روايات

رواية وما ادراك بالعشق الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الفصل الأول 1 بقلم مريم محمد غريب

رواية وما ادراك بالعشق الجزء الأول

رواية وما ادراك بالعشق البارت الأول

رواية وما ادراك بالعشق الحلقة الأولى

أحسّ بقبضة تعتصر حلقه، حتى خُيّل إليه بأنه يختنق، و اللهفة بداخله تستحيل إلى غضبٍ حالك، شدد قبضته حول كأس الشراب الكريستال حتى كاد أن ينكسر لولا أنه تمالك أعصابه بآخر لحظة و هو يرد على محدّثه عبر الهاتف :
-انت متأكد يا وائل ؟ هي بنفسها !؟؟؟
أكد له الأخير بلهجةٍ لا تقبل الشك :
-بقولك شوفتها بعيني. أخدت قهوة من أون ذا ران. أول ما عرفتها نطيت في عربيتي و مشيت وراها. لسا ماشي أهو باينها طالعة على الإسكندرية.. عاوزني أعمل إيه يا رامز ؟
هب “رامز الأمير” واقفًا في الحال و هو يهدر محتدًا :
-خلّيك وراها. إياك تتوارب عن عينك. إياك يا وائل !!!
بدا كالوحش الكاسر و هو يتحرّك في شقته الفاخرة ملتقطًا أغراضه، سلسلة مفاتيحه، سترته الجلدية القاتمة، ارتداها فوق قميصه المفتوح على عجالةٍ ثم أسند الهاتف بين كتفه و رأسه صائحًا :
-أبعت لي اللوكيشن بتاعك و أنا هاحصلك. أنا جاي على الطريق. مش هسامحك لو فوّتها يا وائل مش هسامحك …
و هرول راكضًا إلى الخارج، غير عابئًا بالفوضى التي خلّفها ورائه من زجاجات شرابٍ فارغة و أثاثٍ مبعثر و ألبسة نسائية متناثرة في كل مكانٍ، حتى لم يهتم بتلك الفتاة التي انسحب من جوارها تاركًا إيّاها بلا تفسيرٍ أو استئذانٍ، رغم إنها تشعر بأهميتها لديه من معاملته لها، إنها مساعدته الخاصّة منذ عامين ، و بينهما علاقة أقرّ بها منذ عام، تعرفه و تتآلف بطباعه الخبيثة، و نفس الوقت تطمئن له، و تظن بأنها ليست مجرد علاقة للفراش… فهل صحيحٌ ظنّها ؟
إنها لا تعرف “رامز الأمير” حقًا، مهما ظنّت بأنها اقتربت من هالته الغامضة، الحقيقة إنها لا تفقه أيّ سبيلٍ يؤدي إلى قلبه، أو حتى عقله، وحدها هي التي تملك زمام كيانه، ضالته التي هبطت إلى حياته مصادفةً، فملأتها بهجةً و سعادة، حوّلته من شخصٍ لا مبالي إلى عاشق، إلى رجلٌ يتوق لامرأته، نصفه الاخر، و قد وجدها أخيرًا بعد أن جحد بالفكرة، جعلته يؤمن بها حين ألتقاها، و هي نفسها التي هجرته قبل ما ينوف عن ثلاثة أعوام ؛ هكذا فجأة و بدون أسباب، اختفت من حياته بعد علاقة حب، بل عشق جنوني كاد أن يتخطّى حدود المنطق من شدة تعلّق و إنتماء كلاهما للآخر …
-شمس ! .. همس “رامز” بحسرةٍ تميل للغضب و هو يستقلّ خلف المقود
يشغّل محرّك السيارة و يفعل كل شيء بأيدي نزقة، ينطلق بسرعة كالمجنون، و كأنه يسابق الزمن لإنقاذ حياته، عثوره عليها بعد كل تلك المدة أمر لا يُصدق، لأنه قد بحث، بحق الجحيم إنه لم يترك مكانٍ لم يبحث فيه عنها، نُزُل مشافي و حتى تحقق من قوائم السفر من جميع الموانئ الجوّية و البحرية و لا زال يصله جردًا شهريًا بها، لم يفقد الأمل و مع ذلك علم بأنها لن تسمح له بالعثور عليها
لأنها قالتها له و هي تودعه للمرة الأخيرة بمكالمة هاتفية، لا يزال صوتها آنذاك يرن بأذنيه و هي تقول بصوتها الضبابي المميز : “علاقتنا انتهت يا رامز. أنا آسفة. مش هقدر أكمل. و ماتحاولش تدوّر عليا.. مش هاتلاقيني!” …
جن جنونه يومها، قلب عليها البلدة كلها بحثًا، لكنها كانت صادقة، لم تقل مجرد كلام، لم يجدها ببيتها، و لا في أيّ مكان يعرف إنها قد تذهب إليه، هكذا بهذه البساطة غدرته، بعد أن سلّمها قلبه العزيز على طبقٍ من ذهب، ركلته و هربت !
-شمـس !!! .. تكرر الهمس بين شفتيه المطبقتين
شدد قبضتيه حول المقود و هو يحدق في الطريق و كأنه شياطين تبتلعه، لا يستطيع تخيّل شعوره لحظة رؤيتها مرةً أخرى، ماذا ستقول ؟ كيف تُبرر ما فعلته به ؟
بل ماذا سيفعل هو بها ؟؟؟
لقد عذّبته و أذّلت رجولته بتخلّيها عنه، هو الذي عاش حصينًا عن شِراك الجنس الآخر، وقع في حبائلها هي، بعد زمنٍ طويل من العزوبية هي الوحيدة التي دفعته للتفكير في زواج و بيتٍ مستقر و تكوين أسرة، كان جادًا معها و كل شيء لعين كان على ما يُرام
كيف استطاعت التفريط به ؟
ما الخطأ الذي اقترفه ؟
لماذا !!؟؟؟
واصل “رامز” القيادة على أقصى سرعة و قد بلغ بوابات المدينة متجهًا إلى الإسكندرية …
*****
لقد رأت هذه السيدة مراتٍ كثيرة من قبل، في صحف و مجلّات، في محفظة أبيها حيث صورة تضمّه مع أسرته الكبيرة _ ما عدا هي بالطبع _ و لكنها المرة الأولى الآن التي تراها وجهًا لوجه على أرض الواقع
السيدة “فريال المهدي”.. زوجة رجل السلطة و الجاه.. رجل الأعمال الشهير “يحيى البحيري”… تلك ضرّة أمها !
للعجب
كانت أجمل بكثير على الحقيقة، الصور لا تنصفها أبدًا، و رغم تقدمها في العمر، لكنها لا زالت كالزهرة الفائحة أريجها، جميلة، مهيبة، أيقونة ارستقراطية و هي تقف عند منتصف الدرج العريض بلباس النوم، يغطي كتفيّها روبًا حريريًا محلولٌ عقدته فوق الخصر …
-مين حضرتك ؟ .. تساءلت “فريال” و هي تحدق بالضيفة الغريبة
لقد رأتها للتو برفقة إبنها، و لكنها لم تتعرّف عليها مطلقًا، مع ذلك يبدو وجهها مألوفًا !!
ابتسمت الأخيرة بحلاوةٍ تليق بها و جاوبتها برقة :
-أنا اسمي شمس. عثمان يعرفني. لو مش هايضايق حضرتك هستناه لما يرجع عشان عايزاه في موضوع مهم جدًا.. و ممكن لما يرجع هو يعرفنا على بعض أكتر !
اكتسى وجه “فريال” بالأسى من جديد و هي تقول ناظرة بين الطابق العلوي و الضيفة الماثلة أمامها :
-عثمان مش بيرد عليا و باين مش راجع دلوقتي. ربنا يستر. أنا كنت لازم أروح معاه أطمن على سمر بنفسي. بس مقدرش أسيب الولاد لوحدهم و مافيش حد مننا جمبهم !!
إنبلج التعاطف على وجهها المليح و هي تقول بتأثرٍ متكلّف :
-سمر مرات عثمان صح. ماتقلقيش سليمة إن شاء الله. هاتبقى كويسة.
تضرّعت “فريال” بحرارةٍ دامعة العينين :
-يارب.. يارب ترجعي بالسلامة يا سمر. دي بنتي التانية إللي مخلّفتاهش !
زيّن ثغر “شمس” نصف ابتسامة و هي ترمق زوجة أبيها الراحل، لديها فكرة عن كم إنها امرأة رقيقة و هشّة، و عطوفة على الجميع، لقد رأت اليوم و بالدليل الدامغ صحّة تلك الإدعاءات كلها ؛ و لكن هل يا ترى ستنال هي حظًا من عطفها ؟
أم إنها ستحصل على النتيجة المتوقّعة لمجيئها و الإفصاح عن هويتها الحقيقية !؟؟
في جميع الحالات، لقد فات أوان العودة للوراء، و هي، حتى لو عاد الزمن ألف مرة كانت ستأتي و تكشف كل شيء، أجل ستخلّ بوصية والدها، ستحنث بوعدها إليه، و لكنها ستظفر بعائلة
لا تعلم هل سيتقبلونها أم لا، و لا يهمها، لقد جاءت من أجل أخيها، بعد سعيها ورائه و مراقبته في الخفاء لسنواتٍ خلت، لن تتركه الآن و لن تفارقه أبدًا، إلا إذا أراد هو منها أن تفارق، يستطيع إقصائها بكلمةٍ ة منه، و لن تعترض.. الأمر كله عائد إليه …
*****
كان المطر ينهمر مدرارًا، و السماء مكفهرّة بغيومٍ سوداء و الرعد يدوي عنيفًا و كأنه إنعكاس لحالته.. هذا “عثمان” يقود سيارته محطمًا، بينما الرؤية مشوّشة في عينيه بسبب سيل المياه المنهمر على الزجاج الأمامي و لم تفلّح المسّحات بازالته تمامًا
المسافة بين قصره و المشفى الخصوصي التي أوصى بنقل زوجته إليها رأسًا من مكان الحادث لا تزيد عن خمسة عشر دقيقة إذا كان يقود بشكلٍ معتدل، فما بال الطريق يبدو سحيقًا بلا نهاية و هو يقطعه بهذه السرعة الفائقة !!؟
لحسن حظه لم يكن هناك اكتظاظًا مروريًا بسبب سوء الطقس و النوّة الشديدة على السواحل، أمضى كل هذا الوقت في الدعاء و استراق النظر إلى هاتفه الملقى بجواره على مقعد الراكب لعل اتصالًا يورد إليه يطمئنه عن حالة زوجته، لكن لا شيء سوى محاولات أمه للتواصل معه، و لم يلبّي أيًّا منها، لأنه هو نفسه لا يزال جاهلًا، و الخوف يتعاظم بداخله مع مرور الوقت …
حين وصل أخيرًا صطف السيارة باهمالٍ أمام بوابة المشفى، و ركض نحو المدخل، كان أسرع من الأبواب المنزلقة إلكترونيًا، فاضطر إلى التوقف عن الركض لبضع لحظاتٍ حتى يتباعد مصراعيّ الباب ليتمكن من الدخول، واصل ركضه على الفور بثيابٍ نصف مبتلّة و شعره بالفعل ملتصقًا بجبينه و مؤخرة رأسه، اتجه مباشرةً إلى مكتب الطوارئ
هناك تجلس موظفة شابة خلف حاسوبها، رفعت عينيها عنه فورًا لتنظر إلى الرجل اللاهث الذي نطق بفزعٍ لا يخلو من الغلظة :
-مراتي فين ؟
نظرت إليه بتعبيرٍ متعاطف و هي ترد عليه برفقٍ :
-مافيش حالات دخلت الطوارئ إنهاردة غير من خمس دقايق بس. واحدة ست جت في حادثة عربية. حضرتك إللي دفعت الحجز المسبق ؟ الحالة تقرب لك ؟
صاح “عثمان” بها بوحشيةٍ و قد نفذ كل صبره :
-بقـولك مـراااتي. هـي فيــــن ؟
لم تؤاخذه الأخيرة بسبب حساسية الموقف، لكنها أيضًا لم ترد في الحال، بل رفعت سمّاعة الهاتف و أجرت اتصالًا عاجلًا لم يستغرق عشر ثوانٍ، ثم أقفلت و عاودت النظر إليه قائلة بلطفٍ :
-الدور الأول قسم العمليات قاعة 2 !
لم ينتظر “عثمان” تتمّة عبارتها، سجّل عقله الوصفة على الفور، انطلق مهرولًا نحو الدرج، أقرب إليه من المصعد، و أسرع في حالته هو، في غضون ثوانٍ كان أمام القاعة التي دلّته عليها الموظفة، اقترب من الباب المغلق يطلّ عبر النافذة الزجاجية الصغيرة علّه يرى شيئًا، لكن لا شيء سوى معدّات طبيّة كثيرة، و ظلال للأطبّاء العاملين بالداخل و ربما يرى بعضٌ منهم
لكنه لا يلمح أثرًا لزوجته، لا أثر !
لم يجد بدًا من الانتظار، انتظار طويل، هو وحده يجول بساحة الانتظار أمام غرف العمليات و القلق ينهشه.. حتى دفع الباب طبيبٌ مسن أخيرًا و بعد ساعةٍ و نصف بالداخل …
-دكتور أرجوك طمنّي. مراتي عاملة إيه !؟ .. تصاعد هتاف “عثمان” بقلقٍ و هو يسرع نحو الطبيب
خلع الطبيب صدريته و قلنسوته متنهدًا و هو يخاطب الزوج الهلوع :
-أطمن يا بيه. الحالة كانت بسيطة رغم صعوبة الحادث. كانت مجرد رضوض في الصدر و خلع للكتف. إللي قلقني لما شوفت على الأشعة نزيف في الأمعاء.
برزت عينيّ “عثمان” و هو يكرر بتوترٍ :
-نزيف !!
طمأنه الطبيب : مافيش داعي للقلق. أنا دخلتها عمليات فورًا. الحمدلله خيّطنا جزء من الأمعاء و دلوقتي أمورها بخير تمامًا. كمان شوية طاقم التمريض هاينقلها جناح خاص و لما تستعيد وعيها طبعًا تقدر تطمن عليها بنفسك.
زفر “عثمان” بقوة و هو يفرك جبينه، ثم نظر إلى الطبيب مرةً أخرى و شكره بامتنانٍ :
-أنا عاجز عن الشكر يا دكتور.
الطبيب بابتسامة : لا شكر على واجب. حمدلله على سلامة المدام.
و انسحب تاركًا إيّاه وحده، في انتظار خروج زوجته، تناهى إلى سمعه نقر حذاء يقترب منه، استدار ليجدها سكيرتيرة زوجته، تقبل عليه و الدموع ملء عينيها …
-مستر عثمان ! .. هتفت “رانيا” بصوتٍ باكي
توقفت أمامه مغمغمة و هي بالكاد تلتقط أنفاسها :
-أنا كان لازم أرجع بيتي الأول عشان أوصل ابني عند ماما. بس أنا ماسبتش مدام سمر إلا لما جت الإسعاف. وصلت ابني و جيت على هنا علطول. من فضلك طمنّي عليها !!!
تحدّث “عثمان” إليها برفقٍ :
-ماتقلقيش يا رانيا. الدكتور طمنّي على حالتها. سمر بخير. إن شاء الله هاتفوق و نطمن عليها أكتر. إن شاء الله هانخرج بسرعة من هنا.
أومأت “رانيا” مؤيدة كلماته :
-إن شاء الله. يارب. يارب ..
شعر باهتزاز هاتفه بجيب سترته الآن، فانزوى عن الفتاة الشابة و أخرج هاتفه ليرد أخيرًا على اتصال أمه :
-آلو. ماما !
-ماما إيه يا عثمان. حرام عليك يابني. سايبني هموت من القلق كده و مش بترد عليا !!
-أنا آسف. آسف جدًا. بس كنت مشغول بيها. لسا الدكتور مطمنّي.
-طمنّي أنا كمان. سمر عملت إيه ؟
-الحمدلله مافيش خطورة. حالتها مستقرة ماتقلقيش.
-طيب أنا هاجي لك. مش هقدر أستنى عندي أكتر من كده. ممكن أسيب الولاد مع الدادة. بس الضيفة إللي جات لك دي مش عارفة أتصرف معاها إزاي !
و كأنه قد نسي الخبر الذي هبط على رأسه كصاعقةٍ، ذكرته أمه الكارثة التي زارته مساء اليوم، ألا زالت هناك ؟ حقًا.. هي مع أمه في هذه اللحظة، و يمكن أن تخبرها ما أخبرته به ؟
اللعنة !!!
-ماما من فضلك إلبسي و خلّي السواق يجيبك ليا على هنا. فورًا ! .. كانت لهجته الآمرة تختلج بالغضب الدفين
جاء صوت أمه مستغربًا :
-أنا كنت فكراك هاتعترض يا عثمان. في حاجة و لا إيه !؟
نفى متمالكًا أعصابه بجهد :
-مافيش حاجة يا فريال هانم. أرجوكي أعملي إللي بقولك عليه. و هاتي معاكي الولاد. كلهم. أما الضيفة دي سبيها زي ما هي. أطمن على سمر بس و هارجع لها.
إلتقطت أذنه الحسّاسة في هذه اللحظة صوت إنفتاح بوابة العمليات، فأنهى المكالمة مع أمه مسرعًا :
-يلا يا ماما من فضلك. أعملي إللي قلت عليه حالًا. و لما توصلي كلّميني. مع السلامة !
و أغلق معها …
ثم استدار من فوره ليراها، زوجته، إنها تستلقي فوق سريرٍ جرار يسحبه إثنان من طاقم التمريض، بينما يتولّى فرضٌ ثالث حمل كيس المحلول العلاجي فوق رأسها المحاط بالضماد، سارع “عثمان” إليها و هو يطل فوق وجهها بنظراتٍ متلهفة
سار مواكبًا إيّاها تتبعه “رانيا”.. بينما يمد يده ماسحًا بكفّه على وجهها المكدوم، و رأسها العاري، إنها بلا حجابٍ الآن، و لكن ليس عليها حرج، لقد نجت للتو من هلاكٍ محتّم
ليطمئن عليها أولًا.. ثم يُهيئ لها كل ما يلزمها لتعود أفضل مِمّا كانت …
*****
توقّعت منه ردًا كهذا، إنه يحاول حماية أمه منها الآن، يريدها أن تبتعد عنها لئلا تفجر القنبلة بوجهها هي الأخرى، و لكنه لم يكن يعلم بأنها لم تهدف لذلك من البداية، هي لم تأتي لتكشف عن نفسها أمام السيدة “فريال” بالأخص، إنما جاءت لأجله هو، جاءت لتلتقي بأخيها و تعرّفه عليها أخيرًا …
-أنا آسفة بس لازم أروح المستشفى لعثمان ! .. قالتها “فريال” و هي تقف ثانيةً أمام الضيفة
كانت في كامل أناقتها و رقيّها، محاطة بثلاثة أطفال ذوي أعمار متفاوتة، تفرك رأسه أوسطهم و هي تقول على عجلة من أمرها :
-أنا كلّمته و قالّي إنه هايرجع يكمل كلامه معاكي. لو عندك وقت ممكن تستني هنا لحد ما يرجع لك.
سارعت “شمس” قائلة قبل أن تخطو “فريال” خطوة للأمام :
-pardon فريال هانم. أنا ممكن أجي معاكي. الواجب بردو أطمن على سمر بنفسي أنا كمان.
نظرت لها “فريال” حائرة، لكنها هزت كتفيها في الأخير و قالت :
-أوكي. زي ما تحبي. بس أنا هاخد العربية أنا و الولاد بالسواق !
رفرفت “شمس” بأهدابها الطويلة المطليّة بالماسكرا الفاحمة و قالت باسمة :
-أنا معايا عربيتي. هاكون وراكوا بالظبط.
*****
كان منهمكًا في مواصلة الإنطلاق إلى الوجهة التي أرسلها له صديقه، بلغ تخوم مدينة الإسكندرية منذ دقائق، و ها هو يشق طريقه بالشوارع و المناطق التي يحفظها عن ظهر قلب، لم ينتبه و هو يسير بتركيزٍ و يقترب من هدفه إلى أنه بالفعل جاء إلى هنا من قبل !
تلك المنطقة الراقية التي يمر بها، ليست بغريبة عليه، بل إنه ذرعها زيارات و أحيانًا إقامات في ضيافة أقرب أصدقاؤه القدامى.. رباه !!
-قصر البحيري ! .. تمتم “رامز” عندما استقر بنقطة الموقع المرسل إليه
و ترجل من سيارته متطلّعًا بتدقيق إلى البناء المهيب الأبيض، إنه هو، يقسم بأنه هو قصر “البحيري”.. هنا يعيش صديقه المقرّب “عثمان البحيري”.. هذا البيت كله ملكًا له و لعائلته فما شغل “شمس” هنا !؟؟
-رامز !
إلتفت “رامز” إلى نداء صديقه “وائل”.. كان ينتظره أمام سيارته و مضى نحوه ما إن رآه …
-شمس دخلت البيت ده من حوالي ساعة و أكتر و لسا ماخرجتش !
قست ملامح “رامز” و هو يسأله بغلظةٍ :
-محدش دخل أو خرج طول المدة دي ؟؟
-في واحد خرج من شوية. بس شمس لسا جوا !
كان “رامز” قد أستلّ هاتفه أثناء حديث الأخير، بدون تفكير وجد رقم “عثمان” و أجرى الإتصال به على الفور واضعًا الهاتف فوق أذنه، أنتظر حتى انقطع الاتصال، لم يرد صديقه، فسحب الهاتف شاتمًا، في نفس اللحظة دفعه “وائل” بكتفه صائحًا :
-أهيه شمس أهيه يا رامز !!
إندفع ناظريه على الفور صوب النقطة حيث أشار صاحبه، و بالفعل، رآها، رآها و قد تصدّع ما تبقّى من إلتئام قلبه، إنشطر إلى نفصين لحظة احتواء عينيه لوجهها، لم يلاحظ إنها كانت تسير خلف سيارة نقلت السيدة “فريال” و مجموعة من الأطفال، لم يلاحظ سواها هي
بعد مدة اختفائها، بل هروبها منه، ها هي أخيرًا أمامه، صارت في متناوله، مع عليه إلا أن يمد يده و يأخذها، و هو ما لم يتردد بفعله لحظة اقترابها من سيارتها المصفوفة على مقربة ن بوابة قصر “البحيري”.. هرول ناحيتها بخطواتٍ صمّاء
و قبل أن تمتد يدها لتفتح باب السيارة، كان قد هجم عليها من الخلف مكممًا فاها الصارخ في الحال بكفّه الغليظ، و محيطًا خصرها النحيل بذراعه المفتولة العضلات، حملها بهذا الشكل عائدًا إلى سيارته أمام أنظار صديقه المذهولة، لم يجرؤ على التدخل، و لا حتى التفوّه بكلمةٍ واحدة …
*****
الآن يمكنها أن تمتثل للشفاء العاجل …
بعد أن كثّف الجهود الطبّية عليها، يأتي الطبيب مرة كل ساعةٍ ليلقي نظرة عليها، بينما هو، زوجها، لا يتركها طرفة عين، يركع بجوارها على الأرض المكسوّة بالموكيت الفاخر، كل شيء هنا بالجناح نظيفٌ و لائق
يداه تصل لشعرها، يداعبها بلطفٍ و عيناه ملآى بالأهتمام، يتأمل صفحة وجهها الجميلة، كم شحبت قليلًا بسبب الحادث، و هناك عاى جانب جبهتها أثر لكدمة خفيفة، إنها تميل للون الأحمر الآن، لكنها ستكون باللون الأزرق حتمًا بالنظر إلى الغد
حبيبته المسكينة !
كيف نسي كم هي أرق من أن تُخدش ؟ .. إنها تستمد منه القوة على أيّة حال.. ما دامت تشعر بقربه فهي قوية تقدر على مواجهة العالم بأسره… كيف يطمئنها بأنه هنا قريبًا منها في هذه اللحظة ؟
لا بد إنها في مكانٍ ما داخل عقلها، و لكن هل تشعر به، متى تفيق ؟
لا يمكنه الصبر أكثر من ذلك، سيفقد عقله إن لم يراها بعينيه تفتح عيناها و تتحدث، حتمًا سيفقد عقله …
-فوقي بقى يا سمر ! .. قالها “عثمان” هامسًا بوهنٍ قرب أذنها
لثم خدّها بعمقٍ مستطردًا :
-اصحي يا حبيبتي. اصحي ماتجنّنيش !!
و كأنها بالفعل استجابت لكلمته
شعر بها تتململ أولًا، كانت حركتها ضعيفة للغاية، مرتجفة، ارتد للخلف قليلًا بلحظة ليلقي نظرة على وجهه، راقب ملامحها و هي تتلوّى بألمٍ، ثم يصدر منها أنينًا طويل ينم عن حجم الأوجاع التي لحقت بها …
-سمر. حبيبتي. حمدلله على سلامتك يا عمري. حمدلله على سلامتك !
بقي “عثمان” يهدل هكذا بسعادةٍ، لكنها لا تزال مغمضة عينيها، و نطقت أول كلمة في الحال بصوتٍ ملؤه الوجع :
-عطشانة !
يتوقف عن معاينة وجهها فورًا، ينهض خلال ثانية متجهًا نحو الطاولة القريبة، يصب لها كأسًا من الماء، ثم يعود مسرعًا، ينحني فوقها مادًا يده ليرفع مؤخرة عنقها، و يدفع بيده الأخرى الكأس تجاه فمها و هو يحثّها برفقٍ :
-أشربي يا حبيبتي. على مهلك ..
لثمت “سمر” حافة الكأس بشفتيها تتلهف لرشف أكبر قدر من المياه، لكنه أصر أن تأخذ على دفعاتٍ، حتى أنهت نصفها، فأبعده عنها قائلًا بحزم :
-كفاية كده. كمان شوية أشربك تاني و يكون الدكتور جه يشوفك.
استدار ليضع الكأس فوق منضدة محاذية، ثم عاود النظر إليها ثانيةً فإذا بها قد فتحت عيناها، ابتسم و هو يرنو إلى بهاء مقلتيها الزمرديتين، و لكن ابتسامته تلاشت تدريجيًا و هو يرى هذا التعبير على وجهها، تعبير واجم، يميل للخوف، و فجأة عيناها المؤثرتان صارتا تتمعنا في وجهه لعدة ثوانٍ قبل أن تفتح فمها المرتعش و هي تقول بلهجة تشبه الاستغاثة :
-انت مين ؟

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى