي تخبره على استحياء:
_أنت عارف إني بحب المنظر الطبيعي ده جدًا.. عن أي مكان ممكن أروحه.
منحها نظرة دافئة، ونبرته الرجولية الفاتنة تتبع صوته الرخيم:
_ودي حاجة تفوتني في يوم مهم زي ده!
ازدادت حيرتها حول كشف ما يقصده، فسألته بحيرةٍ:
_يوم أيه؟ النهاردة مش عيد ميلادي!
تراجع بجسده تجاهها فانقطعت المسافة بينهما، تعمد أن تلفحها أنفاسه التي تدمنها لتستمع الى ما سيهمس به:
_النهاردة عيد اتولد فيه حبنا، وكل سنة بنحتفل بيه بتكون علاقتنا أقوى من السنة اللي قبلها.. النهاردة مش عيد جوازنا النهاردة ذكرى للحياة اللي قدمتهالي يا آية.
ارتعش جسدها لقربه منها، وكأنه مازالت عروس صغيرة، كلماته التي يتودد بها إليها تجعل قلبها يحفه الشباب حتى وإن كبرت بالعمر، حنانه يسقيها فيقوي من برعمها ورحيقها يفيض حينما يكون هو لجوارها، تركت يدها إليه، واتبعت خطاه للداخل، ومع كل خطوة تقترب بها كان قلبها يخفق بربكةٍ لا تزورها الا بوجوده، انتهى طريقهما القصير بمحفوف من الورود الحمراء تحيط بالمنتصف، توقعت أن ترى طاولة فخمة مزينة بالشموع وغيرها من الطعام الفاخر مثلما اعتادت منه، ولكن ما رأته جعلت عينيها تلمع بدموع السعادة التي تحتضنها بتلك اللحظة، لقد تمكن أخيرًا من أن يسعدها بأبسط الأشياء التي تحبها، وجدته يفترش الأرض بقطعةٍ من القماشٍ الأبيض وأعلاه كانت توجد سلة بها الطعام ولجوارها زجاجة من المياه والعصير الطازج، تركته وأسرعت لتجلس أرضًا تلتفت حولها في بهجةٍ وفرحة لمسها “ياسين” في ضحكاتها التي أنارت وجهها، فأخرج هاتفه ثم التقط لها العديد من الصور دون أن تشعر بما يفعله، تفحصت محتويات السلة، وأخذت تفرد الطعام وهي تشير له بالاقترابٍ، فدنا منها، ثم رفع قدميه وأزاح عنه الحذاء بعنفٍ وكأنه ينتزع كل ذرة غرور وسلطة امتلكها يومًا، ومن ثم جلس جوارها أرضًا، فساعدها على الكشف عن الطعام، فأزاح الأغطية البلاستيكية عنها، وفجأة وهو يضعها أمامها وجدها تمسك يده، فرفع عينيه تجاهها، ضمت أصابعه بين أصابعها وبتأثرٍ وحبٍ قالت:
_مفيش ذكرى حلوة ليا أنت مكنتش سبب فيها.
واسترسلت بعشقٍ:
_أنا بأحبك.
التفت خلفه قبل أن يذمجر بضيقٍ:
_أنتي مبتبقيش عاطفية كده الا واحنا برة!
ضحكت بصوتٍ طرب آذنيه، فانتقلت بمجلسها حتى باتت جواره، أبعدت الاطباق التي تفصل بينهما وهو يتابعها ببسمة صغيرة، فمالت برأسها على صدره واستغل هو فرصته التي منحتها له، فضمها بشغفٍ وحب :
_أي حاجة هتفرحك مستعد أعملها يا آية، أنا عايش علشانك أنتِ وبس.
وأبعدها عنه وهو يسترسل بمكرٍ:
_معتش عندي اللي يشغلني عنك بعد ما ابنك اخد مكاني.
وضم خديها بين كفه الخشن:
_هعوضك عن كل الايام اللي قضت أغلبها بالمقر والسفر.. فاضل بس أتأكد اني رميت المسؤولية على اللي يستحقها.
واقترب منها وهو يهمس لها بخبثٍ جعل وجهها يصطبغ بحمرة الخجل:
_وهعاقبك على كل لحظة كنتِ فيها بعيدة عني ومشغولة مع البنات.
عادت برأسها للخلف حينما تذكرت تفاصيل هامة، فتساءلت بشكٍ:
_انت عرفت ازاي انهم بيحضروا حفلة لينا؟
جذب أحد شرايح التفاح الموضوع بالطبق القريب منه، فتناولها بتلذذٍ عجيب:
_قولتلك قبل كده أدق التفاصيل بتوصلني وأنا مكاني هنا.
وجذب شريحة أخرى ثم قربها منها، فتناولتها ومازالت نظرتها تفتتن بعينيه التي منحتها الشمس لمعةٍ ساحرة، فقال وهو يدنو منها:
_لما طلعنا باليخت كنت حابب إننا نقضي اليوم ده كمان هناك، بس ابنك فاكر نفسه هيعرف يضحك عليا وأنا عارف إنه بيحضر الحفلة دي من شهر.
قالت وهي تبعد طرف الحجاب الطويل عن وجهها:
_حتى لو ده كان صح فأنا مش شايفة إنه عمل حاجة غلط يا ياسين، بالعكس هو حابب يفرحنا!
وضع طبق التفاح عن يده بعصبيةٍ أبرزتها نبرته:
_بالنسبالك، أنا مش بحب حد يحتفل معانا بمناسبة تخصنا أنا وانتِ وبس!!
خشيت أن تنزع الأجواء، فمالت بمسار الحديث لتخمين أخر:
_أكيد يحيى اللي قالك على اللي عدي بيحضرله.
ابتسم ساخرًا على طريقتها الواضحة بالتهرب ومع ذلك قال:
_يحيى نفسه ميعرفش.
زفرت بملل وهي تحاول التخمين، فقالت بتريثٍ:
_طب مين؟
قال والبسمة مازالت تستهدف ما أخفاه:
_ملاكي هي اللي بلغتني، محبتش يكونلنا شريك في السهرة الجميلة دي.
رددت بعدم تصديق:
_مليكة.. معقول!
رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ من تعجبها:
_مش معقول ليه.. مليكة أقرب ليا من المعاتيه ولادك.. وبتحب تشوفني أنا بالأخص سعيد.
ضحكت على رؤيته لمنظور الامور من وجهته هو، وقالت بسخريةٍ:
_لأنها بتعمل اللي يريحك دايمًا، لكن عدي بيعاند وده مخليكم زي ناقر ونقير.
بتعابيرٍ ثابتة تلصص بنظرة جعلتها تتطلع لنفسها بشكٍ من وجود خطبٍ ما بما ترتديه، فاتاها رده الساخر:
_زي ما قدرت أشكك في نفسك أقدر أخليه يلف حولين نفسه، بس كل حاجة في وقتها كويسة.
وجذب أحد اطباق اللحم ثم وضعها أمامها وقدم لها ملعقة:
_ متفكريش في اللي جاي.. الأكل هيبرد!
انصاعت إليه والتقطت الملعقة ثم بدأت بتناول طعامها على مهلٍ.
*********
توهج قرص الشمس البرتقالي على الأشجار وقت الغروب جعل أوراقها تتمايل بخفة استسلامًا لتلك الأجواء العاطفية، وبالرغم من ذلك لم تجذبه جمال الطبيعة الخلاب مثلما جذبته هي، كان يتطلع لها وهي تغفو على قدميه براحةٍ وسكينة، انعكست على قلبه الذي يدق حبًا لها، انسحابها من اللقاء القصير بينهما جعله ينفرد بدفترها الحبيب، ففتحه بيده واليد الأخرى يربت على جسدها الغارق بنومٍ هنييء، ففتح أحد صفحاته وبدأ بالقراءة الصامتة بين ما دونته معشوقته وأرادت أن يختبر تلك المشاعر التي استحوذت عليها طوال تلك الأيام، فتعلقت عينيه على أول كلماتها.
لا أعلم ما الذي سأدونه بتلك الورقة من دفتري الخاص، ربما قذفتني أمواج الذكريات العاتية لذكرى كانت فارقة بحياتي الماضية، مازلت أتذكر ذلك اليوم جيدًا، وكأنه جزء من حياتي التي وشمها العشق الأبدي، ولأكن صريحة مع نفسي لم انال تلك المرتبة السامية من غرام دنجوان آل الجارحي بسهولةٍ، إجتزت الكثير من العقبات وأهمهم “الخوف”، فعلى الرغم من أن قلبي كان وطنٍ لغرامه وعشقه الا أنني كنت خائفة، ربما لأنني كنت بذلك الوقت بالشهر التاسع من حملي بابنتي”مليكة”، عسى ما يسيطر علي هو انعكاس لتقلبات هرمونات الحمل التي اختبرتها سابقًا في أول حمل لي، ولكن تلك الفترة ازداد الأمر بطريقة جعلتني بائسة، فخوضت فترة ليست هينة، أعاني بها من اضطراب جعلني أرغب في البقاء منعزلة عن الجميع لفتراتٍ طويلة، حتى عنه، عن أقرب شخص لي، الوحيد الذي بدونه ينتهي كل شيء وكأن بغيابه تغيب شمس الحياة عن كهفي المظلم، ولأكن صادقة أن من كنت أعترض حياتنا بتلك الفترة بالكثير من التعاسة والمشاكل، لست أدري لماذا؟
مازال شبح هذا اليوم يطاردني، كنت قد استيقظت من النوم وكعادتي اتجهت لمطبخ القصر لأعد وجبة فطار سريعة قبل أن يستيقظ ويغادر لعمله دون أن يتناول شيء كعادته، فأسرعت بترتيب الطاولة وترقبت لحظة نزوله، ولم أكن بحاجة للتطلع للدرج حتى اكتشف ذلك، فلقد اخترقت رائحة عطره النفاذة أنفي، فأخذت أترقب تلك اللحظة التي سأنعم بها بدفء عسلية عينيه الساحرة، عناق كل صباح، كلماته الهادئة التي تنعكس تأثيرها علي، ولكن كل ذلك بات رمادًا فور أن اقترب مني، انعقد حاجبيه بشراسةٍ وغضبٍ تابع حديثه المندفع:
_تاني يا آية!!! مش قولتلك متتعبيش نفسك الفترة دي؟
ابتلعت ريقي بصعوبةٍ فأنا لا أود أن أختلج أي خلافات صباحية بيننا، أنا فقط اريده أن يمنحني ابتسامة ويضمني لصدره علني أتمكن من السيطرة على تلك المشاعر القاسية التي تقاتلني منذ فترةٍ كبيرةٍ، فمنحته ابتسامة مصطنعة وليته شعر بذلك حتى لا يطيل بصرامته القاسية:
_أنا متعبتش نفسي في حاجة يا ياسين، أنا يدوب طلعت الجبن وعملتلك عصير.
نظراته الثاقبة تجاههي لم تتغير حدتها أبدًا بل ازدادت وختمها بقوله:
_مصممة تكسري كلامي دايمًا.. لا وواقفة تبرري كمان!!
صرخ بوجههي وهو يستكمل حديثه الغاضب:
_متحاوليش تناقشيني في قرار الدكتور اللي واخده بنفسه، هو اللي يعرف أكتر منك أيه اللي يصح ولي ممنوع.
وأشار بيديه تجاه الدرج وهو يصيح بجنون:
_اطلعي الأوضة وارتاحي مفيش نزول تحت الا لما تبقي أحسن.
تطلعت تجاه إصبعه الذي يشير للدرج، وكدت أن أتبع تعليماته حتى لا تثور عاصفته وأغرق بين أمواجها، ولكن ثمة شيئًا أوقفني ودفعني لأن أجابهه للمرة القليلة التي فعلتها بحياتي، فرفعت صوتي باعتراضٍ لما قال:
_لا مش هطلع يا ياسين، وهعمل اللي يريحني أنا مش يريحك أنت والدكتور، أنا اتخانقت من القعدة ومحتاجة أنزل واتحرك.
أظلمت عينيه واختفى لونها العسلي الذاهي، فاقترب مني بسكونٍ علمت بأنه هدوء ما قبل العاصفة، ومع ذلك بقيت صامدة بمكاني وكأني أترقب الجزء القادم، أمسك بمعصمي بين يده الخشنة، وقربني اليه وهو يردد بحدةٍ:
_بتتحدايني يا آية؟
انتشلت ذراعي عنه وأنا أخبره:
_أنت بتشوف أي تصرف ليا عناد وتحدي، حتى ابنك اللي مكملش تمن سنين شايفه عنيد وبيخالفك، أنت اللي محتاج تفوق من أوهامك دي أنا خلاص تعبت منك ومن طريقتك في التعامل معانا.
ورغمًا عني انهارت دمعتي خارج قلعتي الخاصة واسترسلت بصوتٍ متقطع:
_تعبت من كل حاجة، المفروض اني بحبك وبستنى لحظة رجوعك للبيت بفارغ الصبر بس في خوف بيتزرع جوايا أول ما بشوفك ونفسي أتخلص منه.
بالرغم من أن حديثي حاد وسليط الا أنه لم يهز صرامته وثباته المهيب، ظل يتأملني بثباتٍ جعلني أنا من سيقتل غيظًا، وببرودٍ وجدته يقول:
_خلصتي؟
تأملته باستنكارٍ، وخاصة حينما قال:
_تمام.. يلا اطلعي فوق.
خيبة الأمل اجتاحتني حينما شعرت بأن حديثي لم يؤثر به، فكدت أن أجن وأنا أحاول أن اجد ما أفعله لأخبره بأني حزينة تلك المرة جديًا ولست أعاني من الهرمونات اللعينة التي كرهت تصينفها، فوجدتني اصيح به:
_مش طالعه.. أنا سايبلك البيت خالـص يا ياسين.
رفع أصبعه يحك ذقنه النابت، وتطلع تجاهي بنظرةٍ ماكرة، لم أفهمها الا حينما وجدته يقترب مني، فانحني ووضع يديه أسفل قدمي ومن ثم حملني بين ذراعيه وصعد بي الدرج وأنا أصرخ بانفعالٍ:
_سبني بقولك مش عايزة أطلع.
وضعني على الفراش، ثم مدد الغطاء على جسدي الذي كان يرتجف من فرط البكاء المكتوم، والذي ازداد ليصبح ملموسًا، فهمست من بين دموعي الحارقة:
_أنت مش بتحبني، ومن وقت وفاة بابا وماما وأنت بقيت قاسي في التعامل معايا عشان عارف إني ماليش غيرك ولا ليا مكان أروحله.
زوى حاجبيه باستنكارٍ لما أقوله، حتى أنا انتباني حيرة وصدمة مما تفوهت به بذلك الوقت ولا أدري كيف قولت ذلك، وما شأن موتهما بما يفعله هو، حاول بكافة السبل السيطرة على أعصابه وأشهد له ذلك، فضم مقدمة أنفه بين يده ثم قال بنبرةٍ حاول أن يجعلها هادئة:
_مش لازم أتعصب عليكي وأنتي في الحالة دي، كلها أسبوع وتولدي وساعتها هيكون لينا كلام تاني.
وتركني وغادر بكل كبرياء لا يليق سوى به، وأنا أتابعه بغيظٍ، سحقًا لما يمتلكه من وسامة وهالة رجولية لا تليق سوى به، فكدت أن أصيب بالجنون وأنا أتامل تلك الابتسامة السخيفة على وجههي وأنا أتابع رحيله، فانتفضت بلحظةٍ وكأن أصابني ماس كهربائي وصحت بتهورٍ:
_أنا مش مجنونة… متمشيش وتتجاهل كلامي.
وحينما لم يعود لسماعي كما توقعت ذلك استشطت غضبًا وصرخت بتهديدٍ عله يعود:
_ماشي يا ياسين هترجع ومش هتلقيني.. هسيبلك الدنيا كلها وهمشي.
ظننت بأنه سيتوقف بعد سماعه تهديدي، وسيعود حتمًا لشن حربًا جديدة بيننا وكعادته لن يقبل بالهزيمة وربما هذا سيرضيني وسيرضي الحالة الغريبة التي تسيطر علي، ولكنه لم يتوقف عن الابتعاد حتى صعد لسيارته، فاختطفته من أمام عيني وبقى الفراغ هو من يصاحبني، بقيت لأكثر من ساعة احاول أن أوقف نفسي عن اتخاذ أي قرار أحمق في وقت كان القصر به ساكنًا، الجميع بعملهم والاغلب مازال بغرفهم يساعدون الاولاد على الذهاب للمدرسة، على عكسي كنت أترك كل تلك الامور لشقيقتي “دينا” في تلك الفترة المتعبة من الحمل، حتى إن ذهبت فعدي يرفض أن يقوم أحدًا بمساعدته وكأنه ولد رجلًا بالغًا!!
ليتني ذهبت للاهتمام بعمر على الاقل كنت سأترك تفكيري السييء يمر، بل ازداد بي ودفعني للنهوض وتغير ملابسي والأبشع من ذلك بأنني بالفعل تركت القصر وغادرت بأحد سيارات الأجرة من الباب الخلفي حتى لا يراني الحرس، كانت تلك أبشع لحظة اختبرتها، ظليت لساعتين بالسيارة وكلما يخبرني لأي وجهة يتجه كنت اخبره بأن يمضي فحسب وحينما سنصل سأخبره، كنت أصمته وأنا تائهة في عالم وجدته لا يناسبني، علني بدونه لا أجدني على قيد الحياة، وكأن هو وجهتي ومنزلي وكل ما امتلكت من ثروة! بربي إلى أين سأذهب وهو موطني؟!
أغرقت عيني بالدموع وأنا أجدني وحيدة من دونه، لا أجد سبيل ينجي تعاستي وانكساري بتلك اللحظة سواه هو، مل سائق التاكسي من هذا الطريق الذي لا نهاية له، لذا طلبت منه أن يتوقف ودفعت له مبلغ طائل من المال فبالطبع أنا زوجة “ياسين الجارحي” لذا كنت أحمل العديد من بطاقات الإئتمان ومبلغ كبير من المال ولكن مع ذلك بقيت فقيرة، تائهة بذلك المكان دونه!!!!!
كان لشمالي فندق قد اوقفته على عتبته لأستقر به، ولكني لم أجرأ على الاقتراب منه وكأنه مقبرة ستبتلعني بداخلها، انهمرت دموعي وأنا ابحث حولي بخوفٍ، وكأنني اتمنى رؤية التاكسي من جديدٍ لأخبره بأن يعود بي مثلما أتى بي، وحينما لم أجده فقدت التحكم بنفسي التي ظننتها قوية لتواجه ما قدمت أنا لفعله، فتراجعت للخلف وقد خانتني قدمي فجلست على الحجارة الموضوعة جانبًا، وتطلعت لأوجه المارة بخوفٍ، كأنني أبحث عنه بينهم!!
أحمقاءٍ أنا، أنا من دفعت بنفسي هنا لتلك النقطة التي ظننت بأنها ستنهي كل عناء خضته، ظللت ساعة كاملة لا أفعل شيئًا سوى البكاء، وفي تلك المدة كان يقترب مني الناس في محاولةٍ لمساعدتي وبالطبع كانت أهم أسئلتهم«من أنتي؟ ، ولماذا تبكين؟ ، وأين عائلتك!»
كيف سأجيبهم وأنت عائلتي وكل حياتي، فأنت يا سيدي لم تسيطر على مشاعري وكياني فحسب بل استهدفت روحي وقلبي وكل ما امتلكته يومًا، وكأن لك الحقوق كاملة بما يخصني ولست أدري ماذا أمتلك منك؟
توقفت عن سؤالي الأحمق وانا أتحسس بطني المنتفخ، أنا أمتلك قطعة منه تنمو بداخلي!! امتلك منزل كبير صنعه بكل حبٍ لي، ويزينه شبيهه “عدي” ابني الذي ابتسم بكل حبٍ وأنا اجده يشابهه، و”عمر” الدكتور الصغير الذي يهتم بي ولصحتي دائمًا، أمتلك قلبه وعشقه وخزينة غرامه ومشاعره..
يا الله ماذا فعلت بنفسي!!!
لم اجدني سوى أزداد بالبكاء ولا أجيد أي تصرف صائب بتلك اللحظة، فاحتضنت ذاتي واخذت ابكي بصمتٍ، ولوهلة توقفت عن البكاء وأنا أردد
«التليفون!!»
نعم اهتدى عقلي الاحمق للهاتف الذي احمله بحقيبتي، فتحتها بكل لهفة ولم اهتم بما سقط منها من هويتي وبطاقاتي، وكأن هاتفي هو النجاة لي من هلاكٍ عظيمٍ، قربته الي وبابتسامة واسعة اتصلت به، وترقبت كل لحظة لسماع صوته، فوجدته بعد دقيقة كاملة يجيبني وهو يردد بسخريةٍ:
_اتصلتي يبقى أكيد هديتي وعقلك رجعلك.
تهاوت دموعي وأنا أحاول أن اسيطر على ذاتي ولكني وجدتني اناديه بدموعٍ:
_ياسين.
ارتعبت اوصاله وهو يتساءل بهلعٍ:
_مالك في أيه؟
حديثي لم يكن متناسق كحالي، فقولت بتشتتٍ:
_تعالى خدني من هنا، أنا مش عارفة أنا فين… وخايفة اوي.
لم اكن لحاجة لأكون جواره حتى اراه، سمعته يجذب مفاتيح سيارته ويهرول بخطوات سريعة حطمت طقوسه الثابتة التي تخص أحد قواعده، ودون أي تردد قال:
_اهدي… أنت فين أنا راجع القصر حالا.
انفطرت بالبكاء وانا أخبره بخوفٍ:
_أنا مش بالقصر، أنا مشيت عشان انت معبرتنيش وروحت الشغل من غير ما تسمعني..
ظننته سيغضب ويثور ولكن عكس ما ظننت وجدته هادئ يخبرني:
_مش مهم.. قوليلي أنتي فين وأنا جايلك حتى لو كنتي بأخر الدنيا.
ابتسمت وعودت مجددًا للبكاء وانا اخبره:
_مش عارفة أنا فين.. تعالى خدني ورجعني القصر أنا خايفة.
وكأنه سيلوح بعصا سحرية وسيجدني بأي طريقة، بلهاء انا منذ اتخاذي لقراري الأحمق حتى وصولي لتلك اللحظة، ومع ذلك قال:
_اهدي ومتحاوليش تحسسي اللي حواليكي انك تايهة، أنا هجيلك متخافيش.. هحاول أحدد موقعك وهوصلك بأقرب وقت.
وطوال تلك الساعات لم يتركني، كان يطمني بين وقتٍ والآخر عبر الهاتف، طال بي الفراق دونه وظننته دهرًا كاملًا، لحظات قصيرة ولكنها والله مرت على قلبي كعجاف أعوامٍ جردت نضارته وجعلته كالصحراء القاحلة، ولاحت ببصيص من الأمل حينما وجدت سيارته تقترب، فتراقص قلبي فور أن رآه يهبط من سيارته ويدنو إلي مسرعًا، لهفتي وشغفي تجاهه عماني عن رؤية الغضب الساكن بعينيه، كان يندفع تجاهي بانفعالٍ وأنا اركض تجاهه، فارتميت على صدره أبكي وأفرغ من احتبسته هنا لساعات، بكيت وتمسكت به وأنا أردد برعشة اجتازتني وكأنني أعيش شتاء منعزل بليالي الصيف الحارة:
_مش هعمل كده تاني.. أنا آسفة.
هدأت أنفاسه المضطربة وكأنه شفق على حالي، فرفع ذراعيه وضمني إليه بكل قوته، فشعرت بأن قدمي تخونني للمرة الثانية، تحملت عليه وأنا على ثقة تامة لن يدعني أسقط أرضًا، ارتخيت وأنا أثق بأن بوجوده سيكمن أماني، لن أتضرر بشيئًا وهو يمسك بيدي، فخلع عنه جاكيت بذلته الأسود وضم جسدي البارد به، فرفعت عيني إليه استكشف هل مازال غاضبًا؟
وجدته يتأملني بحنان ويتساءل باهتمامٍ:
_حاسة بأيه؟
وددت أن أخبره بما يضرب رحمي من ركلات حادة ولكني خشيت أن أعود به لغضبٍ جديد، فما فعلته لم يكن سهلٍ بالمرة، لذا رسمت بسمة مخادعة وأنا اخبره:
_لما شوفتك اوجاعي كلها إختفت.
وعودت لاحتضنه من جديد وأنا لا أبالي بمن يراقبوننا، أنا أحيا من جديد بين ذراعيه ولن أجازف بهلاكي مجددًا، صعد بي للسيارة وإتجه عائدًا لمنزلنا مجددًا وكنت بتلك اللحظة أستوطن كتفيه وهو يعافر للقيادة بيده الأخرى، كنت ارتجف خوفًا من ان يعاتبني على ما فعلته وأتمنى أن لا يتحدث عن ذلك الخطأ، وفجأة شعرت بأن روحي تنتزع مني وذلك الوجع يعود ليضرب أسفل بطني مجددًا، فبكيت بصمتٍ وأنا أعلم طبيعة هذا الألم، فسبق لي وخضته بولادتي الأولى، فاق الألم حد تحملي فضغطت بيدي على قميصه حتى تحررت أزرره الأولى من شدة ضغطي عليه، فأوقف السيارة وهو يسألني بشكٍ:
_فيكِ أيه يا آية، قوليلي؟
تطلعت له بدموعٍ تمكن من رؤياها جيدًا وأخبرته بصوت مهتز كحال قلبي:
_أنا حاسة إني بولد.
لكم دركسيون السيارة بعنف اتبع نبرته:
_وساكتة من ساعتها!!!
ببكاء اخبرته:
_خايفة تعاقبني على اللي عملته… وأنا السبب في كل اللي حصل معايا ..
بكيت وأنا اترقب ما سيدفعني به موجة غضبه، ولكنني وجدته يحتضني مجددًا ويقبل رأسي وهو يهمس لي:
_مفيش حاجة تهمني في الوقت ده غير انك تبقي كويسة إنتِ واللي في بطنك.
وأزاح دمعاتي بأصابعه، ثم عاد بالسيارة وبسرعة اجتاز السيارات لنصل في دقائقٍ معدودة للمشفى، فحملني وأسرع بي لغرفة العمليات وهناك وجدت طبيبي الخاص، لم يشغل عقلي بلحظاتٍ تخديري سوى ابنتي، تمنيت ان لا تتأذى بسبب قراري الجنوني وتصرفاتي الحمقاء التي لا تتناسب مع شخصيتي أبدًا، وقد منا الله علي حينما استمعت لصوت بكائها ووجدت الطبيب يحملها ويقترب مني وقبل أن يصل إلي اتجهت نظراته لمن يقترب منه،فوضعها بين يديه وأنا اتابع ما يحدث بدهشةٍ، حملها “ياسين” بين ذراعيه والابتسامة انعكست على تعابيره، وأخذ يقبلها مرارًا وتكرارًا، لم أراه بتلك السعادة وهو يحمل “عدي”و”عمر”، كان بعالم غير موازي لعالمنا، حملها لاكثر من ثلاثون دقيقة ولم يشعر بنا لجواره،حتى بعد أن تم نقلي لغرفة عادية ظل يحملها، وازدادت سعادته حينما فتحت عينيها، فقال بفرحةٍ:
_فتحت عيونها..
وقبلها وهو يردد:
_نورتي يا ملاكي..
فتحت ذراعي إليه فعلم بأنني أيضًا أرغب بضمها لصدري، فحملها ووضعها لجوار رأسي، قبلتها وأنا أهمس لها دون أن يستمع لحديثنا السري:
_قدومك حقق معجزة في شخصية ياسين الجارحي!..
وابتسمت وانا اخبرها:
_هسميكي مليكة.
وتطلعت تجاهه وأنا أبحث عن تأثير الإسم به، فوجدته يبتسم ومال على رأسي يطبع قبلة عميقة وهو يهمس من بين أنفاسه:
_هتتسجل بيه”مليكة ياسين الجارحي”..
عودة للوقت الحاضر..
طوى” ياسين” صفحة الدفتر بابتسامةٍ شقت الطريق على شفتيه وهو يقرأ ما دونته “آية” عن ذكرى هذا اليوم، أراد أن يعيش كل ذكرى خاضوها معًا واحتفظت بها زوجته بين صفحات الحاضر، فضمها إليه وهو يهمس بثباتٍ:
_مفيش شيء بيفوتك يا آية، كأنك مرآيتي وإنعكاسي!
ووضع الدفتر بحقيبته الصغيرة، ثم حملها بين ذراعيه واتجه بها لسيارته، فوضعها على المقعد ولف حزام الآمان حولها بحرصٍ، ويده تتعلق بيدها مثلما اعتاد، فانحنى ليطبع قبلة عميقة على جلد يدها، وانتصب بوقفته وهو يتأمل تلك المساحات ببسمة ساخرة:
_جبتك أكتر، مكان كنتي حابة تكوني فيه وبالرغم من كده سبته وروحتي في سابع نومة… قوليلي بس أعمل أيه تاني!
ومال تجاه السيارة وهو يسترسل:
_حتى لو فضلنا دقيقة واحدة مع بعض بدون ما يكون حد معانا بالنسبالي كفايا عن يوم كامل مع حد يشاركني فيكِ!
وانحنى ليجذب جاكيته من مقعده الخاص ثم داثرها به واتجه للمقعد مجددًا ليقود سيارته عن أخر رحلة جمعتهم معًا، وبالنهاية مهما طال غياب المهاجر ينتهي يومًا ما بعودته لموطنه، والآن حان موعد عودة دنجوان آل الجارحي لمملكته الخاصة، ربما ينتظره العديد من القضايا والمناقشات الهامة وأولهما حرب سيقودها ضد ذاك العنيد الذي مازال يجابه ويحارب كل ما يقابله……… ربما حان الوقت لنقود حربًا خاصة من نوعها عنوانها #ترويض_الشرس(أحفاد_الجارحي5..) وكالعادة يا سادة نحن نتذكر قانون أساسي لا ينبغي علينا تجاهله «لا حرب يقودها ياسين الجارحي ويكن طرف الخسارة من حلفه» ريثما ستطول المعركة ولكن النصر سيكون حلف للدنجوان الذي اعتاد الحرب بأفضل ما يمتلك!

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (نوفيلا لحظات خاصة (أحفاد الجارحي 5))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى