روايات

رواية نوسين الفصل الرابع 4 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الفصل الرابع 4 بقلم رحمة سيد

رواية نوسين الجزء الرابع

رواية نوسين البارت الرابع

رواية نوسين
رواية نوسين

رواية نوسين الحلقة الرابعة

إنقضت عليه بينما يغط في سبات عميق، تهزه مسرعة بهلع وهي تناديه في إلحاح وكلمات مبعثرة كحالها:
-عمر، عمر قووووم، يخربيتك جايب راحة البال دي منين قووووم.

إنتفض عمر من غفوته بسبب مباغتتها، وبلحظة كان ذهنه فيها مفتقر لوعيه وادراكه؛ جذبها بقوة لتسقط على الفراش، وأحاطها بجسده من الأعلى دون أن يمسها، ولكنه كان قريب بشكلٍ كافٍ لتمتزج أنفاسهما معًا، في لحظة جديدة دونت في خانة الشعور غير المُفسر داخل كلاً منهما وبالأخص هي..

ظل صدرها يعلو وينخفض بينما تلتقط أنفاسها بصوت مسموع، غير قادرة على قطع التواصل البصري غير المشروط بينهما..

وعمر للمرة الاولى تسنح له الفرصة لتأمل ملامحها الأنثوية التي تحمل جمال شرقي هادئ برقة ساحرة، وبشرتها كانت بيضاء تميل للون القمحي، ولكنها كانت صغيرة رقيقة تليق بعينيها البندقية التي تشابه عينا القطط مع رموشها الطويلة التي تهتز فاضحة إنفعالها العاطفي في لحظة قرب مباغتة، ثم شفتاها الصغيرة المرتعشة التي همست بإسمه في تلك الثانية تحديدًا قاطعة وصلة غرقه في المشاعر المتفجرة دون مقدمات:
-عمر!

كالعادة ابتعد كالملسوع بعد أن مَنَّ عليه الاستيعاب متأخرًا، ثم زجرها بصوت خشن لا تدري بسبب تأثره ام النوم:
-في حد يصحي حد بالطريقة دي؟!

إتسعت عيناها وقد تذكرت بعد دقائق من التيه السبب الذي جعلها تيقظه، فنهضت مسرعة تصيح بفزع:
-قوم بسرعة، قوم يالهوي.

قلب عينيه ببوادر غضب بدأت تهاجمه كعادته مؤخرًا في حضرتها:
-أنتي حافظة مش فاهمة؟! منا متنيل قومت اهوه في إيه؟

-في مصيبة، في كارثة، آآ….
قاطعها هادرًا:
-في إيييييه؟

أخذت تولول بصوت مسموع له فقط:
-لاقونا وزمانهم بيحاولوا يفتحوا الباب دلوقتي.

سألها وقد بدأ يتنبه:
-هما مين؟

نهرته في انزعاج ساخر:
-لا مش وقت ذكاء دلوقتي الله يرضى عنك، هيكون مين يعني؟ وزارة التموين عشان خدت ازازة زيت زيادة؟ ما أكيد الناس اللي بيدوروا علينا.

بادلها سخريتها بسخرية مماثلة ولكن يغلب عليها الدهاء:
-عرفتي منين إنهم هما؟ وماطلعوش لحد دلوقتي ليه، مستنينك تديني خبر؟

هزت كتفاها معًا بحنق:
-وأنا إيش عرفني!

هز رأسه موافقًا على مضض وهو يشير لها نحو الخارج:
-اممم طب اتحركي كدا يلا وأنا طالع وراكي اهوه.

تجمدت مكانها وهي تشعر بخيالها الوردي الوهمي ومعتقداته، يصبحا مجرد سراب إنجلى ما أن داهمته كلماته الواقعية القاسية، ثم سألته ببلاهه مصدومة:
-إيه دا ثواني، هو مش المفروض تقولي خليكي أنتي هنا وماتتحركيش لحد ما أجيلك، شهامة منك وكدا؟

وكأنه أصر على فصلها تمامًا عن خيالها الواسع، حين استطرد في استهجان:
-شهامة ماتت محروقة، العمر مش بعزقة يا ست برقوقة فوقي.

غمغمت بكلمات مكتومة مقهورة:
-منك لله أنت والبرقوق في ساعة واحدة، حتى أحلامي دمرتها.

سألها مدققًا النظر لها وحدسه ينبئه أنها تقصده بغمغمتها غير الواضحة:
-بتقولي إيه؟

أجابته بابتسامة لزجة معزولة تمامًا عن المرح، منتمية كل الانتماء للسخرية المريرة:
-بقول اتأخرنا عليهم مايصحش لازم نروح نعزم عليهم بشوية برقوق ولا حاجة.

خرج كلاهما من الغرفة، وأخذ عمر يتفحص الخارج بدقة، ولكنه لم يجد أي شيء مُريب، لذا نظر لنوسين بطرف عينيه نظرة ذات مغزى، فأشارت له نحو الأثاث هامسة:
-ما تشوف يمكن مستخبيين تحت الكنبة ولا في أي حتة.
-هو أحنا بندور على جوز فيران! دول بني ادمين.
غمغم بهسيس خافت ولكنه حاد حكى لها عن صبره الذي بدأ ينضب..

ورغم ذلك راح يبحث في كل إنش في الشقة، حتى أنه فتح الباب ونظر على السلم عله يرى أي شخص، ولكن الفراغ كان النتيجة الوحيدة لبحثه..

عاد لها بنظرات قاتلة أشعرتها أنه سينقض عليها في أي لحظة، فسارعت تقول وهي تتراجع مبتعدة عنه:
-طبعًا أنا لو حلفتلك إني شوفتهم طالعين السلم مش هتصدقني.

-أنتي عرفتي منين إنهم هما اللي بيدوروا علينا؟ شافوكي او شاوروا عليكي؟

ودت لو تجيبه بهزة رأس نافية، ولكن شعرت بالقلق من عيناه المترصدة وكأنها على أتم الاستعداد للهجوم، فبدأت تتلكأ بحروفها التي تحاول ايجاد ثغرة لتنقذها من براثنه:
-هما آآ… شاوروا على العمارة، وطلعوا سوا.

قال بصوت هادئ ساخر ولكنه لم يخدعها وقد علمت أنه هدوء ما قبل العاصفة:
-فـ يبقوا جايين لينا أحنا، مش ممكن مثلًا يكونوا بيدوروا على أي حد تاني، أصل احنا قاعدين لوحدنا في البيت دا صح؟

هزت كتفاها معًا وهي تردف وكأنه شيء بديهي:
-أصل مفيش ناس عادية هيدوروا على حد الساعة واحدة بليل.

أغمض عمر عيناه وهو يتنفس بصوت مسموع، يحاول شد لجام شياطين الغضب التي تتقافز امامه، إلى أن سمعها تهمهم بتوجس:
-إيه إيه مالك هما رجعولك ولا إيه؟!

فتح عيناه ليسألها دون فهم:
-هما مين؟

ردت ببراءة:
-الخبث والخبائث.

-استغفر الله العظيم ياارب.

فهزت رأسها وهي تتلفظ بلهجة صبيانية مشاكسة:
-على فكرة أنت المفروض تشكرني عشان بخليك تذكر ربنا كل شوية.

حائر ما بين الضحكة التي تود أن تشق عبوس شفتيه، وما بين نفاذ الصبر الذي ينتفض داخله، فقال محذرًا:
-ابعدي عني احسنلك عشان فاضلي تكة وهقتلك.

تراجعت خطوة للخلف في توجس مصطنع وهي تردد:
-وتضيع نفسك ومستقبلك برضو عشان واحدة زيي؟

تجاهل مرحها التراجيدي، وتكتل تركيزه عند نقطة أهم حين هتف بمكر:
-صحيح ما أنتي طلعتي جبانة وبتخافي اهوه امال كنتي عاملالي سبع رجالة في بعض ليه؟!

رفعت حاجباها معًا بدهشة زائفة:
-أنا ؟ أنت بتكلمني أنا؟

-لا بكلم اللي جمبك.

هزت رأسها وراحت تخبره بمشاكسة لاقت القبول في صدره دون أن ينتبه لها:
-أصل أنا والخوف مانجتمعش في جملة واحدة اطلاقًا.
-يا شيخة؟

تابعت:
-طبعًا امال أنت فاكر إيه، كل الحكاية إني خوفت على خالتي وعليك مش أكتر، اصل أنا داء المسؤولية عندي رهيب.

إلتوت شفتاه بسخرية فظة:
-أنتي عندك داء الجنان، داء العبط، مش داء المسؤولية.

أنبته بصوت أجش يشوبه الحنق الطفولي:
-عيب كدا، بقا دا جزاتي عشان أنا نبيهه!!
-نبيهه؟ أنتي نبيهه؟

عدلت خصلة شعرها بزهو أجادت رسمه وهي تسأله بترفع:
-عندك شك في كدا؟ دا أنا أمي كانت على طول بتقولي آآ….
وقبل أن تبدأ في ثرثرتها اللانهائية قاطعها:
-روحي نامي، ارجوكي روحي نامي، دا نوم الظالم عبادة يا شيخة، ورجلك لو عتبت باب الاوضة تاني وأنا نايم هقتلك.

غادر وهي تراقبه بشفاه ملتوية غير راضية، ثم هزت كتفاها وراحت تدندن بنبرة ساخرة شقية:
-بيعاملني بطيبة واحسااااس.

****

بعد عدة أيام…

مرت الأيام بوتيرة سريعة لم يتوقعها “عمر” على الإطلاق، بعكس أيامه السابقة مؤخرًا التي كانت بطيئة تذبحه مع كل ثانية تمر مُحملة بعبق وذكريات الماضي المرير، فقد اعتاد تواجد “نوسين” وشقاوتها ومشاكستها الدائمة، ولكن هذا لا ينفي غضبه اللحظي منها، وخالتها “ثريا” التي تتذكرهم مساءًا وتنساهم صباحًا فيضطروا لتذكيرها بهم في كل مرة.

كما أنه بحث ووجد عمل مؤقت كعامل توصيل؛ ليقضي على وقت فراغه ويكون موعده مسائي ليتحجج بعدم المبيت مع نوسين في غرفة واحدة كما اتفقا..

دخل للحارة التي يقطنون بها، فوجد بعض الأناس يجتمعون حول شيء لم يره، تقدم بهدوء حتى فرق بينهم، ليرى ما يجتمعون حوله، والذي لم يكن سوى مصيبته “نوسين” التي كانت منهمكة في تصليح السيارة لشخصٍ ما يقف جوارها متابعًا ما تفعله بإعجاب، بينما باقي الأشخاص يتابعون ما يحدث بدهشة..
وقد عذرهم لأنه ليس من الشائع أن تجد “الميكانيكي” ليس سوى فتاة شابة..!

تقدم عمر منها ثم أمسكها من معصمها قائلًا بحروف مغلقة:
-يلا نطلع.

فأشارت له بإصرار وتركيز فيما تفعله:
-استنى بس أنا قربت أخلص اهوه.

وكأن البلهاء لا تستوعب أنها تقدم عرض سخي لأهل الحارة ليتحدثوا فيه لأسبوع كامل قادم!

ولتتأكد ظنونه سمع احد الواقفين الوقحين يسخر بضحكة قصيرة سخيفة مثله:
-واضح إن المدام إندمجت جدًا.

ثم سأله بطريقة أشد سخافة:
-هي الموهبة دي عندها من زمان؟ أعذرني أصل أنا أعرف إن الست بتحب الطبخ، او لا مؤاخذة الرقص، لكن تصليح عربيات جديدة دي!

أطبق على أسنانه بغيظ دفين، ولكنه تحكم في نفسه حتى لا يلكمه على سخافته وتدخله فيما لا يعنيه، وجذب نوسين من ذراعها ولكن هذه المرة بأقوى من سابقتها، ساحبًا إياها خلفه نحو شقة خالتها، فصاحت فيه بانفعال ما أن اصبحوا بمفردهما:
-في إيه أنت شاددني بالطريقة دي ليه؟

أخبرها بامتعاض وقد تبدد ثباته بسبب رد فعلها كالعادة:
-يمكن عشان حضرتك واقفة في نص الشارع وعاملة عرض للي رايح واللي جاي مثلًا؟

توقفت على كلماته في استنكار:
-عاملة عرض؟! ليه شايفني كنت برقص ولا إيه؟

لأول مرة لم يملك السيطرة على لسانه الذي يبدو أنه اُصيب بعدوى الفظاظة منها فقال بنبرة ذات مغزى جارحة دون عمد:
-ياريتك بترقصي اهي حاجة طبيعية لأي ست بدل دور الراجل اللي أنتي متقمصاه دا.

شعرت بكلماته تنغرز كـ وتد قاسٍ في منتصف هيكل انوثتها تمامًا؛ مفتتة إياه لشظايا..
ولكنها لم تستسلم بل صرخت فيه بشراسة:
-وأنت مالك؟ أنت هتصدق إنك جوزي ومن حقك تحاسبني على تصرفاتي ولا إيه! أنا حرة أتقمص دور الراجل أتقمص دور الست، أنا حرة.

قابل صراخها الشرس بعنف رجولي صارخ:
-طالما أنا قدام الناس للأسف جوزك يبقى من حقي، لازم تراعي منظري قدام الناس على الأقل طالما أنتي مش فارق معاكي تعيشي طبيعتك وتكوني انثى، بصي باقي الستات اللي في الحارة عاملين ازاي وأنتي عاملة ازاي، أنتي عايشة حياة مش حياتك، والمصيبة إنها عجباكي.

شعرت بأنوثتها وكرامتها ترفرف كطير مذبوح يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدموع تتسابق لعينيها في سبق كان الأول من نوعه منذ رآها، ثم تشدقت بصوت مختنق بالبكاء:
-ما أنت لما تصحى في يوم تلاقي أبوك مات وسابك وحيد، وسايب وراه ديون قد كدا أنت ماكنتش تعرف عنها حاجة، ومطلوب منك تسيب المنطقة وتختفي لإن الناس اللي مديناه لو لاقوك هيطالبوك بديونه دي، وتلاقي نفسك في الشارع ملكش حد ولا مكان، وقريبتك الوحيدة القريبة ماينفعش تجيلها لأنها يادوب ممشية نفسها بالعافية بالمعاش، وماقدامكش غير انك تسافر لأي حد قريبك حتى لو متعرفش عنه حاجة غير عنوان، وتشحت منه الشفقة وإنه يعطف عليك ويقعدك معاه، وحتى مش معاك شهادة تخليك تشتغل، ومش قدامك غير الصنعة اللي أبوك علمهالك قبل كدا كأنه كان حاسس، ساعتها هتبقى مُجبر تعجبك حياتك الجديدة وإلا هتتجنن أو هتنتحر.

شعور بالحقارة لنفسه لفح أعماقه، واشتدت قبضة الندم الغليظة على قلبه حتى كادت تُدميه والاختناق يسيطر على كافة خلاياه…
فهي تقريبًا عانت من تقلب قدرها للكرب مثله، ولكنها كانت أقوى وأشجع منه، استبسلت في حربها مع الحياة لتنل منها ما يُبقيها ثابتة دون أن تنهار مثله..

لدقيقة تقريبًا لم يستطع النطق وكأن لسانه ملجوم بلجامٍ من نار، حتى استدارت هي وكادت تغادر دون أن تضيف المزيد، ولكنه أوقفها مسرعًا يمسك بذراعها مرددًا أسمها لأول مرة:
-نوسين.. استني.

استدارت له ببُندقيتاها اللامعتان بالدموع فرأى انعكاس صورته مشوشة فيهما وكأنهما تتهمانه، واستشعر وخز مؤلم بقلبه، فنطق اخيرًا بخفوت لم يدري كيف خرج حاني دافئ:
-أنا ماقصدش.

وعجز عن اضافة المزيد، ولكن إصبعاه وكأنهما إنفصلا عن عقله الصلد، فتحركا ببطء ليمسحان الدمعة التي تسربت مؤخرًا من عينيها، فشعرت بلمسته الرقيقة تربت على جرحها رغم أنه لم يعتذر..

ولكنها لم تجيبه ايضًا سوى بهزة رأس بسيطة، وغادرت لغرفة خالتها، بينما هو يتنفس بصوت مسموع، بالتأكيد لن يُحايلها لأجل خطأ غير مقصود.. بالنهاية هي لا تهمه كما لا يهمه أي شيء في الحياة.

****

اليوم التالي…

وكما توقع “عمر” لم يحظَ سوى بالتجاهل التام من “نوسين” التي تعرب بالصمت عن جرحها منه الذي لم يندمل..

كانوا جميعهم متجمعين أمام التلفاز بقانون صارم من قوانين “ثريا” التي أصرت على تشديد أواصر المحبة بينهما رغمًا عن أنفيهما..

لاحظت نوسين التي كانت صامتة كثيرًا بغير عادتها الثرثارة، وعدم توجهيها أي حديث لعمر الذي لم يحاول جذب أطراف الحديث معها من الأساس، فاستنتجت دون عناء أنهما على خلاف..

لذا قطعت الصمت البائس بصوتها الهادئ تهتف في نوسين:
-بقولك يا برقوقة.

نظرت نوسين نحوها متسائلة بهمهمة خافتة:
-نعم يا خالتي؟

-ما تنزلي تجيبيلي شوية حاجات من السوق.
طلبت بهدوء وبراءة ظاهرية بينما المكر الأنثوي يلمع بحدقتيها، فأومأت نوسين برأسها موافقة في طاعة:
-حاضر هقوم ألبس.

وبالفعل نهضت لترتدي ملابسها، فاقتربت ثريا من عمر الذي كان جالس يشاهد التلفاز بملل ويحمل بين يديه طبق “الفشار” يلتقط حباته دون اهتمام ظاهريًا بما يُدار من حديث بينهما..

ثم سألته بنبرة حملت شيء طفيف من الاستنكار:
-هو أنت مش هروح مع مراتك؟

سألها متظاهرًا بعدم الفهم:
-اروح معاها فين؟

-السوق، هتسيبها تروح لوحدها وهي حلوة كدا، أحسن حد يعاكسها يا ولا.
حثته بنبرة كاد مغزاها يُضحكه؛ إن علمت أنه بالأمس فقط كان يشكك في أنوثتها ستقتله حتمًا !
ثم… مَن تلك التي يتعرض لها احدهم؟ نوسين اخر فتاة يتخيلها تتعرض لمضايقات ولا تقتل صاحبها.

ولكنه على عكس كل ما يدور بخلده كان يهز رأسه مؤكدًا بابتسامة كاذبة:
-هروح معاها طبعًا.

وبالفعل، نزلا معًا من المنزل، فقالت نوسين ببرود ما أن اصبحا بالشارع:
-خلاص روح أنت بقا أي حتة.

نظر عمر لأعلى حيث شرفة منزل خالتها، وكما توقع وجدها تقف فيها مراقبة إياهم، فابتسم لها وهو يهز رأسه، ثم عاد يوجه بصره نحو نوسين متشدقًا:
-خالتك شايفانا في البلكونة، يلا هروح معاكي وخلاص.

وها هي نوسين تشتري بعض الخضروات من احد البائعين، بينما هو ينتظرها بعيد قليلًا عن زحمة النسوة او الاحتكاك بهم..

-بكام الأوطة دي يا حاج؟
سألت نوسين البائع وهي تتفحص الخضروات بحرص كما أوصتها خالتها، فأجابها بعبث وهو يشير بعينيه لباقي النسوة في السوق:
-الكيلو ونص بعشرة للغفر دول، لكن الاتنين كيلو بعشرة للحلوين اللي زيك.

صاحت نوسين بسخرية:
-دا إيه التبذير دا ! تبذير في نص كيلو مرة واحدة، دا حتى المبذرين اخوات الشياطين يا حاج.

قال بأسلوب فج وعيناه تمشطها من رأسها لأخمص قدميها:
-دا مش تبذير دا كرم مني، أصل أنا راجل ومعلم وبقدر الجمال أوي، ولما يكون قدامي حتة طرية بالجمال دا لازم أقدرها كويس أوي.

شهقت “نوسين” شهقة طويلة مُلحنة وهي تهتز بجسدها في حركة بطيئة مدروسة، وهبت كلماتها كالأعصار بوجهه:
-جمال دا يبقى جوز خالتك، بقا أنا محترماك وعمالة أقولك يا حاج يا حاج، وأنت راجل قليل أدب.

في تلك الاثناء كان عمر شارد الذهن حتى اخترقت مسامعه شهقة نوسين العالية، فتوجه نحوها على الفور، ليجدها في حالة هياج شرس، وما أن اقترب منها، حتى أخذت تربت على صدره بفخر وهي تصيح:
-اهو جه، جه اللي هايموتكوا، راجلي اللي هايجيبلي حقي.

تنحنح عمر وهو يتفحص بعينيه الرجل الذي كان سمين الجسد بشكل مبالغ به، ومن حوله الصبية الذين يعملون معه والذين تأهبوا للعراك.
وتحدث بنبرة خفيضة بالتواءة شفاه شبيهه بابتسامة سمجة ظاهرية:
-استهدي بالله كدا يا حبيبتي دا الصلح خير.

حين وعى الرجل للأناس الذين بدأوا في التجمع، حتى التجأ لمقولة “افضل وسيلة للدفاع هي الهجوم” وهدر فيهما بحدة:
-ما تلمها طالما هي تخصك بدل ما هي طايحة في خلق الله كدا.

ونوسين بالطبع لم تصمت بل زأرت بوجهه بعنفوان:
-أنا برضو اللي طايحة في خلق الله ولا خلق الله اللي زيك هما اللي مشافوش بربع جنية تربية.

-والله ما في حد غيرك مشافش رباية يا قليلة الأدب.
إنفجر يسبها بصوت أجش عنيف، فاتسعت عينا نوسين صدمة من وقاحته المفرطة:
-بيتحرش بيا وبعدين يشتمني! لا دا أنت عايز اللي يربيك بقا.

في نفس اللحظات إنقض عمر عليه يلكمه بعنف، يُربيه كما قالت، وغضب أهوج تفجر بين أوردته بعد أن سمعه يسب مصيبته “برقوقة” ، فلا يحق لأي شخص سواه أن يسبها او يُعنفها، فما بالك بالتحرش!

ازداد اهتياجه مع فشله في تحديد منبعه، ولكنه كان أكثر من كافٍ ليحرق الأخضر واليابس، ونيران هوجاء لا تخفت بل تشتد اتقادًا؛ نيران التملك التي لم يكتشف وجودها سوى بعد أن شعر بلسعاتها الضارية.

اخيرًا إنتهت المعركة على خير ولم تتسبب بأضرار حقيقية لأي شخص سوى لذاك البائع اللعين بإصابات بالغة بوجهه، لتظل ذكرى تذكره دومًا بشناعة فعلته.

تتذكر جيدًا كيف أن صبية المعلم أرادوا التدخل، ولكنها منعتهم بمساعدة باقي رجال الحارة، وهي تهدر في وجههم بسخرية:
-واحدة واحدة كله هياخد نصيبه، بس ٣ على واحد مش رجولة!

****

بعد فترة…

حين كانوا في منزل “ثريا”، سمع عمر الذي كان يجلس في الصالة أمام التلفاز، صوت طرقات عنيفة بعض الشيء على الباب، فعقد ما بين حاجبيه بتعجب وهو يقول:
-ثواني.

نهض بخطى متعجلة نوعًا ما، ثم فتح الباب ليجد رجل عريض وقوي البنيان، سأله بجدية:
-مين حضرتك؟

-أنا اللي هايقبض روحك.
قالها بصوت أجش غليظ، قبل أن يسحبه بحركة مباغتة للخارج قليلًا، وعاجله بضربة عنيفة لم يتوقعها عمر و………

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نوسين)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى