روايات

رواية وما ادراك بالعشق الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الجزء الرابع والعشرون

رواية وما ادراك بالعشق البارت الرابع والعشرون

وما ادراك بالعشق
وما ادراك بالعشق

رواية وما ادراك بالعشق الحلقة الرابعة والعشرون

قبل ثماني عشر عامًا …
-مبروك يا لينا.. ألف ألف مبروك !
توجهت “رحمة” نحو صديقتها المقرّبة.. تهنئها بحرارةٍ و تقبلّها على خدّيها ..
تمسكت “لينا” بيدي “رحمة” بشدة و هي ترد عليها بابتسامة واسعة :
-رارا حبيبتي.. Thank You يا روحي.
انتقلت “رحمة” إلى خطيب صديقتها الواقف إلى جانبها مباشرةً.. مدت يدها لتصافحه و تهنئه بدوره :
-مبروك يا حازم.
صافحها المدعو “حازم” قائلًا بامتنانٍ :
-الله يبارك فيكي يا مدام رحمة.. وحقيقي احنا إللي بنشكرك على الحفلة الجميلة دي في الريسترانت.. ماكنتش متخيّل انها تطلع بالروعة دي.. مش عارفين نشكرك إزاي !
رحمة برقتها المعهودة :
-ماتقولش كده يا حازم انت ماتعرفش لينا دي تبقى إيه عندي.. لينا أكتر من أختي و دي أقل هدية ممكن أقدمهالها في يوم زي ده.
هتفت “لينا” على الفور مجتذبة ناظريّ صديقتها :
-لأ يا قلبي مافيناش من الزوغان.. انتي وعدتيني بهدية تانية خالص و من زمان أوي.. ناسية و لا أفكرك ؟
انبلجت ابتسامة عريضة على وجه “رحمة”.. و قد تذكرت ذلك الوعد الذي قطعته منذ مدة طويلة.. بالطبع لن تتركها “لينا” تفلت الليلة قبل أن تبر بوعدها.. و لكنها ليست واثقة …
-لينا كان نفسي بجد ! .. رددت “رحمة” و هي تهز كتفيها
سارعت “لينا” بلهجةٍ قاطعة :
-بقولك إيه مش هاقبل بأي رفض و حجج.. انتي وعدتيني يا رحمة !!
عبست “رحمة” حائرة و هي تقول :
-يحيى مش موجود.. لو كان هنا كنت نفذت وعدي ليكي.
لينا باصرارٍ : ماليش دعوة.. يحيى بيه مش هايبوظ يوم خطوبتي مش كفاية ماحضرش.. بجد يا رحمة هازعل منك و الليلة هاتبوظ انتي حرة !
حاصرتها “لينا” هكذا.. لم تجد “رحمة” مهربًا منها.. و لبرهةٍ حانت منها إلتفاتة إلى الجمع الغفير من حولهم.. مجموعة من أصدقاء “لينا” و رواد المطعم على مختلف الأجناس.. عرب و أجانب ..
اقترب أحدهم من حلقة العروسين و صديقتهما المقرّبة.. و قد كان رجلًا انجليزيًا يعمل بمجال الإعلانات.. يُعد صديقًا لخطيب “لينا”.. لكنه فور أن وصل ليحضر الحفل شعر بانجذابٍ رهيب لوجه “رحمة”.. ثم لها كلها …
-ألا تعرفني بعروسك الجميلة يا حازم ؟
التفت ثلاثتهم إلى الضيف المهم.. تهللت أسارير “حازم” و هو يقدّم عروسه متحدثًا بالانجليزية :
-مارك.. ألا أفعل يا صديقي ؟ أقدم لك لينا الشقيري.. خطيبتي و عربية مثلي ..
و قدّمه كذلك لخطيبته : لينا هذا مارك والاس.. تعرفينه بالطبع !
أومأت “لينا” مبتسمة :
-بالتأكيد أعرفه.. سررتُ بلقائك يا مارك.
و صافحته.. بينما عينيّ الأخير لا تحيدان عن “رحمة” و هو يرد :
-بل إنه لمن دواعي سروري أنا حضور حفلٍ مميز و ساحر كهذا.. و لكنّي الآن أرى وجهًا أشدّ سحرًا أمامي.. أحب كثيرًا أن أنال شرف التعرّف بكِ سيدتي !
الآن.. يبدو جليًا بأنه يُخاطب “رحمة”.. “رحمة” التي رفعت حاجبها مستغربة نظراته إليها.. لكنها تخطتها و قالت بابتسامةٍ مغرورة تعلّمتها على يديّ زوجها :
-أشكرك على المجاملة اللطيفة.. و يسعدني أن يعجبك الحفل لقد بذلت مجهودًا خرافيًا ليخرج كما تراه ..
و رفعت رأسها بشموخٍ معرّفة نفسها دون أن تمد يدها لتصافحه :
-أعرّفك بنفسي.. أُدعى رحمة جابر.. أنا أدير هذا المطعم و أملكه في آنٍ.
رمقها “مارك” باعجابٍ هازًا رأسه الأشقر و هو يقول :
-حقًا ؟ تبدين صغيرة للغاية على أن تكوني سيدة أعمال.. كم عمرك ؟
رحمة بثقة : عمري تسع و عشرون عامًا.. و لست صغيرة مطلقًا بل أنا زوجة و أم لطفلة في العاشرة من عمرها ..
و تجاهلته كليًا بعد ذلك موجهة كلماتها إلى صديقتها :
-أوكي يا لينا.. عشان خاطرك بس هانفذ وعدي حالًا.. و يارب يحيى مايزعلش لما يعرف أحسن ده زعله وحش أوي زي ما انتي عارفة !
و ضحكا معًا قبل أن تنسحب “رحمة” متجهة صوب منسّق الموسيقى.. وقفت لدقيقةٍ تفكر في الغنوة المناسبة.. و لكن كل تفكيرها مقترنٌ به هو.. و النتيجة إنها لم ترهق عقلها طويلًا.. طلبت من المنسّق وضع غنوة عربية قديمة الإصدار بعض الشيء ..
ثم مشيت صوب منصّة الرقص التي خلت لأجلها الآن مع تصاعد الأنغام الشرقية المميزة.. ثوانٍ و صدح صوت المطربة عبر مكبرات الصوت الموزعة باتقانٍ.. و بدأت “رحمة” بالتمايل مع الكلمات التي لامست قلبها بل و اعتصرته و هي تتخيّله ماثلًا أمامها بعد طول غياب …
بدمـــــوعي سألتك
لو في قلبك حزن قد اللي في قلبي
كنت تسيبني.. تسيبني.. تسيبني
بدموعي في حضنك سيبني
أحكيلك.. أشكيلك
وهقولك على اللي تعابني
كنت تسيبني.. آه تسيبني.. تسيبني
وفي قلبك كلام بياخدني
من ناري.. لمراري
للشوق اللي بيدوبني
يا هاجرني.. إرحمني وإسمعني وإفهمني
يا حبيبي.. ريحني.. على قلبي طمني
وسيبني.. سيبني
بدموعي في حضنك سيبني
كنت تسيبني
تستقطب “رحمة” أنظار الحضور.. بينما هي في إندماجٍ تام مع الموسيقى و الكلمات.. خصرها يتلوّى ببراعةٍ منقطعة النظير.. كل قطعة بجسدها تتحرك بتناغمٍ و لا تفكر في أيّ شيء الآن سواه.. زوجها.. و مع عميق أسفها الرجل الذي تحب..غائبٌ عنها لخمس أشهر حتى الآن.. لأول مرة يبتعد عنها مدةً كهذه.. كل ذكرياتها مع تلك الغنوة ترتبط به وحده.. إذ لطالما قامت بأداء رقصها عليها أمامه كلّما أرادت أن تعاتبه و تسترحمه.. أين هو الآن !؟
تواصل “رحمة” التمايل شمالًا و يمينًا بدلال متحكمة باحترافية في حركات الصدر و الذراعين.. رابطة أحزانها و آلامها على خصرها و هي تنسجم بكل حواسها مع المقطع التالي للغنوة …
يا ناسيني.. نسيني وفحضنك خبيني
من البعد اللي بيعذبني.. يا هاجرني إرحمني
وإسمعني وإفهمني.. يا حبيبي ريحني
على حبي ليك طمني
كنت تسيبني.. تسيبني.. تسيبني
ده في قلبك كلام بياخدني
من ناري.. لمراري
والشوق اللي بيدوبني
وكنت تسيبني.. ما تسيبني.. سيبني
بدموعي في حضنك سيبني
أحكيلك.. أشكيلك
وهقولك على اللي تاعبني
كنت تسيبني
و انتهت الغنوة.. لينفجر هتاف الحشد و التصفيق الحار.. و لتفيق “رحمة” من رؤى هواجسها بزوجها على واقع لا وجود له فيه بجوارها ..
ابتسمت و هي تتلقّى الثناء من الجميع و تستمع إلى المجاملات ..
أتى فجأة المدعو “مارك” مقدمًا لها كأسًا من الشراب و قال و هو يكاد يلتهمها بنظراته المنبهرة :
-لا شك إنكِ بحاجة إليه بعد الأداء المذهل الذي قمتِ به !
اعتلى الضيق نظرات “رحمة” و تعمّدت إظهار كم إنها مجبرة على التعاطي معه كرمى لصديقتها و ليلتها المميزة فقط …
-أنا لا أشرب ! .. قالتها “رحمة” بضجرٍ واضح
رفع الأخير حاجبه مناولًا الكأس لأقرب ساقي بالجوار.. و فاجأها ممسكًا برسغها و هو يطالبها بوقاحةٍ :
-لنرقص سويًا !!
غضبت “رحمة” الآن.. و لكنها قبل أن تتخذ أيّ ردة فعل بوغتت بصوته :
-هـايل.. الناس طبعًا من حقها تشوف مواهبك حرام تفضل مدفونة.. و لا إيه ؟
-يحيى ! .. تمتمت “رحمة” بعينين متسعتين
لم يصدمها ظهوره بقدر ما أخذت الفرحة عقلها لدرجة أنستها أن هناك رجلًا آخر لا يزال يقبض على رسغها …
-يحيى !!!
هتفت هذه المرة بسعادةٍ و شوق و هي تدير رأسها لتراه يقف قريبًا جدًا منها.. متأنقًا ببذلةٍ رسمية.. وسيمًا كعادته.. و.. غاضبًا …
-مش تعرفينا ؟
الآن أفاقت “رحمة” من غفلتها.. و انتبهت لليد التي تمسكها بإحكامٍ.. انتفضت مذعورة و هي تشد معصمها بعنفٍ من يد الغريب.. تناقلت ببصرها بينه و بين زوجها و هي تقول بارتباكٍ واضح :
-آ أنا ماعرفوش.. ده صاحب حازم خطيب لينا.. ممكن تسأله بنفسك أهو عندك هناك !!
و أشارت له نحو صديقتها و خطيبها المنهمكان بتلقّي تهنئات وفدًا جديدًا من الأصدقاء ..
تجاهلت ذاك المتطفل كليًا في هذه اللحظات.. و لكن “يحيى” لم يتجاهله البتّة.. على الأقل بنظراته.. حيث كان يرمقه بقوة و تفحص و الغضب يغلي تحت جلده ..
ثم فجأة تولّى متوجهًا نحو العروسين دون أن يفه بكلمة ..
لحقت “رحمة” به على الفور و هي لا تعرف كيف تتصرّف.. أو كيف تبرر له …
-مبروك للعرسان !
إلتفتا الإثنان و قالا في وقتٍ واحد :
-يحيى البحيري !!
و أضافت “لينا” بعدم تصديق :
-مش معقول إللي أنا شايفاه ده بجد ؟ يحيى بنفسه جاي يحضر خطوبتي !!؟
ضحك “يحيى” لأول مرة منذ حضوره.. و أقبل يصافح صديقته و خطيبها مهنئًا :
-يوم زي ده إستحالة كنت أفوّته حتى لو كنت في أخر الدنيا لازم أجي طبعًا.. ألف مبروك يا لينا.. و مبروك يا حازم.
حازم مبتسمًا : الله يبارك فيك يا يحيى.. و بجد وجودك فرق معانا شكرًا إنك قدرت تحضر.
زجرته “لينا” في الحال :
-و هو كان يقدر مايجيش ده أنا كنت طلّعت عينه.. أقل حاجة كنت هاقطع علاقتي بيه للأبد.
ابتسم “يحيى” قائلًا بثقة :
-ماتقدريش.. شمس تبقى بنتي و بتعتبرك زي خالتها عمتها حاجة في الرينج ده.. يعني أنا و انتي علاقتنا ببعض أبدية يا لينا.
أومأت “لينا” موافقة بلمحة أسف زائفة :
-أيوة صحيح.. نسيت إنك قدري انت و عيلتك ..
و قهقها معًا بشدة ..
لوهلةٍ.. كاد مزاجه الطيب أن يخدع “رحمة” التي وقفت إلى جواره صامتة.. بل و قضيت ما يربو عن ساعةٍ أخرى تراقبه فقط.. تجاهله إيّاها جليًا للقاصي و الداني كأنها و الهواء واحد ..
حتى حانت لحظة معيّنة.. وجدته يقبض على رسغها _ نفس الموضع الذي كان يقبض عليه الغريب _ بعد أن أعتذر من صديقته و خطيبها للذهاب متذرعًا بشوقه لرؤية ابنته ..
سحبها خلفه بحزمٍ غير عابئًا بمظهر كليهما العام ..
لم تجرؤ على التحدث أو حتى أن تستوقفه بأيّ كلمة.. تعلم تلك الحالة جيدًا.. و توقن بأن ليلتها لن تمر على خيرٍ أبدًا ..
كما توقعت لم يأخذها إلى المنزل.. إنما أحاد عن الطريق قاصدًا وجهة بيت أخيه الذي اتخذه منذ سنوات للنزول به مع أسرته.. الآن المنزل خالي تمامًا و هو يملك نسخة احتياطية بحوزته …
-إنزلي !
كان يقف أمامها الآن.. و قد فتح لها باب السيارة من جهتها.. تعلّقت عيناها بعينيه.. ينظر لها بوعيدٍ و تنظر له بثباتٍ.. ثباتٍ عجيب تملّكها في هذه الأثناء ..
انصاعت لكلمته و ترجلت من السيارة.. ليغلقها و يلتفت لها ثانيةً.. يجرّها خلفه مجددًا و يتجه بها نحو البيت ذي الطابقين.. تجد نفسها خلال دقيقة ملقاة بعنفٍ فوق الأرض ذات الرخام الصلد ..
كتمت تأوّهًا متألمًا و رفعت رأسها صوبه.. تطلّعت إليه من خلال خصيلات شعرها المبعثرة على وجهها …
-يا ترى هاتعمل فيا إيه المرة دي ؟ .. سألته “رحمة” مباشرةً و لم يبدو عليها الخوف مثل كل مرةٍ
حرّك فكه و هو يرمقها بنظرةٍ مستخفة.. و قال بهدوئه المعهود :
-سيبك دلوقتي من إللي هاعمله.. ماتستعجليش.. أنا شايفك مرتاحة كده و باردة.. إيه ؟ الحلوة مابقتش بتخاف زي زمان !؟
توكأت “رحمة” على طاولة محاذية و قامت واقفة في مواجهته.. ثم قالت بشجاعةٍ تُحسد عليها :
-البركة فيك.. و في أبويا من قبلك.. و في الدنيا.. القسوة إللي شوفتها منكوا قوّتني يا يحيى.. عشان كده مهما تعمل فيا تاني خلاص.. مش فارقة ..
يحيى بغضبٍ بارد :
-بس إللي هاعمله فيكي المرة دي مش هاتتخيّليه يا رحمة !!!
كان الأمر سريعًا بعد ذلك.. و دفعها بصدرها على حين غرّة فأحست بجسمها يطير للخلف.. و سقطت فورًا فوق أريكة الصالون المغطاة بشرشفٍ أبيض يعلوه التراب …
-هو ده إللي بتعمليه في غيابي ؟ .. تمتم و هو يخلع سترته و يلقيها أرضًا
نظرت إليه باضطرابٍ و لم تستعيد أنفاسها بعد.. بينما يحلّ ربطة عنقه و يفتح زر ياقته و زر كلا المعصمين ليشمر عن ساعديه و هو يستطرد و الشر يعتلي نظراته :
-رقص و ضحك و هزار مع الرجالة ؟ يعني مستخسرة تحتفظي بموهبتك في الرقص قدام جوزك ف قولتي لازم الكل ينبسط صح ؟ و يا ترى بقى بتبسطي أي حد بالرقص بس ؟ الراجل إللي كنتي واقفة معاه ده كان عجبك مش كده ؟
لم تتحمل إهانته أكثر و ردت عليه محتدة :
-أنا ماسمحلكش يا يحيى.. فوق و أسمع انت بتقول إيه !!
غدا صوته أقسى قليلًا و هو يسحب طوق خصره الثمين و يلف بنصفه على يده :
-أنا لسا ماقولتش حاجة ..
و لم تكاد تستوعب الذي ينوي فعله …
-آااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه ..
هبطت أول جَلدة من حِزامه على كتفها العاري منتزعة منها صرخة مدويّة و مصدومة في آنٍ ..
تلاشت شجاعتها كلها الآن.. لأنه كان مثل السيل الجارف.. ما إن نالت منه أول ضربة بحِزامه حتى إنهال عليها بمزيدٍ من الضربات التي أسالت دمائها و شوّهت جلدها ..
طغى الألم على الصدمة الآن.. خاصةً عندما ازدادت ضرباته حدة ممزقة جسمها.. لم تستطع منع نفسها من الصراخ ألمًا.. و قد كان صراخها يصمّ الآذان و هي تتقلّب شمالًا و يمينًا محاولة الإفلات من أداة التعذيب ..
رغم هذا سمعت صوته الهادر بوحشية بعيدًا كل البُعد عن شخصه اللبق الراقي :
-أغيب عنك كام شهر أرجع ألاقيكي مدوّراها.. و أنا بإيدي إللي فاتح لك باب تخرجي منه براحتك و تعملي إللي على كيفك.. إيه لسا حاسة بنفسك ؟ المقطف إللي اسمه جوزك مابقاش مكفيكي ؟ كام شهر يعملوا فيكي كل ده ؟ عرفتي كام راجل في غيابي ؟؟؟؟
كان يعلم يقينًا بأنه يقذفها جزافًا و زورًا.. لأنه غير تكليفه بحارسٍ شخصي ليتعقّبها في الخفاء و يزوده بكل تحركاتها.. هو يعرفها و يعرف بأنها لا تجرؤ على خيانته.. لا يمكنها …
-حـ..ـرام علـ..ـيك ! .. جاهدت لتلقط أنفاسها
تلطّخ فستانها الأبيض بحمرة دفقات الدماء السائلة الحارة من أنسجتها المفتوحة ..
لكنه لم يتوقف.. بل ازداد عنفًا و هو يتعمّد إيذاء جسدها قدر ما يسمح له و هو يصيح بضراوةٍ :
-مش ده جسمك إللي دايمًا فرحانة بيه ؟ مش ده جسمك إللي يخلي أي راجل يجيلك راكع ؟ مش هاخلّي فيكي حاجة تتشاف يا رحمة.. هاخلّيكي نفسك ماتطيقيش تبصي حتى في المرايا ..
لم تستطع منع نفسها من الهرب.. على الرغم من آلامها الجسيمة.. كانت تعرف أن لا جدوى من محاولتها و أن ركبتاها أضعف من حملها.. لكن الرعب من كلماته استولى عليها فوثبت بصعوبة للجهة الأخرى من الأريكة.. و منها حاولت القيام ..
إلا إن يده لحقت بها.. قبض على شعرها و جذبها بقوة لتقف أمامه بينما فمها يطلق صراخًا رهيبًا ..
سالت دموعها بغزارةٍ و صار الألم أكثر حسيّة الآن.. و كأن نارًا تلتهم جسمها.. ألمٌ لا يُطاق …
-كل حاجة ادتهالك هارجع أخدها منك تاني ! .. تمتم مقربًا وجهه بشدة لوجهها
كان بإمكانها استنشاق أنفاسه مع الهوء و هو يمضي متابعًا بتجبرٍ لم تصادفه بحياتها سوى معه :
-مش أنا عملتك هانم محترمة ؟ و انتي روحتي تعملي كرامتي و رجولتي ممسحة.. من الليلة دي مافيش شغل.. المطعم هايتقفل.. مافيش خروج من البيت.. و اعتبري إن مالكيش بنت كمان.. شمس هاحطها في مدرسة داخلي و مش هاتشوي وشها طول عمرك يا رحمة !!
صرخت فيه على الفور :
-لاااااااااااا.. لأ يا يحيى أبوس إيدك.. بنتي.. بنتي لأ ..
كانت تتكلم بصعوبة شديدة.. بالكاد كانت تتشبث بوعيها.. بينما يُخفف قبضته على شعرها.. انحنت بالفعل لتقبّل يده نائحة :
-أعمل فيا أنا أي حاجة.. خد مني كل حاجة.. بس بنتي لأ.. أنا و الله ما عملت حاجة تعيبك في غيابك.. مقدرش أعمل حاجة أصلًا.. انت عارف إني بحبك انت.. رغم كل عمايلك فيا لسا بحبك.. الله يخليك.. ماتحرمنيش من شمس.. أنا ماليش في الدنيا دي غيرها و انت عارف.. الموت أهونلي من فراقها.. مقدرش أعيش منغيرها يا يحيى.. خد كل حاجة و سيبلي شمس.. بنتي ..
غصّت بالبكاء و هي تشعر بالغثيان يهدد تماسكها لرائحة الدماء النفّاذة.. أمسك بها قبل أن تنهار فوق ركبتيها.. طوّقها بذراعيه فهو كان يحملها فعليًا.. رفعت وجهها متواصلة معه بالعين ..
عينيها دامعتان.. عينيه حادتان.. لكنه لم يخفي هوسه بها و هو يحثها و الغيرة تنهش صدره :
-بتحبيني ؟ .. انتي بجد بتحبيني يا رحمة ؟
أومأت برأسها مغمغمة :
-بحبك.. بحبك يا يحيى ..
كان حقًا بحاجة لسماعها تقول ذلك.. بالأخص بعد كل ما حاق بها على يديه.. بعد أن جعلها فداءً لنوبات غضبه و غيرته العمياء على زوجته الصغيرة الجميلة.. و التي نجحت و بدون مجهودٍ منها بإيقاعه بحبائلها فصار يعشقها.. لا يتخيّلها لغيره و لا يحلم بغيرها.. تلك الصغيرة قدرة على سلبه عقله و بعثرة كيانه بأقل تصرفٍ كما حدث الليلة ..
لا يريدها أن تنضج.. كلّما نضجت ازدادت وعيًا و بُعدًا عنه و لا يُشترط أن يكون البُعد جسديًا.. هو لا يريدها أن تبتعد بأيّ شكلٍ من الأشكال.. يريدها معه دائمًا جسدًا و روحًا.. يريدها فقط …
-أنا كمان بحبك يا رحمة ! .. همس أمام شفتيها
و فقد قدرته على مقاومتها أكثر.. دنى ليقبّلها بقوة.. بكل شوقه و صبوته.. بمنتهى الجنون و التملّك.. أخذها إلى الغرفة الرئيسية.. و قد حرص هذه المرة على أن يعبّر لها عن مدى أسفه… و حبّه !!!
**
الوقت الحاضر …
-فريـال !
تسمع أسمها للمرة العاشرة حتى الآن بصوته.. صوته الذي لم يتغير أبدًا.. و كأن أسمها أبجدية متفرّدة.. يختصر كل المعاني و الكلمات ..
هي لم تكن بالجرأة الكافية بعد لتتمكن من النظر في وجهه.. اكتفت فقط بالجلوس أمامه.. لا تنفك عن تقليب فنجان قهوتها ..
بدا لها إنه لا يملّ من وضعهما.. حتى انبعث صوته مجددًا أقرب :
-ألا تكلمينني ؟ ألا تنظرين إليَّ على الأقل ؟ .. لقد مرّ زمنٍ طويل يا حلوتي !
رفعت بصرها المتجمّد إليه في هذه اللحظة.. حدقتاها الخضراوين تحيطان بهما هالةٍ حمراء تنم عن عمق غضبها ..
ابتسم لها بوداعةٍ.. يتشربها بنظراته كما لو إنها الشيء الوحيد الذي يعنيه بحياته …
-عندما تلقّيت اتصالًا من ابنتك.. تخبرني بأن أختي الحبيبة باسطنبول.. و قد جاءت لتراني أنا بالأخص.. لم اصدق نفسي.. ظننتُ بأنّي لن أراكِ ما حييت يا فريال.. آه كم أفقتدك.. كم أتوق لضمّك بين ذراعيّ !!
-Arsiz ( وقح ) !!! .. قالتها “فريال” بهسيسٍ غليظ
اختفت ابتسامته للحظاتٍ.. و أومأ لها قائلًا :
-أتقبّل منكِ شيء.. و أطلب منكِ أن تزيديني من الإهانة أكثر إذا كنت من خلالها سأسمع صوتكِ !
قبضت “فريال” على حافة الطاولة الفاصلة بينهما بشدة و هي ترد عليه من بين أسنانها :
-لم آتِ لأراك.. لم آتِ لنتكلم.. أنا جئتُ فقط لأسألك سؤالًا و بعدها سأغادرك ثانيةً و بلا رجعة.. إركان !!
ظل “إركان” محافظًا على ابتسامته و هو يقول بهدوء :
-سليني ما شئتِ يا حبيبتي.. هذا أقل ما أدين لكِ به.. يكفي أنني تركتكِ لعقود دون أن أظهر بحياتك و أكون لكِ العائلة التي فقدتيها ..
كزّت على أسنانها مانعة نفسها بشدة من الصراخ بوجهه.. أو قتله بتلك السكين التي أمامها.. استنشقت نفسًا عميقًا و هدأت قليلًا.. ثم سألته بصوتٍ مكتوم :
-هل أنت أخي ؟
عقد حاجبيه غير مستوعبًا سؤالها.. فأردفت :
-هل حقًا أنت أخي ؟ هل أنت من دمي ؟ .. قل لي الحقيقة إركان.. هل أنا متبناة ؟ أم إنك أنت كذلك ؟ .. أرجوك أخبرني.. أرجوك إركان !!
هز رأسه و قال بجدية تامة :
-أنتِ فريال عثمان المهدي.. و أنا إركان عثمان المهدي.. والدتي جهان شاهينك.. هي نفسها والدتك.. أنتِ أختي فريال.. أنتِ شقيقتي مع الأسف !
أغرورقت عيناها بالدموع الآن.. و استرسلت في سؤاله بلهجةٍ متهدجة :
-إذن كيف ؟ .. كيف فعلت بي هذا ؟ .. كيف طاوعتك نفسك على أختك ؟ شقيقتك !؟؟؟
لم يرد عليها.. فانفعلت عليه بطريقةٍ جذبت انتباه بعض رواد المطعم و حفزّت “صفيّة” التي جلست بالجهة المقابلة تراقب ما يجري :
-رد عليَّ.. اللعنة عليك.. أنت دمرت حياتي.. أنت أخي.. أنت دمرتني إركان.. أنت سبب الخراب الذي لحق بحياتي كلها حتى و أنا بعيدةً عنك.
عبس قائلًا بهدوء :
-كيف هذا ؟ .. أخبريني يا فريال ؟ .. كيف أكون قد خربت حياتك و أنا بعيدًا عنكِ ؟ لقد ظننتُ بأن ابتعادي عنكِ طوال تلك السنوات لمصلحتك.. هكذا قالا لي !
بوغتت الآن.. انعقد لسانها للحظاتٍ.. ثم سألته :
-من ؟ .. من هما !؟
تنهد “إركان” مطوّلًا.. مال صوبها عبر الطاولة و أفصح أخيرًا :
-أمي.. و زوجك !!
حملقت فيه ملء عينيها.. ليومئ مؤكدًا جوابه :
-زوجك كان يعلم بقصتنا معًا يا أختي.. أمي أخبرته بكل شيء قبل زواجكما.. و هو الذي وقف بوجهي و هددني إن حاولت الاقتراب منكِ لن يتردد في قتلي و أشياء من هذا القبيل.. حتى إنه منعني من حضور زفافك ..
تحوّلت إلى صنم و هي تستمع إلى تلك الحقائق لأول مرة.. بينما كان يراعي حالتها جيدًا.. و قال بأقصى ما أمكنه من لطفٍ :
-لا أرى سببًا يمنعني من إخبارك الحقيقة الآن و بعد كل هذا الوقت يا فريال.. يحيى البحيري.. زوجك.. كان يعلم بقصتنا معًا !!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى